خاطىء يطلب المغفرة مزمور:51

 

خاطىءيطلب المغفرة.

مزمور:51

1 - نعترف، نقرّ بخطايانا

يصوّر هذا المزمور خاطئًا يطلب البركة، يطلُب المغفرة. هذا الخاطئ يبدأ في الكلمة الأولى بطلب الرحمة فيقول المزمور 51. هذا المزمور هو في أساسه توسّل فرديّ. الفردُ يطلُب إلى الله. يتوسَّل إلى الله. يصلّي إلى الله، وصلاتُهُ هي صلاة الخاطئ. لا شكّ. نحن عندما نأتي لنقرّ بخطايانا لنعترِف، نبدأ أوّلاً فنعترف بعظمة الله، نعترف بقداسة الله. نعترف بأنّ الهل الذي أغظناه هو أكبر من كلّ ما يمكن أن نتخيّل.

ونعترف بأنّه هو إله الرحمة وإله الغفران، وإلاّ لما أتينا إليه نقرّ أمامه بخطايانا. لو لم يكن عندنا هذه الثقة العميقة بأنّه يستقبلنا كما الأب يستقبل ابنَهُ والأمّ ابنتها. يستقبلُنا بالعيد، بالزغردة، بالفرح، بالأناشيد والوليمة الكبيرة، لما كنّا نأتي إليه. ولو لم نكن متوكّلين أنّه هو الذي يغفِر لنا لما أتينا وطلبنا منهُ الغفران، ولما قلنا له: ارحمنا يا الله.

مزمور توسّل أنشده داود أو أنشدهُ أشخاص بعدهُ أو قبلهُ. ما همّ. المهمّ هو أنّي أنا اليوم أستطيع أن أنشدهُ كما أنشده ذاك العشّار حين دخل إلى الهيكل. أنا أيضًا أستطيع أن أنشده، أنا الخاطئ. يقول يوحنّا في الرسالة الأولى: من قال أنا بلا خطيئة هذا كاذب. لكن إذا اعترفنا بخطايانا فالربُّ رحيمٌ غفورٌ.

من لا خطيئة عنده لا يحتاج أن يأتي إلى الربّ، وبالتالي لن يكون حاضرًا أمام الربّ، لن ينعم بهذا الحضور. وأمّا إذا جاء من فوق مِثل الفرّيسيّ وأراد أن يفرض نفسَهُ على ا؟ كما فعل بُناة برج بابل، سيكون له الضياع، ستكون نهايته بدون نهاية. يقول الإنجيل: رجع العشّار الذي طلب الرحمة مبرّرًا، لا الفرّيسيّ الذي كان يُعتبر قدّيسًا، كان يعتبر مُكرّسًا للربّ، منفصلاً عن الناس. منفصلاً عن الخطايا الطقسيّة. كلّ هذا لا ينفع أمام الربّ.

2 - غفران هو تجديد

وسوف نرى في ما بعد أنّ المرتّل لا يطلب فقط الغفران. لا يطلب فقط الرحمة. بل هو يريد من الربّ أن يجدّدَه تجديدًا كاملاً. نحن نغفِر، ولكنّنا لا نغفر من كُلّ قلوبنا. وحدهُ الله يغفرُ كلّ المغفرة. فنحن وإن غفرنا تبقى آثار لا يمكن أن تُمحى على مستوى البشر. يبقى جرح بليغ في جسمنا وهو يُحرّك عاطفتنا من يومٍ إلى آخر.

عندما نغفر نترك بعض الأشياء، ونعود إلى الإنسان فنقول له أكثر من مرّة: لا تنسَ أنا غفرتُ لك. أمّا الله فلا يذكّرنا مرّة واحدة بأنّه غفر لنا. هو مستعدّ أن يغفر كأنّما غفرانه للمرّة الأولى. شكرًا لك يا ربّ فأنت إله لا إنسان، ولا تعاملنا كما يُعامِل الإنسان أخاه، فيعاقبه وكأنّه يريد أن يُفهمهُ أنّه هو السيّد، أنّه هو المشترع وأنّ على أخيه أن يتبعه ويخضع له. مع أنّك يا ربّ أنت السيّد، أنت المشترِع، لم تقبل يومًا أن نخضع لك خضوع العبيد، خضوع الأذلاّء، خضوع الضعفاء. كلاّ ثمّ كلاّ.

جاء ابنُك، الابن الأصغر، من مكانٍ بعيد، من العالم الوثنيّ، من بين الخنازير التي يرعاها، لا شكّ، حافي الرجلين بثياب ممزّقة بحالةٍ يُرثى لها. كان بالإمكان أن تفعل به ما تشاء. كلاّ. بل لم تسألهُ سؤالاً، لم تعاقبْه على ما فعل. لم تقُل له: أين المال الذي أخدتَه من البيت الوالديّ؟ لم تقُلْ له شيئًا. قبَّلتَه وصنعتَ له العيد وأيّ عيد بحيث إنّ الابن الأكبر الذي يعتبر نفسَهُ بارٌّا، عارض هذا العيد ورفض أن يشارك في هذا العيد.

عجيب أنت يا ربّ في تصرّفاتك مع الخطأة. تَشكّك الابن الأكبر ونحنُ أيضًا نتشكّك كيف تُعامِل الخطأة مع أنّك قلت لنا في الإنجيل يا يسوع: ملائكة السماء يفرحون بخاطئ واحد يعود أكثر منه من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى التوبة. نعم أنت عندما تغفِر تُقدّم الغفران الكامل فلا تُبقي أثرًا. فكأنّك تنسى كلّ شيء أو بالأحرى أنت تنسى كلّ شيء.

3 - غفرانه فيض حنان

مزمور أصلّيه أنا وحدي يا ربّ في المساء، فأطلب منك الرحمة بعد نهارٍ كامل حاولتُ النشيد: جمعتَ موتنا بحياتك نحنُ المائتين نحنُ الضعفاء. جمعتنا يا ربّ في حياتك، فشكرًا لك يا ربّ وشكرًا لك. ارحمني يا الله برحمتك. نحنُ لا نستحقّ الغفران ولكنّك تعطيه لأنّك إله المجّانيّة. لأنّك إله الحبّ.

لا تنتظر لكي تفعل. لا تنتظِر لكي تكون حاضرًا. لا. لا نستطيع أن نقول: الله يحبّ الإنسان عندما يكون بارٌّا ولا يحبّه عندما يكون خاطئًا. هذه نظرتنا نحنُ، أمّا الله فينظر إلى الإنسان، رجلاً أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، غنيٌّا أو فقيرًا، ينظر هو إلى هذا الإنسان. ليس رقمًا من الأرقام 250، 312. كلاّ ثمّ كلاّ.

الله إن كنّا أبرارًا أحبّنا، وإن كنّا خطأة أحبّنا أكثر، لأنّنا نحتاج أكثر إلى رحمته وغفرانه كما قال بولس الرسول: حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة. لا شكّ سوف نتشكّك. سوف لا نرضى. أين هي العدالة الإلهيّة؟ هذا الخاطئ يجب أن يُعاقَب هنا على هذه الأرض.

هذا كان في العالم الوثنيّ وهذا كان في العالم العبرانيّ. يخطأ الإنسان فيعاقَب حالاً. لماذا؟ لأنّهم كانوا لا يؤمنون بالحياة الأبديّة، ولم يكونوا يرتفعون فوق أمور الأرض. إذا كان الإنسان فاضِلاً تُعطى له الصحّة، يُعطى العمرَ الطويل والأولاد. يُعطى له المال الوفير. كلّ هذه سوف تزول حين يفهم الإنسان أنّ سعادته أبعد من سعادة مادّيّة. إنّ سعادته لا تتوقّف عند الأكل والشرب وغيرهما من الملذّات. كلاّ ثمّ كلاّ. السعادة هي في القلب، قبل أن تكون في أعمال خارجيّة. هل السعادة هي للغنيّ الذي يستطيع أن يأكل وأن يشرب ولا تكون للفقير؟ هل تكون السعادة للذي يستطيع أن يأتي بخمس نساء أو عشر نساء؟ أو أن يزني هنا وهناك لأنّ المال في يده؟ هل هذه هي السعادة؟ كلاّ ثمّ كلاّ.

4 - الله يبرّر الإنسان

هذا المزمور سوف يعلّمنا أنّ الله يُبرّر الإنسان. أصلّيه في الجماعة. في الماضي كانت الجماعة تأتي إلى الهيكل. تُصلّي هذا المزمور وهي تحمل الذبائح، فتدُلّ على توبتها وعطاء ذاتها ؟. ونحنُ يمكن أن نصلّيه خاصّة في حفلات التوبة الجماعيّة. كلّنا خطأة كلّنا شعب من الخطأة. لا يستطيع أحد أن يقول: لستُ مثلَ هؤلاء كما قال الفرّيسيّ. لستُ مثل هذا العشّار، فأنا مميّز عن الباقين.

هي خطيئة سقط فيها سمعان بطرس ليلة النزاع وبعد العشاء السرّيّ. قال لهم يسوع: سوف تشكّون فيّ كلّكم. لا، قال سمعان: أنا لن أشكّ فيك. وفي الواقع هذا الذي اعتدّ بنفسه واعتبر ذاتهُ قويٌّا يستطيع أن يقاوم التجربة، سقط في التجربة وأنكر مُعلّمه، لا أمام الولاة والحكّام، بل أمام جارية، أمام بوّابة. أمام شخصٍ بسيط أنكر معلّمه، فماذا كان فعل لو مثُل أمام الملك وأمام الإمبراطور؟

لكن الحمد لله ستتبدّل الأمور في ما بعد، وبطرس سيقول أمام المجمع اليهوديّ في أورشليم: مَن تُريدون أن نسمع الناس أم الله؟ ولمّا جُلِدَ هو ورفاقه فرحوا لأنّهم اعتُبروا أهلاً لأن يتألّموا من أجل اسم يسوع. إذن بطرس أراد أن يُظهر نفسهُ فوق الخطيئة. كلاّ. لا بارّ ولا واحد.

والجماعة عندما تأتي لتعترف بخطاياها تفهم كلّها ويفهم كلّ واحد أنّه خاطئ وأنّه بحاجة إلى غفران الله، إلى مسامحته وحنانه، إلى رحمته. في الماضي كانوا يقدّمون الذبيحة فيدلّون على توبتهم، واليوم نجتمع مع بعضنا. لا نحتاجُ إلى ذبيحة خارجيّة، ذبيحتنا الوحيدة هي يسوع المسيح الذي مات من أجل خطايانا. الذي مات لكي يخلّصنا من الشرّ والموت والخطيئة.

ونحن حين نشارك في هذه التوبة الجماعيّة، نحمِلُ مع المسيح، مع جسد المسيح، نحملُ أجسادَنا، ومع دمِ المسيح نحمِلُ دماءَنا. يعني نحمل ذواتنا مع المسيح ونحمِلُ حياتنا مع المسيح. نقدِّمُ حياتنا للمسيح لأنّهُ الله. والخطيئة بشكل إجماليّ، لا شكّ الخطيئة، بها دخل الموت. دخل المرض. لكن خطيئتي أنا هذه لا تسبّب هذه »الضربة«.

ونسمعها كثيرًا: ماذا فعلتُ بالربّ لكي يضربني، لكي يأخذ صحّتي، يأخذ منّي ابني، يحرمني أموالي؟ هذه كلمات وثنيّة، لا نستطيع بعد أن نقولها. كلاّ ثمّ كلاّ. الله نحنُ عندما نأتي إليه، نفهم أنّ سعادتنا معه هي أعمق من كلّ شيء. يقول المزمور: تمسكني بيدي اليمنى وإلى المجدِ ترفعني. لا أنتظر شيئًا على الأرض، وإن كنتَ في السماء لا أنتظر إلاّ أنت يا ربّ.

5 - خطاياي، معاصيّ

ارحمني يا الله برحمتك وبكثرةِ رأفتك امحُ معاصيّ. إذن هنا التوازن في الآية الواحدة: امحُ معاصيّ. يعني هي أكثر من خطيئة العصيان، التمرّد على الربّ خصوصًا ذاك »القويّ« الذي يفعل ما فعلَه آدم. يحسبُ نفسَه إلهًا وهو بالتالي يستطيع أن يقرّر ما هو خير وما هو شرّ. هذا ما نقول بالرمز: شجرة معرفة الخير والشرّ. هذه الشجرة ماذا تعطي؟ ثمر معرفة الخير والشرّ، والإنسان الذي يأكل من هذه الثمرة يعتبر نفسه على مستوى الله.

تقول وصيّة الله: لا تقتُلْ. أنا أقتُلْ... تقول: لا تزنِ. أنا أزني. تقول: لا تسرقْ. أنا أسرق، وأعيش حياتي على جانب وصايا الله. معاصيّ امحُها يا ربّ، وكما قُلنا برحمتك نقول هنا برأفتك. الرحمة إذًا تدلّ على علاقة الأمّ بابنها وهو الذي حبلت به في الرحم في الحشى. والرأفة تدلّ على هذا الحنان على هذا الاهتمام بالضعفاء بالذين لا يقدرون أن يتدبّروا أمورهم. رأفة بالطفل، رأفة بالحيوان. وأمور عديدة من هذا النوع.

النبيّ المُصلّي، الملك داود، تطلّع إلى رحمة الله وإلى رأفة الله. وعاد إلى الصور اليوميّة: اغسلني. إنسان توسّخ يغتسِل. وفي الطقوس القديمة اللامسيحيّة، حتّى اليوم الغُسل أمر مهمّ جدٌّا. يغتسلون قبل أن يقدّموا الذبيحة. يغتسلون قبل الصلاة حتّى يكونوا في حالةٍ طاهرة. ونقول: هل الغسل بالماء هو الذي يطهّر الإنسان؟ في الطقوس الماضية كان يُمنع على الإنسان أن يقدّم ذبيحة إن لم يَغتسل، ولهذا كانت مواضِع الصلاة قرب الأنهُر أو قرب الينابيع. وسليمان عندما بنى الهيكل على تلّةِ صهيون، أقدس مكان في أورشليم، جعل عند الباب حوضين كبيرين من الماء لكي يغتسِل كلّ إنسان ويفهم أنّ هذا الغسل الخارجيّ يعبّر عن توبة حقيقيّة ويتكلّم عن غسلٍ داخليّ.

6 - غسل خارجيّ وغسل داخليّ

نتذكّر مثلاً بيلاطس: غسل يديه ولكنّه تهرّب من الخطيئة وتهرّب من المسؤوليّة. ومرّات عديدة هناك الغسل الذي لا يمكن إلاّ أن يدلّ على نظافة خارجيّة فيكون صورة عن نظافة داخليّة. ويقول: اغسلني جيّدًا لا غسلاً سريعًا. يعني حتّى الجذور. حتّى الأعماق. اغسلني فأصبح إنسانًا جديدًا.

اغسلْني جيّدًا من إثمي، ومن خطيئتي طهّرني. نلاحظ التوازي هنا. اغسلْني، طهّرْني من إثمي، من خطيئتي. تأتي اللفظة مرّتين وقد جاءت أوّلاً »معاصيّ«. على كلّ حال سوف نعود في الآية 5 إلى كلمة معاصيّ، أنا عالمٌ بمعاصيّ، وإلى كلمة خطيئة: وخطيئتي أمامي في كلّ حين.

نقرأ الآيات فنلاحظ الضمير المتكلّم المفرد: أنا، ارحمني أنا، معاصيّ أنا، اغسلني أنا من إثمي، أنا من خطيئتي. أنا طهّرني أنا: أنا عالم بمعاصيّ، وخطيئتي أمامي كلّ حين. وماذا هناك من ضمير آخر؟ الـ كاف، ضمير المخاطب. برحمتك أنت، لكثرة رأفتك أنت. أمام عينيك أنت فعلتُ الشرّ.

نلاحظ كيف أنّ المؤمن يعود إلى نفسه ويرفع خطيئتهُ وهو متأكّد أنّه لا يستطيع أبدًا أن يزيلها، لا يستطيع أبدًا أن يعوّض عمّا فعلهُ من شرّ. الله وحده هو من يغفر له خطيئته ومن يحملُ له المسامحة. لهذا كان وجود ضمير المخاطب أنت، وخصوصًا فعل الأمر ارحمني، امحُ، اغسلْني، طهِّرْني. كم مرّة يأتي هذا الفعل في صيغة الأمر.

المؤمن يقول هنا: اغسِلْني، طهِّرْني: أنا عالم بمعاصيّ، وخطيئتي أمامي كلّ حين. هكذا بدأ الكاتب يعرض خطيئته، يجعلها مُبسّطة. لا يُريد أن يُخفي أيّ شيء، يفتح قلبه كلّ الانفتاح على رحمة الله. نعم، حين نعترف بخطايانا، نقرّ بخطايانا، ننفتح كلّ الانفتاح ونستعدّ للغفران. نتخيّل مريضًا: إذا لم يُخبر الطبيب بما عنده لا يستطيع الطبيب أن يعطيه الدواء. فإن قال له الحقيقة كاملة يستطيع الطبيب أن يعطيه الدواء. ونحنُ إن شرحنا قلبنا، إن فتحنا قلبنا، إن أظهرنا خطيئتنا ولم نبتعِدْ عنها ولم ننكرها بل أخذناها بكلّ مسؤوليّة، الربّ يغفر لنا. هنيئًا لنا إن فتحنا قلبنا على الله فلا يمكن إلاّ أن يلتقي مع قلب الله. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM