وصيّة يعقوب ووصيّة يسوع.

 

وصيّة يعقوب

ووصيّة يسوع

حين يشعرالإنسان بدنوِّ أجله، يجمع أولاده حوله، ويدفع إليهم وصيّته الأخيرة، وهكذا يدلّ على أنّه ما زال متّصلاً بهم بعد موته. على ما قيل في المثل العامّيّ: »من خلّف (أي ترك أولادًا خلفه) ما مات«. والوصيّة في الكتاب المقدّس، هي بالأحرى نظرة إلى الواقع الذي يعيش فيه الكاتب الملهم، في وقت من الأوقات، مع كلام يحتاجه معاصروه. من أجل هذا، يعود إلى أحد الآباء الذين سبقوه. تلك كانت وصيّة موسى في نهاية سفر التثنية. »قال لسبط رأوبين« (تث 33: 6). ثمّ لجاد وبنيامين... ووصيّة داود لابنه سليمان: »أنا ذاهب إلى حيث البشر كلّهم يذهبون في آخر حياتهم. فتشدّدْ وكنْ رجلاً، إعملْ بشرائع الربّ إلهك، واسلك طريقه، وتمسّك بفرائضه ووصاياه وأحكامه وإرشاداته« (1 مل 2: 2-3). وبولس أيضًا جمع شيوخ أفسس في ميليتس، على شاطئ البحر، فعاد إلى الرسالة التي قام بها. وتطلّع إلى الرسالة الآتية حيث »الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي، ولا تشفق على الرعيّة« (أع 20: 29). في هذا الخطّ نقرأ وصيّة يعقوب لأبنائه الاثني عشر. ثمّ وصيّة يسوع لتلاميذه، قبل أن يمضي إلى آلامه وموته.

»ثمّ دعا يعقوب بنيه وقال: ''إجتمعوا لأخبركم بما يحدث لكم في الآيّام الآتية. إجتموا واسمعوا، يا بني يعقوب، وأصغوا إلى إسرائيل أبيكم. رأوبين أنت بكري... شمعون ولاوي أخوان... يهوذا يحمدك إخوتك...« (تك 49: 1ي).

1- إخوة خمسة

نتوقّف في سلسلة أبناء يعقوب عند خمسة أسماء. ثلاثة أسماء نالها العقاب، واسمان ارتفعا، فصار الصولجان من نصيب يهوذا في الجنوب. والأرض الخصبة من نصيب أفرائيم في الشمال.

أ- ثلاثة أسماء

ذكر الكتاب أوّلاً رأوبين. اسم يرتبط بفعل رأى. وهكذا رأى يعقوب له ابنًا من ليئة، فازداد حبّه لها (تك 29: 32). رأوبين هو أبو قبيلة ستدخل في حلف مع سائر القبائل. أقامت جنوب أريحا. كانت بعدُ حاضرة في زمن دبورة، فقالت لهم هذه »القاضية«: »ما بالكم قاعدون بين الحظائر تسمعون صوت القطيع« (قض 5: 16). هم لم يتحرّ كوا للقتال والدفاع عن الأرض. ولكن حين دُوّن نشيد موسى في سفر التثنية، كانت هذه القبيلة قريبة من الزوال. لهذا تمنّى المؤمنون أن »يحيا بنو رأوبين ولا ينقرضوا، ولا يكون رجالهم قلائل« (تث 33: 6).

ولماذا ينقرض رأوبين وهو أقدم القبائل في فلسطين، بحيث دُعيَ »بكر« يعقوب؟ بسبب خطيئة اقترفها. وهكذا خسر حقّ البكوريّة. زنى مع جارية أبيه، بلهة. هكذا يتمّ مثَل قديم: »بشّر الزاني بخراب الديار«. ويروي لنا سفر التكوين أنّ يعقوب سمع، عرف بالخبر (تك 35: 22). ولا شكّ في أنّه لم يكن راضيًا. ذاك هو عالم الخطيئة، ولا سيّما زنى الأقارب الذي ندّدت به الشريعة تنديدًا. كان بإمكان رأوبين أن ينال البركة المحفوظة للبكر، ولكنه جمح كالسيل الذي لا شيء يوقفه، ولو وصيّة الله. لهذا »مات« حين اندثرت قبيلته وانقرضت.

وتجاه الزنى، ذكر الكاتب العنف والقتل. ما اتّفق شمعون مع أخيه على الخير، بل صارا أداةَ العنف وسلاحه. لهذا لن يدخل يعقوب مجلسهما (تك 49: 6). هكذا يكون البارّ، كما قال المزمور الأوّل: »لا يسلك في مشورة الأشرار، ولا يتوقّف في طرق الخطأة، لا يجلس مع الهازئين من الأبرار«.

ارتبط سمعان بفعل سمع. الله سمع شقاء ليئة، واستجاب لها سؤلها. لاوي هو الرفيق. والاسم يرتبط بفعل تعلّق، انضم. ما هذه الرفقة مع شخص فرض فيه أن يسمع صوت الله ويعمل به؟ وماذا فعل هذان الأخوان؟ مكرا بمدينة شكيم (تك 34: 30): »أسأتما إليّ بحيث يكرهني سكّانُ الأرض«.

سمعان أبو قبيلة نزلت إلى مصر في أيّام يوسف (تك 42: 24). ولكنّها غارت في قبيلة يهوذا، فما ذكرها موسى حين بارك القبائل (تث 33). وأقامت قبيلة لاوي في النقب بعد الخروج من مصر. وتوزّعت في البلاد قبل أن تهتمّ بشعائر العبادة.

وعقاب سمعان ضياع من الوجود. ولاوي تشتّت في أرض البلاد وعرضها بحيث لن يكون له أرض، شأنها شأن سائر القبائل.

ب- يهوذا ويوسف

يهوذا. في الأصل يهودا. هي أرض ارتبط اسمها بالوهاد والأرض المنخفضة. حدودها شماليّ بيت لحم وجنوبيّ حبرون. وهكذا أخذ أجداد الملك داود اسمهم من اسم الأرض التي أقاموا فيها. وبحث الكاتب عن معنى هذا الاسم فربطه بالمديح. »يهوذا يمدحك إخوتك« (49: 8). يقرّون بك، يعترفون. وهكذا نلقى مع استولى في العربيّة. ولدت ليئة أربعة بنين فما بقي لها سوى أن تمتدح الله على عطائه. وفي زمن داود، ارتبط بقبيلة يهوذا عددٌ من العشائر. فامتدحوا الملك ومن خلاله القبيلة كلّها.

في قراءة أولى، الصولجان في يد داود من نسل يهوذا. وفي قراءة ثانية، ابن داود، يسوع المسيح، هو من تطيعه الشعوب. من خلال داود، تطلّع مشروع الله إلى أبعد من مَلك أرضيّ تلطّخت يده بالدماء فما حقّ له أن يبني هيكلاً للربّ. أمّا أجره، فدفاعه عن يوسف، بل استعداده لأن يكون عبدًا مكان بنيامين إكرامًا لوالده.

يوسف هو ابن راحيل الذي انتظرت أمّه طويلاً بعد أن كانت عاقرًا، فهتفت في وجه زوجها: »أعطني ولدًا وإلاّ أموت« (تك 30: 1). دعته بهذا الاسم وهي تطلب زيادة. أقامت قبيلة يوسف في مصر. ثمّ تحدّث الكتاب عن بيت يوسف، أي عن قبيلتي أفرائيم ومنسّى، في مملكة الشمال بعاصمتها السامرة. منطقة غنيّة أقام فيها يوسف. لهذا تحدّث يعقوب عن »بركات أبيك التي تفوق بركات الجبال الأزليّة، وخيرات الروابي الأبديّة« (تك 49: 26). ولمذا كلّ هذا الغنى؟ لأنّ يوسف كان مخلّص إخوته من الموت جوعًا.

2- وصيّة يسوع

دُوّنت وصيّة يعقوب بعد زمن المنفى، سنة 587 ق.م، فأعطت صورة عن حياة المؤمنين في ذلك الوقت، وربطت هذه الصورة بالتاريخ القديم الذي يعود إلى بداية وصول القبائل إلى فلسطين، قبل موسى أو بعده. ووصيّة يسوع كما وردت في إنجيل يوحنّا، دُوّنت بعد موت يسوع وقيامته بستّين أو سبعين سنة. عرف يسوع أنّ »ساعته جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب« (يو 13: 1). فأخذ مع تلاميذه عشاءه الأخير، واستعدّ لأن يتركهم. »حيث أنا ذاهب، لا تقدرون أنتم أن تجيئوا« (آ 33).

ساعة الموت أتت. فاضطرب تنفّسُ يسوع. فقال في لحظة أولى: »يا أبي نجّني من هذه الساعة«. ساعة الآلام والصلب والموت. ولماذا قال يسوع ما قال؟ لأنّه في عمله يطلب مجد الله: »يا أبي، مجِّد اسمك« (لآ 28). لهذا بدأت وصيّته لتلاميذه: »الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه« (يو 13: 31).

وما كانت وصيّة يسوع الأخيرة؟ أجاب بعد أن ركع عند أرجل تلاميذه، كما الأم (والأب) تركع عند قدمَي ولدها، وغسل أقدامهم، وطلب منهم أن يفعلوا كما فعل. أجاب: »أعطيكم وصيّة جديدة: أحبّوا بعضُكم بعضًا. ومثلما أنا أحببتكم أحبّوا أنتم بعضكم بعضًا. فإذا أحببتم بعضكم بعضًا، يعرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي« (يو 13: 34-35).

أ- واضطرب التلاميذ

قال يسوع هذا الكلام فاضطرب التلاميذ. قلقوا من الوضع الجديد. يسوع ذاهب. فإلى أين يذهب؟ وفي أيّ حال، حيثما يذهب يتبعه بطرس: »أنا مستعدّ أن أموت في سبيلك«. يسوع ذاهب ليعدّ المكان. ولكن أين المكان وأين الطريق؟ قال توما: »لا نعرف إلى أين أنت ذاهب« (يو 14: 5).

ولكنّ يسوع الذي سيغيب غياب الجسد، الغياب المنظور كما قبل موته، سيكون حاضرًا في شكل آخر. نحن نبحث عن الطريق؟ فيسوع هو الطريق. نمضي إليه فيقودنا إلى الآب. صورة الطريق الطويلة والصعبة، التي يسير فيها المؤمن ليلبّي نداء الله، صورة نسير فيها ونحن نستند إلى الإيمان لندرك »الأرض«. صورة الطريق نجدها في الشريعة التي تُنير العيون وتُفرح القلب (مز 19: 9). ولكن يسوع دشّن طريقًا أخرى، طريقًا جديدة لنسير بحسب الله، وإلى لقاء الله: »من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني« (مر 8: 34). ويسوع هو الطريق الذي بتعليمه يقود إلى الحياة. فما لنا إلاّ الرجوع إلى الإنجيل.

والسؤال الثاني طرحه فيلبّس، بل الطلب: »أرنا الآب وكفانا« (يو 14: 8). وجاء جواب يسوع: »من رآني رأى الآب« (آ 9). يكفي أن ننظر إلى يسوع، أن نعرفه فنعرف الآب. وهكذا يكون يسوع الطريق، ويكون الوسيط، ويكون الباب فقال: »أنا هو الباب. فمن دخل منّي يخلص« (يو 10: 9). فلا يبقى علينا سوى أن ندخل فيه. هو ضيّق، لا بأس. فهو يقود إلى الحياة. أمّا إذا كان واسعًا، رحبًا، فهو يقود إلى الهلاك، والداخلون فيه كثيرون.

الله ذاته واقف عند الباب الضيّق والطريق الصعبة (متّى 7: 13-14). هو لا يمنعنا من الدخول. بل يستعدّ لاستقبالنا. أمّا إذا تردّدنا وخفنا، »يقوم ربّ البيت ويغلق الباب« (لو 13: 25). فيبقى الذين في الخارج، في الخارج ولن ينفعهم التوسّل والبكاء.

ب- العالم ويسوع

ونبّه يسوع تلاميذه في وصيّته قبل موته، في ما يُسمّى الخطبة بعد العشاء السرّيّ: لن تكونوا يتامى، لن تكونوا وحدكم. فالروح القدس يكون معكم. »يعلّمكم كلَّ شيء، ويجعلكم تتذكّرون كلَّ ما قلته لكم« (يو 14: 26).

وجود الروح ضروريّ، لأنّ الأخطار تهدّد الكنيسة، ولا سيّما من العالم، الذي هو في إنجيل يوحنّا معارضًا للعالم الآخر، لعالم الإيمان بيسوع. فيه تسيطر قوى معادية للمؤمنين. »إن أبغضكم العالم، فتذكّروا أنّه أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم، لأحبّكم العالم كأهله« (يو 15: 18-19).

تلك كانت نظرة الإنجيل الرابع، كما نظر إليها يسوع في البعيد. فالعالم اليهوديّ بدأ الاضطهاد سريعًا. وطلب من الرسل أن لا يتلفّظوا باسم يسوع. بل جلدوهم، لاحقوهم في شخص شاول الذي صار بولس. ثمّ العالم الوثنيّ الذي قتل في العاصمة الرومانيّة بطرس وبولس وعددًا كبيرًا من المسيحيّين. كيف العالم اليهوديّ يقبل بإنسان »يدّعي« أنّه إله. استحقّ الرجم أكثر من مرّة (يو 8: 9؛ 10: 31). وقتلناه. وها تلاميذه »يدّعون« أنّه حيّ، أنّه قام. بل اجتمع اليهود حوالي سنة 85، وقرّروا أن يطردوا من المجمع كلّ من يقول إنّ يسوع هو المسيح (يو 9: 22). والعالم الوثنيّ »الذين زاغت عقولهم وملأ الظلام قلوبهم الغبيّة... واستبدلوا مجد الله صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحّافات« (روم 1: 21-23). أرادوا أن يعبدوا رومة، أن يعبدوا الإمبراطور ولو كان على شاكلة نيرون، فكيف يرضون بعبادة شخص آخر مات مصلوبًا؟

ووحدة الكنيسة التي بدت مهدّدة منذ البداية. اختلف العنصر »العبرانيّ« والعنصر »اليونانيّ«. لا ليس الأمر بهذه السهولة: »أراملهم لا يأخذن نصيبهنّ من المعيشة اليوميّة« (أع 6: 1). الحمد لله أنّ الرسل عيّنوا لهؤلاء »اليونانيّين« سبعة خدّام يهتمّون بهم: إسطفانس، فيلبّس... كلّموهم بلغتهم، وحملوا إليهم البشارة فسمعوا »أعمال الله العظيمة« (أع 2: 12). والخلاف الكبير سيكون بين المسيحيّين؟ لا سمح الله. أتخضع فئة لفئة؟ قال بطرس باسم اليهود: »نحن نؤمن أنّنا نخلص بنعمة الربّ يسوع كما هم يخلصون« (أع 15: 11). لا مكان بعد للختان، ولا لأيّة ممارسة من ممارسات الشريعة. ولن تتوقّف الخلافات في تاريخ الكنيسة مع أنّ الله واحد، والربّ واحد، والمعموديّة واحدة.

من أجل هذا صلّى يسوع ليلة آلامه، لا من أجل تلاميذه فقط، بل »لأجل من قبلوا كلامه فآمنوا بي. قال: »إجعلهم كلّهم واحدًا، ليكونوا واحدًا فينا، أيّها الآب، مثلما أنتَ فيّ وأنا فيك، فيؤمن العالم أنّك أرسلتني« (يو 17: 20-21). وكرّر يسوع صلاته: »ليكونوا واحدًا مثلما أنت وأنا واحد، أنا فيهم وأنت فيّ لتكون وحدتهم كاملة، ويعرف العالم أنّك أرسلتني، وأنّك تحبّهم مثلما تحبّني« (آ 22-23).

خاتمة

من وصيّة يعقوب إلى وصيّة يسوع. ولكن شتّان ما بين وصيّة ووصيّة. غير أنّ ما يجعل الواحدة تهيّئ الدرب للثانية، هو كلام الله الذي يقرأه المؤمن في عودة إلى الوراء هكذا قرأ العهد القديم ما سبقه من أحداث. والإنجيل الرابع تاريخ الكنيسة في بداياتها. أمّا الهدف الأساسيّ فتبيان مخطّط الله الذي يُؤخذ على حين غفلة. هو وحده سيّد الأحداث، ويوجّهها لخير الذين يحبّونه. لخير شعب يؤمن به، لخير الكنيسة التي هي جسد المسيح. قرأ الشعب العائد من المنفى سنة 538 كلام الله، فاشتدّ عزمُه وسط عالم وثنيّ، وعمّق إيمانه وتابع المسيرة حتّى مجيء ذاك الذي انتظروه، يسوع المسيح. وقرأت الكنيسة صعوباتها الداخليّة التي تهدّد الوحدة، وصعوباتها الخارجيّة مع عالم يعاديها. فاستعادت الثقة وسط الاضطهادات، وسمعت كلمة لا تنفك تردّدها: »قلتُ لكم هذا كلّه ليكون لكم سلامٌ بي. ستُعانون الشدّة في هذا العالم، ولكن تشجّعوا أنا غلبت العالم« (يو 16: 33). أجل غلب يسوع، والمؤمنون يغلبون ولسان حالهم يهتف: »إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا... (روم 8: 31) »لا شيء في الخليقة كلّها يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا« (آ 39).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM