الفصل الخامس: توالي الحقبات في حياة بولس

 

الفصل الخامس

توالي الحقبات في حياة القدّيس بولس

بولس هو وجه في مسيحيَّة البدايات، نعرفه أفضل ممّا نعرف الرسل الآخرين بفضل رسائله. ولكنَّه ليس من السهل أن نثبت حقبات حياته. أوَّلاً، لم تتوخَّ الرسائل أن تعطينا معلومات عن سيرته. إذًًا، هذه المعلومات تبقى خرافيَّة. ثانيًا، أعمال الرسل حيث بولس هو الشخص الأوَّل بعد ف 13، نجد أنَّ مراجع لوقا الكاتب سفر الأعمال هي متقطِّعة، وتقديمه للأحداث يراعي نظرة لاهوتيَّة تخفي بشكل منهجيّ الاختلافات داخل العالم المسيحيّ، وهي اختلافات دراماتيكيَّة كما تقدِّمها رسائل بولس. ولكن لا بدَّ من استعمال سفر الأعمال شرط أن نقرأه بعين ناقدة ونقابله مع الرسائل. وبين هذه الرسائل، تبقى غل 1-2 النصَّ الأساسيّ، وفيه يتذكَّر بولس نشاطه الخاصّ قبل اهتدائه وبعده. غير أنَّ ما يوجِّهه هنا متطلِِّبة دفاعيَّة فيها يبيِّن استقلاليَّته بالنسبة إلى كنيسة أورشليم. إذًا، هو لا يذكر إلاّ الأمور التي تخدم هدفه.[i]

بحسب سفر الأعمال، ولد بولس في طرسوس من أعمال كيليكية (21: 39؛ 22: 3؛ رج 9: 11). لا يُثبت بولس هذه المعطية، ولكن من الصعب أن نتخيَّل أنَّ لوقا اخترعها. والولادة في طرسوس، تلك الحاضرة الهلِّنيَّة ذات المستوى الثقافيّ العاليّ، تقابل صورة اليهوديّ المهلين[ii]، كما نكتشفه في الرسائل. مع أنَّه يدعو نفسه دومًا "بولس"، فاسم شاول الذي يعطيه له سفر الأعمال حتّى ف 13، يقابل أصله من قبيلة بنيامين (فل 3: 5؛ روم 11: 1). واستعمال اسمين، اسم في التقليد الأصليّ واسم يونانيّ، لم يكن أمرًا نادرًا في الشرق الأوسط. ولكن لا يبدو معقولاً أنَّه تربّى تربية رابّينيَّة في أورشليم، عند قدمي غملائيل (أع 5: 34؛ 22: 3). في غلا 1: 13-14، يصوِّر بولس نفسه، قبل دعوته، فرّيسيًّا شابًّا يشتعل غيرة للدفاع عن هويَّة إسرائيل الدينيَّة، بواسطة ممارسة الشريعة ممارسة لا هوادة فيها والتعلُّق "بتقاليد الآباء". وهذه الغيرة قادته إلى العنف في اضطهاد المسيحيّين. ولكن أن يكون مركز نشاطه الاضطهاديّ أورشليم (أع 9: 1-2) وأن يكون شهد رجم إسطفانس (أع 7: 58، 8: 1؛ 22: 20) يعارض غل 1: 22 وهو مقطع يُعلن فيه بولس أنَّه لم يكن معروفًا معرفة شخصيَّة في كنائس اليهوديَّة. وفي غل 1: 15-16، عاد بولس إلى الخبرة التي حوَّلت مسيرة حياته فاستعمل كلمات خاصَّة بدعوات الأنبياء في العهد القديم، فأشار إلى معناها بالنسبة إليه، لا الظروف الخارجيَّة التي عرفها. أمّا تذكُّر الحدث ثلاث مرّات في سفر الأعمال (9: 3-9؛ 22: 6-11؛ 26: 12-18)، فهو من صياغة لوقا. من الأكيد أنَّ بولس اعتبره رؤية للمسيح (1كو 15: 8) ارتبطت ارتباطًا وثيقًا برسالته إلى الوثنيّين (غل 1: 16). ونحن لا نستطيع أن نتكلَّم عن اهتداء بالمعنى الحصريّ للكلمة، لأنَّ المسيحيَّة كانت تشكِّل في ذلك الوقت خطًّا روحيًّا داخل العالم اليهوديّ. لهذا اعتبر بولس دومًا دعوته في تواصل تامّ مع مخطَّط الله بالنسبة إلى شعبه.

بعد هذا الحدث حالاً، انطلق بولس إلى عرابية (أي: مملكة الأنباط، إلى الجنوب الشرقيّ من دمشق). و"بعد ثلاث سنوات" (أي في نهاية سنتين ونصف السنة تقريبًا، بحسب طريقة العدِّ في ذلك الوقت، مضى إلى كيفا (أي: بطرس) في أورشليم، ولبث لديه خمسة عشر يومًا، كما التقى أيضًا يعقوب أخا الربّ (غل 1: 16-19). إنَّ الظروف التي أوردها سفر الأعمال، والتي بحسبها التقى فيها بولس الرسل في أورشليم بعد دعوته بقليل (9: 19، 26)، تبقى مثار شكّ، لقد أراد لوقا أن يبيِّن أنَّ بولس "شُرِّع" في كنيسة أورشليم. ثمَّ مضى بولس إلى سورية وإلى كيليكية (غل 1: 21) لكي يمارس الرسالة هناك. "ثمَّ بعد 14 سنة" (أي 13 سنة ونصف السنة تقريبًا) عاد إلى أورشليم مع برنابا وتيطس، كموفَد من كنيسة أنطاكية حيث يخدم برنابا (11: 25-26). وهناك ناقش الشروط التي تُفرَض على المسيحيّين الآتين من الأوثانيَّة (غل 2: 1-10). هذا الحدث يوافق أع 15: 1-29. فقبل "مجمع الرسل" (في أورشليم)، حدَّد أع 13-14 موقع ما اعتاد الشرّاح أن يدعوه الرحلة الرسوليَّة الأولى لبولس التي قادته مع مرقس وبرنابا، كموفد من كنيسة أنطاكية، إلى قبرص ثمَّ إلى جنوب آسية الصغرى (بمفيلية، بسيدية، ليكأونية). كيف تتوافق هذه الرسالة مع نشاط بولس في سورية وكيليكية؟ هذا ما لا توضحه النصوص. ما هو أكيد هو أنَّ بولس ما توخّى (في الرسالة إلى غلاطية) أن يروي نشاطَه كلَّه، بل أراد فقط أن يشدِّد على الزمن الذي مضى، وعلى استقلاليَّته تجاه كنيسة أورشليم. غير أنَّ بعض الشارحين يفضِّلون أن يجعلوا هذه السفرة بعد مجمع أورشليم.

بعد "المجمع" ذكر بولس صراعًا مع كيفا وبرنابا في أنطاكية، بمناسبة شركة الموائد مع المسيحيّين الآتين من الأوثانيَّة (غل 2: 11-14). يبدو أنَّه ينبغي أن نحدِّد موقع هذا الحدث بعد عودة بولس من أورشليم إلى أنطاكية. لا شكَّ في أنَّ هذا الحدث (لا الظروف المرويَّة في أع 15: 36) هو الذي فصل بولس عن برنابا، أو بالأحرى عن أنطاكية (حيث سقط موقعه) ودفعه إلى نشاط رسوليّ مستقلّ. بعد ذلك، لن نجد عونًا في الرسالة إلى غلاطية، وخبر الأعمال توقَّف فيه على ضوء الرسائل المتعلِّقة بجمع المال الذي التزم به بولس من أجل جماعة أورشليم.

انطلق بولس من أنطاكية فمرَّ عبر سورية وآسية الصغرى (كيليكة) ليكأونيَّة، فريجية، أرض الغلاطيّين حول أنقرة (الحاليَّة). ثمَّ انتقل إلى أوروبّا ومضى إلى كورنتوس حيث أسَّس كنيسة ولبث هناك بعض الوقت (هذا ما ندعوه "السفرة الرسوليَّة الثانية") وتُثبت الأحداثُ الواردة في أع 15: 40-18: 17 معطيات 1تس التي دُوِّنت خلال الإقامة في كورنتوس. مقابل ذلك نشكُّ في ما رواه لوقا من عودة من كورنتوس، عبر أفسس وقيصريَّة البحريَّة، إلى أورشليم ثمَّ إلى أنطاكية. مع انطلاقة جديدة لاحقة، في الحال، من أجل العودة إلى أفسس عبر آسية الصغرى (أع 18: 18، 23؛ 19: 1). هي بداية "الرحلة الرسوليَّة الثالثة". قد يكون بولس مضى فقط من كورنتوس إلى أفسس حيث لبث ثلاث سنوات. زار فيها جماعات فريجية وغلاطية، وحوَّل الرسالة في وادي ليكوس (كولوسّي، لاودكية، هيرابوليس ، أع 19: 10). وبعد ذلك، أقام مدَّة قصيرة في كورنتوس (2كور 2: 1؛ 12: 21؛ 13: 2). ثمَّ مرَّ في منطقتي طروادة ومكدونية ومضى إلى كورنتوس ليقيم هناك ثلاثة أشهر (أع 20: 3)، قبل أن ينطلق عائدًا إلى أورشليم حاملاً معه نتاج "اللمَّة" التي التزم بها في "مجمع أورشليم". لا نمتلك عن هذه السفرة عناصر خارجيَّة تؤكِّد ما رواه أع 20: 3-21: 17. وبحسب لوقا، أوقف بولس في أورشليم (أع 21: 27-36).. ثمَّ نُقل إلى قيصريَّة (23: 21-23) حيث لبث سنتين (ف 24-27). ولمّا رفع دعواه إلى قيصر، نُقل إلى رومة (أع 27: 1-28: 14) وأقام هناك سنتين في وضع شخص موقوف في بيته (إقامة جبريَّة) رج أع 28: 31. والرسالة الإقليميَّة الأولى (دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل تشير إلى استشهاده في رومة 5: 7) في زمن نيرون بمناسبة اضطهاد المسيحيّين سنة 64 وما بعد. وذكرت مراجع من القرن الثاني سفر الرسول إلى إسبانية، ممّا يعني خروجًا مثل هذا الخبر لا يمتلك واقعًا تاريخيًّا.[iii]

حتّى الآن لبثت الكرونولوجيّا نسبيَّة. فإذا أردنا أن نجعلها مطلقة، تبقى النقاط الثابتة نادرة. حسب أع 18: 2، التقى بولس في كورنتوس بالزوجين برسكلَّة وأكيلا اللذين وصلا "منذ بعض الوقت" من إيطالية على أثر قرار طرد اليهود الذي أقرَّه الإمبراطور كلود. نستطيع أن نحدِّد موقع هذا القرار سنة 41 أو بالأحرى سنة 49. أمّا التاريخ الأكيد فهو بروقنصليَّة غاليون في آخائية (أع 18: 12). سنة 1905، وُجدت مدوَّنة[iv] في دلفوي (معبد كورنتوس) تذكر غاليون البروقنصل. إنَّها تتيح لنا أن نثبت أنَّ بروقنصليَّة غاليون دامت من أيّار 51 إلى أيّار 52، أو (أقلّ معقوليَّة) من أيّار 52 إلى أيّار 53. حسب أع 18: 11، لبث بولس في كورنتوس 18 شهرًا، وفي نهاية إقامته، اتُّهم أمام غاليون. إذا كانت بداية الإقامة في كورنتوس في نهاية سنة 49 أو خلال سنة 50، انطلاقًا من هذا التاريخ، نستطيع أن نحدِّد موقع الأحداث المعروفة في حياة بولس مع درجة خفيفة من اللايقين[v]:

. الدعوة

. زيارة أولى إلى أورشليم      32 تقريبًا

. نشاط في سورية وكيليكية     34/35

. انطلاق إلى أنطاكية. نشاط لحساب أنطاكية   34/35-38

. زيارة ثانية إلى أورشليم ("المجمع")

صراع مع بطرس في أنطاكية                48/49

. رحلة رسوليَّة "مستقلَّة" بعد تحرُّر من أنطاكية 49/50

. إقامة في كورنتوس           50-52

. إقامة في أفسس               52-55

. إقامة قصيرة في كورنتوس (3 أشهر) 55-56

. وصول إلى أورشليم، توفيق بولس    57/58

. الوصول إلى رومة           60


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM