الفصل الثالث: بولس والعالم الهليني.

 

الفصل الثالث: بولس والعالم الهليني

إذا انطلقنا من هذه التوسُّعات التي رسمها بولس عن الدينونة الأخيرة، وإذا ألقينا نظرة إلى اليهوديَّة الهلِّنستيَّة، نلاحظ أنَّ هذه اليهوديَّة أخذت، لا بشكل مستمرّ، بل في بعض الحالات، أقوالاً حول الدينونة الأخيرة، مستقاة من العالم الجليانيّ. هذا ما نشهده مثلاً في وصيّات الآباء الاثني عشر، أو الأقوال السيبليَّة، أو أخنوخ السلافيّ. ولكنَّ كتاب العاديّات الذي ألَّفه كاتب قريب من الفكر الفرّيسيّ، يبيِّن أنَّ الفكر الجليانيّ جُعل في خدمة الفهم الفرّيسيّ للشريعة. ونحن نرى هنا رواية جديدة حول تاريخ إسرائيل، الذي يضخِّم خبر الطوفان فيُبرز هذا الفيضان الكبير على أنَّه علامة، وسط أفعال تاريخيَّة أخرى، لغضب الله (1: 18ي؛ 2: 1ي). وأضاف: حين تتمُّ أزمنة العالم، يمنح الله الحياة لجميع البشر »ويجازي كلَّ واحد بحسب أعماله« (روم 2: 5). والذين يُخلَّصون يُعتَبرون »مبرَّرين« »يعيشون في مسكن آخر، يكون لهم المسكن الأبديّ« (كعب 3: 9-10):

وقال الله: »بعد اليوم لن ألعن الأرض بسبب الإنسان، لأنَّ ميل قلبه البشريّ ضلَّ منذ صباه: لهذا، لن أفنيَ جميع الأحياء كما فعلتُ. وحين يخطأ سكّانُ الأرض، أدينهم إمّا بالجوع، وإمّا بالسيف، وإمّا بالنار، وإمّا بالموت، ويكون زلزال بحيث يتشتَّتون في الأماكن اللامأهولة. ولكنّي لن أُفسدَ الأرض بعدُ بمياه الطوفان. وفي جميع أيّام الأرض، لا يرتاح (= يتوقَّف) الزرعُ والحصاد، البردُ والحرّ، فصل الجفاف وفصل المطر، وفي النهار وفي الليل سوف أتذكَّر أولئك الذين يقيمون على الأرض حتّى تتمَّ الأزمنة.

»ولكن حين تتمُّ سنوات العالم، عندئذٍ يتوقَّف النور وتنطفئ الظلمات. أُحيي الموتى وأُنهض الراقدين من الأرض. يُعيد الجحيم ما عليه، ويردّ الهلاكُ ما استُودع لكي أجازي كلَّ واحد حسب أعماله، حسب ثمر استنباطاته، حتّى أحمل الدينونة بين النفس والجسد. فيرتاح العالم وينطفئ الموت وتُغلق الجحيمُ فمَها. ولن تعود الأرضُ عقيمة بلا خصب من أجل ساكنيها. ولن يكون أحدٌ نجسًا بعد أن سبق وتبرَّر بي. وتكون أرض أخرى وسماء أخرى كمقام أبديّ«.(6)

إذا كانت الفرّيسيَّة اقتربت من فكرة الدينونة الأخيرة كما في العالم الجليانيّ فجعلت منه جزءًا لا يتجزَّأ من فهمها للشريعة، أي فسَّرت وعد الحياة في التوراة، على أنَّه وعد بالحياة في نهاية الأزمنة بعد الدينونة، فهذا يعني أنَّ الفرّيسيّين كانوا من الجليانيّين. وكذلك لم يكن بولس في هذا الخطّ، ولا كاتب العاديّات البيبليَّة، ولا المصلّي في مزامير سليمان، ولا معلِّمو إسرائيل الذين يتكلَّمون في فصول الآباء. فالجليانيَّة تودُّ أن تُبرز، بواسطة إيحاءات خارقة، مرتبطة بوجوه كبيرة من التاريخ، حقائقَ لا تتضمَّنها الشريعةُ اليهوديَّة. وتودُّ أن تعطي سلطة لحقيقة مُضافَة بجانب موسى وأبعد منه. هنا نقرأ 4عز 14: 37-44. قال عزرا:

37 فأخذتُ الرجال الخمسة معي، كما أمرني، ومضينا إلى الحقل، وبقينا هناك

38 وفي اليوم التالي، دعاني الصوت وقال لي: يا عزرا، افتحْ فمك واشرب ما أنا أسقيك.

39 ففتحتُ فمي، فقُدِّمت لي كأسٌ ملآنة، امتلأتْ بشيء كالماء، وكان لونُها شبيهًا بالنار.

40 فأخذتُ الكأسَ وشربت. وحين شربتُ فجَّر قلبي الفهم، وانتفخ صدري بالحكمة، واحتفظ فكري بالذاكرة.

41 فانفتح فمي وما عاد ينغلق.

42 فأعطى العليُّ أيضًا الفهم للرجال الخمسة، فكتبوا ما كنتُ أقوله لهم، بتنظيم، بواسطة علامات ما كانوا يعرفونها، ولبثوا أربعين يومًا، كانوا يكتبون في النهار

43 ويأكلون الخبز خلال الليل. فكنتُ أتكلَّم في النهار وأصمت في الليل.

44 وخلال أربعين يومًا، كتبوا أربعة وتسعين كتابًا.(7)

إنَّ الفرّيسيّ لا يعرف سوى سلطة موسى، والشريعة تكفي وحدها للحصول على الحياة. والجواب المعطى للرجل الغنيّ (لو 16: 27ي)، الذي يطلب وحيًا خاصٌّا لإخوته، يميِّز الطريقة الفرّيسيَّة: »عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم... إن لم يسمعوا لموسى وللأنبياء، ولا إن قام أحد من الموت يقتنعون...«. لهذا تكلَّم الفرّيسيّ باسم مستعار أو مغفَّل، ولكنَّه علَّم بسلطة موسى. ففي نظره، لا وجودَ لسَلفٍ ينال إيحاءات خاصَّة مثل أخنوخ وعزرا، إيحاءات خفيَّة في المبدأ، ثمَّ كُشفت للرائين. أمّا الفرّيسيّ فلا يعرف سوى وحي شريعة الله على سيناء، وتفسيرها في التقليد الشفهيّ.

موسى تقبَّل التوراة من سيناء وسلَّمها إلى يشوع (بن نون)، ويشوع إلى الشيوخ، والشيوخ إلى الأنبياء، والأنبياء سلَّموها إلى رجال المجمع الكبير. وهؤلاء قالوا ثلاث عبارات: كونوا متأنِّين في الحكم، وأقيموا تلاميذ آخرين، واجعلوا للتوراة سياجًا« (أي الأحكام والوصايا) (فصول الآباء 1: 1).

فالوحي الخاصّ الذي تعود إليه الجليانيَّة، هو تعبير عن مناخِ أزمة تَفهم التاريخَ البشريّ على أنَّه تاريخ الشقاء، حيث النظر إلى فعل الله الذي يعطي معنى، يكون محجوبًا أو مضاعًا. وغياب المَخرج والتحيُّر اللذين يميِّزان خبرة العالم، في التاريخ وفي الكون، وهي خبرة خاصَّة بالعالم الجليانيّ، يجب أن نتجاوزها بإيحاءات خاصَّة من هذا النمط. فيها يعلِّمون كيف تُشرف على العالم والتاريخ أوامرُ مخفيَّة متتالية، ولكنها منذ الآن تُكشَف للمختارين. وتأتي الأزمنة الأخيرة من تاريخيَّة وكونيَّة، فتكون في امتداد الزمن الحاليّ.

أمّا الفرّيسيّ فيصف التاريخ كالزمن المتواصل والذي يتساوى دومًا مع صبر الله، بحيث يكون لكلِّ واحد مهمَّة تتميم التوراة فيؤدّي عنها حسابًا لله في يوم من الأيّام. هو لا يحتاج إلى تواليات التاريخ الخفيَّة، ولا إلى معرفة كونيَّة خاصَّة حول العالم وما يحصل في نهاية الأزمنة. ففي نظره تتركَّز الدينونة الأخيرة على المدلول الأنتروبولوجيّ لمكافأة كلِّ واحد وعقابه تجاه وصايا التوراة. من جهة شكليَّة، لبث بولس يؤكِّد ذلك كمسيحيّ (روم 14: 10؛ 2كو 5: 10). فهناك تقليد (فصول الآباء 3: 1) يعود إلى الزمن الذي كان فيه بولس فرّيسيٌّا ذكرناه فيما سبق (3: 1): »إعرف من أين أتيت...«. وبالنسبة إلى الفرّيسيّ، كلُّ واحد يستطيع أن يثق بالحياة، لأنَّ انتظار المجازاة من لدن الله، ثابت لا يتزعزع. فالموضوع هو كلُّ إنسان في فرديَّته، وفي طاعته تجاه التوراة، وهو يقف وحده ويدافع عن نفسه في الدينونة الآتية، ولا يحتاج أن يعرف عن الحياة أكثر من ذلك. وهذه المعرفة الأساسيَّة أمَّنها له موسى بشكل أكيد.

الخاتمة

ذاك هو وجه بولس الفرّيسيّ. تربية على حبّ الشريعة والمحافظة على متطلباتها. تعمّق في النصّ الكتابي لدى غملائيل، ذاك المعلّم الكبير. عقيدة تنطلق من الاله الواحد، في وجه الآلهة المتعددة، فتجعل المؤمن في عهد قطعه الله مع شعبه ولا يتراجع عنه، لأن لا ندامة في عطاياه. عقيدة القيامة والحياة الأخرى، حيث يُجازَى كل واحد بحسب أعماله. كل هذا حمله ذاك البنياميني شاول، فطعّمه بالانجيل بعد أن التقى بالرب على طريق دمشق، فتبدّلت حياته كله. وحمله هذا اللقاء بالرب إلى العالم الوثني، بل إلى أقاصي الأرض بعاصمته رومة حيث يموت بولس شهيدًا، فيكون تلك »الذبيحة التي يُراق دمُها« (2 تم 4:16) في رفقة ذاك الذي أحبّه وضحّى بنفسه من أجله.

سبق ولاحظنا أنَّ يهوديَّة الفرّيسيين في الشتات، كما كان بولس، تنطبع بطابع الهلينة(1). هذه الوجهة من الأمور ننظر إليها الآن. لا شكَّ في أنَّنا نستطيع أن نتجاهل هذه المسألة معتبرين فقط أنَّ اليهوديَّة في زمن الأصول المسيحيَّة، كانت بشكل إجماليّ، يهوديَّة هلّنستيَّة. هي وجهة شرعيَّة إلى حدٍّ ما. فحين استقبل خلفاء الإسكندر إرث الإسكندر الواقع في القسم الشرقيّ من حوض البحر المتوسِّط، انتقلت كلُّ هذه المنطقة إلى تأثير اللغة اليونانيَّة الهلنستيَّة وحضارتها. وما أفلتَ العالمُ اليهوديُّ من هذا التأثير. نجد أنَّ هناك اختلافات عديدة بين يهوديٍّ انضمَّ إلى المكابيّين فحارب الهلينة القاسية، وبين أسيانيّ ذي توجُّه تقويّ وكهنوتيّ، وساكن إحدى قرى الجليل الذي يعرف بعض الكلمات اليونانيَّة ولكنَّه يبقى أمينًا لديانة الآباء التقليديَّة، وبين يوسيفس الذي درس التوراة والبلاغة اليونانيَّة، وأرسطوبولس(2) وفيلون اللذين غاصا في الفلسفة اليونانيَّة ليزوِّجاها مع الفكر اليهوديّ، وبين ديمتريوس(3) وأوبوليم(4) وأرتابان(5) الذين شيَّدوا عمارة أبولوجيَّة يهوديَّة، تجاه الديانة اليونانيَّة وحضارتها.

إذا أردنا أن نعرف إلى أيِّ حدٍّ تهليَنَ شخصٌ أو مجموعة، في اللغة والدين والتربية والثقافة، نجد اختلافات كثيرة، وهذا أمرٌ طبيعيّ. ونقول الشيء عينه عن شخص وُلد في اليهوديَّة أو في الإسكندريَّة، سواء تكلَّم اليونانيَّة قدر المستطاع أو فقط في الحياة اليوميَّة، أو هو أيضًا صار يونانيٌّا وما اكتفى بمعرفة اللغة اليونانيَّة (يوسيفس، أبيّون 1: 180). أين نحدِّد موقع بولس في هذه التنوُّعات؟

بالنسبة إلى طرسوس، نستطيع القول حقٌّا إنّنا نعتبر بشكل إجماليّ، أنَّنا نجد فيها المؤسَّسات الكفيلة بإعطاء تربية هلنستيَّة، عامَّة، بحسب مثال الثقافة كما كانوا يتصوَّرونها. ويمكن القول أيضًا إنَّه في زمن بولس كانت المسيرة الدراسيَّة في طرسوس، كما كانت في سائر المدن الكبر. هناك تعليم البدايات من رياضة وموسيقى وقراءة وكتابة، يعطيه المربّي أو الموكَّل على الولد. ثمَّ تأتي التربية العامَّة العالية التي كانت تمارسَ لدى أساتذة البلاغة وفي مدارسهم. كانوا يعلِّمون الغراماطيق (الصرف والنحو...) وقراءة المؤلَّفات الكلاسيكيَّة والبلاغة (قواعد الكلام والتأليف) والجدليَّة (أوَّل عناصر التفكير الفلسفيّ)، الرياضيّات والنظريَّة الموسيقيَّة. ويتكلَّل كلُّ هذا بتعليم يُعطى في مدارس الفلاسفة حيث تُمارَس أرفعُ تلمذة في العصور القديمة.

وإذ نتحدَّث عن عائلة يهوديَّة يكون موقفُها الدينيّ موقفَ الممارسة الدقيقة للشريعة في الخطِّ الفرّيسيّ، فلا يُعقَل أنَّها أرسلت ابنها إلى مدرسة وثنيَّة، وإن كان من الأكيد أنَّ بولس استمع هنا أو هناك إلى أحد أساتذة البلاغة أو الكتَّاب الكلاسيكيّين القدماء. من هذا القبيل، نراه يتميَّز عن فيلون بشكل واضح. وهذا ما يدفعنا إلى التفكير أنَّه مرَّ في تعليم يهوديّ معروف في الشتات الهلنستيّ. تضمَّن هذا التعليم، لكي يستطيع أن يزاحم التعليمَ الآخر، موادَّ مشابهة لتلك التي تُعطى في العالم الهلنستيّ، في الدرجتين الأولى والثانية. هناك تحوُّلات تمَّت ولا سيَّما في ما يتعلَّق بتعدُّد الآلهة وأخبار الميتولوجيّا. وتكون التوراة الموضوعَ الأساسيّ للتعليم. ويتعلَّم الطالب الآراميَّة واليونانيَّة. أمّا الرياضة فلا يستسيغها اليهود (بما أنَّهم يمارسونها عراة، تظهر ختانتهم، 2مك 4: 14)، ولهذا كانت تُهمَل في مدارسهم. وكانت تحفُّظات في دراسة المقدِّمة إلى الفلسفة، هذا إذا دُرست. أمّا البلاغة، فبقيَت لها مكانتُها كما في العالم اليونانيّ. وإن كان اليهود مارسوا تشريعهم الخاصّ حيث حلُّوا، وجب عليهم، شاؤوا أم أبوا، أن يدافعوا عن أنفسهم أمام المحاكم الوثنيَّة حين لا يكون الخصم يهوديٌّا. ثمَّ إنَّ اليهود الهلنستيّين كانت لهم مناسبة أن يُلقوا خطبة في تجمُّع من التجمُّعات أو في أحد الأعياد، تروق لآذانٍ هلنستيَّة. هذا يعني أنَّ التعليم في المدارس اليهوديَّة كان شبيهًا بما يُعطى في المدارس الهلنستيَّة مع بعض الاستثناءات البسيطة.

إذًا، تلقّى بولس تربية عامَّة، رفيعة من هذا النمط، وموافقة، في النوعيَّة، للدرجة الثانية في التربية الهلنستيَّة. ونحن نبرِّر هذا الطرح حين التعرُّف إلى لغة استعملها الرسول، فنجد عنده مفردات اصطلاحيَّة اعتاد عليها: بالنسبة إليه، كلُّ لايهوديّ هو يونانيّ (روم 1: 16؛ 2: 9-10). من الطبيعيّ أن يكون لهذا التمييز، قبل كلِّ شيء، مدلولٌ لاهوتيُّ يرجع بنا إلى تاريخ الخلاص: اليونانيّ هو الوثنيّ. ولكنَّ التمييز يقول أيضًا ما يلي: بالنسبة إلى اللايهود، اللغةُ العاديَّة هي اليونانيَّة. لهذا كتب بولس في اليونانيَّة، لا فقط إلى فيلبّي وكورنتوس فقط، بل أيضًا إلى غلاطية البعيدة، وإلى رومة أكثر المدن رومانيَّة. وتنوُّعُ اللغات الذي كان طبيعيٌّا في الحقل الوثنيّ - المسيحيّ (أع 2: 8-11)، لا يمثِّل له عائقًا كبيرًا، كما لا يمنعه من ممارسة نشاطه الرسوليّ في المدن الريفيَّة، لأنَّه تعلَّم اليونانيَّة منذ طفولته في طرسوس، ولأنَّ اليونانيَّة كانت لغة التخاطب في كلِّ مكان، في الأوساط المدينيَّة المشابهة.

* * *

ونستطيع أن نصوِّر أيضًا بشكل أدقّ معرفةَ بولس لليونانيَّة. هو يتكلَّم بطلاقةٍ اليونانيَّة الشائعة(1)، دون عبارات مرتبطة بالساميَّة. وهو يفكِّر في هذه اللغة حين يكتب. ولكن حين نقابله مع نصوص في عصره، نرى أسلوبه معقَّدًا، ثقيلاً. غير أنّه يعرف الغراماطيق ويقدِّم من وقت إلى آخر جُملاً يونانيَّة كلاسيكيَّة. وهو يورد الكتاب المقدَّس غيبًا، حسب السبعينيَّة التي قرأها منذ حداثته. هذا النصّ كان أساسَ التعليم الذي تلقّاه، وإلاّ لا يستطيع أن يورده ويستفيض. إذًا، ليست اليونانيَّة لبولس مجرَّد وسيلة هامشيَّة، تتيح له أن يتكيَّف مع سامعيه وقرّائه، بل عنصر من ثقافته الخاصَّة. لهذا نفترض تكوينًا مدرسيٌّا ناله خلال صباه.

وهناك مجال آخر من الرصد(6) يأتي أمامنا لكي نجيب على سؤالنا: النهوج العامَّة المستعملة في الشكل المُعطى لرسائله، وطرق البرهنة والعرض التي يلجأ إليها. للوهلة الأولى، يبدو بولس سيِّد الأسلوب الرسائليّ: سار في خطِّ القواعد اليونانيَّة، فقسم مقدِّمة الرسالة إلى العنوان والمرسل إليه والسلامات. وبحسب الطريقة الشرقيَّة واليهوديَّة، يجعل من التحيَّة جملة مستقلَّة. ونستطيع أيضًا أن نعرف الشكل النموذجيّ المعروف في نهاية رسائله. وفي جسم الرسائل، وبالنسبة إلى مسائل متشعِّبة كتلك التي يعالج في روم، توصَّل فرتَّب ترتيبًا حسنًا مسيرة فكره، وقدَّم بشكل واضح تسلسل الأفكار، واستعمل بشكل ملائم العلامات النصوصيَّة التي تدلُّ على الوصلات، وأبرزَ النقاطَ الجوهريَّة بعبارات في محلِّها.

ولو افترضنا أنَّه كان لبولس مواهب كبيرة، وأنَّه توصَّل إلى أن يتعلَّم الكثير على نفسه، كلُّ هذه السمات تفترض بشكل عامّ تربية مدرِّسين. ويُضاف إلى هذا أنَّ بولس لم يستعمل في كلِّ هذا، الأساليبَ الكتابيَّة العاديَّة، بل وضع نصب عينيه نماذج البراهين الهلنستيَّة ولجأ إلى أسلوب الجدال (في معنى إجماليّ). وهنا أيضًا ظهر التأثير الهلنستيّ الذي نجده في ثقافة رفيعة.

ونتعلَّم الكثير حين نلقي نظرة على البلاغة. فبولس والبلاغة اليونانيّة ثيمةٌ بدأت فيها الدراسات العديدة. ونحن نعرف إلى أيِّ حدّ، في العالم الهلّينيّ، انطبعت كلُّ الحياة العامَّة بمعرفة البلاغة، بحيث نستطيع أن نشاهد كلَّ واحد يخطب في الساحة العامَّة(7) أو في مجلس الشيوخ(8) أو في الأُخوَّات(9) كما نشاهد أيضًا الوعّاظ المتجوِّلين من كلِّ نوع، أو فرقة السفسطائيّين بألف لون ولون. هذا ما يجعلنا مبدئيٌّا نقول إنَّ بولس كانت له بعضُ المعرفة في هذا المجال. للوهلة الأولى، يبدو وكأنَّه لا يحترم البلاغة كثيرًا. وهو يتباعد عن خصومه في كورنتوس فيؤكِّد أنَّ كرازته »لا تعتمد على أساليب الحكمة البشريَّة في الإقناع« (1كو 2: 4؛ رج 1: 17، 20؛ 2: 1-13). كما اعتبر نفسه كَلاَ شيء على مستوى الخطابة، فقال في 2كو 11: 6: »فإن أعوزتني الفصاحة، فلا تعوزني المعرفة«. وشعر الكورنثيّون في طريقة تقديمه للأمور، أنَّه كان ضعيفًا وكلامه سخيفًا (2كو 10: 10). ولكن في الحقيقة، هذا الشعور كان ينقلب في رسائله. وسبق الرسول فكتب إلى التسالونيكيّين أنَّه لم يأتِ إليهم بكلام تملُّق ولا بخلفيَّة الطمع (1تس 2: 5).

وهكذا يبدو من الواضح أنَّ بولس يميِّز نفسه عن مزاحمين معروفين، يأتون واثقين بنفسهم وببلاغتهم. في كلِّ هذا السياق، يحيلنا إلى قدرة الله التي تفعل وحدها في الكلام، وبالتالي تقلِّل من قيمة الفنِّ الخطابيّ. في المبدأ، لا يرفض بولس كلَّ بلاغة، ولكنَّه يسعى إلى تحريك الإيمان بمضمون الكلام، أي بالإنجيل وبقدرة الإنجيل.

وهذا ما يمكن أن نعتبره أيضًا اختلافة دينيَّة أصيلة في جدال عصره حول البلاغة. فتأثير شيشرون(10) المتنامي على تعليم البلاغة، في تلك الحقبة، الذي أعطى للخطاب أهميَّة أكبر من المضمون، حاربته فكرةُ تقول: نقطة انطلاق كلِّ كلام خطابيّ، هي المعرفة والكفاءة التي يتمتَّع بها الخطيب. فعلى الخطبة أن تُقنع أوَّلا بمضمونها لا بشكلها البلاغيّ. ونحن لا نخطئ إن أردنا أن نرى عند بولس معرفة بلاغيَّة واضحة، ولا سيَّما أنَّ بولس يقوم بجدال حماسيّ مع خصومه حول طريق »الاقناع« (1كو 2: 4؛ 2كو 5: 11؛ ف 10-13). إذًا، يشير الجدال إلى إحدى الوظائف الكلاسيكيَّة في العصر القديم. مثلاً، قدَّم غورجياس(11) تحديدًا للبلاغة سيكون بعدُها التاريخيّ كبيرًا: »سيِّدة الاقناع«. نحن نعرف سموَّ هذا الفنّ، للإقناع في السياسة وأمام المحاكم، في العصر القديم، كما نعرف إمكانيَّته بأن يستعبد الحقيقة.

* * *

في زمن بولس، كانت البلاغة منذ زمن طويل ثابتةً من ثوابث الثقافة، فميَّزوا ثلاثة أنماط من الخطب: الخطبة القضائيَّة، الخطبة السياسيَّة، الخطبة الظرفيَّة. في هذا المثلَّث، لعب النمطُ الأوَّل وظيفة مرجعيَّ(12). فاللذَّة التي عرفها اليونان في المحاكم، لعبَتْ في هذا المجال دورًا كبيرًا. غير أنَّ هذه الخطب أتاحت أيضًا الحصول على أموال كثيرة. وفي الواقع، استطاع كلُّ واحد أن يسمع بانتظام المرافعات التي تُتلى أمام المحاكم، فيتأثَّر بها وبالتقنيَّة الخطابيَّة. وقد يكون بولس تعلَّم الكثير هناك. فلا ندهش إن كنّا صرنا متنبِّهين، في هذه الأيّام الأخيرة، على الطريقة التي بها يتبع بولس مثال الخطبة القضائيَّة، لكي يدافع عن نفسه ويُصلي »العدوَّ« حربًا (1كو 1-4؛ 9: 15؛ 2كو 10-13؛ رسالة غلاطية). في مثل هذه المقاطع، يستعمل بولس عناصر الخطبة القضائيَّة.

وإن لم يكن بولس يطبِّق بشكل دقيق قواعد المدرسة الخطابيَّة، وإن صحَّ أنَّ فنَّ الرسالة الأدبيّ يجتذب بعض القطعات في طريقة استعادة هذه البلاغة، فلا شكَّ في أنَّ طريقته في تقديم الأمور، استندت إلى البلاغة القديمة. وهذا ما يقودنا هنا إلى أن نفكِّر أنَّه تعلَّم ما عرف في زمن صباه، في طرسوس. ويمكن أن نتساءل أيضًا: كيف اقتنى كلَّ هذه المعلومات؟ هذا لا يعود فقط إلى سماع الخطب في الساحة العامَّة، وإن قلنا كذلك لا يكون الشرحُ كافيًا. هل تعرَّف بولس إلى يدويّات(13) بلاغة قديمة لدى معلِّم البلاغة اليهوديّ؟ يمكن أن نفترض هذا. وفي هذه الحال، هل قرأ كتاب البلاغة(14) الذي نُسب إلى شيشرون، أو الاستنباط(15) الذي دوَّنه شيشرون أو أحد الرواقيّين؟ نكتفي بطرح السؤال ولا نلقى جوابًا.

نلاحظ نتيجة أولى: هناك عدَّة سمات تثبِّتنا في الشعور بأنَّ بولس نال ثقافة عامَّة، رفيعة، منفتحة على العالم الهلِّينيّ. إذًا، لا نضعْ أمامنا سريعًا رباطًا فرضيٌّا بين غملائيل الأوَّل وبولس، لكي نربط بولس بيهوديَّة من النمط الفلسطينيّ، غريبة بعض الشيء عن التأثير الهلنستيّ. فكما نقرأ في الرسائل، يرينا بولس أنَّه نال جزءًا كبيرًا من الثقافة الهلنستيَّة. هذا ما يفسِّر أن يكون هذا اليهوديّ القديم قد التزم التزامًا كبيرًا في تأسيس الجماعات المسيحيَّة الآتية من الوثنيَّة، وأن يرتاح مع أعضاء الجماعات التي أصلها هلنستيّ وثقافتها أيضًا. وقد كانت كورنتوس من هذا القبيل المحكَّ الحاسم، ونحن لا نستطيع إلا أن نقول إنَّه مرَّ في هذا الامتحان بنجاح. يبقى دومًا أن نبرهن أنَّه استطاع أن يقتني هذه الإمكانيَّة لدى مفسِّر الشريعة الذي هو غملائيل.

هناك ثقافة نتملَّكها في المدارس. وهناك أيضًا ثقافة نحصل عليها في الحياة اليوميَّة. حين يكبر الإنسان في طرسوس، يشارك أيضًا في الثقافة الهلنستيَّة حين يندمج (وإن يهوديٌّا) في حياة المدينة. ومن الممكن أن نجد هذه العناصر في مواد تُعلَّم في المدرسة. غير أنَّ سمات من هذا النمط ليست معطيات أكيدة، كافية، لتتيح لنا أن نستخلص تكوينًا مدرسيٌّا خاصٌّا. ولكن مع ذلك، نحن نشير إلى بعض السمات من هذا النمط عند بولس.

* * *

نحن نجد في مراسلة بولس شهادات نرى فيها الرسول يقدِّم في ما شكّل في الماضي مجموعات يهوديَّة تقليديَّة، نظريّات هلنستيَّة ممتزجة امتزاجًا وثيقًا بالسياق اليهوديّ. وها نحن نورد بعض الأمثلة.

المجمع الهلنستيّ علَّم بولس كيف أنَّ فكرة الوحي الطبيعيّ كما عند الرواقيّين، يمكن أن تمتزج مع حرب من النمط اليهوديّ على العالم الوثنيّ (روم 1: 18ي؛ 2: 12ي). ومعرفة بولس بعالم الديانات الوثنيَّة والحكم على هذا العالم، يرجعان أيضًا إلى الحقبة القبمسيحيّة(16) (1تس 1: 9؛ 1كو 8: 1-6؛ 10: 14-22). فبولس تعلَّم، كيهوديّ هلنستيّ، الحُضيضة(17) اليهوديَّة المهلينة التي يعيد صياغتها كمسيحيّ من جديد (لائحة الرذائل في غل 5: 1ي). وهذا المجمع الهلنستيّ الذي راعى الترتيبات بين اليهود والدولة الوثنيَّة، فاستعاد لذلك اللغة الهلنستيَّة والرومانيَّة في الإدارة السياسيَّة، كان في أساس موقف بولس ولغته في روم 13: 1-7. وكذا نقول عن الأسلوب الأليغوريّ، الاستعاريّ، الذي ميَّز الفكر اليونانيّ الذي استعمله بولس، وإن نادرًا (1كور 10: 1-13؛ غل 4: 21-31)، والذي عرفه تفسيرُ السبعينيَّة في المجامع. فالشهادة التي ليست فريدة ولكنَّها لافتة، هي شهادة فيلون الإسكندرانيّ، معاصر بولس وأكبر منه قليلاً. أمثلة عديدة وواضحة: بولس اليهوديّ هو في الوقت عينه منفتح على الحضارة الهلنستيَّة.

غير أنَّ هلينة بولس لا تنحصر في هذه الظواهر التي تبدو مرتبطة بإطار يهوديّ منمَّط(18). فبولس لا يزال أيضًا يقدِّم نفسه على أنَّه يونانيّ في أطُر مسيحيَّة. وحين يصوِّر حياته الرسوليَّة بصور مأخوذة من الصراع في الحلبة (1كو 9: 24-27) نكتشف عنده انعكاس حضارة هلنستيَّة ومدينيَّة جعلته قريبًا من تقاليد الفلسفة الشعبيَّة. وفي سياق أقواله بالنسبة إلى العماد، فهو يرتبط بتمثُّلات واضحة، وبلغة شعبيَّة في الديانات السرّانيَّة لدى العالم الهلنستيّ (روم 6: 1ي)، دون أن يكون نال معرفة مباشرة من هذا النمط، كيهوديّ أو كمسيحيّ. وتمثُّل الكنيسة على أنَّها »جسد المسيح« (روم 12: 4ي؛ 1كو 12: 12ي)، لا يمكن أن يُشرح بدون خلفيَّة فلسفيَّة يونانيَّة.

الخاتمة

إذا أردنا أن نهمل التقابلات الصوريَّة والماديَّة مع التقليد الهلنستيّ في ما دُعي »مديح المحبَّة« (1كو 13)، لن نستطيع أن نصوِّر بشكل موافق، خلفيَّتَه العقليَّة والحضاريَّة. والعبارات الرواقيَّة حول القدرة (روم 11: 36؛ 1كو 8: 6)، هي أيضًا جزءٌ في هذا السياق. ونستطيع أيضًا أن نُكثر الأمثلة. فمن يتكلَّم أو يفكِّر طوعًا بشكل هلنستيّ، يكون قريبًا من نمط هذه الظواهر في السنوات الحاسمة، خلال حداثته. وبولس ما انتظر أن يكون في أنطاكية ليكتشف كلَّ هذا. فحياته في مدينة هلنستيَّة، وتربيته اليهوديَّة في محيط يوناني أعطياه بأن يستعمل فيما بعد، وحين صار مسيحيٌّا، روح الهلينة وتقليدها على أنَّهما إرث ورثه في المدينة التي وُلد فيها وقضى فيها صباه وبداية شبابه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM