عظمة الله العادل مزمور:59

 

عظمة الله العادل

مزمور:59

أحبّائي، عندما نقرأ كلام الله خصوصًا المزامير، لا نُسرع في القراءة. كلمة الله هي درر ثمينة، هي كنز كبير نأخذ منه شيئًا فشيئًا حتّى يبدّل حياتنا. نحن لا نريد أن نحفظ هذه الكلمات غيبًا من أجل الحفظ، نحفظها غيبًا كشخصٍ عنده مال في الخزنة ولكنّه لا يستعمله، أو عنده طعام في الثلاّجة، في البرّاد، وهو لا يستفيد منه أبدًا.

قراءة المزامير خصوصًا، تدفعنا لأن نتوقّف عند كلّ كلمة، عند كلّ مقطع، عند كلّ فكرة. مرّة أولى طلبْنا من الله أن يحمينا، مرّة ثانية أعلن المرتّل أنّه ما خطئ بل أعداؤه خطئوا، ولهذا هم يستحقّون العقاب. لكنّ الربّ علّمنا أن لا نطلب العقاب للآخرين، فالربّ لن يقبل معنا.

كانوا يقولون: عاقبْ، يا ربّ، الأشرار، أجاب يسوع الله لا يميّز بين الأشرار والأبرار في عطاءاته، هو يشرق شمسه على الأخيار والأشرار، ويسكب المطر على الخطأة وعلى الصالحين.

يقول لنا مار بولس: أكثر الخطأة يحتاجون أكثر إلى حضور الربّ، إلى نعمة الربّ، إلى عمل الربّ حتّى يعودوا إليه بالتوبة. واليوم القراءة الثالثة: عظمة الله العادل.

1 - اكتشاف وجه الله

في النهاية كلام الله يدعونا أوّل ما يدعونا إلى أن نكتشف وجه الله، بعد ذلك تأتي الأمور العمليّة، ثمّ الأمور التاريخيّة والعلميّة وكلّ ما شئنا. في الأساس نكتشف وجه الله، وهذا ما أراد أن يبيّنه المرتّل، نكتشف وجه الله. ونتذكّر خصوصًا إنجيل يوحنّا، كلّ معجزاته، ليست أوّلاً لإظهار قدرة الله، الله هو القدير سواء أجرى معجزة أو لم يجرِ معجزة. الكون كلّه معجزة، حياة كلّ واحد معجزة. لا يحتاج الله إلى أن يشفي مريضًا مثلاً أعمى لكي يدلّ على قدرته. فهو أعطانا عيونًا من لا شيء. إذًا، إنجيل يوحنّا عندما يقدّم معجزة من المعجزات، فلكي يدلّ على شخص يسوع المسيح، شفى الأعمى لكيّ نتعرّف أنّه هو نور العالم، أقام ألعازر لكي نفهم أنّه هو القيامة والحياة.

مزمورنا هنا، أحبّائي، نستطيع أن نقول عنوانه: عظمة الله العادل. يريد أن يكتشف المؤمن أوّلاً أنّ الله هو عظيم، يستطيع المؤمن أن يلجأ إليه. ونقرأ، أحبّائي، المزمور بعد أن قرأناه في حلقة أولى وثانية، ونقرأه مرّة ثالثة.

عظمة الله العادل 59 (58 كما في كتاب الصلاة). نجّني من أعدائي... إلهي الذي يرحمني. أوّل ما اكتشف المرتّل: حضور الله هو حضور الرحمة، هذه الرحمة التي أراد له أن يمنعها عن الآخرين. آية 6: لا ترحم أيّ غادر أثيم.

هذه الرحمة اكتشفها في آية 11: تتقدّمني إلى القتال برحمتك. أو يمكن أن يقول: إلهي الرحيم يأتي إليّ، كما تأتي الأمّ أو يأتي الأب إلى ابنه.

2 - إله الرحمة يأتي إلى لقائنا

في آية 5: يقول له قُمْ إلى لقائي. جميلة جدٌّا. الربّ يأتي إلى لقائنا لأنّه يرحمنا، لأنّه يحبّنا. هذه الرحمة هي ما يستند إليه المؤمن قبل كلّ شيء. هو لا يستند إلى أعماله التي يظلّ فيها أخطاء. لا يستند إلى استحقاقاته، فهي تبقى على مستوى الأرض إن لم يرفعها الربّ إلى مستوى السماء. لا يستند إلى قدرته. كلاّ ثمّ كلاّ. فقط يستند إلى رحمة الله، هذا الإله الذي لا يسمع لنا فقط، الذي لا يكتفي بأن ينتظرنا، بل هو يأتي إلى لقائنا.

نتذكّر هنا الأب في مثل الابن الضالّ أو الابن الشاطر: ما إن أطلّ ابنه حتّى أسرع إلى لقائه. تخيّلوا شخصًا عمرُه سبعون سنة يركض ليقبّل ابنه الذي ترك البيت الوالديّ.

هذه الرحمة تُنهي المزمور: من هو هذا الإله؟ هو الذي يرحم. إذًا هذا الإله الذي لا يمكن إلاّ أن يرحم حتّى الأعداء. أحبّائي، كلّ مرّة نصلّي لكي يعاقب الناس أعدائي، لكيّ يميتهم، يجعلهم يخسرون أولادهم، يخسرون أملاكهم؛ أو نشمت بهم إن هم خسروا ابنًا من أبنائهم أو عملاً من أعمالهم، فهذا يعني أنّنا كلّيٌّا ضدّ إرادة الله، كلّيٌّا ضدّ رحمة الله. نحن أنانيّون. نريد هذه الأمور لنا وحدنا. وهذه علامة أنّ قلبنا لم ينفتح، حين نتشبّه بالله الآب كالأبناء الأحبّاء. إذا كنّا نطلب الرحمة لنا، فلنطلبها أيضًا لجميع البشر. ليس فقط لإخوتنا، لكن لجميع البشر.

أوّل اكتشاف اكتشفه المؤمن، الله هو إله الرحمة، هو الذي يرحم. والاكتشاف الثاني مهمّ جدٌّا، هو أنّ الله هو ذاك الذي نستطيع أن نختبئ تحت جناحيه، كما العصفور تحت جناحي أمّه. يحاكينا يسوع: أردتُ أن أجمعكم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها. هذا المؤمن يستطيع أن يجد الحماية، يستطيع أن يجد من يدافع عنه.

3 - ا؟ ملجإي

هناك كلمات تتكرّر. أوّلاً في آية 10: يا ا؟ ملجإي. وتعود الكلمة نفسها في آية 17: كنتَ ملجأ لي. ليس أنت فقط ملجإي بالكلام، لكن في الليل عندما هاجموني وأرادوا أن يقتلوني، كنت ملجأ لي. وفي النهاية تأتي الكلمة: أرتّل لك يا عزّتي لأنّك، يا ا؟، ملجأي.

نتذكّر هذا اللجوء. في الماضي يلتجئ الواحد إلى رجل عظيم، إلى قبيلة، فيأمن شرّ الأعداء. هذا المرتّل لا يطلب أيّ لجوء أبدًا إلى أيّ شخص كان أو إلى أيّة قبيلة، أو كما نقول اليوم إلى أيّ دولة فيصبح اللاجئ السياسيّ، كلاّ ثمّ كلاّ.

ا؟ وحده هو الملجأ فاختبر المؤمنُ هذا اللجوء لأنّهم في المساء جاءوا ينبحون كالكلاب التي تطارد الطريدة، يطوفون في أنحاء المدينة، يبحثون. ومع ذلك هتف المرتّل: في الصباح أرنّم لرحمتك.

كما قلنا، أحبّائي، أربع مرّات تُذكر الرحمة: مرّة في لا ترحم، وثلاث مرّات الرحمة حيث ربط المؤمن حياته بحياة الربّ.

آية 11: تتقدّمني إلى القفار برحمتك.

آية 17: أرنّم في الصباح لرحمتك.

ونهاية المزمور كما في الموسيقى: آخر نوتة هي أجمل شيء، إلهي الذي يرحمني. ورحمته كما قلت أوّلاً، هي حماية لأنّك يا ا؟ ملجإي. أكثر من مرّة ترد كلمة الملجأ.

ثمّ هذا الإله هو الإله القدير. يقول هنا مرّات عديدة: عزّتي، العزّة، القوّة، القدرة.

في آية 10: لمّا أحسّ بالخطر من كلّ جهة هتف: إليك أسارع، يا عزّتي. كلمة مهمّة كثيرًا، عزّتي أنت، عزّتي يعني بك أتعزّز، أتقوّى بك.

ونلاحظ هنا كيف أنّ هذا المرتّل، هذا المؤمن، أسرع إلى ا؟ قوّته وعزّته، لا إلى الملك ولا إلى القاضي ولا إلى الحاكم. كلّهم يمكن أن يقبلوا الرشوة، إليك أسارع، يا عزّتي.

وحده ا؟ هو عزّتنا. ويعيد المزمور الكلام نفسه في آية 18: أرتّل لك، يا عزّتي، وفي آية 17: وأنا أنشد لعزّتك أنت الإله العزيز، أنت الإله القدير، أنت الإله القويّ.

وترد مع العزّة القدرة في آية 12: فرّقهم بقدرتك. إذًا، هذا الإله هو إله الرحمة. هذا الإله هو ذاك الذي نلجأ إليه، هذا الإله هو صاحب العزّة، صاحب القدرة، يقول ويفعل.

آية 17 يقول المرتّل أوّلاً في آ 16: ينتشرون باحثين عن القوت، يعني يطلبون طريدة ليقتلوها فلا يشبعون ولا يهنأون، يعني لا يصلون أبدًا إلى نتيجة.

آية 17: لماذا لم يستطيعوا؟ هل أنا عندي حيلة؟ هل عندي رجال كثيرون؟ كلاّ ثمّ كلاّ. أنا أنشد لعزّتك، أنا أرنّم لرحمتك. فإذا كنتُ أنا في مأمن من كلّ خطر، فعزّتك هي التي عملت، رحمتك هي التي عملت. وخصوصًا مع هؤلاء الأعداء، هذه القدرة التي هي ملجأ وهي أيضًا ترس كما قلنا في آية 12: هو ترس. نلاحظ، أحبّائي، دائمًا هذه الكلمات الحربيّة التي استُعملت في الصلاة. كما الترس يحمي المقاتل من العدوّ، كذلك الربّ هو الترس. لكن خصوصًا في آ 11 يقول للربّ: تتقدّمني إلى القتال، تمشي أمامي، أنت تمشي أمامي يا ربّ حتّى تحميني كما قائد الجيش، يمشي في المقدّمة كأنّه يدفع الجيش إلى القتال وإلى الانتصار.

وكيف يعامل هؤلاء الناس؟

4 - ا؟ يبتسم

أوّلاً يضحك، يبتسم، ماذا قال هؤلاء الأعداء؟

قالوا التجديف، جعلوا من ا؟ صنمًا، وثنًا لا يسمع ولا يرى.

في آية 8: يقولون: ما من أحد يسمع. لا شكّ، هذا الكلام قاسٍ جدٌّا. هو تجديف على اسم ا؟ الذي لا يسمع ما يقوله هؤلاء الأعداء. إذًا، يستطيعون أن يقولوا ما يريدون، كما قايين استطاع أن يفعل في البرّيّة. ما من أحد يرى. ويمكن أن نصرخ فمن يقدر أن يسمعنا؟ ا؟ لا يسمع الصراخ. وكما قلت عندما كانوا يذبحون بكرًا من أبكارهم كانوا يصرخون ويضجّون لئلاّ يسمع ا؟ صراخ الأطفال المساكين.

إذًا، ا؟ لا يعاقب هؤلاء الذين يجدّفون بل يضحك. هي ابتسامة القويّ أمام الضعيف الضعيف. والفكرة الثانية مهمّة جدٌّا: لا تقتلهم لئلاّ ينسى شعبي. أو بالأحرى، لماذا لا نقول: لا تقتلهم؟ لئلاّ ينسوا هم رحمتك.

لا شكّ، يعرف الشعب خلاص الربّ، قدرة الربّ، عظمة الربّ، وهذا صحيح ولكن لماذا لا يقتلهم؟ وهم أيضًا يستطيعون أن يفكّروا، أن يتوبوا على خطاياهم، وهنا كلّ هذا الصراع اليوم عندما يُحكم على فلان بالإعدام، إن أعدم هل ربحناه؟ كلاّ خسرناه، وخسرنا نعمة الربّ الذي قال لنا: لا تقتل. لا استثناء في هذه القضيّة أبدًا: لا تقتل، القتل ممنوع.

فإذا كان الربّ يريد لنا، يريدنا أن لا نقتل هؤلاء الناس لكي يمكن أن يعودوا إليه، فلأنّه لا يريد موت الخاطئ بل عودته.

هؤلاء الأشخاص يا ليتهم يرافقون المرتّل خصوصًا في الآية 17، 18، يرافقون المرتّل وهو يقول: أنا أنشد، أنا أرنّم، أنا أرتّل. هو النشيد، نشيد النصر لا على الآخرين بل على الذات، لا على الأشرار بل على الشرّ، الذي يمكن أن يضايق، يضايقني أنا ويضايق قريبي وعدوّي.

هذا الجمال أنا أنشده، أنا أرنّم له، أنا أرتّل لما فعله ا؟. لا أرتّل ؟ فقط، بل أنا أنشد لعزّتك، أرنّم لرحمتك، أرتّل لك يا عزّتي. لا شكّ، وراء كلّ كلمة هناك خبرة حياتيّة عاشها هذا المؤمن، ولكنّه يتطلّع قبل كلّ شيء إلى هذا الإله القدير، هذا الإله صاحب العزّة، صاحب العظمة. اكتشفَه من خلال شرّ البشر، اكتشفه من خلال قوّة المقتدرين الذين يحسبون أنّ ا؟ لا يرى، لا يسمع، لا يحسّ، لا يتألّم. مثل هذا الإله هو صنم من حجر ومن خشب، وبعيد كلّ الابتعاد عن إلهنا.

يجذبنا، يقول لنا هوشع، بحبال الرحمة، برباطات المحبّة. أترى نستطيع أن نتخيّل أمٌّا أو أبًا أمام الأولاد يبكون من الجوع، من التعب، من الخطر؟ مستحيل.

وفي أيّ حال يقول المزمور: ولو نسيتني أمّي ا؟ لا ينساني، يعني شتّان، شتّان بين رحمة ا؟ ورحمة الإنسان، مهما كان حبّ الأمّ المرتبطة برحمها، بابنها وبابنتها، فهذا كلّه كلا شيء أمام رحمة ا؟ وأمام محبّة ا؟.

هكذا، أحبّائي، نختتم تأمّلنا في هذا المزمور ثلاث مرّات. تأمّلنا في هذا المزمور الذي نستطيع أن نقرأه في بضع دقائق، تأمّلنا فيه، اكتشفنا أنّ ا؟ هو من ينجّي هو من يخلّص.

آية 3: نجّني، خلّصني، اكتشفنا أنّ ا؟ يرحم ولو كان هناك خطيئة. واكتشفنا أخيرًا هذا الإله العظيم والعادل الذي نستطيع أن ننشد له في الصباح وفي كلّ صباح، ننشد لرحمته، ننشد لعزّته، ننشد له لأنّه ملجأنا ولأنّه يرحمنا. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM