من العهد القديم إلى العهد الجديد مزمور:51

من العهد القديم إلى العهد الجديد

مزمور:51

1 - بين المؤمن والجماعة

أحبّائي، وجهات عديدة توقّفنا فيها ونحن نقرأ المزمور 51: »ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، اغسلني جيّدًا من إثمي، ومن خطيئتي طهّرني، إليك وحدك خطئت، وأمام عينيك فعلت الشرّ«.

توقّفنا عند كلّ آية من الآيات، عرفنا فيها هذا المؤمن الذي شعر بأنّه في أعماق قلبه خاطئ، وأنّه يحتاج إلى الخلاص، يحتاج إلى الإله المخلّص.

جاء وهو يبكي، كما يقول المزمور، جاء وهو يبكي، لأنّه خاطئ، جاء حزينًا على خطيئته. ومضى فرِحًا بعد أن برّره الله: »فيرنّم لساني ببرّك« (آية 16).

مضى الحزن، فهمَ أنّه إن مرض وكان مرضه، وكان سبب مرضه الخطيئة، إنّ الله »غضب عليه«. هكذا يقول الناس، هكذا يقول العالم الوثنيّ: »الهل يغضب على الخاطئ ويعاقبه«. ولكنّ المؤمن، في اندفاع إلى الربّ، في خبرة رائعة مع الربّ قال: »يمكن أن يغضب الله، ولكن غضبه لحظة، رضاه إلى الأبد«: غضَبُ الربّ لحظة ورضاه إلى الأبد.

نعم هذا ما اكتشفه المؤمن، واكتشفنا خصوصًا هذه العلاقة بين المؤمن وبين الجماعة: عندما يتوب، يساعد الجماعة على أن تتوب. وعندما يخطأ يساعد الجماعة على الخطيئة: فالنفس التي ترتفع، ترفع معها العالم. ولا سمح ا؟ النفس التي تنحدر، تُحْدِر معها العالم.

لا أحد يمكن أن يقول »أنا مستقلّ«، »لا أحد له فيَّ شيء«: فهو على المستوى البشريّ مرتبط بوالدته، بوالده، بإخوته، بأخواته، بالمحيط الذي وُلد فيه: ما من أحد مستقلّ. وكذلك نقول على مستوى الجماعة الروحيّة: لا أحد يقول: أنا جزيرة في وسط البحر، ولا أتّصل بأحد، ولا أريد علاقة مع أحد. إذًا أنت معرَّض للأخطار في كلّ وقت، لاسيّما وأنّ البحر هو موضع الموت، موضع الغرق: علاقة المؤمن بالجماعة، وعلاقة المؤمن بمدينته. نتذكّر هنا طوبيت حين زوّج ابنه طوبيّا وسيكون له الأولاد: إذًا سيُعاد بناء أورشليم.

نجاح كلّ عائلة من عائلاتنا هو نجاح الكنيسة. ونجاح كلّ عائلة عاشت مثل طوبيت وطوبيا هو نجاح أورشليم »قدْس الله وقدس أقداسه«.

2 - بين المسيح والكنيسة

والآن نودّ أن نتوقّف على علاقة المسيح والكنيسة، في هذه المزامير المئة والخمسين. ونطرح سؤالاً مع الذين يطرحون: لماذا نعود إلى الماضي ونأخذ منه صلواتنا؟ أما هناك صلوات جديدة، نستطيع نحن اليوم أن نكتبها؟ لا شكّ، هناك صلوات يمكن أن نكتبها.

ولماذا العودة إلى العهد القديم بعد أن حصلنا على العهد الجديد؟ لماذا العودة إلى موسى وداود وسليمان وإرميا، بعد أن أتى يسوع المسيح؟

لماذا العودة إلى وحي عفّاه الزمن، تعدّاه الزمن؟ أما يجب بالأحرى أن نتوقّف عند وحي حمله يسوع المسيح، الوحي التامّ، الوحي الكامل الذي لا وحي بعده؟

كلّ هذا ممكن، أحبّائي، لكن، لكن، المسيح هو من صلّى هذه المزامير، والكنيسة، جسد المسيح، هي من تصلّي هذه المزامير.

سُئلت مرّة: هل تُحبّ العهد القديم؟ - قلت: كلاّ - وماذا تحبّ؟ - أحبّ يسوع المسيح، هو قرأ العهد القديم، وأنا أقرأه في خطاه.

ولقد قال لنا سفر الرؤيا: لا يُفهم العهد القديم إلاّ في ضوء العهد الجديد، ولا يفهمه سوى يسوع المسيح ومن أراد أن يتعلّم من يسوع المسيح.

أنا أقرأ العهد القديم لأنّ المسيح قرأه. أنا أصلّي المزامير، لأنّ المسيح صلاّها. أنا أفكّر في مفاهيم مأخوذة من العهد القديم، لأنّ المسيح انطلق أيضًا منها. مثلاً حدّثنا عن الكرمة، كما في أشعيا الفصل - 5 -. إذًا هناك أمور عديدة انطلق منها يسوع من العهد القديم فوصل إلى العهد الجديد وإلى الكنيسة.

وإذا أخذنا هذا المزمور، يمكن أن نسمّيه صلاة الكنيسة: صلاة الكنيسة الحاملة خطيئة العالم. ولكن هناك من سبق وحمل خطيئة العالم: يسوع المسيح. ناداه يوحنّا المعمدان (يو 1:29، 35): »هذا هو حمل الله«، هذا هو حمل الله.

3 - المسيح حمل الله

في الماضي كانوا يذبحون الحملان، يذبحون التيوس يذبحون العجول تكفيرًا عن الخطايا. أمّا الآن فلنا حملٌ واحد هو الذي يحمل خطايا العالم. هو الذي يرفع خطايا العالم ليحوّلها. مع الربّ، الشرّ يصبح خيرًا. والصليب يصبح مجدًا، والموت يصبح قيامة. »هذا هو حمل الله، الذي يرفع خطيئة العالم.

ولقد أراد يسوع أن يرافقنا في ضعفنا: صار بشرًا، صار من لحم ودم. وجُرِّب مثلنا. ما أراد أن يتميّز عنّا بشيء أبدًا. لا شكّ هو لم يخطأ، ولكن بغير ذلك لم ينفصل عنّا بشيء.

أراد أن يفرحَ أفراحنا، أن يحزنَ أحزاننا، أن يتألّم آلامنا، أن يموت موتنا، بانتظار أن نقوم نحن قيامته. المسيح هو حمل الله.

وهناك فكرة رائعة في المعموديّة لمّا اعتمد يسوع نقرأها خصوصًا عند القدّيس لوقا: هذا الشعب الآتي ليقرّ بخطاياه. ليعترف بخطاياه، اعتمد، والمعموديّة علامة على هذه التوبة وعلى هذا التحوّل في الحياة. يقول لوقا: »ولمّا اعتمد الشعب كلّه، اعتمد يسوع أيضًا«. نعم، جعل نفسه مع الخطأة، ما استحى أن يدعونا إخوته. هو الابن، نعم جعلنا أبناء. هو القدّوس، نعم جعلنا أبرارًا. هو الكاهن، أشركنا في كهنوته. هو الذبيحة، أشركنا في ذبيحته. صرنا وإيّاه شخصًا واحدًا، صرنا جسدًا واحدًا. ينعشنا روح الله.

المسيح حمل الله. ونحن إذ ننشد: يا حمل الله، الحامل خطايا العالم، إنّما نريد أن نرافق المسيح، أو بالأحرى نسمح له أن يرافقنا في الليل، في الظلمة، في الألم، في الحزن كما رافق تلميذَي عمّاوس. فرفقتُه تنتهي بالفرح، تنتهي في كسر الخبز، رفقته، لا شكّ، تصل إلى الصليب ولكنّها تبلغ إلى القيامة. رفقته في النهاية تدفعنا إلى الرسالة.

تلميذا عمّاوس، نسيا التعب والليل والخوف واليأس وعادا يبشّران: المسيح قام، حقٌّا قام.

4 - صار خطيئة لأجلنا

المسيح صلّى هذا المزمور وحمل خطايا العالم. يقول القدّيس بولس: صار خطيئة من أجلنا: يعني إذا أردنا أن نفسّر الكلمة، صار ذبيحة خطيئة من أجلنا. في الماضي كانت ذبيحة الخطيئة تحمل خطايا الجماعة وتذهب بها إلى البرّيّة. ويسوع ذبيحة الخطيئة، حمل خطايا البشريّة. وحملها لا إلى البرّيّة من حيث تعود، فهناك كان يقيم الشرّ، الشيطان، إبليس. ما جعلها في البرّيّة، لتعود إلينا وتعود الذبائح، كلاّ. بل سمّرها على الصليب. قتلها، ماتت، لم يعد لها من سلطان علينا. لهذا قال بولس الرسول في خطّ النبيّ هوشع: أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا جحيم، يا خطيئة، يا شرّ؟ أين قوّتكم؟ لم يعد لديكم قوّة، المسيح غلبكم. سمّر يسوع الموت، فألغى الموت على أنّه يأس ونهاية. الموت صار لنا عتبة: ننتقل من حياة جميلة إلى حياة أجمل. من سعادة بشريّة إلى سعادة إلهيّة.

لم يعد إذًا الموت موتًا، ولم تعد الخطيئة خطيئة: خسرت شوكتها، شرط أن نقبل السير في خطى يسوع المسيح. أن نلغي فينا هذا الإنسان العتيق، يومًا بعد يوم. ونترك الإنسان الجديد يتجلّى فينا في البرّ وقداسة الحقّ.

»هذا هو حمل الله، الحامل خطايا العالم« عندئذٍ تصبح كلمات المزمور - 51 - »ارحمني يا الله...« عميقة جدٌّا، تُفهمنا أنّ الله ليس إله القساوة والعقاب والغضب. لو أراد ذلك لما كان أرسل ابنه إلينا. أَفهَمَنا أنّ إلهنا هو إله الثقة، هو إله الاتّكال العميق. نعم، تضايقت نفس المؤمن حين اكتشف خطيئته، ولكن من يقول له إنّه نال الغفران؟ على مستوى العهد الجديد، فقط نستطيع القول إنّنا نلنا الغفران، الغفران الحقيقيّ. يقول لنا الكاهن: ليحلّك الربّ من كلّ خطاياك. وهذا الغفران يرتبط بشفاء من نوع آخر، إن لم يكن شفاءً منظورًا، فهو شفاء غير منظور.

قال يسوع للمخلّع: مغفورة لك خطاياك. غُفرت خطايا هذا المخلّع. وكيف عرف، عندما شُفيَ من مرضه. نعم، لا شفاء لقسم في الإنسان دون الآخر. شفاؤنا من الأمراض يتواصل في شفائنا من الخطايا والعكس بالعكس.

وصيامنا على مستوى الجسد يتواصل في صيام على مستوى الروح، على مستوى الجهاد المسيحيّ والحياة بحسب الوصايا. وذبيحتنا صارت القدّاس، القدّاس الذي توزّع في العالم كلّه. لا حاجة لنا بعد أن نأتي إلى أورشليم. ففي كلّ مكان تُذبَح الذبيحة الواحدة، ذبيحة يسوع المسيح، ذبيحة الصلب والموت والقيامة. في كلّ مكان، نحصل على غفران خطايانا، وعلى شفاء نفوسنا وأجسادنا، كما يريد الربّ وساعة يريد، وبالوسائل التي يريد.

5 - فتحوّلت الخطيئة

قبل أن يقدّم يسوع ذبيحته قال: لتكن مشيئتك، لا مشيئتي أيّها الآب. ونحن مثله ندخل في مشيئة الله. وهو يعرف كيف يتصرّف معنا.

في العهد الجديد لم تعد الخطيئة ذاك الحمل الثقيل بعد أن حملها يسوع عنّا. نحن لا نتوقّف بعد إلاّ على ذلك الذي أتى، فأخذ أمراضنا، وحمل أوجاعنا.

ظنّ مرتّل المزمور أنّه مريض بالبرص. أمّا أشعيا - 53 - فتحدّث عن عبد الربّ الذي صار يسوع المسيح، الذي حسبناه مريضًا بالبرص، وما هو بمريض. لماذا؟ لأنّ مرضه هو مرضنا. مرضنا جعلناه عليه. آلامنا جعلناها عليه. أمراضنا جعلنا عليه. لأجل هذا صار منكسرًا، صار متألّمًا، ولا يزال في نزاعه وآلامه وموته حتّى نهاية العالم. لا تزال الجراح في يديه ورجليه وصدره حتّى نهاية العالم.

نعم، مع المسيح لم تعد الخطيئة خطيئة، ولم يعد الموت موتًا. لم تعد الخطيئة تلك التي ألتَصق بها، ولا أعرف كيف أتخلّص منها. فيسوع أخذها، حملها. ليس فقط نَسيَها، لكنّه أنهاها فينا. ولكن يبقى، أنّنا نحن نودّ العودة إلى هذه الخطيئة، نودّ العودة إلى الوراء. فهناك سحر، سحر الشرّ، سحر الخطيئة، سحر الشهوة لا يزال يسيطر علينا. لهذا نقول في الصلاة الرّبيّة: لا تسمح يا ربّ أن ندخل في التجارب. يا ربّ أنت نجّنا من الشرّير. ونقول في فعل الندامة: أقصد أن أهرب من كلّ أسباب الخطيئة، ولكن أنا وحدي لا أستطيع أن أهرب، أحتاج إلى معونتك، إلى حضورك، إلى يدك.

الخطيئة لم تعد تلك الحاضرة دومًا في حياتي. ولا الشيطان ذاك الذي أخاف منه يومًا بعد يوم، وأحسبه حاضرًا كأنّه ا؟ في وجه الشرّ، كلاّ ثمّ كلاّ. نحن في يد ا؟، نحن في خلاص ناله يسوع المسيح. فيجب ألاّ يُعمينا أيّ شيء. يسوع المسيح وحده هو أمام عيوننا.

يقول مار بولس: لا هذه الحياة ولا الأخرى، لا ملائكة ولا شياطين، لا غنى ولا فقر، لا عذاب أبدًا، لا شيء يبعدنا عن يسوع المسيح. نظرنا معلّق به، لا بالخطيئة ولا بأشخاص يرتبطون بالخطيئة من بعيد أو قريب.

يسوع هو الذي أخذ منّا كلّ هذا. وأفهمنا مار بولس في هذا الخطّ عينه أنّ المسيح فوق الرئاسات والسلاطين، فوق القوّات، فوق رئاسات الملائكة، فوق السماوات، فوق الكواكب، هو فوق كلّ شيء. وكلّ شيء يحتاج إليه، وكلّ شيء يعمل بأمره، وكلّ شيء يأتمر بوصاياه. فلماذا نخاف بعد اليوم؟ كلاّ ثمّ كلاّ. نحن أبناء الخلاص بعد أن مات يسوع. نحن أبناء الفداء بعد أن افتدانا يسوع، لا بالمال والفضّة بل بدمه الذكيّ. نحن أبناء القيامة بعد أن قام المسيح، قام من القبر ولم يعد في القبر، بعد أن قام فحمل إلى العالم الحياة، حمل إلينا الحياة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM