الرحمة وطلب الغفران
مزمور:51
1 - طلب الرحمة
أحبّائي، لاحظتم أنّنا توقّفنا عند المزمور 51، أو كما تقول الكتب الليتورجيّة المزمور - 50 - أربع مرّات، وهي المرّة الخامسة نتأمّل في هذا المزمور الغنيّ، مزمور الرحمة؛ طلب الرحمة، مزمور طلب الغفران الذي اعتاد المؤمنون أن يصلّوه، خصوصًا في زمن الصوم المقدّس: »ارحمني يا الله كعظيم رحمتك«.
هذا المزمور كان صلاة العشّار، حين جاء إلى الهيكل: ما تجرّأ أن يقترب من الربّ كما فعل الفرّيسيّ، ما تجرّأ أن يُخبر الربّ بما فعله من أشياء ذميمة.
الفرّيسيّ تحدّث عن صوم يقوم به، عن عشر يقدّمه، وعن صلوات وإلى آخره. كأنّه يمنّن الله، »يربّحه جْمِيلِه«، إنّه فعل ما فعل. العشّار حمل معه هذا المزمور، ليس كلّه على كلّ حال، حمل معه الآية الأولى. وقف من بعيد، ما تجاسر أن يرفع صوته، ما تجاسر أن يرفع رأسه لينظر إلى ذلك الإله العظيم، الجالس على عرشه، كما يقول أشعيا النبيّ: »الجالس« على عرش عالٍ، رفيع. ما تجاسر أن ينظر إلى هذا الإله الذي ينشده السرافيم: »قدّوس، قدّوس، قدّوس«. هو الخاطئ، فكيف يحقّ له أن يقترب ممّن هو القدّوس، ممّن هو القداسة بالذات. لهذا خفض رأسه، انحنى، سجد وصرخ بصوت لا يكاد يخرج من فمه: »ارحمني يا الله«.
هذا الطلب، طلب الرحمة كان كافيًا حتّى يعرف الإنسان موقعه أمام الله. ما من أحدٍ بارّ، ولا واحد. هذا العشّار عرف أنّه خاطئ، والويل لمن يحسب نفسه بارٌّا بحيث يمكن أن لا يحتاج إلى رحمة الله.
2 - هل نحن بلا خطيئة؟
مرّات عديدة نحسب نفوسنا بلا خطيئة: نقول نحن بلا خطيئة. إذا كنّا بلا خطيئة، فلماذا نأتي إلى الربّ، لا حاجة. هو يحتاج إلينا ونحن لا نحتاج إليه. كم نحن مساكين! أمّا إذا قلنا إنّنا خطأة، إنّ الطريق ما بيننا وبين الربّ ما زالت طويلة، لا شكّ في أنّ الربّ يدعونا إلى الكمال، ولكنّ دعوة الربّ لا تعني أنّنا وصلنا إلى الكمال. هذا هو معنى الاعتراف بأنّني خاطئ، بأنّني أطلب الرحمة، بأنّني أشبه الأمّ والولد، الولد يتعلّق بأمّه، يعرف أنّه نال الحياة منها، وأنا أتعلّق برِحِمِ الله، أعرف أنّني نلت الحياة منه. والفرق شاسع بين أمّي والله. أمّي أعطتني الحياة وتركتني أسير يومًا بعد يوم. أمّا الله فأعطاني الحياة في الماضي، وهو يعطيني إيّاها يومًا بعد يوم. يعطيني إيّاها اليوم وغدًا وبعد غد. وهو إن توقّف عن إعطائي الحياة يومًا واحدًا، أعود إلى العدم.
إذًا الربّ، اليوم يعطيني الحياة، اليوم يعطيني الغفران، اليوم يغفر لي، اليوم يسندني، اليوم يعطيني السرور. لا ماضيَ عند الله كما عندنا، هو حاضرٌ دائمًا. الماضي والحاضر والمستقبل، كلّ هذا إنّما هو لحظة أعيشها أنا في لقاء الربّ، في رفقة الربّ.
ونعود إلى قراءة المزمور 51 (أو 50 في الكتب الليتورجيّة) آية 3:
ارحمني يا الله برحمتك وبكثرة رأفتك امح معاصيّ
اغسلني جيّدًا من إثمي ومن خطيئتي طهّرني
أنا عالم بمعاصيّ وخطيئتي أمامي كلّ حين
إليك وحدك خطئت وأمام عينيك فعلت الشرّ
أنت صادق في أقوالك ومبرّر في الحكم عليّ
أنا في الإثم ولدت وفي الخطيئة حَبِلت بي أمّي
احفظ حقّك في أعماقي وعرّفني أسرار الحكمة
طَهِّرْني بالزوفى فأطهُر واغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج
أسْمِعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامي التي سحقْتَها
احجب وجهَك عن خطاياي وامحُ كلّ آثامي
قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا الله وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي
لا تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع روحك القدّوس منّي.
ردّ لي سروري بخلاصك وأرسل روحك فتسندني.
هذا، أحبّائي، ما قرأناه في المرّات السابقة، وتأمّلنا فيه. واليوم نتابع إلى نهاية المزمور.
أُعلّم العصاة طرقك والخاطئون إليك يرجعون
نجّني من الدماء يا الله أيّها الإله مخلّصي
فيرنّم لساني بعدلك ببرّك
افتح شفتيّ أيّها الربّ فيجود فمي بالتهليل لك
أنت بذبيحة لا تسرّ وبمحرقة إذا قدّمتُها لا ترضى
ذبيحتي لك يا الله روحُ منكسرة
والقلب المنكسر المنسحق لا تحتقره يا الله
أحسن برضاك إلى صهيون وابنِ أسوار أورشليم
فتُسرّ بذبائح صادقة بمحرقة وتقدمة تامّة
بعجول تُقَرَّب على مذبحك
3 - السرور للمؤمن
وهكذا قرأنا، أحبّائي، المزمور 51، من آية 15 إلى آية 21.
كان المرنّم طلب من الربّ أن يعود إليه السرور: السرور، لأنّه نال الخلاص، لأنّه نال المسامحة والغفران. هكذا يعود السرور إلى قلب المؤمن، حين يفهم أنّ الله رضي عنه، أنّ الله سُرَّ بموقفه. وكم يفرح الله حين يقدّم لنا هذا السرور، هذا الفرح، هذه البهجة. فنحن فهمنا ما يريده منّا. أردنا أن نسير في الطريق التي يريدها هو لنا.
»رُدَّ لي سروري بخلاصك«: لا شكّ، في وقت الخطيئة ضاعَ الفرح، ضاع السرور. والآن مع الخلاص، الذي هو ابتعاد عن الخطيئة، تحرّرٌ من الخطيئة، هذا الخلاص هو ما يحوّل حياة الإنسان، هو رجاء فينا، لأنّ الخلاص يبدأ الآن ويمتدّ يومًا بعد يوم. ولن يكون الخلاص نهائيٌّا إلاّ عند ساعة الموت. بانتظار ذلك خلاصُنا مهدَّد. والنعمة التي فينا يمكن أن نخسرها، إذا لم نعرف أن نستفيد منها، إن لم نعرف أن نلتجئ إلى الغنى الذي تحمله فيها.
والمؤمن حين يعود إليه السرور، يحسّ بعودة الخلاص، يستعدُّ أن يبدأ الرسالة: »أُعلّم العصاة طرقك«: أقول لهم كيف فَعَلتُ ما فعلت، كيف أقررْت بخطاياي، كيف اعترفت بخطاياي، الخفيّة والظاهرة، التي ذكرتها والتي لم أعد أذكرها.
قال بولس لأهل كورنتوس: »كنت أنا أكثر الخطأة، أكبر الخطأة، ومع ذلك الربّ رحمني«. فماذا يفعل لكم؟ هو يرحمكم، بلا شكّ.
والمزمور هنا، يقول لمن؟ لا يقول للخطأة البسيطين، أصحاب خطيئة الإهمال والسهو والنسيان. هو يقول للعصاة الذين اقترفوا خطايا كبيرة، فدلّوا على أنّهم رفضوا الطاعة للربّ، على أنّهم عَصَوا أوامر الربّ، أنّهم شدّوا رقابهم، قسّوا رقابهم حتّى لا يمشوا في طريق الربّ. وهنا فكرة مهمّة جدٌّا هي النير. النير يوضع على رقبة البقرة أو الثور حتّى يسيرا في الخطّ الذي يريده الفلاّح. والصورة ترتبط بنا، هل نستعدّ أن نجعل هذا النير على أكتافنا، فنسير إلى حيث يريد الله لنا أن نسير؟
وهذا المرتّل عرف أنّه من أولئك العصاة الذين رفضوا نير الربّ، والذي قال عنه يسوع في الإنجيل: صار خفيفًا في يسوع المسيح. هو العاصي الكبير سيُعلِّم العصاة: أصحاب التمرّد على الله، يعلّمهم الطريق الذي سلكه حين عادت إليه النعمة، حين عاد إليه الخلاص. يعلّم العصاة الطرق، أو الطريق الوحيدة التي توصل الخاطئ إلى الربّ: خبرته تصبح منارة لهم، شهادته تدلّ على أنّه شاهَدَ، رأى عمل الربّ، سمع صوته في أعماق قلبه.
وحين يشهد هذه الشهادة، وحين يُعلّم هؤلاء العصاة الطرق، فلا بدّ للخاطئين من أن يرجعوا. »الخاطئون إليك يرجعون«. أنا رجعت وسار معي أولئك الذين حدّثتُهم، فرجعوا أيضًا إليك.
4 - نجّني من الدماء
»نجّني من الدماء يا الله، أيّها الإله مخلّصي«
عاد الخاطئ إلى الربّ، ولكن يمكن أن يسقط مرّة أخرى، أن يسقط في خطيئة القتل. ربّما هنا نستطيع أن نتذكّر أنّ داود قتل أوريَّا، هذه الدماء التي قد تلاحق الخاطئ: تلاحقه، تذكّره بخطيئته. مثل »مكبث« عند شكسبير: يرى الدم على يديه، أو مثل كثيرين من الأشقياء يعودون إلى موضع الجريمة، وكأنّ الجريمة تجتذبهم لتنبّههم إلى الشرّ الذي فعلوه. مثل قايين الذي كان يأتي إلى حيث سفك دم أخيه هابيل. وإن جفّت الدماء، فالأرض تبقى الشاهد على هذه الدماء، »لم تعد تعطي ثمرًا«: صارت صحراء قاحلة. لم تعد مأهولة.
عندما يموت الإنسان، لا يبقى شيء من الأرض: إن كانت الأرض التي خلقها الله جميلة، فإن غاب الإنسان عنها تعود غابة، أو تصبح صحراء، لا شيء فيها.
»نجّني من الدماء يا الله«، من الوقوع في خطيئة كما فَعَلْتُ في الماضي. ونجّني خصوصًا من الانتقام: فالربّ رفض مثل هذا الانتقام. ويقول الكتاب: وضع علامة، وضع وشمًا على قايين، لئلاّ يقتله أحد من القبيلة الثانية. فقايين يمثّل الحَضَر: قبيلة حضريّة تعيش في مدينة أو بلدة صغيرة وفي الريف. وهابيل يمثّل البدو الذين يمكن أن يأتوا فينتقموا من القاتل.
طَلَبَ المرتّل: امنع عنّي الانتقام: لأنّ الانتقام يجرّ الانتقام، وفي النهاية تفنى القبيلتان كما فنيَت قبائل عديدة في هذا الشرق، القديم والجديد.
»نجّني من الدماء يا الله«: نجّني من القتل، نجّ جماعاتنا من العنف، من الحرب، من السلب، من النهب: هذا هو وضع شرقنا يا ربّ. وإذ نحن نقرأ هذه المزامير، نحسّ أنّها تتوجّه إلينا بشكل خاصّ: كلّ هذه الدماء التي تُسفك، لا على مستوى الإنسان مع الإنسان وحسب، بل خصوصًا على مستوى الحاكم، على مستوى القاضي، على مستوى السيّد، على مستوى الغنيّ، حتّى على المستوى السياسيّ. هناك الموت، الموت البسيط. هناك القتل، القتل البسيط الذي ما عاد يهزّ ضميرنا، ما عاد يحرّك الندامة فينا. نشبه صاحب المثل الذي قيل فيه: »قَتَل ومشى في جنازة المقتول«. مثلُ هذا هو من العصاة، هو من القلوب اليابسة، من الرقاب القاسية التي لا يمكن أن تسمع أبدًا صوت الله، التي لا يمكن أبدًا أن تكتشف حضور الله وعمله؛ هي تكتشفه في جهنّم، حين ترافق الشياطين، الأبالسة، في عذاب يدوم إلى الأبد.
تلك كانت صرخة هذا المرتّل »نجّني من الدماء يا الله« لأنّك أنت الإله مخلّصي، أنت الإله القدير، خالق السماوات والأرض. فحين أطلب منك، أعرف ممّن أطلب، وأنت الإله المخلّص الذي صرت في العهد الجديد يسوع المسيح مخلّص العالم، مخلّص كلّ واحد منّا. »فيرنّم لساني بعدلك«: وعندما أنال الخلاص، عندما أكون بين يدي الإله المخلّص، لا يبقى لي طلب أطلبه، بل فعل الشكر، فعل النشيد، فعل الترنيم. فالإنسان عندما يغمره الفرح، النجاح، قدرة الله، حضور الله، لا يمكن إلاّ أن يرنّم، أن ينشد. »فيرنّم لساني بعدلك«.
ونحن، يا ربّ، الذين نلنا خلاصًا يومًا بعد يوم، نلنا نعمة يومًا بعد يوم، فنحن، يا ربّ، أيضًا ننشد لك. نحن الذين تركنا خطيئتنا، وسرنا نحوك. كنّا عصاة، صرنا خاضعين. كنّا رافضين، صرنا طائعين. كنّا خطأة، برّرتنا كما نقول هنا: »فيرنّم لساني ببرِّك« بعدلك. بَرَّرَنا، لا يمكن إلاّ أن ننشد، ننشد النشيد الذي لا ينتهي، واعين، يا ربّ، على حقيقتنا، على ضعفنا، على خطيئتنا، وأَفْهِمْنَا أنّنا أشخاص نالوا الخَلاص، نالوا الغفران، لهذا ننشد لك ولا ننتهي، نرنّم لك أيّها الإله البارّ الذي يبرّر الخطأة، الذي جاء إلى الخطأة قبل الأصحّاء، الذي جاء إلى المرضى قبل أصحاب العافية. شكرًا لك، يا ربّ، شكرًا. آمين.