الفصل 9: الأبرار والأشرار في يوم الحساب

الأبرار والأشرار في يوم الحساب (5:1 - 23)

أ - المقدمة

في هذه اللوحة التي تمثّل الدينونة العامة، لا يهتمّ الكاتب بالحُكم المعلن، بقَدر ما يهتمّ بحالة نفس الخاطئين. فاعترافهم بخطاياهم (آ 4 - 14) يتعارض وأقوالهم السابقة (2:1 - 20). أما عقابهم، فيصوّره الكاتبُ بعبارات جليانية (آ 17 - 23) بعد أن يعرض مصيرَ الأبرار (تحدث عنه في 3:1 - 9) بعبارات وجيزة (آ 15 - 16).

ويحضر الأشرار أمام القاضي مُثقَلين بخطاياهم التي يُقرّون بها: جهلوا معنى حياة البار، وأقرّوا أنهم ضلّوا أي ضلال. لهذا لم تترك حياتُهم السرابيّة أيَّ أثر عميق ودائم. وهنا يتدخّل الكاتب فيعلن أن جزاء الأبرار سيكون عظيمًا عندما يأتي الديان العادل بسلاحه. حينئذ تتحرك عناصر الطبيعة لتنفِّذ الحكم.

يُقسم هذا الفصل قسمين: القسم الأول (آ 1 - 14) يتحدّث عن الدينونة العامة التي آمن بها اليهود في أيام حك. هناك متّهمون هم الكافرون. والشاهدُ عليهم خطاياهم. الديّان هو الرب وهو يحسب الخطايا (4:20). اختفى الكافرون على مرِّ العصور فتراكضوا مرتعبين. أما الأبرار الذين رُفعوا الواحد بعد الآخر، فحضروا بدالة وثقة تامة. هنا نلتقي بسفر اخنوخ. في القسم الثاني (آ 15 - 23)، أراد الرب أن يُبرز انتصارَ مختاريه، فتدخّل بطريقة تشبه يوم الرب كما يصوِّره الأنبياء (يوء 3:3 - 4؛ 4:15 - 16؛ صف 1:15؛ حب 3:1ي؛ رج مت 24:29 - 31؛ مر 13:24 - 27؛ لو 21:25 - 28). يتدخّل كما فعل حين ثارت الشعوب على سلطانه في الأزمنة المسيحانية (ثورة جوج، ملك ماجوج في حز 38:21 - 23). فذكّرنا بالمزمور الثاني: »بعصا من حديد تكسّرهم، وكإناء خزاف تحطّمهم...«.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - الدينونة العامة (5:1 - 14)

(5:1) وفي ذلك اليوم، حينئذ يقوم البار... هذا يذكرنا بما نقرأ في مت 13:43: »حينئذ يشعّ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم«. وقف الكافرون أمام البار (ضحيّتهم)، الذي احتقروا أعماله وجهاده. هو يقف بجرأة ومن دون أي خوف. هذا البار ليس صورة عن المسيح كما قلنا في ف 2، إنه بار$ من الأبرار وتقي$ من الاتقياء.

(آ 2) رأى الأشرار ضحيتهم حيّة بحياة الله، فامتلأوا خوفًا وانذهلوا حين رأوا الخلاص الذي مرّ قربهم ولم يُعطَ لهم، بل أعطيَ لهذا الذي احتقروه. البار حيّ، وهذا ما لم يكونوا يتوقعون (رج 2:1 - 5). حصل على الخلاص وهذا ما يعارض أقوالَهم السابقة (رج 2:17 - 20).

(آ 3 - 4) وكما كلّموا بعضهم بعضًا في الماضي (2:1)، ها هم يندمون ويكلّم الواحد الآخر. أقرّوا بخطأهم، وبدَّلوا اعتقادهم. راحت جرأتُهم، وها هم يئنّون من الحسرة. إن كلماتهم هي إنكار لما هتفوا به عاليًا في الماضي... فهموا الآن انهم كانوا جهالاً.

(آ 5) قالوا: كيف صار هذا الجاهل في عداد ابناء الله، وكيف صار ميراثهُ بين القديسين؟ لا يستطيع الكافرون أن يفهموا، ولكن ألا يستطيعون أن ينظروا؟ أبناء الله هم الملائكة (أي 1:6؛ 2:1؛ 5:1، 15؛ 1 تس 3:13 نقابله مع مت 16:27؛ 25:31). ولكن البار أخذ بهذا اللقب الشريف وهو على هذه الأرض (2:13، 18). لهذا ينظر الله إلى المختارين ويعاملهم كأبنائه.

(آ 6) والخلاصة: ضلّ الأشرارُ وابتعدوا عن طريق الحق. هناك طريق الفطنة وطريق العدل (أم 16:31؛ 21:16) وطريق السلام (مز 13:3 حسب السبعينية؛ أش 59:8). وهناك بالمقابل طريق الشر (مز 119:29، 30 حسب السبعينية).

عاش الأشرار في الظلمة، ولم تُشرق عليهم التقوى كشمس تنير النفوس والأفكار. لا يستطيع الأشرار أن يقولوا إنهم لم يروا نور الرب الذي أشرق عليهم عبر الشريعة (18:4) أو بواسطة ضميرهم. رأوا تجلي هذا النور في عباد الله المؤمنين، ولكن شهواتهم أَعمتهم. نورُ الحقّ (أش 62:1؛ مز 119:105) هو النور الذي يعطينا أن نمارس الحق.

(آ 7) أنهكنا أنفسنا أو لزمنا طريق الشر، فرُحنا في متاهة بلا معالم. ضللنا خارج الطريق التي رسمها الله، وما علِمنا طريق الرب، بل رفضنا أن نسير فيه. أجل، تجاهلَ الكافرون طريقَ الرب.

(آ 8) تعرّفوا إلى خطأهم، ففهموا أن حياتهم كانت باطلة. امتلأوا في الماضي خمرًا وعطورًا (2:7)، وقادتهم الكبرياء والتبجّح بسبب غناهم. في هذا وضعوا ثقتهم، فماذا بقي لهم؟ لا شيء.

(آ 9) كل هذا مضى سريعًا كالظل (2:5)، والخبر (أي 9:25: أيامي أسرع من عداء) الذي لم يترك أثرًا. عرف الخطأة أن الحياة عابرة، ولهذا ألقوا بأنفسهم في ملذاتها (2:2 - 5). وها هم الآن يفهمون أن هذه الملذات كانت باطلة.

(آ 10) كلُّ هذا عبرَ كسفينة. نستطيع أن نرى أثرها ثواني معدودة، ثم يزول هذا الأثر. هكذا كانت حياة الأشرار.

(آ 11 - 12) والطير أسرع من السفينة حين يشقّ الهواء (أي 9:26؛ أم 30:19). والسهم (مقابلة لا نجد مثلها في التوراة) سريع حين يطير إلى الهدف.

(آ 13) »وكذلك نحن«. هذا ما قال الكافرون. ما ان وُلدنا حتى اضمحللنا. تَركوا في كل مكان أثرًا من فجورهم، لا أثرًا من فضائلهم.

هنا ينتهي كلام الأشرار. وتزيد الشعبية اللاتينية: »كذا قال الخطأة في الجحيم«. ولكننا لسنا في الجحيم، بل في الدينونة.

(آ 14) ويُجمل الكاتبُ الملهَم ما قاله الخطأة: رجاؤنا (ما وثقوا به) هو كالغبار في الريح (مز 1:4؛ 35:5؛ أش 29:5؛ 41:15 - 16) وكزبد الأمواج، وكدخان (2:2). أو كضيف ينتقل من فندق إلى فندق، ولا يمرّ في المكان الواحد الا بعض الوقت (أش 38:12؛ إر 14:8).

2 - انتصار المختارين (5:15 - 23)

(آ 15) وتجاه هلاك الكافرين، هناك سعادة الأبرار. يحيا الأبرار إلى الأبد، وموتُهم كان أمرًا ظاهرًا (3:2). إنهم الآن يمتلكون الحياة وينالون جزاءهم الذي هو الرب نفسه. الرب يهتمّ بهم وبسعادتهم منذ هذه الحياة وبالاحرى حين يتّحدون به.

(آ 16) تتكوّن سعادةُ السماء من الاتحاد با، ومن عناية العلي التي تمنحنا الملكوت، ومن حماية الله القديرة والفاعلة. مُلكُ الاخيار فكرةٌ معروفة في العالم الجلياني (دا 7:18؛ مت 20:20ي؛ 25:34؛ مر 10:35ي؛ احنوخ 90:30، 108:12). يُرمز إلى هذا الملك بالتاج (3:8؛ أش 62:3). يحميهم الربُّ بيده (رج 3:1) كترس (تك 15:1؛ تث 33:29؛ 2 صم 22:3، 31، 36؛ أم 2:7؛ 30:5؛ مز 3:4؛ 5:13).

(آ 17) هذه الحماية ضرورية في السعادة الأبديّة. فهي تحفظ الأبرار في غبطة لا تقلُّب فيها. غير أن هذه الحماية أكثر ضرورة خلال الصراع الذي يقودنا إلى اكليل المجد وبالأخص في الوقت الذي يسبق إقامة مُلك الله. حربٌ مريعة ستنتهي بالنصر حتمًا، لأن الرب يقودها بنفسه.

صوّر الكاتب الله وحلفاءه (آ 17)، ثم عدّد اسلحة المحارب الإلهي (آ 18 - 20). وفي النهاية أشار إلى الهجوم الذي ينتهي بهزيمة الشرّ (آ 21 - 23).

أراد الكاتب ان يصوّر مصير الخاطئين، فلجأ إلى صورة القتال العظيم الذي يدل على نهاية الأزمنة، كما تقول الآداب الجليانية (حز 38 - 39؛ أش 24 - 26؛ رؤ 20:7 - 10). وهذا ما سيؤدّي إلى انقلاب كوني (عا 8:8 - 9؛ أش 13:10، 13؛ 24:1، 18 - 20؛ 34:4؛ إر 4:23 - 24؛ حز 32:7 - 8؛ صف 1:15؛ حب 3:6، 9 - 10؛ يوء 2:10؛ 3:4؛ 4:15 - 16؛ مت 24:29ح رؤ 6:12 - 14؛ 16:20 - 21؛ 20:11). أما الاسلحة فنجدها في أش 59:16 - 17 ومز 7:11 - 14. وقد احتفظ بولس الرسول بالصورة، فصوَّر سلاح المسيحي الروحي. رج أف 6:11 - 18؛ 1 تس 5:8: الرب يحرص أو يغار (رج عد 25:11؛ تث 29:19؛ 2 مل 19:31؛ زك 1:14؛ يوء 2:18) فيسلّح الخليقة (رج 5:20؛ 16:17، 24؛ 19:6).

(آ 18) وابتدأت المعركة. قدّم النصُّ هنا السلاح الدفاعي: درع، خوذة. الحقُّ يكون درعًا، والخوذة التي تغطّي الرأس عدلاً، وتكون دينونةٌ لا مواربة فيها.

(آ 19 - 20) ويكون الترس قداسة الله التي لا تُقهر. ويأتي السيف الذي هو سلاح دفاعيّ وهجوميّ، والذي هو شدّة غضب الله. في هذا القتال، تُحالفُ الخليقةُ خالقَها ضد الذين تجرّأوا وثاروا عليه. إن العالم يئن من الفوضى التي فيه بسبب الخطيئة (روم 8:19 - 22)، لهذا تحدَّث الادبُ الجلياني عن ثورة العناصر ضد الانسان الخاطئ في نهاية الازمنة. أما هنا فالنظرة لا تعرف كل هذه العظمة: لن تتحرّك الشمس ولا الكواكب. فنحن أمام ظهورٍ، كذلك الذي نقرأه في مز 18 حيث يتم الانتقام من الخاطئين دون انقلاب كوني. مضى زمنُ الرحمة (11:26؛ 12:8)، وبدأت حرب الله وحلفائه ضد الشر.

نشير هنا إلى ان السيف المصقول يرمز إلى كلمة الله التي تعاقب بلا رحمة. رج أش 49:2؛ حز 21:8 - 9؛ عب 4:12؛ رؤ 1:16؛ 19:15.

(آ 21) العاصفة هي أحد العناصر التقليدية التي تدل على الله (خر 19:16 - 18؛ قض 5:4 - 5؛ 1 مل 19:11 - 12؛ أش 30:27 - 28؛ نا 1:3 - 6؛ حب 3:6 - 11؛ مز 18:5 - 6؛ 29:3 - 9؛ 68:8 - 9؛ 77:17 - 19؛ 97:2 - 5).

وتبدأ المعركة بالسهام التي تدلّ على بروق يرسلها الله (2 مل 22:15؛ مز 18:15؛ حب 3:11).

(آ 22) وتُرسلُ الغيومُ البَرَد التي هي حجارة مقلاع الله وعلامة غضبه. هذا ما حدث في زمن الخروج (9:23 - 25)، وزمن يشوع (10:11)، وفي كل مرة يدين الله ويعاقب (أش 28:17؛ حز 13:13؛ 38:22). احتفظ سفر الرؤيا (8:7؛ 11:19؛ 16:21) بالبَرد المدمِّر الذي جعل الناس يجدِّفون على الله.

والهجوم الذي يزيل الأعداء سيكون بالمياه. مياه البحر ومياه الأنهار كما في الطوفان. فمياه قيشون مثلاً (قض 5:21) جرفت جثث جنود سيسرا. ثم إن هجوم المياه يرمز في التوراة إلى أكبر الضربات (رج أش 8:7 - 8؛ 43:2؛ إر 47:2؛ مرا 3:54؛ يون 2:4، 6؛ مز 18:15 - 17؛ 40:30؛ 42:8؛ 66:12؛ 69:2 - 5؛ 124:4؛ 144:7).

(آ 23) وتُنهي الريحُ المعركة فتُشتِّتُ الأعداء. نفخةٌ من فم الرب تزيل الأعداء (أش 11:4؛ أي 4:9)، وتعاقب الشرَّ الذي صُنع على الأرض. أجل، يعود الله نفسه ولكن من خلال العاصفة (أش 30:27 - 28؛ أي 38:1؛ 40:6).

ويعود الكاتب إلى الملوك وكان قد بدأ حديثَه معهم: من أراد الحياة لازم الرب، ومن اخطأ هلك لا محالة.

ج - الخاتمة

وقف الكاتب في فكره أبعد من الموت، فقدّم حُكمًا قاسيًا على حياة تأسَّست على اللابرّ والشرّ، وقابلها بثقة البار الذي سار في طريق الربّ. ودينونة الله التي تنهي الله 15 - 23 تعبِّر في أسلوب جلياني عن الأمل الكبير بنجاح مشروع الله النهائيّ، وزوال كلّ شدّة وضعف.

ونلقي نظرة على كل هذا القسم الأول، فنلاحظ التقدّم الذي تمّ بواسطة الوحي في موضوع آخرة الانسان. من أجل هذا، نقابل هذا التعليم مع التعليم المقابل في يشوع بن سيراخ أو مع ارتيابات وشكوك اليهود في ذلك العصر. فالوحدة بين الله والنفس البارة التي تبدأ منذ هذا العالم بالنعمة (1:3 - 5)، تتمّ في الآخرة بامتلاك الحياة الحقّة قرب الله وبالتمتّع با نفسه (3:1؛ 5:15 - 16). ما همّ، تركنا نسلاً أم لا، ما همّ متنا في عمرٍ مبكر أم بعد أن شبعنا من الأيام (3:13 - 4:19)؟ فما الموت الا عبورٌ من هذه الحياة إلى الحياة الحقيقيّة: وهكذا يتحقّق مخطّطُ الحياة الذي أعدّه الله من أجلنا (1:12 - 15؛ 2:24).

أما الخطأة فهم الذين يريدون الموت بأي ثمن (1:16؛ 2:24). وهذا الموت هو في نظرهم القيمة الحقة، وهو بداية الموت الآخر كما يسمّيه سفرُ الرؤيا (2:11): الموت الثاني والهلاك الأبدي في العذاب بعيدًا عن الله (1:9 - 12؛ 4:19) في الجحيم المحفوظ لهم. هذه هي الخسارة الكاملة (5:13 - 14، 20). منذ الموت، يصبح هذا الواقع أمرًا مفروغًا منه. ولكن حين ينال الأبرار السلام ويكونون في يد الله وحماه، وحين يصل الكافرون إلى النهاية التعيسة التي تاقوا إليها، ستُحسَب الخطايا ويُعطى الجزاء النهائي (4:20؛ 5:15). فتتأمَّن السعادة التي استحقّها المختارون بواسطة العناية التي تَشنّ على أعدائهم حربًا عنيفة تنتهي بالنصر.

لا شكّ في أننا ما زلنا في العهد القديم وأننا لم نصل بعد إلى الوضوح التام. ماذا يكون دور المسيح الذي انتظره اليهود الذين عاصروا حك؟ أية علامة بين الأزمنة المسيحانية ومُلك المختارين العتيد؟ ماذا سيكون بالضبط مصيرُ الكافرين؟ هل تكون قيامة للأموات وفي أية ظروف؟ ما الذي يمثّله هجومُ القدرة الإلهية على الخطأة، بعد ان رسَمَه حك بطريقة رمزية؟ كل هذه الاسئلة تبقى بلا جواب. حمل إلينا حك بعض العناصر التي تضيء دربنا، ولكن سننتظر العهد الجديد الذي يستعيد هذه العناصر فيدخلها في كتبه ويقدم لنا التعليم الكامل، بعد ان تمّ لنا الوحي النهائي في شخص يسوع المسيح

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM