لامعصية لي ولا خطيئة مزمور:59

 

لامعصية لي ولا خطيئة

مزمور:59

1 - منطق العقاب

أحبّائي، قرأنا المرّة الماضية المزمور 59 (أو 58 بحسب كتب الصلاة)، ولكن لم نستفند الغنى الذي فيه. المرّة الماضية أعطينا عنوانًا: نجّني يا الله واحمني، أمّا اليوم فالعنوان الآخر: لا معصية لي ولا خطيئة.

نودّ أن نعود ونقرأ هذا المزمور قراءة من نوع آخر. لا معصية لي ولا خطيئة. وسنفهم لماذا يقول هذا المرتّل، هذا المؤمن، مثلَ هذا الكلام.

أُعطي نظرة سريعة ثمّ نقرأ المزمور ونعود فيما بعد. إذًا، النظرة أنّ الإنسان إذا كان خاطئًا هو يستحقّ العقاب من البشر، كأنّ الربّ يعاقب الإنسان على كلّ شيء يفعله، كما نفعل نحن بطرقنا التي تكون بسيطة أو تكون قاسية بالقتل والانتقام وتدمير البيوت إلخ... إذًا، الانتقام لا حدود له أبدًا، وعقاب البشر لا حدود له، والمؤمن يعتبر أنّ كلّ هذا إنّما جاء من الله الذي يعطي الحياة ويعطي الموت.

هذا المنطق ليس صحيحًا أبدًا. نقول: هو الذي يعطي الصحّة ويعطي المرض، الذي يعطي النجاح ويعطي الفشل، الذي يعطي الحرب والانتصار في الحرب ويعطي الهزيمة. موقف العقاب، الكلام عن العقاب، لا يمكن أن يدخل في مفهوم إيماننا. ونقرأ المزمور مرّة ثانية بعد أن قرأناه المرّة الأولى في الحلقة السابقة، نعود إلى قراءته.

2 - العقاب للأعداء

نقرأ المزمور 59: نجّني من أعدائي. تلك هي البداية. والنهاية: إلهي الذي يرحمني. ماذا نلاحظ أوّلاً؟ نلاحظ أنّ هذا المؤمن يطلب العقاب لمن هم أعداؤه أو للّذين يعادونه. وهذا الطلب يقال في آية 6: أيّها الربّ القدير، إله إسرائيل، أفقْ وعاقبْ جميع الأمم. يعني الذين ليسوا منّا هم الأمم. أفق وعاقب جميع الأمم، بعد ذلك ستأخذ هذه اللفظة معنًى آخر، يعني الأمم الوثنيّة. وثنيّة لأنّها تعبد الآلهة وتنسى الإله الواحد. وهنا نستطيع أن نكون في خطّ إنجيل يوحنّا: من لا يؤمن، لا شكّ، يكون مصيره الهلاك، ليس فقط العقاب لكن العقاب الأبديّ.

هو يطلب العقاب (آ 6) بلهجة قاسية. أوّلاً أفق وعاقب جميع الأمم. وهذه الكلمة »أفق« قويّة جدٌّا، لماذا؟ نتذكّر، أحبّائي، إيليّا النبيّ عندما كان على جبل الكرمل مع آلهة البعل. قال لهم: إلهكم ربّما هو نائم. لماذا؟ لأنّهم كانوا يقولون: الآلهة لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها قلب ولا يفهم. يمكن أن يكون الإله نائمًا، من أجل هذا تُقرع الصنوج وتقوم الضجّة والصراخ والهتاف، حتّى إذا كان نائمًا عليه أن يقوم، أن ينهض من نومه.

وهناك أيضًا مثل آخر هذا: الصراخ عندما يقدّمون ذبيحة ولا سيّما إذا كانت هذه الذبيحة، طفلاً من الأطفال: يعتبرون الإله نائمًا. يصرخون، يصيحون حتّى يستيقظ، وهذا هو الوجه الوثنيّ لصلواتنا، هذا لا يعني أنّنا لا نستطيع أن نصرخ، وأنّنا لا نبكي أمام الربّ. ولكن خصوصًا هذا الصراخ الخارجيّ، يجب أن يعبّر عن صراخ داخليّ، عن حاجة داخليّة، عن استعداد داخليّ لأن نفعل ما يطلبه منّا الربّ. ما أبشع الصراخ الذي فيه لا يستعدّ الإنسان أن يفعل شيئًا. هو يصرخ ويكتّف يديه، وينتظر الربّ أن يفعل. الربّ لن يفعل، لن يفعل أبدًا وحده، هو يفعل معنا، يده بيدنا. نستطيع أن نقول له: اترك يدنا. عندئذٍ نرى في أيّ هوّة، في أيّ وادٍ صرنا بدل من أن نكون على الجبل.

3 - قُمْ إلى لقائي وانظر

الربّ نائمٌ. تكون نظرتنا وثنيّة. يقول لنا المزمور: الله لا يعرف الوسن ولا النوم، الله يسهر دائمًا على شعبه، يسهر على كلّ واحد منّا. وفي خطّ النظرة إلى الملائكة، عندما نقرأ الكتاب المقدّس، نرى مرّات عديدة كيف أنّ الملائكة، ملاك الربّ خصوصًا يسبق حضور الربّ، كأنّه يهيّئ الطريق للربّ. وصار التقليد في الكنيسة يتحدّث عن الملاك الحارس، يعني كأنّ الملاك يرافق كلّ واحد منّا. ويقول في المزمور: يمسكونك لئلاّ تعثر بحجر رجلك. تخيّل أمٌّا أو أبًا يمسكان ابنهما بيده حتّى لا يقع. إذا كان هناك خطر، هناك أيّ شيء. إذًا، الربّ لا ينام أبدًا، يسهر ولا ينام، يسهر السهر الدائم.

من هنا تحدّث التقليد السريانيّ عن الملاك في السريانيّة »عيرو«. يعني المتيقّظ دائمًا الذي لا ينام. ولو نمنا نحن فهو لا ينام. ونتذكّر في العالم القديم أنّ النوم يشبه الموت. الإنسان يعتبر عندما ينام في المساء أنّه مات، وهو يقوم في الصباح، وإن قام في الصباح يعتبر أنّه قام من الموت. كان يمكن أن ينام ويبقى نائمًا، ولكن إن أعطي له صباح جديد فهذا يعني أنّه قام من الموت. على كلّ حال مرّات عديدة، في أيّامنا، أشخاص ينامون المساء ولا يقومون، يمضون إلى الربّ ويوضعون في القبر.

الربّ هو من لا ينام. أنت يا من لا ينعس ولا ينام، لا يعرف الوسن ولا يعرف النوم. هو يقول للربّ: قُمْ إلى لقائي، وكأنّ الربّ يحتاج. هنا نتذكّر الشعب العبرانيّ، شعب العبيد، إذا أردنا، قبل أن يصيروا شعب الله مع موسى حول جبل سيناء، هؤلاء صرخوا إلى الربّ، ويقول النصّ: فسمع الله صراخهم.

إلى لقائي. أفق، إذًا الربّ هو نائم! أفقْ. ولماذا يفيق الربّ؟ مرّة ثانية سنقرأ هو ملجأ، هو ملاذ، هو ترس، لكن أفق وعاقب. هو يطلب العقاب لجميع الأمم، لجميع الذين ليسوا من حزبه. إذا أردنا مثل هذه الصلاة الضيّقة، لا شكّ، الله لا يقبلها، وخصوصًا البعض يقول: ولا ترحم أيّ غادر أثيم.

4 - الربّ إله الرحمة

نلاحظ، أحبّائي، هذه الصلاة القاسية. على كلّ حال مرّات عديدة نحن نصلّيها. وحدهم القدّيسون يرفضون أن يصلّوا هذه الصلاة. لكنّ الكثيرين يصلّونها: لا ترحم. الربّ هو إله الرحمة، كيف يمكنه أن لا يرحم؟ كمن يقول لإنسان أنت لا تكون إنسانًا بعد اليوم. ماذا يكون؟ شجرة، تينة، خرّوبة، ماذا يكون مثل هذا الإنسان؟ إله الرحمة ولا يرحم، يعني ينسى شخصيّته، ينسى هويّته. كيف يقال: لا ترحم؟ لا يمكن ؟ إلاّ أن يرحم.

ولا ترحم أيّ غادر أثيم.

لا شكّ، هذا الغادر، هذا الخاطئ، يستحقّ العقاب، والربّ يعرف كيف يعاقب. وكما قلنا في الماضي نقول الآن: الربّ يعاقب عندما يأتي بنا إلى التوبة كما يقول النبيّ. الله لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن ضلاله.

إذًا، لا ترحم: كلاّ. لا نستطيع بعدُ أن نقول هذه الصلاة: لا ترحمْ: حتّى الذين صلبوا يسوع، جعلوه على الصليب مع البغض والحقد والخوف والجبانة وبكلّ الرذائل التي رافقت هذا الصلب والهرب والنكران والبيع وإلخ... نالوا الرحمة. قال يسوع: اغفر لهم، أنت إله الرحمة، لا يمكن إلاّ أن ترحم، أنت إله الغفران لا يمكن إلاّ أن تغفر.

5 - لا إله الانتقام

المرنّم يطلب العقاب لجميع الأمم، للذين أرادوا بي شرٌّا. وكيف يكون هذا العقاب؟ يكون بالردّ على مستوى سنّ بسنّ وعين بعين. هم أرادوا لي الموت، أنت أردْ لهم الموت، هم أرادوا أن يوقعوا بي، أنت أوقع بهم. يقول في آية 13: فدعهم يؤخذون بحبائل كبريائهم. وضعوا حبالاً، وضعوا شركًا، وضعوا شبكًا حتّى أقع فيها. ليقعوا هم فيها، كما يقول سفر الأمثال: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، ومن نصب فخٌّا لأخيه سقط فيه.

الكاتب يطلب من الربّ أن ينتقم على مستوى السنّ بالسنّ والعين بالعين. ذاك كان ناموس المِثل، منطق العقاب: إذا شخص اتّهم شخصًا واحدًا واستحقّ الرجم، فهذا المتّهَم هو أوّل من يُرجَم. لكن إذا لا سمح الله بان كذب هذا المتّهِم فالعقاب الذي هيّأه لأخيه يستحقّه هو. إذا كان اتّهامه باطلاً وكان أخوه لا يستحقّ الرجم، فهو من يُرجَم. نلاحظ هذا المنطق الذي ينسى عدالة الله، وعدالة الله تنتهي بالرحمة وبالغفران.

هي طريق لا يمكن أن يرضى عنها الله. ولهذا السبب يصوّر الكاتبُ هؤلاء الأشخاص في آية 8: أفواههم يسيل منها اللعاب، ألسنتهم سيوف بين أسنانهم. لا شكّ، هو يصوّر حالة أشخاص عديدين خصوصًا على مستوى الكلام، شهادة الزور، الافتراء، الكذب، الغدر، التملّق، التلاعب على الكلام. هذا الفم، هذا اللسان، يستطيعون أن يفعلوا الشرّ الكثير إذا أرادوا.

يقول القدّيس يعقوب: مثل عود الكبريت الذي يستطيع أن يشعل غابة كاملة، الفم، اللسان يستطيع أن يفعل شرٌّا كبيرًا. ولو كنّا نعرف مدى الشرّ الذي يمكن أن يخرج من لساننا لامتنعنا عن كلام كثير. كما يقول يعقوب أيضًا: من هو كامل بلسانه هو كامل بكلّ شيء. هذا يعني مدى الخطيئة التي يمكن أن تخرج من اللسان. فهذا المؤمن صوّر الخطيئة ثمّ قال: أفِقْ وعاقب. سيطلب عقابًا كاملاً.

آية 14: أفنِهم بغيظ، بغضب، بدون أيّة نظرة رحمة. من هنا تقول الرسالة للعبرانيّين: إذا كان هناك من عقاب فهو عقاب تأديب، لا عقاب إفناء. هم يستحقّون العقاب، يا ربّ، ويعود المؤمن فيقول عن نفسه في آية 4: لا معصية لي ولا خطيئة يا ربّ، وما أذنبتُ فبادروا وتأهّبوا. هنا المؤمن يدلّ على براءته، هؤلاء عندهم خطيئة، عندهم معصية، ينالون العقاب لأنّ أصحاب المعصية يُعاقَبون. أمّا المؤمن فلا معصية له ولا خطيئة (آية 5). وما أذنبت، إذًا، ما عندي ذنب أبدًا. وإذا كانوا يعاقبونني باسمك، ليس لهم حقّ أبدًا. فإذًا، هنا هذا المؤمن أظهر أنّه لا يستحقّ العقاب الذي يصيبه من البشر، هذا العقاب الذي يعتبره عقابًا من الله.

نتذكّر دائمًا أنّ الكتاب المقدّس ينسى السبب الثانويّ، السبب البشريّ، ويتوقّف فقط عند السبب الإلهيّ كما سبق وقلنا في أوّل الحديث: هو ينظر إلى الله، الله هو الذي يعاقب، الله هو الذي يحيي، الله هو الذي يميت، إلخ...

6 - الله لا يدين بل يرحم

أراد المرتّل أن يبيّن براءته أمام الربّ، وبسبب هذه البراءة يستعدّ لأن يقبل المساعدة. لو أنّ في قلبه معصية أو خطيئة أو ذنبًا، لما تجرّأ وطلب من الربّ. نتذكّر هنا شخص أيّوب الذي أحسّ أنّه لا يحقّ له أن يرفع رأسه، أن ينظر إلى الله، أن يتطلّع إلى الله. أحسّ، كما قيل له، أنّه خاطئ، لهذا السبب يقول النصّ: في بعض صلواته صار يصلّي بصيغة الغائب، يا ليت الربّ يرحمني! يا ليت الربّ يفعل لي كذا! يا ليت الربّ يسمع لي! أحسّ أنّه لا يحقّ له أن يرفع صلاته، أن يرفع عينيه وينظر إلى الله. وفي النهاية، الربّ هو الذي يبرّر لا الإنسان. الإنسان لا يمكن أن يحكم على نفسه إن كان بريئًا أو خاطئًا. مار بولس يقول: لا يدينني أحد. حتّى أنا لا أدين نفسي، ديّاني هو الربّ. وهذا المرتّل اعتبر أن لا معصية له ولا خطيئة ولا ذنب له. أوّلاً كلّ إنسان خاطئ والربّ هو الذي يبرّر، ونحن ننتظر كلمة منه. كم مرّة في الإنجيل قال: اذهبي يا ابنتي ولا تعودي إلى الخطيئة، إيمانك خلّصكِ، امضي بسلام.

فالربّ هو من يعتبر هذا الإنسان خاطئًا أو بارٌّا، وهو يساعده حتّى يخرج من خطيئته. ونتذكّر هنا مثل الفرّيسيّ والعشّار في إنجيل لوقا. الفرّيسيّ اعتبر أنّه بارّ أمام الله، يقول الإنجيل: عاد من صلاته غير بارّ، لم يبرّره الله.

أمّا العشّار فاعتبر نفسه خاطئًا، لهذا برّره الله. لم يقل: لا معصية لي ولا خطيئة وما أذنبت، بل قال: اغفر لي، يا ربّ، أنا الخاطئ. ويكفي أن يقرّ الإنسان بخطيئته، أن يدلّ على عمق قلبه، لينال الغفران.

هذا هو الاعتراف بالخطيئة، أحبّائي. ليس لنزيل الأوساخ ويظهر الوسخ والرائحة البشعة، لأنّ الخطيئة كما اكتشفها القدّيسون هي نتانة أين منها كلّ نتانات الدنيا. أبدًا. أنا أفتح قلبي على مصراعيه، وهذا الحكيم، هذا الطبيب العظيم يذهب حتّى إلى الزوايا الصغيرة فيصبح قلبي كلّه بحسب قلب الربّ. لا معصية لي ولا خطيئة، هي صلاة لا يمكن أن نقولها. بل نقول أنا خاطئ. ولا أحد يستحقّ عقاب الله الذي نحن نحدّده. فالربّ يعرف كيف يعاقب، وعقابه المحبّة والرحمة والغفران. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM