ِأناخاطىءأمام الله.
مزمور:51
هذا المزمور 51 مزمور غنيّ. غنَّاه الآلاف والملايين قبل أن يُكتب أو بعدما كُتب. كلّ إنسان خاطئ يستطيع أن يُنشده. خصوصًا كلّ هؤلاء التائبين في زمن الصوم المقدَّس، أو في أيّ وقت كان. ارحمني يا الله. هو المزمور الذي يجعل الإنسان الخاطئ أمام الله وحده. أنا خاطئ أمام الله. هذا هو عنوان التأمّل الثالث في مزمور 51، وما زلنا في بدايته. فكلام الهل لا يُقرأ بسرعة، كمن يبلع الطعام دون أن يتذوّقه، دون أن يعرف طعمه. وفي أيّ حال، الأكل بسرعة لا يمكن أن يفيد الإنسان كثيرًا. وقراءة كلام الله بسرعة لا يمكن أن تفيد الإنسان كثيرًا. لا نخاف نحن أن نتوقّف عند كلّ كلمة فنفهم هذه العلاقة بين الإنسان الخاطئ الذي يطلب الرحمة، والله الغافر الذي يقف المؤمن تجاهه.
1 - توجّه إلى الله
نعود إلى قراءة ارحمني يا الله برحمتك... مزمور 51: 3. في هذا القسم الأوّل، السيطرة هي لضمير المتكلّم. أنا آتٍ أحمل خطيئتي إلى الربّ. لكن في آية 6-7 يسيطر ضمير المخاطب. إليك أنت، وحدك أنت خطئتُ. وأمام عينيك أنت فعلتُ الشرّ...
إذًا في القسم الثاني الكلام يتوجَّه إلى الله... هو الذي يقول ما هي الخطيئة، وما ليست الخطيئة. في حياتنا اليوميّة، هناك خلط كبير بين الخطيئة وبين الخطأ. لا يمكن الخطأ إلاّ أن يعارض أمورًا في الحياة اليوميّة. ولدٌ كسر الإبريق، كسر الكأس. يعتبر نفسه خاطئًا فيذهب ويقرّ بخطيئته أمام الكاهن، أو في أعماق قلبه. أو فتاة لا تسير حسب العادات في المنطقة التي تعيش فيها، أو شابّ لا يتصرّف كما يتصرّف الشيوخ. هذه ليست خطايا. الخطيئة تكون خطيئة في اتّصالها بالربّ. إن لم يكن هناك اتّصال بالربّ، فلا خطيئة. ولولا وجود الله ما كان هناك خطيئة. فالخطيئة هي علاقة سلبيّة بالله.
عادةً علاقتنا بالله علاقة إيجابيّة، كما الأب مع ابنه والأم مع ابنتها. لكن الخطيئة هي علاقة سلبيّة. بدلاً من أن نقترب من الله نبتعد عنه، مثل الابن الضالّ الذي ذهب إلى البعيد. علاقة سلبيّة نقول ولا نفعل، مثل هذا الشابّ في الإنجيل: أرسل الربّ (الأب) اثنين: الأوّل قال له: اذهب إلى كرمي. قال: نعم، ولكنّه لم يذهب. فهذا الشخص عاش في الكذب مع الله. وعدَه وما وفى بوعده. إذًا هذه العلاقة السلبيّة لا يمكن إلاّ أن تجعل هوّة كبيرة، بحيث لا نستطيع بعدُ أن نستعيد العلاقة مع الربّ التي هي الوضع الطبيعيّ بالنسبة للمؤمن، إلاّ بواسطة المسيح وبواسطة الكنيسة جسد المسيح.
هنا نلاحظ أنّ المؤمن لا يتطلَّع إلاّ إلى الله. ويطلب منه أن يغسلَه: اغسلني جيّدًا من إثمي، ومن خطيئتي طهِّرني. هناك اغتسال في الطقوس القديمة، ونحن نعرف أهمّيّة الأنهار حتّى في العهد القديم، يغتسلون كلّ يوم قبل الظهر وقبل الطعام لأنّ الطعام فعلٌ مقدَّس. وهم يغتسلون لكي يكونوا طاهرين فيستطيعوا أن يأكلوا من هذا الطعام.
2 - العماد رمز التطهير
وكانت جماعة العماديّين الذين يشدّدون على العماد، والذين بينهم انخرط يوحنّا المعمدان، كانوا يعتبرون أنّ الإنسان يغتسل، يأتي إلى نهر الأردنّ فيغتسل هناك ويقرّ بخطيئته. وهذا النهر صار مقدَّسًا لأنّ يسوع عبره، لأنّ إيليّا وأليشاع عبراه، لأنّ هذا النهر في النهاية صار الموضع الذي مرَّ فيه الشعب كما على اليابسة. ويُشدِّد الكتاب ويُبرز أنّ ذلك كان في زمن الربيع. قد يكون هناك سبب لا نعرفه. إمّا سقط بعض الجبل وتوقّف النهر. إذًا نكون أمام معجزة. الناس يسمّونها صدفة. لكن بالنسبة للمؤمن لا مكان للصدفة. فالربّ هو الذي يؤمّن لأحبّائه ما يحتاجون إليه. إذًا يعرف المؤمن أنّ هذا الغسل الخارجيّ، ولو كان في نهر الأردنّ، لا ينفعُ شيئًا إن لم يرافقهُ الغسل الداخليّ.
يوحنّا المعمدان حين عمَّد الآتين إليه كان يقول كما في إنجيل متّى: أيّها الحيّات أولاد الأفاعي، لماذا هذا الالتواء، هذا الاعوجاج؟ تقولون أتينا لنعتمد، ما قيمة هذا العماد من دون ثمرة للتوبة؟ ويقول متّى أيضًا: ها الفأس على أصل الشجرة. كلّ شجرة لا تُثمر تُقطَع وتُلقى في النار.
إنّ هذا الغسل الخارجيّ يفترض اهتداءً أيضًا: هو توبة عن الحياة الماضية. ولكن في المسيحيّة صار عندنا غسلٌ آخر هو غسل المعموديّة. يقول مار بولس: اغتسلتم، تطهّرتم، تقدّستم. هناك غسل من نوعٍ آخر. وكذا نقول بالنسبة إلى الهيكل، كان هناك هيكل واحد يأتي إليه اليهود من كلّ صوبٍ وحدب لكي يقدّموا فيه الذبيحة. وإن كان الإنسان بعيدًا، فلا يستطيع أن يقدِّم الذبيحة.
لهذا السبب سيقول يسوع: أين تعبدون الله، لا في أورشليم ولا في هيكل أورشليم. ولا على جبل جرزيم، جبل السامريّين. كلاّ. الربّ تعبدونه في كلّ مكان، لأنّ العبادة الحقيقيّة ليست العمل الخارجيّ، وإن يكن العمل الخارجيّ يُعَبِّر عن الموقف الداخليّ، لكنّ العمل العظيم هو عبادة الربّ في كلّ مكان، لأنّ كلّ مكان يُصبح هيكل الربّ. والربّ يحلُّ عليكم، فلا حاجة للذهاب إلى البعيد لتبحثوا عن الربّ. هو حاضر بينكم، هو فاعل فيكم.
وهذه المعموديّة تتمّ في أيّ مكان، لا فقط على نهر الأردنّ. وصلاة المؤمن لا تتمّ فقط في الهيكل. والذبيحة لا تنحصر في هيكل سليمان. ماذا يفعل الإنسان الفقير الذي هو بعيد عن فلسطين؟ أما يقدر أن يقدِّم ذبائح بعد؟ كلاّ، في نظر العالم اليهوديّ. أمّا في نظر العالم المسيحيّ فنستطيع أن نذبح الذبيحة في أيّ مكان. وخصوصًا لا حاجز بعد، كلّهم يستطيعون أن يقدِّموا الذبيحة. وإن هم لم يشاءوا أن يكونوا مع الآخرين بسبب مرضٍ معدٍ، ففي الواقع بالنسبة إلى الربّ، لا فرقَ بين المريض وصاحب الصحّة، بين الخاطئ والبارّ. كلّهم مدعوّون إلى البيت، كلّهم يستطيعون أن يذبحوا الذبيحة.
وهنا نفهم بشكلٍ خاصّ أنّ هذا الغسل الخارجيّ الذي يقدّمه لنا خادم السرّ، إنّما هو غسلٌ أعمق بكثير ممّا كان يقوله يوحنّا المعمدان للآتين إليه. هذا الغسل هو غسلٌ حقيقيّ، لا يقوم به الإنسان، بل يقوم به الربّ. لهذا السبب يأخذ الإنسان هذه النعمة مجّانًا من الربّ. لأنّ الربّ هو الذي ربط في عهده الإنسان بالله. في العهد القديم كان هناك أكثر من عهد، أمّا في العهد الجديد، فالعهد مع يسوع المسيح هو العهد الجديد الأبديّ، كما يقول حزقيال أو كما يقول إرميا. لهذا السبب حين نغتسل نصبح أطهارًا.
3 - المؤمن أمام خطيئته
في آية 6: إليك وحدك خطئت. إذا انتبهنا، قبل قليل قلنا: خطيئتي أمامي كلّ حين. أنا عالم بمعاصيّ. إذًا هذا الإنسان كما قلت يبوح بمرضه. أي يخبر عن خطيئته لكي يأتي الطبيب الشافي إليه.
وخطيئتي أمامي كلّ حين، لا من وقت إلى آخر، حتّى أنسى خطيئتي بكثرة الحركة والعمل. كلاّ. خطيئتي أمامي، أينما تحرّكت أعرف أنّي خاطئ أمام الله القدّوس. إليك وحدك خطئت وأمام عينيك فعلتُ الشرّ. إليك أنت وحدك خطئت. داود لا يتحدّث عن خطيئة ضدّ البشر. خطيئة ضدّ الأهل، ضدّ المجتمع، كلاّ ثمّ كلاّ. ونفهم هنا كلّ هذه الاضطهادات خصوصًا في بعض الدول التي تعيش الاستبداد. أو بعض الأحزاب التي تعتبر أنّ المجتمع له متطلّباته كما بالنسبة إلى الإنسان.
كلاّ، المجتمع لا متطلّبات له، لا يحقّ للعالم أن يطالبنا بأيّ شيء. أبدًا. علاقتنا نحن كخطأة هي تجاه الله، أمام الله. إليك وحدك خطئت، وهذا مهمّ جدٌّا. لك وحدك يا ربّ يمكن أن نركع ونستقبل غفرانك، وأمام عينيك فعلتُ الشرّ، إذًا أمام الله، أمام عينيه كأنّني مهمّ جدٌّا هنا كأنّي أريد أن أتحدّى الله. نقول بالعربيّة العاميّة: »عيني وعينك يا تاجر«. بعملي تحدّيتك يا ألله، ونسيت مركزي، ونسيت أنّني لا أستطيع شيئًا بدونك. إليك وحدك خطئت وأمام عينيك. ننتبه إلى ما سبق وقال له: أنا عالم بمعاصيّ (آية 5). يعني فعلتُ خطيئتي عن معرفة، عن سابق علم، لم أكن جاهلاً، لم أكن مكرَهًا حين عملتُ هذا العمل المشين من زنًى وقتلٍ وسرقة.
4 - الخطيئة عمل ضدّ الله
وهنا يقول له: إليك وحدك خطئت، وأمام عينيك فعلتُ الشرّ. كما قلنا هناك التحدّي. العينان، كان بإمكانهما أن تصنعا خيرًا آخر. لكن يمكن أن يقول الإنسان: الربّ هو الذي ظلمني، وضع أمامي الخطيئة، وضع أمامي الحياة والموت، كما في سفر التثنية. وكانت النهاية هذه التي أمامنا، ونقرأ ما يقول هنا: إليك وحدك خطئت وأمام عينيك فعلت الشرّ. لا لأنّي فعلتُ كذا وكذا. كلاّ. لا يطلب أبدًا أيّ اعتذار. أبدًا. لا عذر لي أبدًا.
هنا نتذكّر آدم وحوّاء، وكلّ إنسان منّا لا شكّ. ماذا فعلتَ يا آدم؟ هي المرأة. المرأة التي أعطيتني أنت إيّاها. يعني ليست فقط المرأة هي التي خطئت. وليس هو أيضًا. مهمّ جدٌّا أن نفهم أنّ الخطيئة ليست في أن نقول الحقّ هو على ربّنا، الحقّ على الآخر، كلاّ. أنا المسؤول الأوَّل. أنت قلتَ وأنت صادق في أقوالك، كما يقول المزمور: الله صادق وكلّ إنسان كاذب. نقول: إبراهيم تطلّع إلى امرأته واعتبرها سبب الخطيئة. والشيء ذاته بالنسبة إلى آدم. آدم اعتبر أنّ الخطيئة هي من امرأته التي جعلها الله. قال الله: المرأة التي أعطيتني أنت. فإذًا أنت السبب البعيد لأنّي أنا خطئت، كلاّ، هنا آدم خطّأ وأخطأ، وحوّاء أيضًا. يقول له: أنت صادق في أقوالك، أنت قلت وأنا أتّكل على صدقك بالنسبة إليّ، وأنتَ مبرّرٌ في الحكم عليّ. إذًا أنا لستُ بارٌّا، بريئًا، من عمل السرقة أو أيّ خطيئة كانت. وقال: ومبرَّرٌ في الحكم عليّ، يعني المؤمن لا يخطِّئ لله. لا يعتبر الله مسؤولاً عن خطيئته، كلاّ، أنا مسؤول عن الشرّ، أنا مسؤول عن الخطيئة. يقول الربّ: هو لا يحب موت الخطأة، بل عودتهم. إذًا هذا الموت لا يمكن لأحدٍ أن يحبّه. إذًا أنت فعلتَ ما يجب أن تفعل، شكرًا لك يا ربّ.
5 - الخطيئة تلازم الإنسان
وفي الخطيئة حبلت بي أمّي، هو كلام عن الخطيئة التي تُلازم الإنسان منذ وجوده على الأرض، ولو في خليّة صغيرة، لا يمكن أن تُرى بالعين المجرّدة. وأنا في الإثم وُلدتُ. هذا لا يعني الخطيئة الأصليّة واللاهوت الذي يمكن أن يلتصق بهذه العبارة. كلاّ ثمّ كلاّ. لسنا هنا على مستوى اللاهوت، بل على المستوى البسيط، مُبرَّرٌ في الحكم عليَّ، أنت حكمتَ عليَّ وأنا أتقبّل حكمك. ولكن يبقى أنّ هذه الخطيئة التي يتحدّث عنها المزمور لا ترتبط بهذا اللاهوت الكاثوليكيّ، ولكنّها تشدّد على أنّ الخطيئة ترافق الإنسان منذ بداية حياته إلى نهايتها. إن كانت هناك خطيئة أصليّة سواء آمن القدّيسون أم لم يؤمنوا، فهم يعرفون حقٌّا أنّ الخطيئة ترافق الإنسان من المهد إلى اللحد.
في هذا المجال قال بولس الرسول: الخير الذي أريده لا أفعله، والشرّ الذي لا أريده إيّاه أفعل. من جهة الخطيئة التي يقترفها الإنسان، ومن جهة ثانية يمكن أن نقول: لولا وجود الله لما كانت الخطيئة، لأنّ كلّ خطيئة تدلّ على علاقة سلبيّة. وهذه الخطيئة التي ترافق المؤمن، تذكّرنا بما قاله بولس في الرسالة إلى رومة: الخير الذي أريده لا أفعله. والشرّ الذي لا أريده إيّاه أفعل. هذه هي الكلمة الهامّة: وفي الخطيئة حبلت بي أمّي، يعني مذ تصوّرت في حشا أمّي، فأنا معرَّض للخطيئة، وهذا هو عمق هذا القلب المؤمن الذي يرى عمل الله في كلّ شيء ويرى غفرانه خصوصًا حين تكون الخطيئة ساهرة.
هكذا أحبّائي، في هذا القسم من المزمور 51، فهمنا من جهة أنّي أنا الإنسان أقدم للربّ خطاياي، وأنّ ابن الله هو الذي بيده أستطيع أن أكون بكلّيّتي لله.
نعم يا ربّ أنا أقدّم لك حياتي، أعرف ضعفي وخطيئتي، فلا يبقى لي إلاّ أن أتّكل على رحمتك وغفرانك. والخطيئة التي ترافقني طوال حياتي في النهاية، سيكون النصر لي فيك أنت يا من غلبت العالم وجعلت الشرّ والموت والخطيئة تحت قدميك. آمين.