نزهنِّيِِ يا ربُ طهِرنّي مزمور:51

 

نزهنِّيِِ يا ربُ طهِرنّي.

مزمور:51

تأمّلُنا الرابع في المزمور 51 يمكن أن نعطيه العنوان التالي: نزِّهني يا ربّ، طهِّرني يا ربّ من كلّ عيب. بعد أن بيّن هذا الخاطئ خطيئته، تحدّث عن المعصية، عن الخطيئة، عن الذنب، عن الإثم. وبعد أن ربط نفسه برحمة الله، برأفته، تطلّع إلى العلاء، إلى الله الذي توجّه إليه في البداية. وبعد أن فهم هذا المؤمن، داود أو غيره، أنّ الخطيئة لا يمكن أن تكون إلاّ تجاه الله، لا تجاه البشر، فهمَ بعد ذلك أنّها تكون تجاه البشر. ونلاحظ خصوصًا في سفر اللاويّين كيف يقول الكتاب: لا تسرق أنا الربّ، لا تظلم الفقير أنا هو الربّ، يعني أنا الذي أقول لك هذا. ونفهم في هذا الإطار، الفرقَ الشاسع بين الكتاب المقدّس والنصوص القديمة.

1 - نخطأ تجاه الله

في النصوص القديمة: لا تسرق لئلاّ تُسرق، لا تقتل لئلاّ تُقتل. أمّا في الكتاب المقدّس فلا شخص يمكن أن نقرّ له بخطايانا وننال الغفران منه، إلاّ الله. وإذا اعترفنا أمام الملك وأمام القاضي، فهذا امتداد لما يمكن أن نفعله تجاه الله. الخطيئة هي هنا والله هو الذي يستقبل الخاطئ، والخاطئ يكون في ملء الثقة بالله. لهذا السبب تابع صلاتَه بعد أن بيّن أنّ الخطيئة ترافقه منذ كان طفلاً، منذ كان في أحشاء أمّه. ونتابع في المزمور 51 آية 8: احفظ حقّك في أعماقي، وعرِّفني أسرار الحكمة. طهِّرني بالزوفى فأطهُر، واغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج. أسمعني سرورًا وفرحًا، فتبتهج عظامي التي سحقتَها. احجب وجهك عن خطاياي وامح كلّ مآثمي، قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا الله، وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي. لا تطرحني من أمام وجهك، ولا تنزع روحك القدّوس منّي. رُدّ لي سروري بخلاصك، وأرسل روحك فتسندني.

قرأنا في 51: 8 - 14: الربّ وحده هو من ينقّي، هو من يطهّر الخاطئ من خطيئته.

احفظ حقّك في أعماقي. هنا نلاحظ أوّلاً الكلمة التي تعود إلى فعل الأمر: احفظ. نحن نطلب من الربّ: احفظ أنت حقّك أنت. ما معنى هذا الحقّ؟ نعني حقّ الله، وصايا الله، أمر الله، حضور الله. لا يمكن أن يكون هذا الحفظ فقط في الخارج، نعرف الوصايا غيبًا ولا نعمل بها، نعرف الإنجيل غيبًا ولا نطبّقه في حياتنا، كلاّ. ليكن الحقّ، الحكمة الإلهيّة، الوصايا في أعماق قلب الإنسان، بحيث تسير حياتنا بشكل طبيعيّ بحسب إرادة الله.

لنأخذ شجرة. إذا هذه الشجرة كانت برّيّة، فهي لا تُثمر، وإن وضعنا عليها بعض الثمار »لزّقناها تلزيقًا«. كلاّ. لكن عندما تطعَّم، يعني تدخل فيها ماويّة وعظمة الشجرة الجوّيّة، عندها تعطي الثمار. وإن توقّفت على هذا المستوى البرّيّ لن تعطي الثمار، وإن أثمرت سارت في حقّ الله، وصارت وصايا الله جزءًا من كياني بحيث أعيش بحسب الله من دون أيّ تعب، أو بالأحرى هناك تعب لكن بشكل طوعيّ. مثلاً لا يمكن أن تعطي التفاحة ثمرًا رديئًا. وكذلك نقول عن العلّيقة: لا يمكن أن تعطي ثمرًا صالحًا. يا ربّ احفظ حقَّك في أعماقي، عندها يكون الثمرُ فيّ بطريقة طبيعيّة.

2 - الزوفى المطهِّرة

كما يقول المثل: الإناء ينضح بما فيه. إذا كان قلبنا ممتلئًا بكلمة الله، بحكمة الله، فلا يمكن إلاّ أن تظهر هذه الكلمة،تظهر هذه الحكمة عند الجميع. احفظ حقَّك في أعماقي، وعرِّفني أسرار الحكمة. يعني عرّفني الحكمة وأنا وحدي معك، أنت وأنا. علّمني إيَّاها في السرّ دون أن يعرف أحد. لماذا؟ لأنّك تحبّ يا ربّ، العلاقة الحميمة بينك وبين أحبّائك، عرِّفني أسرار الحكمة. حينئذٍ ندخل في هذا السرّ الذي نعيشه، الذي تعيشه شعوب كثيرة. ولكن المؤمن هنا يطلب من الربّ أن يعرف أسرار الحكمة هذه.

طهّرني بالزوفى فأطهر. (آية 9) الزوفى هي نبتة تُستعمل في رشّ الدم على الخطأة أو على المذبح. وهي شجرة تتوقّف عند الزهر ولا تصل إلى الثمر. وتُستعمَل بصورة خاصّة لمريض البرص، فهو يحتاج للزوفى ليطهر. نتذكّر يسوع لمّا شفى ذلك الأبرص: أتى إليه، إن شئت فأنت قادر أن تطهّرني. شئتُ فكن طاهرًا، هنا نفهم أنّنا نحتاج إلى الزوفى لكي نطهُر، لكن يسوع لا يحتاج إلى الزوفى، كلمته وحدها فاعلة، أمّا هنا فيأخذ الكاهن بالزوفى بعض الدم ويرشّه على المذبح فيطهر. يرشّه على المؤمنين فيطهرون. وتعود كلمةُ غسل واغسلني، فأبيضّ أكثر من الثلج. إذا غسل أحد صار أبيض كالثلج. من فلسطين كانوا يرون الثلج على جبال حرمون ويمكن، خصوصًا في الجبل الغربيّ أن يرى الناس الثلج في بياضه، بنصاعته، بجماله. يصبح الإنسان أعظم منه وأجمل. نعم، بلا شكّ لأنّ الإنسان أعظم خلائق الله.

3 - عظمة الإنسان وخطيئته

الإنسان أعظم خلائق الله: اغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج، هنا نفهم إمكانيّة بقاء الإنسان في حواشٍ وضعها هو وتبقى دائمًا موجودة. اغسلني. نعود إلى الغسيل بما فيه من معنًى خارجيّ وداخليّ. فأبيضّ أكثر من الثلج. هو لا يحتاج إلى بياض كثير إذا أردنا. فالمهمّ أنّه يحتاج إلى غفران الله. هو في ضيعة صغيرة مع بعض المؤمنين. أسمعني سرورًا وفرحًا، فتبتهج عظامي التي سحقتها. احجب وجهك عن خطاياي، وامح كلّ مآثمي، أسمعني سرورًا وفرحًا.

لا شكّ، السرور والفرح هما علامة النجاح، علامة الانفتاح على الربّ يسوع. إذًا نحن نحتاج إلى السرور، إلى الفرح. بالخطيئة نحزن، نتذكّر مار بولس: إن كنتُ أحزنتكم بالرسالة فلا تحزن نفسي، لأنّ هذه الرسالة وإن كانت أحزنتكم ساعة إلاّ أنّها أتت بكم إلى التوبة. وأنا في الإثم وُلدت، وفي الخطيئة حبلت بي أمّي. احفظ حقّك في أعماقي، احفظه، وعرّفني أسرار الحكمة، طهِّرني فأبيضّ أكثر من الثلج، طهّرني بالزوفى، اغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج. أكثر من مرّة تأتي، فطهِّرني واغسلني. والهدف والمثال هو البياض الناصع، هو الثلج. أسمعني السرور والبهجة، فتبتهج عظامي التي سحقتها، احجب وجهك عن خطاياي وامحُ مآثمي.

في الماضي سُحقت عظامُ المؤمن، ربّما اعتبر أنّه مرضَ وكان هذا المرض سببه الخطيئة، أو هو أضاع بعض الشيء، أو خسر ولدًا من أولاده. سحقتني يا ربّ، سحقتني يا ربّ، وما أردتَ لي الفرح بل الحزن. هكذا ظنّ المؤمن. ولكنّ الله لا يسحق أحدًا، لهذا جاءت الكلمات الثلاث. أسمعني سرورًا، فرحًا، بهجة فأبتهج. ثلاث مرّات هذا الفرح وهذا السرور الذي يأتي على قلب المؤمن.

احجب وجهك عن خطاياي وامح كلّ آثامي، لا أريد بعد أن أرى خطاياي، احجبها عنّي. أنت لا تعود تراها، أنت محوتها من سجلّك، أنت لم يعد أمامك أيّ شيء إلاّ أن تحجب وجهك عن خطاياي. وامحُ كلّ مآثمي. لا تسمح أن تكون خطيئتي سببًا في مرض يؤلمني أو موتٍ يأخذني قبل الوقت. أجل، سلبيٌّا احجب وجهك عن خطاياي. إيجابيٌّا، قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا ا؟، وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي، قلبًا. نتذكّر أنّ القلب ليس فقط موضع العواطف البشريّة، من حقد، من حبّ، من حزن، إلخ...

4 - قلب الإنسان

القلب هو في الواقع ما به الإنسان يفكِّر، ما به الإنسان يقرِّر، الإرادة هي في القلب انطلاقًا من القلب. يمشي الإنسان ويتوجّه إلى الربّ، في إرميا 31: لم تعد الوصايا تُكتب على الورق، على الحجر، على الطروس أو غيرها. كلاّ، بل هي تُكتب في القلوب. والقلب الطاهر إليه تصل المغفرة، إليه يصل الفرح، قلبًا طاهرًا اخلق فيّ يا الله.

نلاحظ، أحبّائي، كلمة اخلق. خلق يعني كوَّن من جديد. ربّنا لا يرقّع ولا يُصَلِّح أمورًا بسرعة. كلاّ، ربّنا عندما يغفر يخلق من جديد. خلقَنا الربّ من جديد، لهذا لا نعود نطرح على أنفسنا أسئلة وأسئلة، أبدًا. قلبًا طاهرًا اخلق فيَّ يا الله. لا يعود الله يتذكّر أبدًا الخطيئة التي اقترفتُها قدّامه. روحًا جديدًا كوِّن في داخلي. ونلاحظ التوازي بين القلب والروح الطاهر والجديد. اخلق، كوِّن، فيّ أنا، في داخلي.

قمّة الكلمات: يا الله. وهكذا نقدر أن نقرأ 51: 12: قلبًا طاهرًا اخلق فيّ، روحًا جديدًا كوِّن في داخلي. كان بالإمكان أن لا نضع يا الله، لكن هذا المؤمن يصلِّي إلى ا؟، فلا الخطيئة ولا أيّ عطيّة من العطايا تستحقّ أن تميل بالربّ عن وجهنا لكي نتطلّع إليها، كلاّ.

لا شكّ في أنّ هذا الكلام سيجد تحقيقه الكامل مع العهد الجديد: روحًا جديدًا كوِّن في داخلي، وحده الله يكون في داخلنا. نتذكّر هنا كلّ هذا الصراع في العالم اليهوديّ في زمن المسيح، نفهم هنا أنّ هذا التكوين، تكوين الإنسان يكون في الداخل.

5 - روحُكَ القدّوس روحٌ جديد

روحًا جديدًا كوِّن في داخلي. أنت يا ربّ تخلق، أنت يا ربّ تكوِّن، أنت يا ربّ تكون حاضرًا وتكون فاعلاً. قلبًا طاهرًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي. ونعود إلى فعل الأمر. سلبيٌّا، لا تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع روحك القدّوس منّي. لا تطرحني من أمام وجهك، أي لا تبعدني، لا تمنع عنّي رضاك واهتمامك، نتذكّر أنَّ المؤمن أو الشخص الذي يقف أمام الملك عادةً يخفض عينيه ويحني رأسه لينظر إلى الأرض. هو لا يستحقّ أن ينظر إلى الشخص الذي يستقبله مهما كان. سواء كان ملكًا أو أمبراطورًا. وكلّ مؤمن مسيحيّ أو غير مسيحيّ لا يجسر أن يرفع رأسه إلى الله إن كان خاطئًا. لا تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع روحك القدّوس منّي. فالوجه سافرٌ حين ينظر الربّ إلينا بعين الرضى، لا نبتعد عنه، لا نمتنع عنه، نعرف أنّه هو من يرضى بنا ومن يهتمّ بنا.

ولا تنزع روحك القدّوس منّي. ردَّ لي سروري بخلاصك. وأرسل روحك فتسندني، وأعلّم الخطأة طرقك والخاطئون إليك يرجعون، نجّني من الدماء يا ا؟لله، أيّها الإله مخلّصي فيرنّم لساني بعدلك، افتح شفتيّ أيّها الربّ، فيجود فمي بالتهليل لك. أنت بذبيحةٍ لا تُسرّ وبمحرقة إذا قدّمتها لا ترضى. ذبيحتي لك يا الله روح منكسرة، والقلب المنكسر، المتخشّع، لا ترذله يا الله. القلب المنكسر المنسحق لا تحتقره. أحسن برضاك إلى صهيون، وابنِ أسوار أورشليم، فتسرّ بذبائح صاعدة، صادقة، وبمحرقةٍ وتقدمةٍ تامّة، بعجول تقرَّب على مذابحك.

آ 14: رُدّ لي سروري بخلاصك، قبل الخطيئة كنت مسرورًا، كنت فرحًا، كنت مبتهجًا، لما جاءت الخطيئة راح السرور، راح الفرح.

نتذكّر ذلك الشابّ الغنيّ الذي جاء إلى يسوع. قال له: أريد أن أرث الحياة الأبديّة، قال له يسوع: احفظ الوصايا. وحفظَها بلا شكّ، وبعدها جاء إلى يسوع والفرح يملأ قلبه. الشابّ سأل سؤالاً أوّل: ماذا أفعل؟ ثمّ ماذا أفعل بعد ذلك؟ لكن حين طلب منه يسوع أن يترك كلّ شيء ويمشي وراءه، يقول الإنجيل: مضى حزينًا، ذاك هو الخاطئ. يمضي حزينًا من أمام وجه الله. والمؤمن يقول: كنت مسرورًا، والآن زال السرور عنّي لأنّي ابتعدت عنك. فيطلب: رُدَّ لي سروري. ولماذا يستطيع أن يستردّ السرور؟ لأنّ الربّ هو الذي خلّصه. بعد أن نلت خلاصك يا ربّ، رُدَّ لي هذا السرور، وأرسل روحك فتسندني.

نعم يا رب، تريدنا أن نعرف أين هو الفعل الأساسيّ؟ فعلك أنت الذي يتجاوب فعلُنا معه.

باركنا يا ربّ، قلبًا طاهرًا امنحنا، روحًا جديدًا كوِّن فينا، أعطنا سرورك وبهجتك، فإن كنّا خطأة نركع أمامك تائبين، وفي أيّ حال تستقبلنا بالفرح والسرور. هكذا قلتَ لابنك الأكبر: لنفرح ونمرح لأنّ أخاك هذا، كان ميتًا وعاش وضالاٌّ فوجد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM