الفصل الثاني: بولس اليهودي في عالم الشتات.

 

الفصل الثاني: بولس اليهودي في عالم الشتات

بالنسبة إلى النقطة الأولى، فانطلاقة الفكر الحكميّ في العالم اليهوديّ القديم، جعل العالمَ الفرّيسيّ بشكل خاصّ، يماهي بين الشريعة والحكمة القبموجودة (كما يقول ابن سيراخ): إذًا، »كانت التوراة الأداة التي بها خُلق العالم« (أبوت 3: 14). وهكذا صارت الشريعة الباطنيَّة للخليقة كلِّها وللتاريخ، قاعدةَ حياة من أجل البشر كلِّهم. والشريعة التي فُهمت في إطار الحكمة، قادت إلى مخافة الله، التي تتحقَّق في مخافة الشريعة. والشريعة كانت معيارًا موحَّدًا فيه كانت جميع الوصايا سواسية كتعبير عن العظمة الإلهيَّة الواحدة. وُجدت هذه النظرة، في شكل خفيّ عند بولس كما في روم 1: 18-3: 20.

والشريعة موعدُ حياة لمن يمارسها. حتّى في زمن المسيحيَّة الأولى، كان الصادوقيّون والأسيانيّون يتمثَّلون هذه الحياة على أنَّها حياة وحيدة للإنسان على الأرض، بحسب الإيمان القديم. أمّا الفرّيسيّون فعلَّموا منذ القرن الأوَّل ق.م. أنَّه يكون لهذه الحياة تواصلٌ في العالم الآتي، حيث تتوزَّع المكافأة والعقاب حسب تصرُّف البشر في هذا العالم بالنسبة إلى الشريعة (مر 12: 18-27 وز؛ أع 23: 6-8؛ أبوت 2: 1، 7، 16؛ 3: 1، 14-16). من هنا أخذ الفرّيسيّون بإحدى النظرات الأساسيَّة في جليانيَّة العالم اليهوديّ القديم. عند ذاك صار مزجٌ، لا بين الفرّيسيَّة ولاهوت الحكمة فقط، بل بين الفرّيسيَّة والجليانيَّة أيضًا. ونلاحظ أنَّ بولس أيضًا عاش في قلب فهمٍ لواقعٍ بحسبه يحلُّ محلّ هذا الواقع الحاضر، واقعٌ أبديّ آتٍ، وبحسبه تكون دينونة الله الباب الذي يُدخل إلى الخلاص النهائيّ.

هذان التفرُّعان الحاسمان في الفرّيسيَّة، يتيحان لنا أن نرى كيف انطلقت من عودة أساسيَّة إلى الشريعة لتنفتح على التحوُّلات التاريخيَّة. وبهذه الطريقة أيضًا اتَّخذت في بعض الأحوال موقفَ انفتاح عقليّ تجاه الهلنية، وتوافقت طوعًا مع وضع الشتات للعالم اليهوديّ. والمؤرِّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفس (37ب.م.- 100 تقريبًا) هو مثال على ذلك: خرج من أشراف الكهنوت الصادوقيّ، فانضمَّ شابٌّا إلى الفرّيسيّين، وشارك في الجليل، في الحرب اليهوديَّة. سجنه الرومان، فراح في نهاية الحرب إلى جانب تيطس ليعيش أخيرًا في رومة وقد صار مواطنًا رومانيٌّا ينال مرتَّبًا سنويٌّا. ومثَّلت تآليفُه محاولةَ تصالح بين العالم اليهوديّ والحضارة الهلِّنستيَّة والرومانيَّة على أساس يهوديّ.

ولكنَّ الشريعة تضمَّنت وصايا عديدة ومختلفة وجبَ تقديمُ بُعدها العمليّ. فبيَّنت أبحاثٌ معاصرة أنَّ الفرّيسيّين شدَّدوا على واقع يقول إنَّ القواعد التي تعنى بالطهارة حسب الشريعة، يجب أن يمارسها في الحياة اليوميَّة الشعب كلُّه، بحيث لا نحسب توراة تتوجَّه إلى الكهنة وحدهم. وهكذا صار التقديس الطقوسيّ في الحياة اليوميَّة برنامجًا من أجل شعب إسرائيل كلِّه. وبقدر ما كان هذا المرمى هدفًا في قلب الشتات الهلِّنستيّ، برز خطٌّ فاصل بالنسبة إلى جميع اللايهود وذلك بشكل واضح جدٌّا. وإذ كان التقديس الطقوسيّ بشكل خاصّ، محرِّكَ التصرُّف الفرّيسيّ لأنَّه يحافظ على الهويَّة الخاصَّة بشعب العهد، نفهم لماذا هاجم بولس بعنف، في دمشق، اليهومسيحيّين الذين اعتبروا أنَّ هذه الحدود يمكن أن تُخترَق.

هذه الملاحظات العامَّة حول العالم الفرّيسيّ، تقدِّم لنا الإطار الذي يتحكَّم بفكر بولس. هل نستطيع الوصول، من هنا، إلى تأكيدات محدَّدة بالنسبة إليه؟ قد نصل إلى ذلك، إذا استعملنا رسائل بولس عينها بشكل منطقيّ يستخلص النتائج. هذا يعني أنَّه إن رحنا نبحث في معطيات التقليد البيبليّ والمعطيات اليهوديَّة لدى القدّيس بولس، لا نتطلَّع هنا فقط إلى معرفة عامّة حول العالم اليهوديّ بل بالأحرى نتساءل عن القدر الذي فيه تعكس مثلُ هذه التأكيدات موقع بولس السابق في العالم اليهوديّ. وهكذا نعتبر أنَّه لا يُعقَل أن يكون بولس كوَّن فكرة عن العالم اليهوديّ بعد أن تحوَّلت حياته. بل يُعقَل أن تكون جذور حكمه المسيحيّ على العالم اليهوديّ والموادّ اليهوديَّة، في حقبة الرسول اليهوديَّة. ويصعب علينا أن نتخيَّل أنَّ بولس انتظر أن يكون مسيحيٌّا ليكوِّن فكرة عن اليهوديَّة. بل نقول إنَّ بولس حين تحدَّث عن العالم اليهوديّ تطلَّع في الحقيقة إلى عالمه اليهوديّ الخاصّ. من هذا القبيل، يكون اختلاف جوهريّ بين تحليل الرسائل البولسيَّة وتحليل التقليد الإزائيّ: في هذه الحالة الأخيرة، تاريخ التقليد هو مسيرة تمَّت في شكل نموِّ مُغفَل. وفي الحالة الأولى (مع بولس) يمكن أن نتعرَّف إلى شخصٍ حمَل هذا التقليد. وإذ نطرح السؤال بهذا الشكل، نكتشف عند بولس بعض الوجهات البارزة في تعليمه الفرّيسيّ. وهذا ما يبرِّر نسبتها إلى بولس اليهوديّ، ونستطيع أن نتحقَّق منها انطلاقًا من المراجع اليهوديَّة.

قبل أن ندخل في تفحُّص دقيق، ينبغي القول إنَّ كلَّ المعلومات التي نستقي من رسائل بولس، أُعطيَت في اللغة اليونانيَّة. ولا نستطيع في أيِّ مكان، أن نبيِّن في ترجمة ارتداديَّة إلى الآراميَّة، أنَّ بولس نقل هذه النصوص في مرحلة لاحقة، وذلك حين صار مسيحيٌّا. وهذا ما يقودنا إلى التفكير بأنَّ بولس عبَّر عن هذه الأفكار في اليونانيَّة وهو بعدُ يهوديّ. تلك هي سمة إضافيَّة أنَّ بولس كان فرّيسيٌّا من الشتات الهلِّنستيّ.

وهذا ما تؤكِّده أيضًا تيمة(1) فيها الكثير من الهجوم، كانت في قلب الجدال بين مجامع الشتات والعالم الهلّينيّ: المونوتاويَّة (= الإله الواحد) التي لا مساومة فيها. كانت حينذاك سمة فريدة من نوعها داخل العالم الدينيّ اليونانيّ والهلِّينيّ، الذي كان في الأساس مجتمعًا تلفيقيٌّا ومتسامحًا. الإله الواحد الحقيقيّ الذي هو الخالق والديّان، في مواجهة مع الآلهة:

فغُضب الله معلَن من السماء على كفر البشر وشرِّهم، يحجبون الحقَّ بمفاسدهم (روم 1: 18).

اهتديتم إلى الله وتركتم الأوثان لتعبدوا الله الحيَّ الحقّ (1تس 1: 9).

قد يكون لهذه الآلهة بعض الإيهام، ولكن لا قيمة لها في مدلولها الإيجابيّ. هي تُعتبر قوى حُرمت من سلطتها، أي شياطين مثلاً عُبدوا كالآلهة ولكن ينبغي عدم تكريمهم. نقرأ 1كو 8: 4-6:

4 أمّا الأكل من ذبائح الأوثان، فنحن نعرف أنَّ الوثن لا كيان له، وأنَّ لا إله إلاّ الله الأحد،

5 وإذا كان في السماء وفي الأرض ما يزعم الناس أنَّهم آلهة، بل هناك كثير من هذه الآلهة والأرباب.

6 فلنا نحن إله واحد...

وفي 1كو 10: 19-20:

19 أيعني أنَّ للوثن كيانًا أو لذبيحة الوثن قيمة؟

20 لا، بل يعني أنَّ ذبائح الوثنيّين هي ذبائح للشياطين لا لله، وأنا لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين.

فإكرام هذه الآلهة هو ما يشكِّل خطيئة الوثنيّين، لأنَّه يعبِّر عن عصيان تجاه الإله الواحد. كما يقود البشر بشكل مباشر إلى فساد الخطيئة الذي يبيِّن أنَّ عالم الآلهة الوثنيَّة لا يحمل الخلاص للإنسان. وبالتالي، في نظر اليهود، يجعله تحت دينونة الله. نقرأ روم 1: 18 ي:

18 غضب الله معلَن من السماء على كفر البشر وشرِّهم، يحجبون الحقَّ بمفاسدهم

19 لأنَّ ما يقدر البشر أن يعرفوه من الله جعله الله واضحًا جليٌّا لهم.

21 عرفوا الله، فما مجَّدوه ولا شكروه كإله، بل زاغت عقولُهم وملأ الظلامُ قلوبَهم الغبيَّة.

24 كذلك أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور، يهينون به أجسادهم.

لهذا لا يمكن أن يكون من هذا القبيل أيَّة مساومة بين اليهوديَّة والهلِّنيَّة. بل إنَّ كلَّ ما هو جزء من مظاهر الخطيئة في الأوثانيَّة، كما تظهر في الديانة وفي السلوك، يجب أن نتجنَّبه بشكل جذريّ. قالت إحدى الوصايا الفريّسيَّة الأساسيَّة في أبوت 1: 7: »لا تكن لك شركة مع الكافر«.

والفرّيسيّ العاديّ (لبث يوسيفس استثناء) يعيش بالتالي بحسب نموذج هو نموذج المواجهة والإقصاء، لأنَّ الغير ليس أهلاً بأن يكون معنا. بالنسبة إليه، إسرائيل هو الديانة الحقَّة، وكلُّ ما يرتبط بالأوثانيَّة ينبغي أن يُعتبرَ في نظره جحودًا خاطئًا. وإن فهمنا فهمًا صحيحًا سبب الحرب في دمشق بين بولس والمسيحيّين، نعرف أنَّ بولس ساند بشكل جذريّ النموذج الفرّيسيّ للطهارة الرافض لكلِّ عبادة وثنيَّة. »أنت قدّوس واسمُك رهيب، وما من إله خارجًا عنك«. هكذا صلّى بولس، شأنه شأن اليهود كلِّهم، في المباركة الثالثة من صلوات المباركات الثماني عشرة.

وهذه الصلاة تبدأ كما يلي: »مبارك أنت... يا إله إبراهيم وإله اسحاق وإله يعقوب... أيُّها الإله العليّ، يا خالق السماء والأرض، يا ترسَنا وترس آبائنا«. أمران يقالان هنا: الانطلاق نحو الشموليَّة التي توجِّهنا إلى الله الخالق الذي بيده وُجد العالمُ والبشر. كلُّ هذا يعود إلى تحديد خاصّ يرتبط بتاريخ الخلاص بفضل الإيمان بالاختيار الذي دشَّنه آباء الشعب إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ولهذا السبب بدأت الصلاة دعاء إلى الله يرجع إلى تاريخ الخلاص. حين يشير بولس في غل 2: 16 إلى الاختلاف في انطلاق اليهود وانطلاق الوثنيّين إلى المسيحيّة، فهو يميِّز بشكل طبيعيّ بين اليهود بالولادة والأمم الخاطئة. والطريقة التي بها يوسِّع بولس في روم 9-11 تفكيره حول مصير إسرائيل الآتي، لا يُفهَم إلاّ انطلاقًا من هذا التمييز بين شعب الخلاص وسائر الأمم. وهذا المبدأ الأساسيّ في الإيمان اليهوديّ، فَرض على بولس أن يبيِّن في مجال أوَّلِ حاملٍ للاختيار، أي إبراهيم، كيف أنَّ إبراهيم هو الآن، في المنظار المسيحيّ، أبو جميع المؤمنين (غل 3: 1ي؛ روم 4: 1ي). هنا نقرأ من فصول الآباء:

يقول نيتامي الأربئيطيّ: ابتعد عن جار شرّير، ولا تصادق الفاسد، ولا تستخفّ بالعقاب (1: 7).

''قال (رابّي عقيبا): محبوبٌ الإنسان لأنَّه خُلق على صورة (الله) ومحبَّةٌ أكبر عرَّفته أنَّه مخلوق على صورة (الله) كما قيل في تك 9: 6: ''لأنَّه (=الله) على صورة الله صنع الإنسان« (3: 14).(2)

وفي كتاب عزرا الرابع(3) 6: 55-56:

55 قلتُ هذا كلَّه أمامك، يا ربّ، لأنَّك أعلنتَ بأنَّك لأجلنا خَلقتَ العالم.

56 أمّا سائر الأمم التي وُلدت من آدم، فقلتَ إنَّها لا شيء. هي تشبه البصاق. وقد شبَّهتَ كثرتها بنقطة ماء تسقط في إناء.

وشهدت الرسالة الأولى إلى تسالونيكي الطريقة التي بها حوَّل بولس، في معنى مسيحيّ، هذا البند الإيمانيّ حول الاختيار، الذي هو أساسيّ من أجل فهم إسرائيل لذاته، فأعطاه شكلاً جديدًا.

وهكذا نصل إلى نزْع كلِّ صفة عن الأمم فنعتبرها عبيد الأوثان والمستبعدين من الاختيار والخطأة (روم 1: 18ي). وقال بولس لأهل غلاطية (4: 8):

»وحين كنتم تجهلون الله، كنتم عبيدًا لآلهة، ما هي بالحقيقة آلهة«. وإذ تطلَّع إلى الأمم في اختلافاتهم مع المسيحيَّة، لبث في الخطِّ اليهوديّ، ودعاهم »الجيل الضالّ الفاسد« (فل 2: 15؛ رج تث 32: 5: جيل معوجّ ملتوٍ) بحسب عادة فرّيسيَّة قديمة. وحين منع المسيحيّين أن يفضُّوا خلافاتهم في محكمة »الظالمين«، أي الوثنيِّين (1كو 6: 1)، اكتشفنا هنا موقفًا قبلمسيحيٌّا لدى بولس. منذ ذلك الوقت، كان المجمع أعطى لنفسه تنظيمًا قضائيٌّا خاصٌّا لئلاّ يخضع للتشريع الوثنيّ. ونقل بولس ذلك إلى العلاقة بين المسيحيّين والوثنيّين.

هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نستطيع أن نُبرز امتيازات إسرائيل، أي اختيار إسرائيل عبر عهدٍ عُقد مع الآباء، بحيث إنَّ الشعب يمتلك الآن وضعَ الابن: الشريعة التي نالها إسرائيل ليعرف مشيئة إله العهد. العبادة الوحيدة التي ترضي الله كوسيلة تكفير بجهالات إسرائيل. المواعيد ولا سيَّما مشاركة إسرائيل في الخلاص النهائيّ مع العلم أنَّ الله لا يتراجع عن وعوده. نقرأ في روم 3: 1-4

1 فما هو فضل اليهوديّ إذًا؟ وما هو نفعُ الختان؟

2 كثيرٌ من جميع الوجوه، وأوَّلها أنَّ الله ائتمن اليهود على أقواله

3 فماذا إن خان بعضهم؟ أتُبطِل خيانتُهم وفاءَ الله!

4 كلاّ! صدق الله...

ونقرأ في روم 11

2 ما نبذ الله شعبه وهو الذي سبق فاختاره.

29 ولا ندامة في هبات الله ودعوته.

في روم 9: 4 أورد بولس بشكل راسخ امتيازات إسرائيل في تعداد يتضمَّن مرَّتين ثلاثة ألفاظ. فلهم

التبنّي، المجد، العهود،

الشريعة، العبادة، الوعود.

سلسلتان حيث الواحدة تفسِّر الثانية والعكس بالعكس: فالتبنّي والتوراة (أو الشريعة) ترتبطان بما في فصول الآباء (3: 14). ومجد (الله الأرضيّ) يُقيم في الهيكل حيث يُقيم إسرائيل شعائرَ عبادته. والعهود (الآباء، موسى) تشير بشكل خاصّ إلى المواعيد لمستقبل الشعب. وإليك ميزات اليهوديّ كما قالها بولس الفرّيسيّ حين توجَّه إليه في روم 2: 17-18:

17 تسمّي نفسك يهوديٌّا

تتَّكل على الشريعة

تفتخر بالله.

18 تعرف مشيئة (الله)

وتميِّز ما هو الأفضل بما تعلَّمته من الشريعة.

ذاك هو اليهوديّ في علاقته بالله. وفي علاقته بالأمم، نقرأ روم 2: 19-20

19 تعتقد أنَّك قائد للعميان

ونور لمن هم في الظلام.

20 ومؤدِّب للأغبياء

ومعلِّم للبسطاء

لأنَّ لك في الشريعة كمال المعرفة والحقيقة.

ليس من قبيل الصدف أن يتحدَّث المقطعان عن مكانة الشريعة الرفيعة، عن ممارستها، لأنَّها تفرض نفسها في كلِّ شيء.

نحن نعرف أنَّنا هنا أمام اليهوديَّة كما فسَّرها الخطُ الفرّيسيّ. فنستطيع أن نستنتج أنَّ بولس فهم نفسه هكذا كيهوديّ فرّيسيّ. ولكيّ نُثبت هذا الاستنتاج، نستضيء بما قيل في فل 2: 15-16: واعملوا

15 حتّى تكونوا أنقياء لا لوم عليكم وأبناء الله بلا عيب وسط جيلٍ ضالٍّ فاسد، تُضيئون فيه كالكواكب في الكون

16 متمسِّكين بكلمة الحياة...

في هذا النصّ، طبَّق بولس على الجماعة المسيحيَّة الإدِّعاءات اليهوديَّة والوجدان اليهوديّ، فانتظر من المسيحيّين أن يكونوا »بلا لوم وبلا مساومات«. هكذا يجب أن يكون اليهوديّ الحقيقيّ كما تقول روم 2:

10 المجد والكرامة والسلام لكلِّ من يعمل الخير من اليهود أوَّلاَ ثمَّ اليونانيّين.

13 وما الذين يسمعون كلام الشريعة هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بأحكام الشريعة هم الذين يتبرَّرون.

وفي فل 3: 6:

وفي التقوى حسب الشريعة، فأنا بلا لوم.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكونوا »أولاد الله بلا لوم« (التبنّي في العالم اليهوديّ)، (روم 9: 4) »وسط جيل ملتوٍ معوجّ« (روم 2: 19-20). مثل »كواكب نيِّرة في العالم (روم 2: 19) »فيحملون كلام الحياة« (روم 9: 4). وإلى هذا الانتقال من جماعة (يهوديَّة) إلى جماعة (مسيحيَّة)، تُضاف ملاحظة أخرى: سجَّل بولس نفسه في إطار هذه الامتيازات اليهوديَّة، حين تحدَّث عن نفسه على أنَّه فرّيسيّ قديم. رج فل 3: 3-5:

3 فنحن أهل الختان الحقيقيّ، لأنَّنا نعبد الله بالروح، ونفتخر بالمسيح يسوع ولا نعتمد على أمور الجسد.

4 مع أنَّه من حقّي أن أعتمد عليها أنا أيضًا. فإن ظنَّ أحدٌ غيري أنَّ من حقِّه أن يعتمد على أمور الجسد، فأنا أحقُّ منه.

5 لأنّي مختون في اليوم الثامن لمولدي، وأنا من بني إسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبرانيّ من العبرانيّين. أمّا في الشريعة فأنا فرّيسيّ.

التلاؤم مع هذا الوضع الذي يحدِّده الاختيار، أي التوافق مع التوراة بحيث تفرض نفسها كما يجب في حياة كلِّ عضوٍ من أعضاء الشعب، كلُّ هذا شكَّل اهتمامًا أساسيٌّا للعالم الفرّيسيّ، وذلك من أجل حياة لمجد الله. نقرأ في فصول الآباء:

يقول هيلال: كونوا في عداد تلاميذ هارون، المحبّ للسلام والساعي إليه، والمحبّ للبرايا فيقرِّبها من التوراة (1: 12).

قال (هيلال): مُكثر اللحم يُكثر الدود. مكثر الثروات يُكثر الهموم. مُكثر النساء يُكثر الشعوذة. مُكثر الإماء يكثر الفجور. مُكثر العبيد يكثر النهب. مُكثر التعلُّم يزداد حياة. مُكثر الدراسة يزداد حكمة. مكثر المشورة يزداد فهمًا. مكثر الصدقة يكثر السلام. من اقتنى اسمًا حسنًا، لنفسه اقتناه، ومن اقتنى له كلمات التوراة، اقتنى له حياة العالم الآتي (2: 7).

يقول رابّي يوسي: ليكن مال صاحبك محبَّبًا إليك كما لو كان لك. كن دومًا مجتهدًا لدراسة التوراة لأنَّها لا تُعطى لك بالميراث، ولتكن كلُّ أعمالك لاسم السماوات (2: 12).

ونظر بولس إلى حياته الخاصَّة كيهوديّ بالنسبة إلى شريعة تُشرف على كلِّ شيء، واعتبر نفسه بلا لوم (فل 3: 6). قال: »وأفوق أكثر أبناء جيلي في ديانة اليهود« (غل 1: 14). لا مجال هنا في الحالّ لذكر مثل الفرّيسيّ والعشّار (لو 18: 11ي)، لكي نرى في هذا الكلام تعبيرًا يُصدر الحكم على من اعتبر نفسه بارٌّا. بل نلاحظ بادئ ذي بدء أنَّ بولس ربط مصيرَ الإنسان، لا بحكم يُطلقه على نفسه، بل بحكم الديّان الإلهيّ. قال في 1كور 4: 3-4:

3 وأنا لا يهمُّني كثيرًا أن تدينوني أنتم أو أيُّ محكمة بشريَّة، بل لا أدين نفسي

4 فضميري لا يؤنِّبني بشيء، إلاّ أنَّ هذا لا يبرِّرني، وإنَّما ديّاني الربّ.

هنا يقف بولس في خطِّ العالم الفرّيسيّ كما تقول فصول الآباء:

يقول رابّي (يهودا هالناسي): أيّ طريق مستقيم يختار الرجل لنفسه؟ الطريق الذي يشرِّف سالكه، ويُكسبُه احترام الآخرين. كن حريصا على وصيَّة صغيرة كما على كبيرة، لأنَّك تجهل أجر الوصايا. قارن بين الإخلال بوصيَّة وبين قيمة أجرها، وأجرَ مخالفة تجاه ضررها. إفتكرْ في ثلاثة أمور فلا تقع في الخطأ. اعلمْ أنَّ فوقك عينًا ترى، وأذنًا تسمع، وأنَّ أعمالك كلَّها مدوَّنة في الكتاب (2: 1).

يقول رابّي إلعازار: واظب على دراسة التوراة لتعرف كيف تُفحم إبيقور (الفيلسوف اليونانيّ). إعرف لأجل من تعمل، لأنَّ ربَّ عملك أمين، هو يدفع لك أجر عملك (2: 14).

يقول رابّي طرفون (من تلامذة رابّي يوحنان بن زمكي): اليومُ قصير، العملُ كثير. الفعلة متقاعدون والأجر كبير وربُّ البيت لجوج (2: 15).

يقول عقيبا بن مهلئيل: تبصَّرْ باعتبارات ثلاثة لئلاّ تعود تخطأ: إعرف من أين أتيت، وإلى أين تذهب، وأمام من أنت مزمع أن تؤدّي الحساب يوم الدينونة. من أين أتيت؟ من نطفة نتنة. إلى أين تذهب؟ إلى موضع تراب وعفن ودود. وأمام من أنت مزمع أن تؤدّي الحساب يوم الدينونة؟ أمام ملك الملوك، القدّوس، مبارك هو (3: 1).

البارّ (أو: الصدّيق) هو الأمين للقدرة بحسب حكم الله. إذ ينطلق من هذا المبدأ فيحصل أيضًا أن يبحث لينال لنفسه الحياة الأبديَّة في المثابرة على تتميم الأعمال الصالحة (روم 2: 7)، أو أن يعرض أعماله الحسنة أمام الديّان (لو 18: 11-12)، فهذا أمرٌ لا جدال فيه. وتتضمَّن الأمانة للتوراة أن نعتبر المحافظة على الشريعة مهمَّة من أجل الحياة كلِّها، وكذلك الاستعداد للندامة على الخطايا التي اقترفناها، لأنَّ الشريعة نفسها تشمل الطاعة والتكفير.

الأبرار يثقون بالله مخلِّصهم،

ففي بيت البارّ لا ملجأ لخطايا مكدَّسة

البارّ يراقب بيته على الدوام،

لينزع منه الإثم والمخالفات.

يفتدي بالصوم والعناء خطايا لم يتنبَّه لها،

والربُّ ينقّي جميع الأتقياء وبيوتهم (مز سل 3: 6-8).(4)

هكذا صوَّرت مزامير سليمان البارّ، وجعلته مقابل الخاطئ، الذي يكدِّس في حياته، الخطايا فوق الخطايا وأضافت (3:9-10).

9 عثر الخاطئ فلعن الحياة،

ويومًا ولدَتْه فيه أمُّه

10 كدَّس الحياة طوال حياته،

فسقط سقطة مميتة، وما قام.

أمّا الأمين للتوراة بشكل خاصّ، فيعرف أنَّه يشاهد رحمة الله التي تُمنَح له، هو البارّ، فينبغي عليه أن يكون مستعدٌّا بالتوبة والندامة حتّى الموت (فصول الآباء 2: 2، 8، 12؛ 3: 1، 15؛ 4: 11). في هذا المعنى أيضًا ينبغي أن نفهم كلمات بولس في فل 3: 7-8؛ غل 1: 14. وبولس لا يعارض بأن يكون اليهوديّ بارٌّا بهذا المعنى. ولكن بالنظر إلى معرفة يسوع المسيح، يعتبر أنَّ هذا لا قيمة له.

الحياة من أجل الشريعة تعني بالنسبة إلى بولس الفرّيسيّ، طاعة للخالق وللديّان. وهذه الطاعة واجبة لله من قِبَل جميع البشر بسبب وضعهم كخليقة. وميزةُ إسرائيل في هذا المجال أنَّه يعرف إرادة الله بفضل الشريعة. وواجبُ البشر هذا يُعبَّر عنه بأوضح صورة في فكرة الدينونة الأخيرة. ما حافظ بولس فقط كمسيحيّ، على فكرة الدينونة الأخيرة (1كو 3: 5-17؛ 2كو 5: 10؛ روم 14: 10-12)، بل أعاد بشكل استدلاليّ في روم 2: 2ي، نظرة يهوديَّة هلِّنستيَّة للدينونة، التي تُحسَب حتّى اليوم وبحقّ »تمثُّلاً قببولسيٌّا«.

من الطبيعيّ، في هذا المقطع، أن يُرجع بولس هذه التأكيدات ضدَّ النظرة اليهوديَّة بشكل غير مقبول لليهوديّ. ولكنَّه يفعل هذا ماضيًا من قاعدة مشتركة بينه وبين اليهود (آ2: نحن نعرف)، ومعتبرًا، انطلاقًا من هذه النظرات التي يشاركون فيها، أن اليهوديّ لا يستطيع أن يجد عذرًا ساعة دينونة الله. إذًا نقول: إن تركنا جانبًا هذه النقطة الهجوميَّة، تظهر هنا في سماتها الجوهريَّة النظرةُ التقليديَّة إلى الدينونة. فبولس ما استعمل فقط هنا وهناك، في هذا النصّ، ألفاظًا يهوديَّة هلِّنستيَّة لا جذور لها (مثلاً في آ5: الدينونة العادلة، الحكم العادل)، بل إنَّ هذه الملاحظات حول اللغة تشير إلى نظرة إجماليَّة ينطلق منها فكر بولس ويتوسَّع، وهو عارف هنا أنَّه في وفاق مع اليهود. وهكذا ينبغي أن نقول إنَّ النظرة الإجماليَّة حول الدينونة التي يتوافق فيها بولس واليهود، تصوِّر بولس يهوديٌّا قديمًا من الشتات بحيث لم يعد من الضروريّ له، حين يصير مسيحيٌّا، أن يقدِّم لنفسه فكرة عن اليهوديَّة، في مجرَّد نظرة إلى الوراء.

فكيف تَبرز طريقةُ فهم الدينونة هذه؟ نقدِّم جوابًا على هذا السؤال متتبِّعين نصَّ بولس وعارضين في كلِّ مرَّة التشابهات اليهوديَّة. فجميع الخلائق تعيش تجاه الدينونة وما من أحد يُفلت منها (روم 2: 2-3؛ 9: 18-24؛ فصول الآباء 2: 1؛ 3: 1). إذًا لا نهتمُّ بوقت الدينونة ولا باقترابها في الزمن. وما يهمُّ ليس أن نعرف متى يأتي يوم الدينونة، بل الواقع الحاسم حيث ممارسة الشريعة أو رفضها له نتائجه بالنسبة إلى الدينونة (فصول الآباء 2: 1، 15؛ 3: 1). فالدينونة وُضعت في خدمة معرفة الشريعة. وهي تُفهمنا أنَّنا لا نستطيع أن نستهتر بإرادة الله دون أن ننال العقاب: فالله لا يُستهزأ به (غل 6: 7). لهذا، فأَتِمَّ الشريعة (فصول الآباء 1: 16؛ 2: 8). والزمن الذي يسير حتّى الدينونة، هو زمن »وفرة الحنان والصبر وطول الأناة«، التي تدفع الإنسان إلى التوبة. فالذي لا يستفيد من هذا الوقت، يكون متمرِّدًا ويجلب عليه غضب الله (روم 2: 4-5؛ فصول الآباء 2: 1، 8، 10، 12). إذًا، يُفهَم التاريخ كإمكانيَّة يقدِّمها الله لكي نعيش حياتنا من أجل التوراة. وهكذا تُفهَم هذه الحياةُ أيضًا على أنَّها موجَّهة نحو الدينونة الأخيرة.

فالأمم التي لم تُسلَّم إليها التوراة المكتوبة ما أُعفيَت من العمل بها، لأنَّ متطلِّبات الشريعة معروفة لديها »بالطبيعة« (هي فكرة رواقيَّة أعيدت صياغتها في إطار يهوديّ هلِّنستيّ)، لأنَّ »الشريعة كُتبت في قلوبهم كما ضميرهم يشهد عليها« (روم 2: 14-15).

نتمثَّل الدينونة على أنَّها دينونة في نهاية الأزمنة وداخليَّة. هي تُمارَس »بحسب الحقيقة« (روم 2: 12؛ فصول الآباء 3: 16)، أي »دون محاباة الوجوه« (2: 11) وقالت مز سل 2: 18:

الله ديّان عادل

لا يقضي بما ترى عيناه.

وفصول الآباء.

قال رابّي: »المولودون مصيرهم الموت، والموتى الحياة، والأحياء الدينونة، ليُعرَف وليُعلَن عنه ويُخبَر أنَّه الإله... والقاضي المزمع أن يدين. مبارك هو فلا ظُلمَ عنده ولا نسيان، ولا محاباة وجوه، ولا الرشوة لأنَّ الكلَّ له« (4: 22).

كلُّ هذا يكشف دينونة الله العادلة (روم 2: 5).

وتقول وصيَّة لاوي: »فاسمع ما يخصُّ السبع سماوات... المهيَّأ ليوم الدينونة. هي عدالة الله المستقيمة« (3: 1-2). وفي 15: 2 تقول: »وتنالون العار والاحتقار الأبديّ بالنظر إلى دينونة الله المستقيمة(5)«.

هنا يستعمل بولس لفظة يونانيَّة جديدة لا يستعملها مرارًا. فهذه الأقوال تدلُّ على لافساد القاضي الذي لا يحابي أحدًا، الذي يقضي بشكل دقيق ولا يتماهل في أعمال أحد (روم 2: 6). الذي يدين أيضًا »خطايا البشر« (روم 2: 16). حين يمنح الله كلَّ واحد مصيره النهائيّ، فدينونته عادلة (توزِّع على كلِّ واحد ما يستحقّ) لأنَّها توافق »الحقّ« أي واقع الإنسان. عندئذٍ يورد بولس في روم 2: 6، مز 62: 13 (رج أم 24: 12): »الله يجازي كلَّ إنسان بحسب أعماله«. في أصل هذا القول الذي يشير إلى رباط وثيق بين ما يُعمَل وبين ما يحصل، بحيث إنَّ نتيجة عمل تقع حالاً على ذاك الذي يقوم، الله هو الذي يؤمِّن ثبات هذا الرباط.

أمّا الآن، فهذا القول يجب أن يُقرَأ في سياقه الحاليّ الذي هو سياق ثلاثة مبادئ دينونة، وهكذا يأخذ مدلوله من »المجازاة« في نهاية الأزمنة: بعملٍ من الدينونة، الله يقيم العدالة حين يجازي بالخير الذين فعلوا الخير أي »يحسب لهم أجرهم«، كما »يحقُّ لهم« (روم 4: 24). ولكنَّه يجعل من الذين عملوا الشرَّ موضوع »غضبه وغيظه« (روم 2: 8ي). هكذا تكلَّمت فصول الآباء أيضًا عن »مجازاة« الله (1: 7)، ففهمت بهذا الكلام »تأدية الأجر« في نهاية الأزمنة (2: 1؛ 4: 2). هناك يوزِّع الله مثل ربِّ عمل الأجرَ للعمل الذي نُفِّذ (2: 16). وتَتمُّ هذه المجازاةُ في أنَّ جميع أعمال البشر مسجَّلة في »كتاب« (في سفر) (2: 1) بجيث ينبغي أن »يبرِّروا أنفسهم ويؤدُّوا حسابًا« (3: 1). ومقابل هذا »يسجِّل« لهم الله كلَّ شيء (2: 2؛ 3: 8). هذه اللغة التي ترجع إلى الحقِّ في العمل، وحقِّ التجارة، تُصبح ملموسة في صورة التاجر الذي يُقرض المال (3: 16). فالغضب »المقدَّس« (روم 2: 15) يجب أن يُفهَم بدون شكّ في عودة إلى هذه الخلفيَّة. وإليك الطريقة التي كانوا يتمثَّلون الأشياء بها: في الدينونة الأخيرة، يحكم الله على تاريخ البشريَّة الذي تمَّ، يسجِّل الحسابات، ويردُّ على أعمال البشر يدينونته. في هذا المعنى، وإن تطلَّعنا إلى هذه الأعمال من وجهة الدينونة، فهي تعطي بشكل عميق، الخلاصَ أو الشقاء.

ومعطية أساسيَّة أخرى في روم 2 تقول: لا يُقاس الأجر والعقاب بالكمّ. كما أنَّه لا يُوجَد أبرار وأشرار، كذلك لا يُوجَد أيضًا إلاّ الحياة والعذاب في نهاية الأزمنة. »المجد والكرامة وعدم الفساد« (لفظ هلِّنستيّ نموذجيّ). أو: »المجد والكرامة والسلام« (2: 7، 10). تلك هي »الحياة الأبديَّة« (أوضح بولس ذلك بشكل جديد ومسيحيّ في 1تس 4: 17. مقابل هذا، »الغضب والسخط« (2: 8) يصفان حالة الشقاء الأخيرة. ينبغي هنا أن نتذكَّر توسُّعات بولس التي فيها عبَّر عن الدينونة حول البرّ تحت الشريعة: البارُّ هو الأمين للتوراة. وهذه الأقوال تُشير إلى مخرجَين في الحياة بشكل متوازٍ توازيًا. ففي 1تس 4: 13- 5: 11، لا يعود المسيحيّ يهتمُّ بمصير جميع الذين لا يؤمنون، بل فقط بخلاص الجماعة الإسكاتولوجيَّة (في نهاية الزمن). واهتمام العالم اليهوديّ بالعدالة التبادليَّة في نهاية العالم، تفرض هاتين الوجهتين (مز سل 3: 6-12). وبولس، كمسيحيّ، يتوافق مع النظرة الفرّيسيَّة، بقدر ما يعرف هو أيضًا التوصيف الأساسيّ في الدينونة الأخيرة، وبالتالي لا يعرف سوى حالة فريدة من الخلاص.

هذه الطريقة في تمثُّل الدينونة، تتضمَّن أيضًا بين السطور، أقوالاً حول الأنتروبولوجيّا (أو: الأناسة، البحث في الإنسان): فالفرّيسيَّة التي تفرض الأمر »عليك« تصيب الإنسان الذي عنده خاصية: »أنت تقدر«. فالخطيئة تصوَّر بصوَر عن الإنسان الذي لا يلتزم بقدر ما يستطيع، وليست انعكاس توصيف سلبيّ لدى الذي اقترفه في شخصه: فالمذهب الفرّيسيّ يعلِّم حرِّيَّة الإرادة.

كلُّ شيء مكشوف، والحرّيَّة معطاة، وبالحسنى يُدان العالم، كلٌّ بحسب وفرة أعماله (فصول الآباء 3: 15).

وبما أنَّ الإنسان، في المبدأ، حرٌّ بأن يصنع الخير أو الشرّ، وبأنَّ الخطيئة لا تسوده، يكفيه أن يتطلَّع إلى أعماله فلا يحتاج أن يتجدَّد هو نفسه قبل أن يصنع الخير. في هذه النقطة، جاء فكرُ بولس مختلفًا بعد اهتدائه، فكوَّن حُكمًا جديدًا حول الإنسان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM