الفصل السابع: من فيلبي إلى رومة.

 

- الرسالة إلى فيلبّي

فيلبّي، عاصمة مكدونية، تميَّزت بوقوعها على طريق إناتيا التي تربط رومة بيزنطيَّة كانت حاضرة مزدهرة اقتصاديًّا. سكّانها مزيج وفيها تلتقي الديانات. أسَّس فيها بولس أوَّل جماعة له في أوروبّا، خلال "الرحلة الرسوليَّة الثانية" (حوالي سنة 49). غير أنَّ الخبر لا يمكن أن يكون معقولاً على مستوى التاريخ. ولكنَّ الاضطهاد الذي لقيه فيها يثبِّته 1تس 2: 2.

proème (1: 3-11) هو فعل شكر تتبعه صلاة: فالعلاقات بين بولس والجماعة حسنة جدًّا، والكلمات التي تعبِّر عن الفرح[i] تميِّز هذا المقال، يلي ذلك اعتبار من لدن بولس حول وضعه الخاصّ (1: 12-16): هو في السجن وينتظر أن ينال الاستشهاد، دون أن يستبعد مع ذلك أن ينجو بحياته ويرى الفيلبّيّين أيضًا. في أيِّ حال، حثَّهم على الثبات في الألم الذي يتحمَّلون (1: 27-30). يبدو أنَّهم يعرفون الاضطهاد، وأن لم يكن هذا الاضطهاد عنيفًا جدًّا.

وحثَّ بولس الفيلبّيّين على التوافق والخضوع المتبادل: نعتبر الآخرين أرفع منّا (2: 1-4). وهذا يتصرَّف بتأسُّس على يسوع المسيح. كلُّ هذا يتوسَّع في مديح كرستولوجيّ (2: 6-11) يربط قبوجود يسوع بوضعه الإلهيّ، بقبوله بأن يتجرَّد (كينوسيس[ii]، يتلاشى، يُفرغ نفسه)، ويأخذ حالة العبد في شكل بشريّ. ظنَّ عددٌ من الباحثين أنَّ الرسول كيَّف مديحًا وُجد من قبل وأضاف إليه عبارة "والموت على الصليب" (2: 8).

وتتواصل الإرشادات في 2: 12-18. ويلي ذلك أخبارٌ شخصيَّة (2: 19؛ 3: 1): خطَّط بولس بأن يرسل إلى الفيلبّيّين قريبًا، تيموتاوس، وأمل أن يقدر هو أن يأتي شخصيًّا بانتظار ذلك، أعاد إليهم أفروديت الذي وضعوه في خدمته، والذي مرض حين كان لدى بولس.

في 3: 2، تبدَّلت اللهجة فجأة بهجوم عنيف على "العمّال الأشرار"، "الإخوة المختونين"، تلته مرافعةٌ عن سيرة بولس هو يرافع عن ماضيه كفرّيسيّ مضطهد صار الإنسان الذي لا يثق إلاّ بالبرِّ الذي يمنحه الإيمان. ويرافع عن سيرته الحاضرة التي لم ينل فيها ما ترجّاه، ولكنَّه انطلق إلى الأمام نحو الفداء الذي وجَّهه إليه الله في المسيح (3: 2-16). نحن نجد هنا إحدى النقاط اللاهوتيَّة البارزة في الرسالة: واجه بولس مرسلين يهومسيحيّين اعتبروا نفوسهم "كاملين" (3: 15؛ رج آ 12) لأنَّهم يمارسون الشريعة (على ما يبدو)، وهاجموا الرسول بشكل مباشر، فما اكتفى بتقديم البراهين، بل وضع في الميزان خبرته الخاصَّة والانقلاب الجذريّ في حياته: انتقل من اليهودي الذي وضع ثقته في غيرته وموقفه الذي لا يعيب به تجاه الشريعة، فصار الإنسان الذي رمى كلَّ هذا وحسبه "كالزبل" ليتَّكل فقط على إيمانه بالمسيح. والفيلبِّيّون مدعوُّون لأن يقتدوا ببولس وإلاّ يسمحوا بأن يضلَّهم جميع الذين "يتصرَّفون كأعداء لصليب المسيح" (3: 17-4: 1).

وعادت اللهجة إلى الهدوء في 4: 2-9 مع توصيات موجَّهة إلى الأفراد، وإرشادات إلى الجماعة لكي تظلََّ في سلام الله. وفي 4: 10-20، شكر بولس أهل فيلبّي على العون المادّيّ الذي تلقّاه من عندهم.

طرحت الرسالة مسائل حول وحدتها. نشير هنا إلى صعوبتين من الواقع. أوَّلها، انقطع بين 3: 1أ (الذي يبدو بداية ختام الرسالة) وآ3: 2 الذي يطلق الكلام في روح يختلف كلَّ الاختلاف. بعد 4: 2 (أو: 4: 4) عادت اللهجة محبَّبة. فرأى عددٌ من الشرّاح في 3: 2-4: 1 (أو: 4: 3) رسالة لاحقة حرَّكها وصول مرسَلين متعدِّدين إلى فيلبّي. وتبقى المسألة مفتوحة، لأنَّ إنشدادات داخليَّة في الجماعة برزت أيضًا في ما تبقّى من الرسالة (1: 15؛ 2: 21). ولكن ينبغي أنَّ نقبل بأنَّ 3: 2 تطرح بالفعل سؤالاً. ثانيًا، الشكر من أجل العطاء الذي حمله أبفروديت (4: 10-20) وصل متأخِّرًا جدًّا، على ما يبدو لأنَّ أبفروديت لبث في المرض طويلاً لدى بولس، وتبادل المعلومات الكثيرة مع فيلبّي، في تلك الحقبة (2: 25-30). فاقتُرح التعرُّف إلى رسالة فكر في 4: 10-20، أرسلت مع الرسالة الرئيسيَّة. وبقي من أصل الرسالة عينها 1: 1-3: 1؛ 4: 2 (أو: آ4)-9، 21-23.

وترتبط مسألة تاريخ الرسالة والموضع الذي كُتبت فيه، بالتعرُّف إلى السجن الذي وُجد فيه بولس بانتظار المحاكمة (1: 7، 13، 17). نحن نعرف، بنهاية أع، أنَّه سُجن في رومة غير أنَّ 2: 24-26 يفرض اتِّصالات متواترة بين بولس والفيلبّيّين، وهذا ما لا يوافق المسافة الطويلة التي تفصل رومة عن فيلبّي. كما لا تتوافق نيَّةُ بولس بأن يمضي إلى فيلبّي حالما يتحرَّر، مع مشاريع الذهاب من رومة إلى إسبانية بحسب الرسالة إلى رومة وبسبب المسافة التي تفصل فيلبّي عن مدينة قيصريَّة، حيث سجن بولس سنتين كما يقول أع 24-26، يصعب علينا أن نتكلَّم عن قيصريَّة كموضع كُتبت فيه فل. لهذا يفكِّر الشرَّاح اليوم بأفسس. نحن لا نمتلك شهادة مباشرة عن سجن بولس في هذه الحاضرة، ولكنَّه يلمِّح إلى أخطار قاسية حصلت له (1كو 15: 32؛ 2كو 1: 8-9). إذًا، تنتمي فل إلى الحقبة التي كُتبت فيها 1كور و2كو.

و- الرسالة إلى فيلمون

رسالة لا تتوجَّه فقط إلى فيلمون، بل إلى كلِّ الكنيسة التي تجتمع في بيته، مع إشارة خاصَّة إلى أبفية وأرخبٍُّس. في ذلك الوقت كانت القاعدة أن يجتمع المؤمنون في بيت من البيوت. وإذ يوجِّه بولس كلامه لا يعلن نفسه رسولاً، بل سجينًا (آ1؛ رج آ9-10، 13، 22-23). نستطيع أن نقول إنَّ الرسالة كُتبت في أفسس، خلال الحقبة التي فيها كُتبت فل. بما أنَّ كو تحدِّد موقع أونسيمس وأرخبُّس في كولوسّي، يمكن أن يكون فيلمون أقام في هذه المدينة.

المناسبة التي كانت السبب الذي منحنا هذه الرسامة القصيرة، هي واقع محدَّد. هرب أونسيمس، عبد فيلمون، ولجأ إلى بولس الموجود في السجن. كان أونسيمس مفيدًا لبولس (تلاعب على الكلام بسبب المدلول الاسم في اليونانيَّة)[iii]. غير أنَّ بولس لا يريد أن يحتفظ به فيعيده إلى فيلمون ويوصيه بأن يستقبله كأخ، ويلتزم بأن يعوِّض الخسارات الممكنة (آ19). وفي الوقت عينه، ذكَّر بولس فيلمون أنَّه مديون له: من خلال كلامه والطلب بأن يغدق عليه نعمة (آ20)، نستشفّ حثًّا خفيًّا من قبل الرسول بأن يعيد إليه أونسيمس ليكون معه (آ13-14).

ما لجأ بولس إلى نُبل فيلمون لكي يغفر لعبده. وما أراد لوصيَّة المحبَّة أن تمارَس بشكل يكون دينًا وواجبات خاصَّة. وإن لم يطلب الرسول تحرير أونسيمس، فهو منطقيّ مع الموقف الذي أخذ به في 1كو 7: 20-24: "من دُعيَ وهو عبد لا يطلب أن يتحرَّر. لأنَّ الوقت قصير الذي يفصلنا عن عودة المسيح. ففي نظر بولس، لا تأثير لتحوُّلات العلاقات الاجتماعيَّة، على مجيء ملكوت الله.

ز- الرسالة إلى رومة

تفرَّدت الرسالة إلى رومة بين الرسائل البولسيَّة، فما توجَّهت إلى كنيسة أسَّسها الرسول. نحن لا نعرف أصول كنيسة رومة. في كورنتوس، عرف بولس برسكلَّة وأكيلاً، الزوجين اللذين يذكرهما مرارًا (1كو 1: 14ي؛ 16: 19؛ روم 16: 3-5) واللذين جاءا إلى رومة بعد قرار صدر عن الإمبراطور كلود بطرد اليهود، سنة 49 (أو: 41). ذُكر هذا القرار أيضًا عند المؤرِّخ سواتانيوس[iv]. والسبب: بلبلة لا تنقطع بسبب خرستوس: من المعقول أن يكون سواتانيوس (أو مرجعه) أساء فهم إشارة تتعلَِّق بخلافات داخل الجماعة اليهوديَّة بسبب مرسلين يبشِّرون بالمسيح. ففي وسط الأربعينات، وُجدت في رومة جماعة مسيحيَّة تكوَّنت نواتُها الأولى وسط اليهود. ثمَّ إذا كان بولس أفرد مكانة واسعة للكلام على قيمة الشريعة وعلى مصير إسرائيل (ف 9-11)، فهو يتوجَّه مع ذلك إلى مسيحيّين آتين من الأوثانيَّة (1: 5-6، 13؛ 11: 13؛ 15: 15-16). هذا يعني جماعة مختلطة من مسيحيّين جاؤوا من اليهوديَّة وآخرين من الأوثانيَّة، ولكنَّهم ارتبطوا بشكل عامّ بالتقليد اللاهوتيّ، بالخلقيَّة وبطرق التعبير الخاصَّة بالعالم اليهوديّ في الشتات. في أيِّ حال، ذاك هو السياق الذي نراه بعد أربعين سنة في الرسالة الإقليميَّة إلى الكورنثيّين.

دُوِّن روم على ما يبدو، خلال إقامة بولس ثلاثة أشهر في كورنتوس (أع 20: 2-3) قبل أن ينطلق إلى أورشليم ومعه "اللمَّة". وقد عرف الرسول، بالرغم من جميع الجهادات التي قاساها، أنَّه غير مقبول في كنائس الشرق، كما أنَّه ليس بأكيد أنَّ اللمَّة التي يحملها سوف تستلمها كنيسة أورشليم (15: 30). فعزم أن يحوِّل حقل عمله إلى الغرب. في 15: 14-33، تحدَّث عن مشاريعه الخاصَّة التي تشرح أيضًا كيف تكوَّنت روم. بعد أن أعلن إنجيل يسوع المسيح حتّى الليركون، اعتبر أنَّه أنهى نشاطه في الشرق، وهو يتطلَّع منذ الآن للذهاب إلى إسبانية. من أجل هذا، احتاج إلى قاعدة ينطلق منها، ولا يمكن أن تكون سوى رومة. وهكذا قرَّر أن يتجاوز المبدأ الذي حافظ عليه دومًا، بأن لا يمضي إلى كنائس أسَّسها غيرُه.

إذًا، سعى بولس أن تكون له قاعدة في رومة. ولكنَّه عرف أنَّ المعلومات التي تسري في شأنه، في هذه الجماعة (ارتبطت أصلاً بالعالم اليهوديّ، كما سبق وقلنا) تخضع لجوّالة حاضرة ضدَّ كرازته. وفي الواقع، اتَّخذ في الرسالة مرارًا موقعًا صريحًا ضدَّ النتائج الكاذبة التي يمكن أن تُستنتَج (والتي استنتجت بالفعل) من تعليمه (3: 8، 31؛ 6، 1، 15). إذًا، انطلق بولس من نواة مركزيَّة في إنجيله (التبرير بالإيمان) فقدَّم لمسيحيّي رومة عرضًا "صادقًا" ينزع القناع عن الافتراءات ويحرِّك التعاطف تجاهه، ووجب عليه بشكل خاصّ، أن يتَّخذ موقعًا بالنسبة إلى قيمة الشريعة في العلاقات بين الله والبشر (ف 1-8، وبالنسبة إلى إنجيل يسوع هذا الذي يمثِّل قيمة التاريخ في العلاقة مع الله، ويعطي هذا التاريخ كلَّ معناه (ف 9-10). هنا قدَّم بولس بشكل رسالة، توسُّعًا عضويًّا حول النقاط الأساسيَّة لفكره كما برز في الحقبة الأخيرة من نشاطه. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ روم كانت أقلّ "واقعيَّة" ولا هي قريبة من فنٍّ أدبيّ معروف، هو المقال بشكل رسالة، بل إنَّ طابعها المنهجيّ يُفهَم انطلاقًا من ظروف ملموسة أُلِّفت فيها. وها نحن نجول في مضمونها.

*  *  *

بعد العنوان الموسَّع في استعادة عبارة إيمان تقليديَّة (1: 1-6)، عبَّر بولس في proème (1: 7-17) عن نيَّته بأن يأتي إلى رومة، وقدَّم الموضوع: وحي برِّ الله في الإنجيل بواسطة الإيمان وبالإيمان.

وتوسَّع 1: 18-3: 20 في الموضوع بشكل نافٍ، سلبيّ: استطاع البشر أن يعرفوا الله انطلاقًا من أعمالهم. إذًا، لا عذر لهم إذا ابتعدوا عنه. لهذا أسلمهم إلى الفساد. وبما أنَّهم خطأة لن يفلتوا من دينونة الله التي تنصبُّ على اليهوديّ كما على الوثنيّ، لأنَّ أعمال الشريعة سُجِّلت في قلوب الجميع. لا فائدة لليهود من الختان إن كان لا يمارس الشريعة ولكنَّ هذه الشريعة لا تمنح اليهودُ تفوُّقًا، بل فائدتها كشف الخطيئة، ووظيفتها نافية ولا تقدر أن تبرِّر أحدًا.

ودلَّ 3: 21-31 على الحقل الذي تقدِّمه مبادرة الله، الذي كشف عن برِّه  في يسوع، فبرَّر مجّانًا جميع الخطأة عبر التكفير بدمه. وأكَّد بولس بقوَّة أنَّه لا ينتزع من الشريعة قيمتها التي تعني بالنسبة إليه ووظيفتها بأن تكشف الخطيئة. فانطلاقًا من هذا الكشف، وبالتالي من وعي بأنَّنا نستحقُّ دينونة الله، يُقدَّر برُّ الله وأهمِّيَّة الإيمان.

والتبرير بالإيمان لا يُعفي فجأة عقدًا تأسَّس على ممارسة الشريعة. ففي ف 4، التزم بولس بأن يبيِّن، بواسطة الكتب المقدَّسة، أنَّ التبرير بالإيمان سبق الشريعة. والبرهان خبر إبراهيم الذي تبرَّر بالإيمان (تك 15: 6). والوعد الذي وهبه الله، له ولنسله، ينطبق إذًا على جميع الذين ينتمون إلى إيمان إبراهيم.

بعد أن تبرَّرنا بالإيمان (5: 10-12) صرنا بسلام مع الله. تتواصل شدائدنا، ولكنَّنا نجعل استحقاقنا فيها لأنَّه تلد الرجاء الذي لا يكذب. وعمَّق 5: 12-21 العلاقة بين الخطيئة والموت، بين الشريعة والنعمة، على أساس التناقض بين آدم، الذي بعصيانه صار الجميع خطأة، وبين المسيح الذي تبرَّر الجميعُ بطاعته.

وفي ف 6، ردَّ بولس على تفسير ممكن لفكرة بنيَّة سيِّئة: ينبغي أن لا نستنتج أنَّه يجب أن نبقى في الخطيئة لكي تفيض النعمة. فالعمادُ المسيحيّ هو مشاركة في موت المسيح الذي به نفلت من سلطان الموت. ولكن إن كان المسيح منذ الآن قام، فمشاركة المؤمن في قيامته لم تحصل بعد. وهذا "التحفُّظ الإسكاتولوجيّ" اسمٌ هو تجنُّبًا تفاسير إنجيل بولس كذلك التفسير الذي صار به في كورنتوس، والذي قال إنَّ قيامة المؤمن منذ الآن حصلت.

ونقرأ ف 7. هذا الموت الأسراريّ هو أيضًا حاسم، لأنَّه يشير إلى علاقة المؤمن بالشريعة. فكما أنَّ الموت يقطع الرباط الزواجيّ ويمنح الزوج الذي لبث حيًّا، أن يكون لآخر، كذلك موت المسيحيّ مع المسيح، يحرِّره من أن يكون للشريعة ويمنحه أن يكون للمسيح. ثمَّ شدَّد بولس على أنَّ الشريعة تكشف فقط الخطيئة، يُسرُّ الإنسانُ بشريعة الله، ولكنَّه عبد لشريعة الخطيئة، التي تدفعه إلى شرٍّ لا يقدر أن يتجنَّبه. فالتحرُّر يأتي من روح لله (ف 8) الذي يمنح الحياة في المسيح.

وتضمَّن ف 9-11 تأمُّلاً في مصير إسرائيل: إذا كان إسرائيل لم يقبل المسيح، فهل سقطت كلمة الله؟ كلاّ. لأنَّ إسرائيل لا يتكوَّن من نسل إبراهيم العمليّ، بل من أبناء الوعد (إذًا، من جميع الذين يقاسمون إبراهيم إيمانَه) بقدر ما هذا النسل (رج تك 2: 12) يمرُّ في إسحاق، ابن الوعد. فالله كشف رحمته فبرَّر الوثنيّين الذين لم يطلبوا البرّ، ليدلَّ على ضلال اليهود الذين أرادوا أن ينالوا البرّ عبر الأعمال. رأى بولس وراء كلِّ هذا، "سرّ" رحمة الله: فقساوة جزء من إسرائيل أتاح للوثنيّين أن يبلغوا إلى الخلاص، وحين يصل إلى الخلاص جميعُ الوثنيّين، يخلص إسرائيلُ أيضًا.

مع ف 12 يبدأ القسم الإرشاديّ parénétique: يحثُّ الرسول المسيحيّين على أن يقدِّموا أنفسهم ذبيحة حيَّة، ومن اللافت أن نجد في ف 13 حضًّا على الطاعة للسلطان المُقامة بيد الله من أجل مراعاة للخير ومعاقبة الأشرار. ويتكيَّف بولس هنا مع الخلقيَّة السارية. في 14: 1-15: 13، ناقش مسألة "الضعفاء" الذين يحافظون على ممارسات طعاميَّة، ويميِّزون الأيّام. يبدو أنَّنا أمام شكل من أشكال النسك، دون أن نتمكَّن من تحديد القدر الذي به نرى في هذا الأمر مسألة حقيقيَّة في جماعة رومة. أمّا مبدأ المراعاة، فيطلب من المؤمن أن يشكِّك إخوته.

في 15: 14-33، عرف بولس مشاريع التبشير في الغرب (مما سبق وقلنا). قبل أن يحقِّقها يجب عليه أن ينطلق من أورشليم ليحمل إليها "لمَّة" مكدونية وآخائية. ونحن نعرف أنَّ بولس أُوقف خلال تلك الرحلة (أع 21)، وأنَّه لم يأتِ إلى رومة إلاَّ سجينًا (آع 28).

وتضمَّن ف 16 توصية من أجل الشمَّاسة فيبة، وسلامات خاصَّة موسَّة، وممجدلة (في تعبير شكر) نهائيَّة (16: 25-27). في هذا المجال تُطرَح مواضيع وحدة الرسالة من جهة، تقع المجدلة في مقاطع من الرسالة تختلف بحسب المخطوطات والترجمات القديمة في بعضها، بعد 16: 23 (16: 24 هي interpolation). في غيرها، بين 14: 23 و15: 1 وفي فئة ثالثة، ترد مرَّتين: مرَّة بعد 14: 23، وأخرى بعد 16: 23. وفي برديَّة 46 (أقدم مخطوط بولسيّ، يعود إلى السنة 200 تقريبًا)، بيَّن 15: 33 و16: 1. هناك مخطوطات من اللاتينيَّة العتيقة[v] جعلت المجدلة بعد 14: 23، وتركت جانبًا ف 15-16 ومرقيون (حوالي سنة 140) لم يحتفظ أيضًا بالفصلين الأخيرين (ف 15-16). وشهد على وضع أصيل، مماثل، مخطوطات جعلت المجدلة بعد 14: 23 لأنَّ هذه المجدلة لا تأخذ معناها في هذا الموضع إلاّ إذا وُجدت في نهاية النصِّ حيث تكون. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هناك عناصر لابولسيَّة تجعلنا نظنُّ أنَّ المجدلة ليست بولسيَّة، بل شكِّلت إضافة لاحقة. ويبقى أنَّ شكل روم المنتهية مع ف 14 أمرٌ ثانويّ، لأنَّ ف 15 يواصل برهان ف 14 وهو بالتالي جزء من الرسالة.

هل نستطيع أن نقول الشيء عينه عن ف 16؟ فالقراءة الداخليَّة تحرِّك وجهة ثانية من المسألة. ونحن ندهش أن يكون بولس سلَّم على هذا العدد في جماعة لا يعرفها. ثمَّ إنَّ الكثير من الأشخاص المذكورين يكون موقعهم الطبيعيّ في مكان غير رومة. وحتّى إن اعتبرنا أنَّ برسكلّه وأكيلا (16: 3-5) عادا إلى رومة بعد موت كلود (غير أنَّ 2تم 4: 13 يجعلهما في أفسس أيضًا)، ينبغي أن نفترض انتقال (بينيت إلى رومة، أوَّل مهتدي آسية، 16: 5) وآخرين كثيرين شاركوا بولس في العمل (16: 8-9). ونذكر أيضًا 16: 17-20 على الذين يثيرون الخلافات ويبتعدون عن التعليم المسلَّم: فهي على ما يبدو لا توافق لجهة سائر الرسالة. لا شكَّ في أنَّ ف 16 يمثِّل خاتمة رسالة أخرى أضيفت هنا بمناسبة نشر الرسائل، أو يكون ملحقًا أضافه بولس نفسه من أجل نسخة أرسلت من أفسس إلى رومة. إنَّ برديَّة 46 تثبتُ هذه الفرضيَّة. فمع أنَّها تتضمَّن ف 16، إلاَّ أنَّها تقدِّم في نهاية ف 15، ممّا يفترض أنَّ نصَّ روم كان يتوقَّف مع ف 15. ومع ذلك، فهذا الحلُّ لا يخلو من مسائل: فإنَّ ف 16 يبرز ميزات الخاتمة البولسيَّة في الرسائل، وفي هذا المعنى يكون امتدادَ ف 15. بالإضافة إلى ذلك، بما أنَّ بولس غير معروف في رومة، فهو يرى فائدة في أن يبرز علاقات الصداقة مع أشخاص عديدين يمكن أن يوصّوا به في هذه الجماعة. فالتحيّات الخاصَّة لا تأخذ هذا الاتِّساع في أيِّ رسالة أخرى. ومع ذلك نحتاج إلى مجهود لكي نتخيَّل انتقال كلِّ المسيحيّين الذين يذكر هنا، إلى ورمة. وهكذا لا تكون المسألة قد وجدت لها حلاًّ.



[i] cairw: فرح. cara: الفرح.

[ii] Kénose khnwsiV

[iii] onhsimoV: المفيد. والاسم onhsiV: الفائدة.

[iv] Scrétone (70-122), Claudius 25 عالم رومانيّ وباحث، ترك لنا عددًا من السير.

[v] في اللغة العلميَّة Vétus Latina. سبقت الشعبيَّة Vulgate التي ارتبطت بجيروم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM