صراع مع الله.

 

صراع مع الله

منذ القديم، اعتاد الناس أن يحيطوا المدن بالمياه لتمنع الداخلين إليها، والمهاجمين من الإساءة إلى سكّانها. لهذا كان عبور الماء الشرط الأساسيّ للوصول إلى مكان نرتاح فيه. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى الخارجين مع موسى، من أرض مصر. هم يطلبون برّيّة سيناء واللقاء بالربّ مع الوصايا، فلا بدّ لهم من عبور البحر. وهم لا يستطيعون وحدهم. قوّة الله التي تجسّدها عصا موسى كفيلة بذلك العمل. ومرافقو يشوع وجب عليهم أن يعبروا الأردنّ قبل الوصول إلى أريحا، مدينة الرائحة والراحة للآتين من الصحراء. ونقول الشيء عينه عن يعقوب الذي يعود إلى موطنه، إلى أهله فيلتقي أخاه عيسو بعد فراق دام عشرين سنة. لا بدّ من عبور يبّوق الذي هو رافد من روافد الأردنّ، واسمه اليوم نهر الزرقاء. ولكن هل يعبر بقوّته دون حاجة إلى الله؟ هذا مستحيل. من أجل هذا، كان صراع مع الموت قبل الدخول في الحياة.

ونقرأ النصّ الكتابيّ الذي يبدو سريٌّا إن لم نقرأه قراءة روحيّة: »وقام يعقوب في الليل... وعبر مخّاضة يبّوق... وبقي وحده، فصارعه رجل حتّى طلوع الفجر. ولمّا رأى أنّه لا يقوى على يعقوب في هذا الصراع، ضرب حقَّ وركه فانخلع. وقال ليعقوب: »طلع الفجر فاتركني«. فقال يعقوب: »لا أتركك حتّى تباركني«. فقال الرجل: »ما اسمك«؟ قال: »اسمي يعقوب«. فقال: »لا يُدعى اسمك يعقوب بعد الآن، بل إسرائيل، لأنّك غالبت الله والناس وغلبت«. وسأله يعقوب: »أخبرني ما اسمك«. فقال: لماذا تسأل عن اسمي«. وباركه هناك« (تك 32: 23-30).

1- عالم المياه

حين كنّا صغارًا، كنّا نخاف العبور في وادٍ صغير تمرّ فيه ساقية تجري في الشتاء وتجفّ في الصيف. نعتبر أنّ هناك »جنّيّة« تحفظ المكان. إذ نصل إلى ذاك الوادي نمرّ بسرعة وكأنّ أحدًا يلاحقنا. هذا الخبر المغروز في تقاليد قديمة تعود إلى آلاف السنين، هو بقايا من روايات تقول إنّ لكلّ أرضٍ إلهًا تخصّه. وأنت لا تقدر أن تعبرها دون استئذانه، أو عبادته.

ومع الوقت، حلّ الملك محلّ الإله المحلّيّ، فصار هو سيّد المرور. لهذا، طلب موسى من ملك أدوم: »دعنا نعبر أرضك« (عد 20: 17). وهكذا بدأت الحدود بين البلدان والممالك مع دفع ضريبة المرور.

كان يعقوب في أرض الآراميّين، في حاران، عند خاله. وها هو يترك تلك الأرض، ويدخل أرضًا أخرى، أرض الكنعانيّين. ولكن لا سبيل للدخول بسهولة، وإلهُ هذه الأرض يحمي الحدود. فلا بدّ من صراع مع صاحب المكان، وسيكون يعقوب الأقوى. صاحب المكان في الأصل هو إله من الآلهة التي اعتادت أن تقسم الأرض فيما بينها، بحيث تكون حصّة لكلّ إله. ولكنّ هذا لا يسري إلاّ في العالم الوثنيّ، لا على مستوى عبادة الله. فلا بدّ أن يتحوّل اسمُ الإله المقيم في هذه الأرض. هو في الأصل: رجل (آ 25). فمن هو هذا الرجل الذي لا اسم له؟ في العالم الوثنيّ، هو الإله المحلّيّ. فلا بدّ من الصراع معه لكي تصبح الأرضُ أرضَ الله.

دخل يعقوب في أرض ذاك الرجل. عبر مخّاضة اليبّوق وما خاف. وحدّد الكتاب ذاك الصراع تمرّغًا في التراب مع قويّ يواجهه. وترك هذا الصراع أثرًا في جسم يعقوب: انخلع حقّ وركه (آ 26).

2- عالم الإله الواحد

ويُطرح السؤال: من هو هذا الرجل الذي يودّ أن يقاتل يعقوب، أو ربّما أن يستقبله كما يُستقبَل الفاتحون؟ قال النبيّ هوشع في هذا المجال: »صارع (يعقوب) الملاك وقاوم« (12: 5). إذن، هو ظهور إلهيّ، شأنه شأن كلّ الظهورات، حيث الكلام عن ملاك الربّ، قبل ذكر اسم الربّ وكلامه. ففي خبرة موسى مثلاً، نقرأ أوّلاً: »فتراءى له ملاك الربّ في لهيب نار من وسط العلّيقة« (خر 3: 2). وبعد وقت قليل، اختفى الملاك، ولا نعود نذكر سوى الله. نقرأ في آ 4: »ورأى الربّ أنّه (= موسى) مال لينظر، فناداه من وسط العلّيقة«. وفي آ 7: »فقال له الربّ: »نظرتُ معاناة شعبي«.

وهذا ما حدث هنا في خبرة يعقوب. هذا الرجل هو رسول يسبق وصول الله. وقد يعمل عمل الله كما كان الأمر بالنسبة إلى يوسف بن يعقوب حين مضى يبحث عن إخوته. »صادفه رجلٌ وهو تائه في البريّة« (تك 37: 15). سأله عن طلبه ودلّه على الطريق. أجل، بعد الرجل، سيأتي الربّ بالذات ويكون له حديث مع يعقوب، بل صراع. غير أنّ الكاتب الملهم يعتبر أنّ الله بعيد عن الإنسان، فلا يليق به أن يروي صراع الله مع إنسان وكأنّهما مقاتلان متكافئان. ولو عرف يعقوب ذلك، لما كان تجرّأ واقترب. وهو سوف يقول: »رأيت الله وجهًا إلى وجه ونجوتُ بحياتي« (تك 32: 31). فقد كانوا يعتبرون أنّ الإنسان يموت إن هو التقى وجه الله.

في نهاية الصراع والكلام، اكتشف يعقوب أنّه »تصارع« مع الله. لهذا دعا الموضع باسم »فنوئيل« أي وجه إيل، وجه الإله. غير أنّ هذا الوجه غير منظور في التقليد الكتابيّ ولا يمكن أن يُوضع على حجر أو بشر. أمّا في العالم الكنعانيّ، فالطبيعة تدلّ على الله. وعلى الشاطئ الفينيقيّ، إلى الجنوب من طرابلس، كان رأس (= رأس الشقعة، قرب شكّا) دُعي »وجه الإله، تيوبروسوبون«. ولكن تحوّل الاسم إلى »ليتوبروسوبون« أو وجه الحجر. وصار اسم قرية قريبة من هذا الموضع.

لقد تحوّل هذا المجاز. صار أرضَ الإله الواحد، لا أرض إله من الآلهة. يبقى وجهه خفيٌّا، لهذا يظهر في رؤى اللييل. فالله يكلّم الإنسان، فيما يكلّمه، خلال الليل. أما هكذا فعل مع صموئيل الذي كان نائمًا في الهيكل حيث تابوت العهد؟ (1 صم 3: 3)؟ ويوسف بن يعقوب نال كلامًا في الليل. وفهم إرادة الله من خلال حلم رآه فرعون في الليل. هي طريقة بشريّة بها نقول إنّ الله يكلّم الإنسان. فإلهنا »محتجب« (أش 45: 15). لا نراه بعين الجسد. أمّا الآلهة التي نراها، فهي أصنام لا ترى ولا تسمع. وإلهنا إن تكلّم، يُسمعنا صوته في أعماق قلوبنا. من هنا أهميّة الليل والصمت، كما كانت الحال مع إيليّا على جبل حوريب. ويسوع اعتاد أن يذهب إلى الجبل. هناك يقضي ليله في الصلاة. صمت الليل هو المناخ المهمّ من أجل الحوار مع الله.

وكان حوار بين الله ويعقوب. وكانت المبادرة من الله، وقد بدا أنّه لم يقدر أن »يصرع« يعقوب. ذاك هو ضعف الله تجاه البشر، ضعف الحبّ الذي هو في النهاية قوّة. ماذا طلب يعقوب؟ البركة. فأعطيَت له، وهو الذي جاهد حياته كلّها لكي ينالها. سبق له وسرق بركة أبيه بطريقة بشريّة غير مشرّفة، ومضى إلى البعيد تاركًا البيت الأبويّ. ثمّ هرب من عند خاله لابان. متى ستكون له الراحة؟ لا حين يقاتل البشر، لا حين يتعقّب أخاه ويخدعه.

الله وحده يعطي البركة، ويعطيها بطريقة مجّانيّة. هذا ما فعل مع إبراهيم، الذي بعد أن تجرّد من أرضه وعشيرته وبيت أبيه، باركه الله وعظّم اسمه (تك 12: 1-2).

وتبّدل اسم يعقوب. والتبدّل في الاسم يعني التبدّل في الوظيفة، في الدعوة، في علّة وجود الإنسان. كان سمعان صيّاد سمك، بدّل له يسوع اسمه: بطرس، أي الصخرة. أبرام صار إبراهيم، وساراي سارة. أمّا يعقوب فارتبط اسمه بقدرة الله. ترك ما حسبه »قوّة بشريّة« وجعل اتّكاله على الله. بدأ ضعفه أمام أخيه عيسو، سجد أمامه خاضعًا. وكأنّه يطلب السماح ممّا فعل في الماضي. وها هو يعرج الآن أمام الله فيحتاج إلى من يسنده. ما عاد يثق بكذبه وحيله، بل صار يتوّجه إلى الله قبل أن يُقدم على أيّ عمل. دعاه ابنه يوسف لينزل إلى مصر، فخاف. ذبح ذبائح لله (تك 46: 1ي). فجاءه جواب الربّ: لا تخف. أنا أنزل معك. عندئذ مضى يعقوب في المجهول، كما يقول الناس. أمّا بالنسبة إلى المؤمن، فالله يرافقه بحيث لا يبقى معلوم ولا مجهول. الربّ هو النور والخلاص، فممّ نخاف.

3- لا مشيئتي بل مشيئتك

الله هو هنا. ولكنّه لا يكشف عن اسمه. سأله موسى، اسمي: أنا هو الذي هو. ما هذا الاسم؟ لسنا أمام تحديد فلسفيّ. بل أمام حضور وحضور فاعل. وسأل يعقوب »أخبرني ما اسمك«؟ وجاء الجواب: »لماذا تسأل عن اسمي«؟ اسم الله فوق الإدراك. ومعرفة الاسم، أو إعطاء الاسم، يدلّ على السلطة. ومتى كان للإنسان سلطة على الله. إلاّ إذا كان هذا الإله صنمًا، نحن نسيطر عليه، نأخذه حيث نشاء، نستعمله فيطيعنا. في أيّ حال، هو كالميت في أيدينا. المهم أن نعرف الاسم؟ لا شكّ. وبالأحرى أن نرى الفعل. وها هو الربّ بدأ يعمل في حياة يعقوب، وفي حياة كلّ واحد يستسلم له في ضعفه البشريّ.

ذاك هو الصراع مع الله. نبدأ »أقوياء« وننتهي ضعفاء. لا مشيئتي، بل مشيئتك. تلك كانت صلاة يسوع في بستان الزيتون. هو وحده. ويحسّ أن الآب »تركه«، بعد أن تركه أصحابه، فناموا وهم في غفلة عنه. هو يصلّي، وهم لا يصلّون. هو يصلّي عنهم ولأجلهم، وهم لا يعرفون أنّ التجربة تتربّص بهم. »أنائمٌ أنت، يا سمعان، أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ إسهروا وصلّوا لئلاّ تقعوا في التجربة« (مر 14: 37-38). صراع يسوع يشبه صراع أيّوب بعد أن أضاع وجه الله. ولكن هذا البارّ سيقول في عمق ألمه: »أعرف أنّ شفيعي (وليّي، الله) حيّ، وسأقوم آجلاً من التراب، فتلبس هذه الأعضاء جلدي، وبجسدي أعاين الله. وتراه عيناي إلى جانبي، ولا يكون غريبًا عنّي« (أي 19: 25-27).

صوّر إنجيل مرقس صراع يسوع. قال: »وابتعد قليلاً ووقع إلى الأرض يصلّي حتّى تعبُر عنه ساعة الألم، إن كان ممكنًا« (مر 14: 35). بان يسوع هنا في كلّ ضعفه، مع أنّه كان باستطاعته أن يدعو جيشًا من الملائكة (متّى 26: 53). عنه تقول الرسالة إلى العبرانيّين: »وهو الذي في أيّام حياته البشريّة، رفع الصلوات والتضرّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجاب له لتقواه. وتعلّم الطاعة، وهو الابن، بما عاناه من الألم. ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه« (عب 5: 7-9).

المسيح إنسان كامل. عرف الألم، خاف من الموت: »أبعدْ عنّي هذه الكأس« (مر 14: 36). وهو أيضًا إله كامل، لأنّ ما عمله صار مصدر خلاص أبديّ. ولكنّه في بستان الزيتون، في جتسيمانيّ، وعلى الصليب، أخفى لاهوته، »ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته، واتّخذ صورة العبد... وأطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (فل 2: 6-8). »لا مشيئتي أنا، بل مشيئتك أنت أيّها الآب«. ولكن هذا الاستسلام المطلق، أعطاه رفعة، »أعطاه اسمًا فوق كلّ اسم لتنحني لاسم يسوع كلّ ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض. ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ، تمجيدًا لله الآب« (آ 9-11).

خاتمة

من يعقوب إلى يسوع المسيح. من الوسائل البشريّة التي تجعل الإنسان يعتبر نفسه قويٌّا لا يحتاج إلى قوّة الله، غنيٌّا يستغني عن الله، إلى الوسائل الإلهيّة التي هي في ضعفها أقوى من كلّ قوّة. هذا ما فهمه يعقوب في لقاء فريد له مع الله، صوّره الكتاب في فنّ أدبيّ خاصّ فدعانا إلى قراءة روحيّة، لا قراءة سطحيّة تتوقّف عند السطرُ والخرافات. والشيطان أراد أن يجرّب يسوع، فدعاه لاستعمال قدرته الإلهيّة قبل الأوان. لماذا يتعب ليحصل على الخبز؟ ليحوّل الحجر إلى خبز. ولماذا البشارة ثلاث سنوات؟ يكفي أن ينزل بأبّهة عن شرفة الهيكل، فيصفّق له الناس ويسيرون وراءه ويؤمنون به. هذا ما انتظروا منه أن يفعل يوم الجمعة العظيمة: أن ينزل على الصليب. كلاّ ثمّ كلاّ. طُرق الله غير طرق البشر. وحكمة الله غير حكمة البشر. والإنسان البارّ »لا يحبّ العالم ولا ما في العالم« (1 يو 2: 15). بل يسير وراء يسوع الذي هو طريقٌ تقود إلى الحقّ والحياة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM