ِإرحمني يا الله مزمور:51

إرحمني يا الله

مزمور:51

أحبّائي، ما زلنا نقرأ المزمور 51. هذا الخاطئ الذي يطلب المغفرة وتجديد القلب. هذا الخاطئ الذي يشبه النبيّ داود ويمكن أن يشبه كلّ مؤمن. هو يطلب الرحمة: ارحمني يا الله. هو يقرّ بخطيئته، يقرّ بضعفه، يطلب المغفرة، يطلب أن يُغسَل كما تُغسَل الثياب أو يُغسَل الجسم. وهو لا يكتفي بطهارة خارجيّة، بطهارة طقسيّة كأن يقدّم ذبيحة أو يقدّم عملاً صالحًا، بل هو يطلب تجديد حياته من الداخل، أن يُخلق من جديد. لا يرضى أن تُستر خطيئته، أن لا يعود أحد يراها بل يريد أن يُبنى من جديد، فلا يبقى في حياته، في قلبه، أيّ أثر للخطيئة. وهذا الموضوع الأخير في قراءتنا للمزمور 51، يمكن أن نقول فيه: هم الآباء يقرأون مزمور ارحمني يا الله.

واليوم نقرأه مع هيزيخيوس أسقف أورشليم. ماذا يقول هذا الأسقف؟ يتوقّف عند بعض الآيات ويصلّيها ويمكن أن نتعلّم منه. في آية 3 يقول: ارحمني يا الله برحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، امحُ إثمي.

1 - توسُّل المؤمن

يريد المؤمن أن يُمحى إثمُه فلا يعود أحد يراه. أن يُشفى جرحه، أن لا يبقى أثرٌ ولا علامة. فالخطيئة تترك أثرًا، تدفعنا إلى التجربة. هو يريد أن يُمحى كلّ أثر، أن يُشفى الجرح شفاءً تامٌّا. فالجرح هو الخطيئة. فكما الخطيئة تجرح النفس، الجرح يضايق الجسد.

إلى من توسّل المرتّل؟ نادى مراحم الله الكثيرة لا رحمة واحدة. هو يريد أن يغوص في بحر المراحم، ويطلب لا مغفرة لخطإ واحد يستطيع أن يتخلّص منه الخاطئ. هو يطلب مغفرة تامّة. فمراحم كثيرة هي ضروريّة لتمحو الذنوب الكثيرة وتنجّينا من التهديد والعقاب.

خطايا كثيرة تطلب المراحم الكثيرة، وفي أيّ حال رحمة الله لا حدّ لها. هكذا قرأ هيزيخيوس أسقف أورشليم الآية 3. ثمّ توقّف عند الآية 4: اغسلني جيّدًا من إثمي ومن خطيئتي طهّرني. جاء متضرّعًا لا ليُغسل فقط، بل ليُغسَل جيّدًا، ليُغسل أكثر من أيّ وقت مضى. فغسلُ النفس أصعب بكثير من غسل الجسد. هذا المؤمن طلب تطهيرًا مناسبًا لضيقه. فالثوب الموسّخ قليلاً يُغسل بسهولة، يطهّر، ولكنّ الثوب الذي حلّت به لطخات كبيرة متلاحقة، يتطلّب غسلاً متعبًا وعناية كبيرة.

2 - توبة وجهاد

والمؤمن الذي أحسّ بنفسه خاطئًا خاطئًا، يحتاج إلى عمل متعب، إلى اعتناء أكثر، لا من الله حيث تكفي كلمة ليغفر لنا، بل من قبلنا نحن. ويتابع فيقول: والنفس التي خطئت مرّة واحدة خطايا خفيفة تدخل بتوبة مناسبة. أمّا إذا سقطت في خطايا عديدة وخطيرة، فلا تكون التوبة قضيّة ثانويّة بل تتطلّب تعبًا كثيرًا وعددًا كبيرًا من الأعمال الحسنة. يعني الخطيئة التي تجعل فراغًا كبيرًا في حياتنا بحيث نجعل حاجزًا بيننا وبين الله، هذه الخطايا الخطيرة تتطلّب منّا الكثير من العمل الجدّيّ، المتعب، والأعمال الحسنة حتّى نعوّض عن أعمالنا الشرّيرة. التوبة لا يمكن أن تكون ثانويّة ولاسيّما عندما تكثر خطايا الإنسان. هذه التوبة ضروريّة من أجل تبديل الحياة تبديلاً تامٌّا. لا نغيّر فقط عملاً من الأعمال، ولكن نغيّر حياتنا كلّها، نغيّر تفكيرنا. إذًا إذا سقطت النفس في خطايا عديدة وخطيرة لا بدّ من تعب كبير وهكذا يغسل الله هفواتنا.

كان داود على حقّ حين سمّى ذنبه إثمًا. الذنب هو عمل خاطئ لكن لا يكون ثقيلاً. لكنّ النفس التقيّة، النفس المؤمنة، أقلّ خطيئة تعتبرها ثقيلة. يقول الملك: أنا ملك، أنا فوق الوصايا، وأستطيع أن أفعل ما أريد، ولكنّ داود فهم خصوصًا بعد أن جاءه النبيّ ناثان، فهم أنّه وإن كان ملكًا فلا يحقّ له أن يتجاوز الشريعة. هو تحت الشريعة. وكم هو جميل أحبّائي عندما نقرأ الفصل 12 من سفر صموئيل الثاني يقول: أرسل الله ناثان النبيّ إلى داود، لم يعد داود ذاك الملك الذي يأمر، الذي يفعل ما يحلو له، ما يريده، كلاّ. صار داود شخصًا عاديٌّا، هو تحت شريعة الله، عليه أن يسمع كلام الله. ولهذا قال النصّ، جاء ناثان النبيّ، والنبيّ هو من يحمل كلمة الله.

نعم فهم داود أنّه ولو كان ملكًا، صغيرًا أو كبيرًا، ولو كان ملك الملوك، لا يحقّ له إلاّ أن يخضع للشريعة، كما كانوا يقولون: كلّ ما قاله الربّ نعمل به. بالنسبة للإنسان، الملك هو الأكبر لا شكّ. لكن بالنسبة إلى ملك الكون، ما من إنسان كبير. الله أسمى من كلّ الملوك بل هم لا يستحقّون أن يكونوا موطئ قدميه. لهذا السبب طلب المرتّل أن يُغسل، يُغسل جيّدًا يُغسل أكثر من العادة، خصوصًا كما يقول سفر الحكمة: خطيئة الملوك، خطيئة الحكّام خطيرة جدٌّا، وهي أخطر من خطايا الناس العاديّين.

3 - إصلاح الذات

ويتابع القراءة مع الآية 5: أنا عارف، أنا عالم بمعاصيّ، وخطيئتي أمامي كلّ حين. هي سعادة وأكبر سعادة أن يعرف الإنسان خطيئته الخاصّة. على المستوى البشريّ، يمكن أن يُصلِح ذاته، أن يُصلح حياته. وخصوصًا على مستوى الله، ندلّ على مسؤوليّتنا، صرنا رجالاً، صرنا نساء، لم نعد أطفالاً، لم نعد أولادًا، صبية صغارًا بدون أيّ مسؤوليّة. فالصبيّ لا يعرف إلى أين تقوده أعماله، كلاّ ثمّ كلاّ. أمّا الإنسان الذي يعرف خطيئته، والذي يقرّ بخطيئته، فيعلن أنّه مسؤول. ومن يُسأل؟ الرجل الكبير، المرأة الكبيرة المتكمّلة، هؤلاء يُسألون لأنّهم امتلكوا الشريعة، امتلكوا إرادتهم، وعرفوا إلى أين هم يتوجّهون.

أنا عارف بإثمي. وإذا كنت بعض المرّات أخفي هذه المعرفة، فأنت يا ربّ افتح قلبي، افتح حياتي على نورك فيصل إلى الزوايا الأخيرة الأخيرة حيث تُحرَق الخطيئة بنار الربّ. هي سعادة أن يعرف الإنسان خطيئته، وأكثر من ذلك لا يُعتبَر الإنسان إنسانًا إذا قدّم ذبيحة وانتهى كلّ شيء. كلاّ ثمّ كلاّ. لم ينته كلّ شيء. كانوا يقدّمون ذبيحة، فيرسل الغنيّ إذا شئنا ذبيحتين وتقدَّم هاتان الذبيحتان فيعتبر نفسه محلولاً من كلّ مسؤوليّة. لا، عنده واجب آخر. ونحن لا نتذكّر خطايانا لكي نتذكّرها، كمن يفتح جورة مليئة بالأوساخ. ليس الوقت فتح هذه الجورة وإظهار الرائحة الكريهة، لكن عندما يتذكّر الإنسان خطاياه، عندما تكون خطاياه أمام نظره، يعرف أوّلاً من أيّ خطر نجا، وينتبه ثانية إلى أنّ عليه ألاّ يعود كما نقول في فعل الندامة: أقصد أن أهرب من كلّ أسباب الخطيئة، ليس فقط من الخطيئة بل من كلّ أسباب الخطيئة، من كلّ ما يوصلني إلى الخطيئة، يمكن نظرة، يمكن قراءة، يمكن مشهد، هذا كلّه يوصلني إلى الخطيئة.

4 - ضعفي أمام الخطيئة

حين تكون خطيئتي أمامي، أعرف ضعفي، وأعرف أنّ قوّتي هي من الربّ. إذًا المؤمن يعرف ويتذكّر بعيني نفسه، جراحَ ذنوبه الخاصّة، فيخجل. فالجرح ينخر النفس، والخجل يجذبها إلى التوبة. فالذي ينسى شهواته ينجرّ فيقترف أيضًا ذنوبًا أخرى وكأنّه يقترفها للمرّة الأولى. وهنا مهمّ جدٌّا أن نفهم أنّ الذي يخطأ مرّة بعد مرّة يأتي وقت يريد أن يتخلّص نهائيٌّا. لكنّ الذي لا يتذكّر الشرّ الذي فيه، لا يتذكّر جراح نفسه، يخطئ وكأنّه يخطئ للمرّة الأولى، عندئذٍ لن يعود توبيخ الضمير قويٌّا فيه. ويتابع التأمّل: إليك وحدك خطئت وأمام عينيك فعلتُ الشرّ. أنت صادق في أقوالك ومبرَّر في الحكم عليّ.

إليك وحدك خطئت. هذا لا يعني أنّ المؤمن خطئ سرٌّا وما عرف به أحد من البشر. كلاّ. في أيّ حال، حين نتكلّم على زنى بتشابع وعلى قتل أوريّا وكلّ الخطايا التي اقترفها داود؛ فهي لم تكن مخفيّة.

إليك وحدك خطئت. فالخطيئة في النهاية هي خطيئة ضدّ ا؟. حين يقول الربّ: أنا الربّ، يعني: أنا آمرك وأنا أوصيك. لا شكّ عندما أسرق القريب إنّما أضرّ القريب، حين أزني أضرّ الشخص أو أضرّ حياتي أنا. حين أقتل إلخ. ولكن في النهاية، كلّ خطيئة هي إغاظة للربّ، هي تجاوز لكلام الربّ، لوصايا الربّ، لما يقوله لنا الربّ.

إذًا هنا أخطأ هذا المرتّل، وما استطاع أن يُخفي زناه على بتشابع التي انجرّت إليه. ويوآب أيضًا عرف خطيئته، لأنّه شارك الملك في مقتل أوريّا. ولكنّه ما كان يُصدَّق أنّ داود يقترف هذه الخطيئة بسبب الكرامة الملكيّة. ما كان يليق عمله هذا بنبيّ، ولا بملك مشهور بتقواه. وقائد الجيش، يوآب، لم يكن يتخيّل أنّ داود الذي يسمّى النبيّ، أنّ داود الذي هو ملك مشهور، أنّ داود هذا التقيّ، يمكن أن ينحدر إلى هذا المستوى من الخطيئة.

5 - الخطيئة ضدّ الله

ما كان يليق عمله هذا بنبيّ وملك مشهور بتقواه. قال: إليك وحدك. الله هو الكائن الأوحد الذي يجب أن نندم أمامه لئلاّ نخطأ. هو الذي كوّننا، وعامل عمل يديه بعذوبة. لم يكن قاسيًا معنا. وقال المؤمن: أمامك صنعت الشرّ. كلّهم سامحوه لأنّه ملك، قال داود: أمامك صنعت الشرّ. كلّهم سامحوه لأنّه ملك، وستروا ذنبه بصمتهم، لكنّ الله لم يقبل. كلمة الله سيف ذو حدّين، لهذا السبب أرسل الله ناثان إلى داود، ليبيّن له أنّ عمله كان سيّئًا وسيّئًا جدٌّا. ولكن لماذا اقترف هذا العمل؟ هذا ما نعرفه فيما بعد.

آية 7: وأنا في الإثم وُلدت وفي الخطيئة حبلت بي أمّي.

حُبل بي في الإثم. نحن لا نتوقّف فقط عند قذارة تأتينا من آدم. نحن نعرف أنّنا بسببها نولد أنجاسًا، قبل أن نصل إلى العمر الذي فيه نميّز الخير والشرّ، فنحتاج لأن نتطهّر كما لو كان والدانا نجسَين.

هذا ما قاله أيّوب: من يفتخر بنقاوة لا قذارة فيها، حتّى ولو كان رضيعًا ابن يوم واحد! ما إن يدخل الإنسان في الحياة حتّى ولو كان في حشى أمّه، فهو في الواقع يميل إلى الشرّ.

وهنا يقول لنا: من يفتخر بنقاوة لا قذارة فيها حتّى ولو كان رضيعًا ابن يوم واحد؟ والجواب ما من أحد. ثمّ إنّ الكاتب الملهم من الله يسمّي الشهوة عادة أمّ الخطيئة. فالشهوة والخطيئة هما سبب موت على حدّ قول يعقوب أخي الربّ: تحبل الشهوة فتولد الخطيئة، وحين تتمّ الخطيئة يولد الموت. لهذا فحين نخطأ، يُحبَل بنا في الخطايا.

6 - الابتعاد عن الخطيئة

ويتابع هذا الأسقف القدّيس فيطلب من الربّ الفرح، يطلب منه أن لا ينظر بعد إلى خطاياه، بل أن يبعده من كلّ تجربة، كما نقول في صلاة الأبانا وفي آية 12: اخلق فيّ قلبًا نقيٌّا.

لا يصلّي النبيّ لكي تتبدّل طبيعته، بل لكي تأتي النعمة إلى عون الطبيعة التي تجاهد والتي أعجزتها الخطيئة. وحين يتكلّم عن روح مستقيم، فهو لا يتكلّم عن نسمة الحياة، ولا عن روح الله. فلقد أنشد في هذا الموضوع مزمور 143: ليقُدني روحك الصالح في أرض سهلة (مز 143: 10).

إذًا يسأل المرتّل أن يتجدّد هذا الروح في أعماقه، في أحشائه، في هذه الأقسام الضروريّة، والجوهريّة لحياة النفس. فهذا يعني أنّه لم يكن في السابق مقيمًا فينا بشكل كامل، ولم يكن يرتاح فينا بسبب ضعفنا، ما كنّا أهلاً لأن نقبل نعمة كاملة، لهذا يطلب تجديده لتتمّ هذه النعمةُ كلّيٌّا فينا. كما نقول عن بيت دُمِّر، عن بيت أُصلح فما عادت فيه أمور عتيقة. هو شرّ عظيم أن يسبّب عبدٌ ضررًا لشخص معلّمه، أن يتصرّف ابن هكذا نحو أبيه، أن يفعل جنديّ كذلك نحو ملكه، لهذا يُحكم عليهم بالنفي. ومن تصرّف هكذا أمام الله جرّ الموت على نفسه. فالله الذي هو ملك، هو في الوقت عينه أب لنا وسيّد. وكلّ ما نستطيع أن نقوله بالنظر إلى حياتنا وخلاصنا: حين يميل عنّا وجهه، نخسر حالاً الروح القويّ، ينبوع كلّ خير فينا، وهذا أمر مؤسف لنا إذا نحن تابعنا في هذا الخطّ. كما قلت: هذا هو أحد المعلّمين هيزيخيوس الأورشليميّ.

نعم، أحبّائي، الآباء صلّوا أمامنا المزامير، وفي أيّ حال يسوع نفسه صلّى المزامير، ونحن نصلّيها معهم حتّى تدخل الكلمة في أحشائنا. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM