القسم الأول بولس الفريسي من طرسوس
الفصل الأول: المعطيات السيروية
الفصل الثاني: بولس اليهودي في عالم الشتات
الفصل الثالث: بولس والعالم الهليني
أن نتحدَّث عن بولس الرسول، موضوع واسع جدٌّا، والدراسات تتوالى وتتواصل: من شخصيَّته، إلى رسائله، إلى لاهوته. أمّا نحن فاخترنا أوَّلاً أن نتحدَّث عن ذاك الذي هو ابن طرسوس، ثمَّ عن الرسائل التي وضعناها في عناوين ثلاثة: الرسائل القانونيَّة الأولى، الرسائل القانونيَّة الثانية، الرسائل المنحولة.
وهكذا جاء هذا القسم يتوزَّع الموضوعات التالية:
1- بولس الفرّيسيّ من طرسوس
2- الرسائل البولسيَّة
مصير بولس مصير عدد كبير من الوجوه في العالم القديم. فنحن لا نعرف عنه سوى حقبة من حياته، تلك التي جاءت ناضجة بما تركت وراءها من أعمال وكتابات، ويمكن أن »نحصر« هذه الحقبة بين دعوته وموته. يعني نتعرَّف فقط إلى بولس المسيحيّ. ويمكن أيضًا أن نضيِّق هذه الحقبة، فنركِّز كلامنا على الأسفار الرسوليَّة، أي تلك الفترة التي بعث فيها بولس برسائله إلى الكنائس. وفي أيِّ حال، لا نستطيع أن نعرف الشيء الكثير عن بولس اليهوديّ قبل أن يدعوه الربُّ إلى الرسالة.
وهذا يعود أوَّلاً إلى بولس نفسه. فبالنظر إلى اهتدائه، تنقسم حياته إلى قسمين. ترك بولس المسيحيّ تقريبًا كلَّ الحقبة اليهوديَّة من حياته. ودعوتُه جعلته يختبر توجيهًا جديدًا، وأزمةَ هويَّة عميقة جدٌّا وواسعة، بحيث صارت الحقبة السابقة من دون أهمِّيَّة. والحقبة »المسيحيَّة« التي تلت هذه الدعوة، صارت حياته الحقيقيَّة. لهذا فهو لا يُقدِّم أبدًا الحقبة اليهوديَّة من حياته، كحقبة يهوديَّة، بل من أجل هدف آخر. وإن هو أشار إليها بين الفينة والأخرى، وبشكل عابر، وعبر نبذات محدودة ومقولبة، فليدلَّ على أنَّها كانت صفحة معتَّمة، وليبيِّن بقوةٍ التعارض مع بداية النصف الثاني من حياته، الذي هو حياته الحقيقيَّة.
أمّا أهمُّ الإشارات السيرويَّة المتعلِّقة بهذا الموضوع، فنقرأها في 1كو 15: 9؛ 2كو 11: 22؛ غل 1: 13-14؛ فل 3: 5-6؛ روم 9: 3-4. وها نحن نورد هذه النصوص التي تمدُّ معرفتنا لبولس نفسه، ممّا يعني أنَّ الكثير يبقى غامضًا علينا.
1كو 15: 9: فما أنا إلاّ آخر الرسل، ولا أحسبُ نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً، لأنَّي اضطهدتُ كنيسة الله.
2كو 11: 22: إن كانوا عبرانيّين فأنا عبرانيّ، أو إسرائيليّين فأنا إسرائيليّ، أو من ذرّيَّة إبراهيم فأنا من ذرِّيَّة إبراهيم.
غل 1: 13: سمعتم بسيرتي الماضية في ديانة اليهود، وكيف كنتُ أضطهد كنيسة الله بلا رحمة وأحاول تدميرها.
14: وأفوق أكثر أبناء جيلي من بني قومي في ديانة اليهود وفي الغيرة الشديدة على تقاليد آبائي.
فل 3: 5: لأنّي مختون في اليوم الثامن لمولدي، وأنا من بني إسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبرانيّ من العبرانيّين. أمّا في الشريعة فأنا فرّيسيّ،
6: وفي الغيرة، فأنا مضطهد الكنيسة، وفي التقوى، حسب الشريعة، فأنا بلا لوم.
روم 9: 3: وإنّي أتمنّى لو كنتُ أنا ذاتي محرومًا ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي في الجسد.
4: هم بنو إسرائيل الذين جعلهم الله أبناءه، ولهم المجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود.
* * *
من الواضح أنَّ معاصري بولس لم يعرفوا عن سيرته أكثر ممّا نعرف في شأن حياته اليهوديَّة. أمّا الإشارات النادرة التي يقدِّمها سفر الأعمال فتكمل ما قرأنا في الرسائل، وإن اعتبرت أساسًا في »الرواية« حول شخصيَّة بولس، إلاّ أنها ليست كثيرة.
إنَّ هذه الإشارات البسيطة تضيف بعض الأمور إلى هذه الصورة السيرويَّة، ولكنَّها لا تتيح لنا أن نقدِّم سيرة إجماليَّة تُرضينا. إذًا، لماذا نتعب لكي نقدِّم توسُّعًا خاصٌّا ببولس اليهوديّ؟ فمثلُ هذه التفاصيل السيرويَّة القليلة التي نمتلك، لا تبرز عملنا هذا. ولكن مع ذلك، نحاول أن نرسم الإطار الدينيّ والثقافيّ الذي عاش فيه بولس اليهوديّ. ونحن ننتظر من مثل هذه الدراسة أن تساعدنا لنفهم بعض أقوال بولس المسيحيّ.
وها نحن نجمع المعطيات السيرويَّة البسيطة: انتمى بولس بأسرته إلى المجمع الهلِّنستيّ(1) في طرسوس، من أعمال كيليكية (تركيّا). يبدو أنَّ والديه يقيمان منذ زمان بعيد في هذه »المدينة المعروفة جدٌّا« (أع 21: 39). هذا ما نكتشفه في سفر الأعمال حيث نقرأ أيضًا في أع 22: 3: »أنا رجل يهوديّ وُلدت في طرسوس من كيليكية«. نستطيع بلا شكّ أن نثق بهذه المعلومات. وفي أيِّ حال، ما من تقليد آخر يزاحم هذه المعلومات أو يكمِّلها، ما عدا نبذة عند جيروم الذي يؤكِّد في كتابه الرجال العظام(2) أنَّ أسرة بولس جاءت من جبشالة، التي هي قرية من قرى الجليل. وهناك ملاحظات حول الرسائل البولسيَّة، التي نعود إليها، تقدِّم شهادة لامباشرة حول هذا المحيط الهلِّنستيّ اليهوديّ.
ثلاث إشارات تكفينا الآن. الأولى، جاءت لغة بولس اليونانيَّة نائية عن العبارات الساميَّة الثقيلة (حين تنتقل إلى اليونانيَّة)، ممّا يعني أنَّ بولس تعلَّم هذه اللغة في صغره، فما كان غريبًا عنها، شأنه شأن سكّان أورشليم. ثمَّ امتلك الرسول أسلوبًا يونانيٌّا خاصٌّا به. وأسلوب بولس اليونانيّ هو من النعومة بحيث يستحيل علينا إن نعرف، انطلاقًا من لغة رسائله، إذا كان يتكلَّم العبريَّة أو الآراميَّة. قال سفر الأعمال إنَّه عرفها(3). أمّا الكلمات القليلة المأخوذة من الآراميَّة(4) والتي نجدها عند بولس، لا تكفي لتبيان ذلك، لأنَّه جزء من الإرث المسيحيّ المشترك.
وهذا ما يقودنا إلى القول إنّ بولس اعتاد منذ صغره أن يتكلَّم اللغة اليونانيَّة العاديَّة التي تكلِّمها اليهود المشتَّتون في العالم الرومانيّ. ونلاحظ أيضًا أنَّ ثقافة بولس تركَّزت من جهة على الترجمة اليونانيَّة للبيبليا اليهوديَّة التي اسمها السبعينيَّة. ومن جهة أخرى، على الثقافة الهلِّنستيَّة المحيطة به. وأخيرًا، حين صار بولس مسيحيٌّا، لم يمضِ عمليٌّا سوى إلى المدن اليونانيَّة والهلِّنستيَّة: نكتشف هنا ردَّة فعل في مشاركته مناخًا هلِّنستيٌّا مدينيٌّا. وهذه السمة تتوافق مع تسمية طرسوس، المدينة الهلِّنستيَّة، على أنَّها موطن طفولته وصباه.
والإشارة الثانية. يبدو من الصعب أن نقول إن امتلكت أسرة بولس، وبالتالي بولس نفسه، في إرثٍ، المواطنيَّةَ الطرسوسيَّة والمواطنيَّة الرومانيَّة(5). فإن لم تكن المواطنيَّة الطرسوسيَّة ذات أهمِّيَّة بالنسبة إلى بولس، الذي لم يعد يُقيم مدَّة طويلة في مدينة مولده، فالمواطنيَّة الرومانيَّة لها وزنٌ كبير. في الواقع، لا شيء يشهد على هاتين المواطنيَّتين سوى سفر الأعمال، وفي مقاطعَ طبعَها لوقا (مؤلِّف سفر الأعمال) بطابعه الشخصيّ. ونقرأ الآن هذه المقاطع:
أع 16: 37: »فقال بولس للحرس: ''جلدونا علانية من دون محاكمة، نحن المواطنين الرومانيّين، وهم الآن يريدون أن يخرجونا سرٌّا. كلاّ. بل يجيء الحكّام بأنفسهم ويخرجونا.
38: فنقل الحرس هذا الكلام إلى الحكّام. فلمّا عرفوا أنَّ بولس وسيلا مواطنان رومانيّان خافوا«.
أع 22: 25: »فلمّا مدَّدوه (= بولس) وربطوه ليجلدوه، قال للضابط الواقف بجانبه: ''أيحقُّ لكم أن تجلدوا مواطنًا رومانيٌّا من غير أن تحاكموه؟''
26: فلمّا سمع الضابطُ هذا الكلام، أسرع إلى القائد وقال له: ''ماذا تفعل؟ هذا الرجل رومانيّ''.
27: فجاء القائد إلى بولس وقال له: ''قل لي: هل أنت رومانيّ؟''. قال: ''نعم''.
28: فقال القائد: »أنا دفعت مالاً كثيرًا حتّى حصلتُ على هذه الجنسيَّة«. فقال بولس: »أمّا أنا فمولود فيها«.
29: فتراجع عنه في الحال من كانوا يريدون أن يستجوبوه. وخاف القائد لمّا عرف أنَّه رومانيّ وأنَّه كبَّله بالقيود''.
أع 23: 27: قال القائد: »أمسَكوا هذا الرجل وكادوا يقتلونه. فلمّا عرفتُ أنَّه رومانيّ، أسرعتُ إليه مع جنودي وأنقذتُه«(6).
ولكن إن افترضنا أنَّ هذه النصوص لا تحمل تقليدًا قبللوقانيٌّا، لا ينتج بالضرورة أنَّ ما يقوله لوقا ليس بالصواب: قد يكون لوقا أخذ ما عرف من الأمور الإجماليَّة التي تناقلها المسيحيّون حول شخص رسول الأمم.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يلفت نظرنا أنَّ بولس اللوقاويّ (أي كما ظهر في كلام لوقا عنه في سفر الأعمال) يفتخر دومًا بمواطنيَّته الرومانيَّة خلال المحاكمة أو أمام الجلد والضرب. وكذلك، كان بمقدور بولس أن يُفلت بسهولة من العقوبات التي يعدِّدها هو في 2كو 11: 24ي(7)، فيبرز مواطنيَّته. ويمكننا من الطبيعيّ أن نظنّ، بل هو معقول، أنَّ بولس لم يفتخر بهذا الحقّ ولو بشكل استثنائيّ، لأنَّه فهم حقًا أنَّ هذه الاضطهادات تجعله شبيهًا بصليب المسيح(8). ثمَّ إنَّ العالم القديم عرف حالات لم تجنِّب فيها المواطنيَّةُ الرومانيَّة اليهودَ، الجلد أو الصلب(9). وإذا طرحنا سؤالاً حول تواتر إعطاء المواطنيَّة الرومانيَّة إلى سكّان آسية الصغرى، في زمن أوغسطس وفيما بعد، نفهم أنَّ الأمر كان نادرًا، ولا سيَّما بالنسبة إلى اليهود في هذه المقاطعة. فمن الأكيد أنَّ اليهود كانوا بشكل خاصّ، في صراع مع متطلِّبات المواطن الرومانيّ، ولا سيَّما المشاركة في شعائر العبادة التي تمارسها الدولة. ويبقى أنَّ يوسيفس هو مثَل معروف عن أولئك الذين يتكيِّفون مع الظروف دون أن ينسوا وضعهم كيهود.
الإشارة الثالثة. ويُطرح السؤال: هل يمكن لوالٍ رومانيّ أن يُرسل إلى رومة سجينًا مثل بولس، بعد المحاكمة؟ ما قيمة بولس بالنسبة إلى الإدارة الرومانيَّة؟ لا شيء تقريبًا. كان بالإمكان أن يحكم الوالي، لو أنَّ المواطنيَّة الرومانيَّة لم تمنعه، من دون سبب من هذا النوع، من التخلّي عن مثل هذا القرار إلى آخر، لئلاّ يُحسب ضعيفًا في ممارسة صلاحيّاته الخاصَّة. ولكن أن يُنقَل وجهاء إلى رومة أو ثائرون بناء على أمر بالجلب، لكي يحاكموا، ولو لم يمتلكوا المواطنيَّة الرومانيَّة، هذا أمر آخر. فالاعتبارات التاريخيَّة تدفعنا إذًا أن نفكِّر أنَّ بولس افتخر فعلاً بمواطنيَّته الرومانيَّة أمام فستس، خلال المحاكمة. ولا يبدو معقولاً أنَّ لوقا استخلص هذا بمجرَّد نقل بولس السجين من قيصريَّة إلى رومة التي كانت معروفة لديه. إن كنّا لا نستطيع أن نشكَّ بأنَّ بولس كان مواطنًا طرسوسيٌّا، إلاَّ أنَّنا لسنا متأكِّدين من مواطنيَّته الرومانيَّة. وإن يكن من المعقول أن يكون الرسول قد تنعَّم بهذا الحقّ.
* * *
وقعت مدينة طرسوس على القسم الأسفل من نهر كيدنوس، الذي يصلح للملاحة من هذه النقطة. والمدينةُ مركزٌ تجاريٌّ على الطريق الممتدَّة من أنطاكية إلى شاطئ أسية الصغرى، أي نحو المدن اليونانيَّة. كما كانت نقطة انطلاق للطريق الماضية إلى البحر الأسود. إذًا، مثَّلت طرسوس ما ندعوه اليوم التجارة العالميَّة. ومنذ سنة 66 ق.م. ساعة صارت كيليكية مقاطعة رومانيَّة، أضحت طرسوس موضع إقامة الحكّام الرومانيّن الذين كان منهم شيشرون، خطيب رومة. وفي طرسوس التقى أنطونيوس، للمرَّة الأولى، بكليوبترا. وكان يوليوس قيصر وأوغسطس من المحسنين المميَّزين لهذه المدينة. كما أنَّ أوغسطس أعاد ترتيب المدينة بواسطة معلِّمه الرواقيّ أثينودور(10). فهذا كان جزءًا من شيوخ المدينة، شأنه شأن نسطور الآتي من الأكاديميَّة الأفلاطونيَّة، وليبسياس الإبيقوريّ.
عرفت هذه المدينة ماضيًا ثقافيٌّا لامعًا. فعلَّم فيها الكثير من الفلاسفة والشعراء وأهل الغراماطيق. كانوا مرارًا من ممثِّلي الثقافة الهلِّنستيَّة مع بعض السمات الشرقيَّة. وامتدح سترابون في جغرافيَّته (14/5: 13) غيرة سكّان المدينة »من أجل الفلسفة والثقافة إجمالاً«، وامتدحهم فشبَّههم بأثينة والإسكندريَّة. واشتهرت المدينة في ما اشتهرت، بأنَّها »كبيرة، سعيدة«(11)، وبأنَّها مميَّزة. هي جزء من الأماكن المشهورة بثقافتها الرواقيَّة. وانتيتروس الطرسوسيّ كان رئيس هذه المدرسة حوالي سنة 140 ق.م. أمّا تلميذه باناتيتيوس فكان مشهورًا. كلُّ هذا يدلُّ على المناخ الفكريّ في مدينة، كانت عالمًا صغيرًا (ميكرو-كوسمُس) في العالم الهلِّنستيّ المتوسِّطيّ.
بما أنَّ والديه اندمجا اندماجًا بالمدينة، بقدر ما يمكن ليهود عائشين في الشتات أن يفعلوا، تنشَّق بولسُ الهواء الهلِّنستيّ. ولهذا لم يتطلَّع يومًا نحو الشرق؛ فلم تكن بلاد الرافدين ولا عرابية جزءًا من أفقه. وفكره، كيهوديّ، لم يتجاوز أورشليم، في الجنوب. فهو الهلّينيّ الذي يتركَّز على آسية الصغرى، على سورية واليونان، وكمواطن رومانيّ رأى في رومة مركز العالم السياسيّ. ولقد أراد في نهاية حياته أن يمضي إلى الغرب، إلى إسبانية، التي هي »أقاصي الأرض«.
بالنسبة إلى اليهود الميسورين في الشتات، كان من الطبيعيّ أن يربُّوا أولادهم كما تربَّوا فيعلِّموهم عددًا من اللغات. شهد لوقا (كما قلنا) أنَّ بولس عرف الآراميَّة. وتحدَّث بولس عن نفسه أنَّه »عبرانيّ ابن عبرانيّ« (فل 3: 5؛ رج 2كو 11: 22). فشدَّد بشكل خاصّ على أنَّ أسرته مارست العوائد اليهوديَّة ممارسة أمينة. واستعمالُ اللغة الآراميَّة كان جزءًا من هذه التربية. وهذا ما يتيح لنا أن نستنتج أنَّ بولس عرف الآراميَّة، إلى جانب إتقانه اليونانيَّة. غير أنَّ هذا الكلام لا يفرض أن يكون بولس عرف العبريَّة أيضًا. ولكن بالنظر إلى تربيته الفرّيسيَّة، يبدو من المعقول أنَّه عرف قراءة البيبليا العبريَّة وشرْحَ نصوصها. لا شكَّ في أنَّنا لا نجد بولس المسيحيّ يترجم نصَّ البيبليا العبريَّة. فقد استعمل بشكل مستمرّ، شأنه شأن جماعاته، الترجمة اليونانيَّة، السبعينيَّة. واعتاد بولس أن يستخرج إيراداته الكتابيَّة من ذاكرته العارفة بالسبعينيَّة. وهكذا لا نستنتج من عبارة »عبرانيّ ابن عبرانيّ« أنَّ بولس وُلد في فلسطين (كما قال البعض) أو في أورشليم. فمثلُ هذه العبارة تحمل في العهد القديم، معنى واسعًا جدٌّا (أبٌّا عن جدّ).
عرفت الأسرة أنَّها انتمت إلى قبيلة بنيامين (رو 11: 1؛ فل 3: 5). والاسم اليهوديّ (شاول) لا يُذكَر إلاّ في سفر الأعمال (13:21)، فيشير إلى شاول البنيامينيّ الذي كان أوَّل ملك على القبائل الإسرائيليَّة.
أع 9: 4: وسمع صوتًا يقول له: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟«
5 فقال شاول: »من أنت يا ربّ؟«
17 فذهب حنانيا ودخل البيت ووضع يديه على شاول...«.(12)
* * *
اعتاد اليهود في الشتات أن يحملوا اسمين: بجانب الاسم الساميّ، اسم رومانيّ - يونانيّ ذو رنَّة مشابهة. وهكذا كان لنا: يشوع وياسون؛ سيلا وسلوانس. لم يستعمل بولس الاسم الثاني إلاّ في العالم الهلِّنستيّ. ويبدو أنَّه كان لبولس أختٌ متزوِّجة في أورشليم (أع 23: 16). غير أنَّ هذه الإشارة قد تبدو غير أكيدة، لأنَّ القسم الذي يمتدُّ من إقامة بولس في أورشليم حتّى الذهاب إلى رومة، لا يتضمَّن في سفر الأعمال سوى بعض الإشارات القابلة للتصديق. ما تزوَّج بولس كما تقول 1كو 9: 5. والمهنة التي تتيح له أن يقوم بأوده، ذُكرت في أع 18: 3: »صناعة الخيام«. أعطيَت هذه المعلومة في سياق الكلام عن برسكلَّة وزوجها أكيلا اللذين يمارسان المهنة عينها. لا يتحدَّث بولس عن مهنته بشكل مباشر. بل يعطي إشارات تؤكِّد صحَّة كلام لوقا. ولكن يجب أن لا نعطي هذه الإشارة إلى المهنة، مدلولاً ضيِّقًا.
1تس 2: 9 »فأنتم تذكرون، أيُّها الإخوة، جهدنا وتعبنا، فكنّا نبشِّركم بشارة الله ونحن نعمل في الليل والنهار، لئلاّ نثقِّل على أحد منكم«.
1كو 9: 15 رفض بولس أن يرتزق من البشارة، فقال: »أمّا أنا، فما استعملتُ أي حقٍّ من هذه الحقوق، ولا أنا أكتب هذا الآن لأطالب بشيء منها، فأنا أفضِّل أن نموت على أن يحرمني أحدٌ من هذا الفخر«.
18 »فما هي أجرتي؟ أجرتي هي أن أبشِّر مجَّانًا وأتنازل عن حقّي من خدمة البشارة«.
2كو 11: 9: »وما ثقَّلتُ على أحد منكم حين كانت بي حاجة وأنا بينكم. فالإخوة الذين جاءوا من مكدونية سدُّوا حاجتي. وهكذا حرصتُ أن لا أثقِّل عليكم في شيء وسأحرص أيضًا«.(13)
* * *
قال بولس عن نفسه إنَّه انتمى إلى حزب الفرّيسيّين (فل 3: 5). فغار على الشريعة بل تفوَّق على جميع أترابه (غل 1: 14). شبَّه بولس نفسه هنا بالذين من عمره، ولكنَّه ما عاد إلى رابّي ومجموعة تلاميذ يسمعون تعليمه. هذا يعني أنَّه لا يفهم وضعَه كفرّيسيّ دلالة على »مهنة«. هذا ما يشير إليه نصّان آخران (فل 3: 5-6؛ أع 22: 3؛ ق 26: 4) يتحدَّثان عن توجُّهه الفرّيسيّ. والمتتالية النموذجيَّة المثلَّثة الألفاظ، التي نجدها كلَّ مرَّة (أصله العائليّ، طفولته، تربيته) لا تعني دراسات بشكل تربية متخصِّصة في »مؤسَّسة«، بل هي تشير، بحسب الاستعمال الهلِّنستيّ، إلى أصول أسرته، إلى طفولته، دلالة على الاحترام الذي يستحقُّه المواطن الشابّ بولس، بالنظر إلى أصوله والتربية التي نالها.(14)
إذًا، يبدو أنَّ بولس لم يكن تلميذًا مرتبطًا برابّي، ولم يتربَّ في التفسير الفرّيسيّ للشريعة ليمارس فيما بعد مهنة رابّي. ولكنَّه تربى في الخطِّ الفرّيسيّ، بالنسبة إلى موقفه في الحياة. لقد عاش حسب مذهب الحركة الفرّيسيَّة التي كانت في شكل واسع حركة موجَّهة إلى العوام (لا إلى الكهنة). وهذا يكون وضع أسرته (أع 23: 6). ويبقى أنَّه لا يُقال في أيِّ موضع أنَّه »رُسم« رابّي. وكما قالت سوتا 22 إنَّ لا رسامة قبل أربعين سنة، فبولس كان بعدُ شابٌّا لكي يحصل على هذه الكرامة.
حسب أع 22: 3؛ 26: 5، نال بولس بعض تعليمه الفرّيسيّ عند قدمَي غملائيل الأوَّل، أحد المعلِّمين الكبار في مدرسة هيلال. وما قاله بولس لا يمكن أن نتحقَّق منه. استقبل لوقا هذه الأقوال، وهو من اعتاد أن بولسَ يجعل في أورشليم، لكي يرينا إيّاه حاضرًا خلال اضطهاد إسطفانس، ومضطهدًا أوَّلاً، تلاميذ إسطفانس في أورشليم.
أع 7: 58: فأخرجوه (= إسطفانس) من المدينة ليرجموه، وخلع الشهود ثيابهم ووضعوها أمانة عند قدمَيْ فتى اسمه شاول.
أع 8: 1: وكان شاول موافقًا على قتل إسطفانس، وبدأت كنيسة أورشليم تعاني اضطهادًا شديدًا، فتشتَّت المؤمنون كلُّهم.
أع 8: 3: وكان شاول يسعى إلى خراب الكنيسة، فيذهب من بيت إلى بيت ويخرج منه الرجال والنساء ويُلقيهم في السجن.
أع 22: 4: قال بولس عن نفسه: »واضطهدتُ مذهب يسوع حتّى الموت، فاعتقلت الرجال والنساء وألقيتُهم في السجون.
5: وبهذا يشهد لي رئيس الكهنة وشيوخ الشعب كلُّهم. فمنهم أخذتُ رسائل إلى إخوتنا اليهود في دمشق، فذهبتُ إليها لاعتقال من كان فيها مؤمنًا بهذا المذهب، فأسوقه إلى أورشليم لمعاقبته«.
أع 26: 10: قال بولس: »وهذا ما فعلتُ في أورشليم، فسجنتُ بتفويض من رؤساء الكهنة عددًا كبيرًا من القدّيسين، ولمّا كانوا يُقتَلون، كنتُ موافقًا على قتلهم.
11: وكثيرًا ما عذّبتُهم في كلِّ مجمع لأجبرهم على إنكار إيمانهم. واشتدَّت نقمتي عليهم حتّى أخذتُ إطاردهم في المدن التي في خارج اليهوديَّة«.
وهذا يتسجَّل أيضًا في تقديم لوقا الإجماليّ، الذي جعل الكنيسة تبدأ في أورشليم، كما حدَّد فيها موقعَ أوَّل اضطهاد لا يكون فقط على الأفراد، بل على الجماعات. كانت هذه معلومة مدوِّية تستطيع أن تحرِّك العاطفة بأن يبيِّن أنَّ من سيكون الرسول العظيم، كان جالسًا عند قدمَي المعلِّم الكبير أما يتوافق هذا الرباط مع اهتمام لوقا بأن يدمج تاريخ المسيحيَّة مع معطيات من »تاريخ المسكونة«؟ وأخيرًا صورة بولس اللوقاويَّة، أما يكون لها في مجملها اتِّجاه يهوديّ وتسجَّل فيها هذه السمة؟ مهما كان الجواب المعطى على هذه الأسئلة، فالواقع الذي له دلالته، هو أنَّ بولس بمجرَّد تربيته الفرّيسيَّة، ومهما كان الموضع الذي فيه تلقّى هذه التربية، كان حقٌّا من المسيحيّين الأوَّلين النادرين الذين امتلكوا ثقافة »عالية«. ذاك لم يكن وضعُ مجموعة تلاميذ يسوع، بل أبناء المدن الهلِّنستيَّة مثل »أراستس« الذي كان »أمين صندوق المدينة« (روم 16: 23).
ومهما يكن من أمر هذه الملاحظة الأخيرة، قدَّم بولس نفسُه نظرةً إلى الأشياء تختلف ولو جزئيٌّا، عمّا يقوله سفر الأعمال عن إقامته في أورشليم. فحين تلقّى دعوته كان يقيم في أورشليم. هذا ما نستنتج من غل 1: 17 (ذهبتُ على الفور إلى بلاد العرب، ومنها عدتُ إلى دمشق). كما أنَّه لم يكن في أورشليم، في السنوات السابقة ولا في السنوات اللاحقة (غل 1: 17-18). بل إنَّ وجهه لم يكن معروفًا لدى جماعات أورشليم بعد اهتدائه بسنوات (غل 1: 22-24). وفُسِّرت هذه الإشارة الأخيرة في أنَّ بولس اضطهد فقط حلقة إسطفانس، لا الجماعة التي أحاطت بالرسل الأوَّلين. إذًا، قد يكون لبث شخصه مجهولاً في العاصمة اليهوديَّة بعد الاضطهاد.
ولكن حين نعرف العلاقات الوثيقة داخل كنيسة أورشليم، لا يمكن لجماعة بطرس إلاّ أن تكون عرفت باضطهاد حلقة إسطفانس دون أن تعرف بذلك حلقةُ الرسل والذين يحيطون بهم. فمجموعة المسيحيّين في أورشليم كانت صغيرة، والخوف الذي حرَّكه لدى جميع المسيحيّين في أورشليم أوَّل شهيد بعد الفصح، لا يتيح لنا أن نشكَّ بذلك. ولكن في هذا الوضع، نتمسَّك بما قيل بوضوح في غل 1: 22-24: ما كان بولس في أورشليم ساعة اضطهاد إسطفانس. وما من أحد يفهم غل 1 بشكل آخر، لو لم يكن مدفوعًا بأن ينسِّق مع أع 7-8. فإنَّ غل 1: 21 قد تشير بشكل لامباشر، أنَّ بولس سكن في كيليكية قبل أن يُقيم في دمشق. وإذا قلنا بأنَّ بولس اختار، بعد دعوته، كيليكية لتكون أوَّل حقول رسالته، لأنَّها موطنه الأصليّ، فهذه المسيرة يمكن أن تكون شبيهة بمسيرة أعضاء مجموعة إسطفانس (أع 11: 19-21). فهؤلاء هربوا من أورشليم، وراحوا إلى بلدانهم في الشتات اليهوديّ، أو مضوا يوسِّعون حقول الرسالة.
غير أنَّ هذه الملاحظات لا تتيح لنا أن نتَّخذ موقفًا نهائيٌّا نافيًا في ما يخصُّ التربية التي نالها بولس لدى غملائيل الأوَّل. ومع ذلك، لا تكون معلومة لوقا (في أع) أكيدة، إن لم تكن مثار شكّ. فيبقى أن يكون بولس وُجد لدى غملائيل ونال قسمًا من تربيته الدينيَّة في مركز دينيّ يهتمُّ به الفرّيسيّون. وهذا يمكن أن يكون حصل قبل أن يكون يسوع اعتلن وقبل أن تكون جماعة مسيحيَّة قد تأسَّست. لهذا، وفي هذه الحالة، يمكن أن نستمرَّ بالتأكيد أنَّ بولس كان مجهولاً لدى جماعة أورشليم كشخص معروف لدى الرسل (غل 1: 22). إذًا، سواء بقي السؤال مفتوحًا أو أنكرنا هذه الملحوظة عند لوقا، فلا يمكن أن نقدِّم بولس على أنَّه في خطِّ هيلال. هو ظنٌّ معقول، ولكنَّه يستند إلى مجرَّد فرضيَّة. فقد يكون بولس نال تربيته في الخطِّ الفرّيسيّ، في أيِّ مجمع من مجامع الشتات، مهما كان حجمه. ولماذا لا يكون ذلك في مجمع طرسوس؟ أمّا أورشليم فيمكن أن تكون أعطته بعض »التخصُّص«.
وقدَّموا عن بولس صورة ذاك التلميذ لهيلال، إذ جعلوه قريبًا بقواعد التفسير السبع التي نادى بها هيلال. في الواقع، هذه القواعد ليست أكيدة بالنسبة إلى هيلال نفسه، وبالأحرى ليست واضحة بالنسبة إلى بولس. بل أن يكون بولس دلَّ على قساوته في فهم الشريعة في الحقبة القبمسيحيَّة (غل 1: 14؛ فل 3: 6)، فذلك يقودنا بالأحرى إلى التساؤل: أما حُسب بولس بين تابعي المدرسة الأخرى، الدقيقة في ممارساتها، مدرسة شمّاي؟ ولكن تبقى هذه الفرضيَّة معطوبة، على مستوى التاريخ. ونقرأ غل 1: 13-14:
13: سمعتُم بسيرتي الماضية في ديانة اليهود، وكيف كنتُ أضطهد كنيسة الله بلا رحمة وأحاول تدميرها.
14: وأفوق أكثر أبناء جيلي من بني قومي في ديانة اليهود وفي الغيرة الشديدة على تقليد آبائيّ.
وقال الرسول في فل 3: 6:
وفي الغيرة فأنا مضطهد الكنيسة. وفي التقوى حسب الشريعة، فأنا بلا لوم.
في هذين المقطعين. لم يتوخَّ بولس أن يصوِّر موقعه داخل العالم اليهوديّ، بل أن يُبرز التعارض مع لاهوته المسيحيّ الحاليّ. إذًا، لن نروح بعيدًا. فنحن نعرف أنَّ بولس كان فرّيسيٌّا محافظًا على الشريعة بكلِّ قساوتها. وكلُّ الافتراضات التي تحاول تقديم التفاصيل، تبقى مجال شكّ.
وهناك إشارة سيرويَّة قصيرة نستطيع أن نستخلصها من غل 5: 11:
»وأنا أيُّها الإخوة، لو كنتُ أدعو إلى الختان، فلماذا أعاني الاضطهاد إلى اليوم؟«
فإن فسَّرنا في إطار التاريخ هذه الجملة الشرطيَّة (لو) البدئيَّة، وأعدناها إلى حقبة الرسول اليهوديَّة، لاستطعنا أن نفهم غيرة الفرّيسيّين لاجتذاب مهتدين جدد (مت 23: 15: تقطعون البحر والبرّ لتكسبوا واحدًا إلى ديانتكم)، ونجعل من بولس اليهوديّ مرسلاً من قبل المجمع يكرز بالشريعة. ولكنَّ هذه الخلاصة لا تفرض نفسها، وليست بمتينة، وما من ملاحظة تسندها. فصراع بولس مع المعمَّدين العائشين على هامش المجمع في دمشق، يفهمنا بالأحرى أنَّ بولس فَصلَ فصلاً تامٌّا بين شعب الخلاص والوثنيّين.
الخاتمة
وهكذا نعرف، بالرغم من التساؤلات، أنَّ بولس كان فرّيسيٌّا يحافظ على الشريعة بكلِّ متطلِّباتها. وأنَّه كان في الوقت عينه أحد سكّان مدينة واقعة في قلب الحضارة الهلِّنستيَّة. والمواطنيَّة الرومانيَّة التي امتلكتها عائلتُه ذات الاتِّجاه الفرّيسيّ، دلَّت على انفتاح تجاه الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، كما كان الأمر بالنسبة إلى عدد من اليهود في الشتات. إذًا، حمل بولس في شخصه عالَمَين اثنين: العالم اليهوديّ والعالم الهلِّنستيّ. عند هذين العالمين نتوقَّف الآن.
إذا أردنا أن نحدِّد الموقع اللاهوتيّ لدى بولس اليهوديّ، نتَّخذ الإشارة الوحيدة التي أعطاها بولس نفسه في هذا الموضوع. فما من سبب يجعلنا نشكُّ بتقديم ذاته على أنَّه فرّيسيّ قديم، ولا أن نعارض كلامه ببولس الجليانيّ، وإن كانت نظرته اليهوديَّة إلى العالم تتضمَّن أيضًا سمات جليانيَّة (كما في سفر الرؤيا).
فإن أخذنا بعين الاعتبار المصادر اليهوديَّة حول الفرّيسيَّة المعاصرة لبولس، أي فرّيسيَّة تمتدُّ من زمن هيرودس وصولاً إلى احتلال أورشليم بيد تيطس سنة 70ب،م، سيخيب أملنا في بحثنا التاريخيّ، لأنَّنا لا نجد ما يرضينا. فالرابيّون الذين جاءوا فيما بعد، لم يحيطوا بالتقليد ليحصروه ويحفظوه، بل أعادوا صياغته من وجهة المنتصر. وهكذا فهمت الرابّينيَّة نفسها فيما بعد أنَّها تكوِّن الأرثوذكسيَّة الوحيدة بحيث أزالت كلَّ صفة عن سائر التيّارات اليهوديَّة، وخنقت في المهد وُجهات كاملة من تقاليدهم. كما أنَّها قدَّمت قبتاريخها الفرّيسيّ بحيث يصبّ بشكل مباشر في الأرثوذكسيَّة. وهكذا تنوّعت الفرّيسيَّة القديمة التي كان بالإمكان أن نكتشفها هنا أو هناك، وصارت كلُّها على مستوى واحد. وأخيرًا، ما أدركت الرابّينيَّة هذا التاريخ على أنَّه توسُّع متواصل، ولا احتفظت بأحداث ولا بجدالات قديمة إلاّ إذا رأت فيها أهمِّيَّة من أجل تفسير الشريعة. ولكن ولو افترضنا أنَّها صادقة »تاريخيٌّا«، فما كانت أهمِّيَّة هذه التقاليد في زمانهم، وبأيِّ قدر مثَّلت نظرتهم؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار كلَّ هذه النقاط، لن ندهش من تنوُّع المقالات الحديثة حول العالم الفرّيسيّ، ولا من التناقض بين مقال ومقال.
ويبقى أنَّه بالإمكان أن نكتشف بعض النقاط الأساسيَّة. فالفريسيّون، شأنهم شأن الأسيانيّين، تفرَّعوا من حركة الأتقياء (ح س ي د ي م) الذين برزوا في القرن الثاني ق.م. ففي زمن بولس كانوا مجتمعين، منذ زمن بعيد، في »أخويّات« ثابتة تهدف إلى وضع الشعب كلِّه في ظلِّ التوراة المقدَّس والمحافظة على الشريعة. وإن كان من الأكيد أن انضوى تحت لوائها (الفرّيسيَّة) كهنة وكتبة، إلاّ أنَّ مجمل الفرّيسيّين كانوا من العوام الذين ارتبطوا، بدرجة أو بأخرى، بتفسير التوراة لدى الكتبة.
وتدلُّ بعض الإشارات أنَّ توحيد العقليَّة الفرّيسيَّة هو نتاجٌ متأخِّر في التاريخ. فخلال الحقبة الهيروديَّة، كان صراع بين شمّاي وهيلال ومدرستيهما حول تفسير الشريعة: شريعانيَّة من جهة. ومن جهة ثانية، نظرة إلى وضع الحياة. ثمَّ يبدو أنَّ قسمًا من الفرّيسيّين، أهل التوجُّه الوطنيّ والسياسيّ الجذريّ، حاربوا كما حارب الغيورون، بين هيرودس وتيطس، ضدَّ كلِّ ما هو غريب. ولكنَّ الأكثريَّة تركَّزت على ممارسة الشريعة ممارسة دينيَّة. أمّا في الشتات، فاستطاع بعض الفرّيسيّين أن يُنموا عددَ الذين يأتون إلى المجمع، أي خائفي الله الذين اعترفوا بالإله الواحد، على مثال اليهود، ولكنَّهم تردَّدوا أمام الختان. ومع خائفي الله، كان الدخلاء، أي الذين دخلوا في الدين اليهوديّ وصاروا أعضاء كاملين في شعب الله (مت 23: 25). غير أنَّ كلَّ هذه الفئات المختلفة، اجتمعت في اتِّحاد عميق جعلهم يعتبرون الشريعة قاعدة الحياة الوحيدة من أجل إسرائيل كلِّه.
وطريقةُ فهم الشريعة عرفَتْ تطوُّرًا داخل تاريخ الفرّيسيَّة الإجماليّ. وأصاب هذا التطوُّر الفهمَ الأساسيّ للشريعة، وتفسيرَ مواعيد الحياة في التوراة، وطريقةَ التشديد على هذه الفريضة أو تلك من فرائض الشريعة.
* * *