بركة يعقوب لأفرائيم ومنسّى.

 

بركة يعقوب لأفرائيم ومنسّى

حين نقرأ الكتاب المقدّس نحسب أنّه ينظر إلى المستقبل، إلى ما سيحصل في الآتي من الأيّام. لا شكّ في أنّ الله هو من ينظر إلى الأمام، ويدعونا أن نترك ما وراءنا، لأنّ لا فائدة من البكاء على الماضي والوقوف على الأطلال. غير أنّ الواقع يُفهمنا أنّ المستقبل ليس في قبضتنا. فنحن نعيش في الحاضر. وإن انبسطنا إلى الأمام على مثال بولس الرسول، فلأنّ يد الربّ تمسك بيدنا. نحن لا نعرف ماذا سوف يحصل لنا ولو تبعنا كذبات المنجّمين، بل نعرف شيئًا واحدًا هو أنّ كلّ شيء يؤول لخيرنا، شرط أن نكون من أحبّاء الله. لهذا، فالكتاب المقدّس الذي يُكتب عادة بعد أجيال وأجيال على وقوع الحادث، يقرأ ما حصل ويُعطيه بُعدًا لم يكن له حين تمّ. بارك يعقوب منسّى وأفرائيم، ولدَي يوسف، كما سوف يبارك سائر القبائل. ولكن حين رأى الكاتب أنّ أفرائيم اتّخذ أهميّة كبيرة بين قبائل الشمال، أعطى معنى جديدًا لبركة يعقوب، بحيث يتفوّق أفرائيم على منسّى. يتفوّق الأصغر على الأكبر، وكأنّ الربّ فضّل الواحد على الآخر. ونقرأ النصّ الكتابيّ:

وأخذ يوسف ابنيه الاثنين، فقرّب أفرائيم بيمينه إلى يسار يعقوب، وقرَّب منسّى بيساره إلى يمين يعقوب. فمدّ يعقوب يديه مخالفًا، فوضع يمينه (موضع البركة) على رأس أفرائيم، وهو الأصغر، ويساره على رأس منسّى وهو البكر... فلمّا رأى يوسف أنّ أباه وضع يده اليمنى على رأس أفرائيم، ساءه ذلك (والأب يفضّل البكر عادة). فأمسك بيد أبيه (اليمنى) لينقلها عن رأس أفرائيم إلى رأس منسّى. وقال يوسف لأبيه: »ما هكذا يا أبي، لأنّ هذا هو البكر وعلى رأسه تضع يمينك«. فرفض أبوه وقال له: »عرفتُ يا ابني عرفت. منسّى أيضًا يكون شعبًا، وهو أيضًا يصير عظيمًا. ولكنّ أخاه الأصغر يصير أعظم منه ويكون نسلُه عدّة أمم«. وباركهما يعقوب في ذلك اليوم (تك 48: 13-20).

1- قبيلتان في فلسطين

أفرائيم قبيلة يرتبط اسمُها بالجبل الذي أقامت عليه. عندها الأرض الخصبة، الأرض التي تحمل الثمار. بل تحمل بدل الثمرة الواحدة ثمرتين اثنتين. أجل نمت هذه القبيلة ونمت بعد أن حدّد لها يشوع أرضها (يش 16: 5-8). فحاولت أن تمتدّ إلى الشمال حيث اصطدمت بجدعون، أحد أبطال عشيرة أبيعزر (أبي معونة) في قبيلة منسّى. قال بنو أفرائيم لجدعون: »لماذا فعلتَ بنا هكذا؟« وخاصموه خصامًا شديدًا (قض 8: 1-3). كما حاول الأفرائيميّون أن يتوسّعوا إلى الشرق. فكان نزاع بينهم وبين جلعاد المقيم في شرق الأردنّ (قض 12: 4) حيث تغلّب الجلعاديّون بقيادة يفتاح. وطالب بنو أفرائيم بمخاض الأردنّ الواقع قرب الجلجال لأنّهم قالوا إنّ يشوع الذي من قبيلة أفرائيم قد رتّبه. وهذا مع أنّ المنطقة كانت تخصّ قبيلة بنيامين. ونشير إلى أنّ يربعام أوّل ملك في الشمال بعد انشقاق المملكة على أثر موت سليمان، كان من قبيلة أفرائيم. ومع أنّ عاصمته كانت في أرض منسّى، فالسيطرة لبثت لقبيلة أفرائيم حتّى تُدعى مملكة الشمال أو مملكة إسرائيل باسم »أفرائيم« على ما نقرأ في هو 5: 3: »أنا أعرف أفرائيم، إسرائيل لا يخفى عليّ. أنت زنيْتَ يا أفرائيم، ويا إسرائيل تنجّست«.

من أجل كلّ هذا، جعل الكاتب الملهم الذي عاش بعد يعقوب بمئات السنين، أفرائيم عن اليمين، حيث البركة مضاعفة. تلك هي القبيلة الأولى. والثانية منسّى. تلك التي تجعلني أنسى العنف السابق فأتعزّى. أقامت في شمال الجبل الفلسطينيّ وفي الوسط، انطلاقًا من شكيم في الجنوب. وعُرف من عشائرها أبيعزر، عشيرة جدعون، وشكيم التي أقامت في شكيم تلك الحاضرة الكنعانيّة التي كانت مدمّرة حين وصلت جماعة يشوع إليها (1150-950 ق.م) وحافر بعاصمتها ترصة (يش 12: 17). وفي أيّ حال، ذُكرت القبيلتان معًا مرّات عديدة على أنّهما ابنا يوسف منذ الإقامة في مصر. فحين نقول أفرائيم، نقول جماعة أفرائيم. وكذلك حين نقول منسّى. وقال سفر التكوين عن منسّى: »جعلني الله مثمرًا في أرض شقائي« (آ52).

بارك يعقوب منسّى وأفرائيم، فبارك في الوقت عينه القبيلتين. والعلامة بأنّ هذه البركة فعلت فعلها، هو الدور الذي لعبته هاتان القبيلتان على مدّ التاريخ. إمّا في الدفاع عن الأرض، وإمّا في جمع العشائر داخل القبيلة الواحدة، قبل جمع القبائل في تنظيم اثني عشريّ يجعل لكلّ قبيلة شهرًا في السنة تؤمّن خدمة المعبد المركزيّ الذي كان في شكيم في وقت من الأوقات.

2- بين الأصغر والأكبر

لماذا فعل يعقوب ما فعل؟ إطاعة لأمر الله. مع أنّه لم يرَ من هو الأصغر ومن هو الأكبر. »كانت عينا يعقوب كليلتين من الشيخوخة، ولم يكن يقدر أن يبصر« (تك 48: 10). فلماذا اختار أفرائيم وهو الأصغر؟ بفعله هذا عارض العادات المعروفة في الشرق وما زالت، وفي الغرب قرونًا عديدة. فالبكر هو »باكورة رجولتي« (49: 3) كما قال يعقوب، وله المكانة الأولى بين إخوته. وهو يخلف أباه على رأس العائلة وينال سهمين فيميَّز عن إخوته. ولا يتجاوز أحد هذه الشريعة حيث يعطي سهمين إلى ابن المحبوبة. فالبكر هو البكر أيٌّا كانت أمّه. وإذا ولدت المرأة توأمين، يكون البكرَ ذاك الذي خرج أوّلاً من حشا أمِّه، كما كان الوضع بالنسبة إلى عيسو ويعقوب. »ازدحم الولدان في بطن رفقة«، فتعبت من الحياة (25: 22). ثمّ خرج عيسو وبعده يعقوب (آ24-26). ويروي سفر التكوين أيضًا ما حصل لتامار: »ولمّا جاء وقتُ ولادتها، كان في بطنها توأمان. وبينما هي تلد، أخرج أحد التوأمين يده (ليسبق أخاه). فأمسكتها القابلة وعقدت عليها خيطًا قرمزيٌّا وقالت: »هذا خرج أوّلاً« (38: 27-28).

قد يخسر البكر حقّه إن هو تخلّى عنه أو باعه لقاء ثمن زهيد، كما فعل عيسو، أو إن هو اقترف خطيئة كبيرة على مثال ما فعل رأوبين، فحلّ محلّه يهوذا في الجنوب وأفرائيم في الشمال. قال له والده: »علوتَ فراش أبيك« (49: 4).

تلك عادات البشر في أن يفضّلوا البكر على الأصغر. ولكنّ الله لا يرتبط بهذه القاعدة فهو حرّ في اختياره، سواء كان هناك ولدان أو عدّة أولاد. والمثل الأهمّ نجده في اختيار صموئيل لداود. وما هو الذي اختاره، بل الربّ هو الذي وجّهه. جاء ألياب، ذاك الجميل المنظر والطويل القامة. ظنّ صموئيل أنّه مختار الله. أمّا الربّ فقال: رفضته، رذلته. أبعدته. كلمة قاسية وسوف نسمع أقسى منها حين الكلام عن عيسو ويعقوب. أما هذا الكلام عن ألياب لأنّه غضب على داود الممسوح ملكًا في السرّ عن شاول، لا عن إخوته؟ وقال للأصغر الذي لا يحقّ له أن يردّ: »أنا أعرف غرورك وخبث قلبك« (1صم 17: 28). كلّ ما تستطيع أن تفعل هو أن تحرس الغنم. لا القطيع الكبير، بل »تلك الغنمات القليلة«. ومع ذلك، ذاك الذي »لا نفع منه« على مستوى البشر، مسحه صموئيل ملكًا، بعد أن سمع الربّ يقول: »قمْ امسحْه ملكًا. فهذا هو« (1صم 16: 12). هو لا يعرف الحرب مثل أبيناداب الابن الثاني ليسّى والد داود، ولا مثل شمّة. وكانت الكلمة هي هي: ما اختاره الربّ. ومرّ السبعة، وما اختار الله إلاّ ذاك الذي أراد أن يختاره. يختار الضعفاء لا الأقوياء. يختار الذين هم لا شيء ليُخجل الذين يحسبون نفوسهم شيئًا. وفي أيّ حال، سوف يقول الربّ لداود بعد خطيئته: »أنا مسحتك ملكًا« (2صم 12: 7). وسليمان اختير ملكًا، لا أدونيّا. وإسحق سبق إسماعيل باسم المبدأ عينه، وهو أنّ البكر لا يكون الأوّل. هنا نترك ما يمكن البشر أن يفعلوه. خافت سارة الأميرة من ابن هاجر الخادمة. أو إذا شئنا، المرأة المحبوبة من المرأة المكروهة. فقالت لإبراهيم: »اطرد هذه الجارية وابنها. فابنُ هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق« (تك 21: 10). ما رفض الله ابن الجارية، بل جعله »أمَّة لأنّه من صلب إبراهيم« (آ13). ولكنّ وارث الموعد هو إسحق الضعيف تجاه ذاك الذي قيل فيه: يده على الجميع ويد الجميع عليه، »ويعيش في مواجهة إخوته«، كما شُبِّه بحمار الوحش الذي لا يروَّض.

واحتالت رفقة على إسحق، فوصلت البركة إلى يعقوب. استعدّت الأمّ أن تأخذ اللعنة عليها (تك 27: 13). وبالرغم من الأخطار التي واجهها الأصغر، سواء في فلسطين مع أخيه عيسو، أو في حاران مع خاله وأولاد خاله، حفظه الربّ، ورزقه الطعام واللباس وأرجعه سالمًا إلى بيت أبيه (تك 28: 20-21).

لماذا اختار إسحق وما اختار إسماعيل؟ لماذا اختار يعقوب وما اختار عيسو؟ هذا ما لا نعرفه. »فمن يعرف فكر الربّ«؟ ولماذا نسأله؟ هل يقول الفخّار للفخاريّ: لماذا صنعتني هكذا؟ فالمبادرة لا يمكن أن تكون يومًا من البشر، ومخطّطاتهم تذهب هباء في الريح. خطّط أبشالوم لكي يكون الملك. اتّخذ الوسائل البشريّة. أزاح أمنون البكر (2صم 13: 28-29). ثمّ ثار على أبيه بعد افتراء كثير. وكانت نهايته تعليقًا بالشجرة (2صم 18: 10) قبل أن يُضرَب بسلاح يوآب ويموت (آ15). وحاول أدونيّا أيضًا حين طلب أن يتزوّج أبيشاج الشونميّة (1مل 2: 17)، وهكذا يحقّ له المُلك (آ22). فكلّفه مشروعه الموت (آ25).

الله هو الذي يختار. فلا نحاول أن نصعد إليه ونحاصره »في عقر داره«. هذا ما أراد أن يفعله بُناة برج بابل، ولكنّهم فشلوا فشلاً ذريعًا. أمّا إبراهيم فترك الله يقود حياته. وهو العارف أنّه »تراب ورماد« (تك 18: 27). وهكذا مضى أيضًا إلى قبيلة منسّى، فاختار أصغر عشيرة فيها. ويا ليت الربّ أخذ البكر، بل أخذ »الأصغر في بيت أبي« (قض 6: 15). لماذا يفعل الله هكذا؟ لئلاّ يفتخر أحد بما عمل. وفي الواقع، أراد جدعون أن يكون القائد الحربيّ، فجمع الرجال العديدين. حينئذٍ قال الربّ لجدعون: »الرجال الذين معك أكثر من أن أسلّم بني مديان إلى أيديهم، لئلاّ يفتخر عليّ بنو إسرائيل ويقولوا خلّصتنا« (قض 7: 2). فرجع من الشعب 22 ألفًا. وبقي مع جدعون عشرة آلاف (آ3). ولكنّهم ما زالوا كثيرين (آ4). وفي النهاية، انتصر جدعون بثلاثمئة رجل. ومن أين جاءت هذه القوّة لجدعون؟ مع أنّه خاف من المهمّة التي طلب منه أن يقوم بها، قال له الربّ: »أنا معك« (قض 6: 16). هذا يكفي لكي يصبح جدعون رجلاً قويٌّا، وهو الضعيف أصلاً، ورجلاً كبيرًا بعد أن كان الصغير في البيت. وداود الصغير الذي مسحه صموئيل باسم الربّ ملكًا »حلّ روح الربّ عليه من ذلك اليوم وصاعدًا« (1صم 16: 13).

وإذا عدنا إلى البدايات، نرى أن الله يفضّل هابيل الضعيف الضعيف على قايين صاحب الملك والمقتنى. ولماذا؟ لا يقول الكتاب شيئًا. بل يكتفي بأن يخبرنا: »نظر الربّ برضى إلى هابيل وتقدمته. أمّا إلى قايين وتقدمته، فما نظر برضى« (تك 4: 4). وتساءل الشرّاح. منهم من أراد أن يعتبر الذبيحة الدمويّة أفضل من تقدمة الحنطة والزيت والخمر، تقدمة غلاّت الأرض. ولكنّ الربّ سيقول في مز 50: 8: »لا أعاقبكم على ذبائحكم، فمحرقاتكم أمامي كلّ حين«. وأضاف: »لا آكل لحم الثيران، ولا أشرب دم التيوس« (آ13). ووجد القدّيس يوحنّا في رسالته الأولى أنّ قايين كان من الشرّ فقتل أخاه. قتله »لأنّ أعماله كانت شرّيرة وأعمال أخيه كانت صالحة« (3: 12). وما هي هذه الأعمال؟ وأضاف يوحنّا في الرسالة عينها: »أبغض أخاه فصار قاتلاً« (آ15).

أمّا ترجوم سفر التكوين، فقدّم جدالاً بين قايين وهابيل. اعتبر الأوّل أنّ العالم لم يُخلَق بحبّ، وأنّ لا قيمة للأعمال الصالحة وأنّ محاباة الوجوه حاضرة في الدينونة. رفض هابيل هذا المنطق، ودبّ الخلاف بين الاثنين فكانت النتيجة أنّ قايين قتل هابيل حين غرز حجرًا في صدغه. كلّها أبحاث بشريّة ومحاولة أجوبة. ولكنّ سرّ الله يبقى بينه وبين من يدعوه. يعده بأن يكون معه، وهذا يكفي.

3- أحببت يعقوب وأبغضت عيسو

أورد بولس الرسول هذا الكلام في معرض كلامه عن اختيار شعب إسرائيل وخطيئته. الربّ اختارهم »جعلهم أبناءه، ولهم المجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود، ومنهم كان الآباء، وجاء المسيح بالجسد« (روم 9: 4). ومع ذلك، صاروا خارج رعيّة المسيح، خارج البيت على مثال الابن الأكبر. توسّل إليه أبوه، فرفض أن يدخل (لو 15: 28). وشعب إسرائيل بأكثريّته رفضوا أن يدخلوا، واعتبروا »أنّ وعد الله خاب« (روم 9: 6). حينئذٍ عاد الرسول إلى الكتاب المقدّس ليقدّم برهانه. فعلى ضوء كلام الله ندخل في سرّ الله. وإلاّ يبقى خارجًا.

بدأ فقال: »كلّ بني إسرائيل ليسوا إسرائيل« (آ6). ليس الشعب الحقيقيّ في إطار الوعد. فإسرائيل الله كما يدعوه القدّيس بولس في الرسالة إلى غلاطية (6: 16) هم إسرائيل بحسب الروح. لا إسرائيل بحسب اللحم والدم. مثل هذا الإسرائيل البشريّ، يقدر الله أن يستخرجه من الحجارة (مت 3: 9). إسرائيل الله هذا هو الخليقة الجديدة لا أولئك الذين يتبعون سبيل الختان. »فالسلام والرحمة على الذين يسلكون السبيل« (غل 6: 15). فيفاخرون بصليب ربّنا يسوع المسيح (آ14). وواصل في الخطّ عينه: »ليس كلّ الذين من نسل إبراهيم هم أبناء إبراهيم« (روم 9: 7). وقد قال يسوع لليهود: »لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم« (يو 8: 39).

وجاء البرهان الأوّل مع إسحق الذي يكون نسل إبراهيم: أبناء الوعد هم أبناء إبراهيم، لا أبناء الجسد الذين لا يمكن أن يكونوا »أبناء الله«. والوعد لا يتوقّف عند شعب من الشعوب خرج من بعض القبائل. إنّما هو عطيّة الله للذين يتركون امتيازاتهم القديمة ليدخلوا في مسيرة جديدة ترفعهم فوق ما يقول معلّمو الشريعة.

والبرهان الثاني ارتبط بعيسو ويعقوب. في إيراد أوّل »قال الله لرفقة: الأكبر يستعبده الأصغر«. هذا ما نفهمه حين نقرأ تك 25: 23: »شعب يسود شعبًا، وكبير يستعبده صغير«. الكبير هو عيسو الذي باع بكوريّته لقاء قليل من الطعام. والصغير هو يعقوب الذي نال بركة الوالد: »تخدمك الشعوب، ويسجد لك الأمم! سيّدًا تكون لإخوتك، وبنو أمّك يسجدون لك« (27: 29). وحين طلب عيسو بركة له، قال الوالد: »جعلته سيّدًا لك، وأعطيتُه جميع إخوته عبيدًا« (آ37).

والإيراد الثاني: »أحببتُ يعقوب وأبغضتُ عيسو«. جاءت هذه العبارة في ملا 1: 2-3: قال الربّ: »أحببتكم«. فقلتم: »كيف أحببتنا؟« فقال: »أما عيسو أخًا ليعقوب؟ فأحببتُ يعقوب وأبغضت عيسو. وجعلتُ جباله خرابًا وميراثه لذئاب البـرّيّـة«. يـدلّ النصّ علـى أنّ الربّ فضـّل يعقـوب على عيسـو، دون استحقاق من يعقوب. هو حبّ مجّانيّ. لو أراد الله أن يجازي يعقوب ووالدته بحسب تصرّفهما مع إسحق، لما استحقّ يعقوب كلّ هذه البركة. ولكنّ الربّ حين يعطي لا يتراجع أيٌّا كانت الظروف. وقد قال بولس في شأن إسرائيل: »لا ندامة في عطايا الله«. ما يلقي الضوء على هذه العبارة، نقرأه في لو 14: 26: »من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمَّه وامرأته... لا يقدر أن يكون لي تلميذًا«. هذا ما يقابل مت 10: 37 دون هذه المفارقة المشكّكة: »من أحبّ أباه أو أمّه أكثر منّي فلا يستحقّني«. وهذا ما يذكّرنا بكلام القدّيس أغوسطين: حبّ النفس حتّى بغض الله، حبّ الله حتّى بغض النفس. والإنسان يختار بعد أن جعل الربُّ أمامه الحياةَ والموت، السعادة والشقاء.

الخاتمة

انطلقنا من قبيلتين متجاورتين، متلاصقتين: أفرائيم ومنسّى. وقرأنا تاريخهما في اسمَي جدّيهما (إبونيميا). منسّى هو البكر. وأفرائيم هو الثاني كولدَي يوسف. ولكنّ الأولويّة كانت للثاني، مع أنّ للبكر حقوقًا لا يمسُّها شرعٌ بشريّ. غير أنّ طرق الله بعيدة عن طرق البشر، وهو يختار من يختار بحرّيّة مطلقة بحيث لا يحقّ لأحد أن يجادله. لا يحقّ للمصنوع أن يسأل صانعه: لماذا صنعتني هكذا؟ (روم 9: 20). وفي النهاية، دخلنا في سرّ الله الذي لا نستطيع أن نفهمه ببراهيننا البشريّة. ووقفنا أمام اختياره لمن يشاء وبالطرق التي يشاء. فلا يبقى لنا سوى أن نهتف مع الرسول (روم 11: 33، 36): »ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه!... فكلّ شيء منه وبه وإليه، فله المجد إلى الأبد. آمين«

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM