الفصل 8: موت البار المبكر

موت البار  المبكر (4:1 - 20)

أ - المقدمة

هذا الفصل هو امتداد للذي سبقه. يقول: أن تكون لنا فضيلة ساطعة، أفضل من ان يكون لنا أولاد. فالنسل الشرير ويل لأهله، وهو لا يحمل لهم الا الملامة. موت البار المبكر يكرّس حياة كاملة وملأى بالأعمال الخيِّرة، وسببه العميق حبّ الله الذي اختار محبيّه. مات البار باكرًا، لأنه صار كاملاً، وأخذه الله لتنجو نفسه من الشر. أما الأشرار فهم متهمون بأنهم بسبب هذه الميتة، لا يقدرون ان يفهموا مقاصد الله. ومصيرهم المأساوي بعد الموت سيكون له طابع عقاب قاسٍ وهدّام. وحين يحضر الأشرار أمام البار، تبدو آثامُهم واضحة.

ب - تفسير الآيات الكتابية.

1 - الفضيلة خير من الأولاد العديدين (4:1 - 6)

(4:1) تابع الكاتب الموضوع نفسه. قال ابن سيراخ (16:3 - 4): »الموت بلا ولد خير من الاولاد الكافرين. لأنه بعاقل واحد تعمر المدينة، ولكن قبيلة الآثمين تُباد«. نحن هنا أمام نوعين من الخلود: ديمومة في ذاكرة البشر (8:13؛ أم 10:7؛ مز 112:6)، ديمومة الحياة الآتية (1:15؛ 2:23؛ 3:4؛ 6:18 - 19؛ 15:3). الفضيلة هي هنا العفّة الزوجية التي يقدّرها الله والبشر حقّ قدرها (مز 1:6؛ أم 22:11).

(آ 2) هذه الفضيلة مكرَّمة. إن مارسها أحد اقتدى الناسُ به، وإن مات من مارسها اشتاقوا إليه. وصوَّر حك الجزاء الإلهي المعطى للفضيلة: إنه تاج يحمله المجاهدون. فالحياة جهاد، ويجب أن نخرج منها منتصرين. تشير نصوص العهد الجديد إلى الالعاب القديمة والاكاليل التي تُعطى للغالبين (1 كور 9:24 - 27؛ فل 3:13 - 14؛ عب 12:1؛ 1 تم 4:8؛ يع 1:12).

(آ 3) ونعود مع الكاتب إلى أولاد الكافرين. مهما كثُر عددُهم فلا فائدة منهم. هم كشجرة فسدت أصولها فما استطاعت أن تتجذّر. نقرأ في هذا المجال سي 23:25: »إن اولادها لن يكون لهم أصول، واغصانها لن تخرج ثمارًا«. وفي سي 40:15: »اولاد الكافرين لا يأتون بفروع كثيرة، والأصول النجسة هي على صخر صلب« (رج أي 18:16).

(آ 4 - 5) وإذا افترضنا أن الأصول تكوّنت، وارتفعت الفروع، فالنبتة موقتة والريح تدمّرها (حز 13:11؛ أم 1:27؛ مك 7:27) قبل ان تبلغ أشدَّها وتحمل ثمرًا. نعود هنا إلى مثل الزرع الذي ينمو سريعًا ويذبل سريعًا لأن لا أصل له (مت 13:5، 6، 12). هذه صورة عن النفوس التافهة التي لا تثبت على رأي.

هل يشير حك إلى الدمار الزمني الذي يحدث في عائلات الكافرين أو إلى الدمار الخلقي؟ يبدو أن الأمرين مرتبطان بعضهما ببعض.

(آ 6) ماذا نفهم من هذه الآية؟ اولاد الحرام أي المولودون من زواج محرّم، يشهدون في يوم الدينونة على والديهم ويبيِّنون لهم شرَّهم. هذا الاتهام ينتج عن كلامهم الذي يقدمونه في المحكمة أو عن أعمالهم التي هي انعكاس لخطايا آبائهم أو عن الشرور التي تصيبهم (آ 3 - 5) فتدل على خطيئة الذين ولدوهم.

وهكذا نرى أن العفة الزوجيّة هي التعليم الذي نستنتجه من هذا المقطع. لم نصل بعد إلى التعليم عن سموّ البتولية على الزواج، الذي سيفرض نفسه في العهد الجديد. اما هنا فارتفعنا فوق النظرة الاسرائيليّة التي تعتبر الزواج الخصب فوق كل شيء. من هذا القبيل، بدا حك بدايةَ الطريق نحو العهد الجديد.

2 - موت البار المبكر (4:7 - 20)

موتُ البار، وإن مبكرا، هو سعادة. وحياة الكافر، وإن طالت، تقود إلى الشقاء الأبدي. سيزول نسل الأشرار. ونسل الأبرار؟ ما هو مصير مواعيد الحياة الطويلة المعطاة للذين يسيرون بحسب شريعة الله (خر 20:12؛ رج أم 3:1 - 2؛ 16:31)؟ أما يكون الموت المبكر عقابًا؟

أجاب حك إلى هذا الاعتراض الثاني في ثلاثة اعتبارات متوالية، فبيّن أن موت البار المبكر ليس شقاء بل نعمة. أولاً: ليست قيمةُ الانسان في عمره، بل في فضيلته. إذا اختُطف الشاب الفاضل من هذا العالم، فهو يحيا قرب الله (آ 7 - 10). ثانيًا: وهكذا ينجو من مخاطر عديدة تتعرّض لها نفوسُنا في هذا العالم الفاسد (آ 11 - 12). ثالثًا: الذي عاش في التقوى أكمل مهمّتَه: سلوكُه يدين الأشرار الذين ينالون بسبب خطاياهم عقابًا أبديًا (آ 13 - 20).

(آ 7) إذا اختُطف الشاب مبكرًا، أُنقِذ من شرور هذا العالم، وكان في العالم الآتي في سلام. كانوا يقولون: ان السعادة والعمر الطويل حصة البار على الأرض (تث 5:16؛ 30:20؛ مز 21:5؛ 23:6؛ 91:16؛ أم 3:2؛ سي 1:2). سيعطي هذا الكتابُ جوابًا مرضيًا للمؤمن، عن موت البار المبكر: سيجد الراحة (أو السلام، رج 3:3).

(آ 8 - 9) لا نحكم على اخلاق الناس انطلاقًا من أعمارهم. كان الأقدمون يكرمون الشيوخ، لا بسبب عمرهم وحسب، بل بسبب خبرتهم وحكمتهم. فالعنصر الأدبي (الفضيلة) يتفوّق على العنصر المادي (العمر الطويل). ولهذا فشابٌ طاهر يساوي رجلاً يزيده عمرًا. هذا ما قاله العالم اللاتيني أيضًا، مثل شيشرون وسنيكا.

(آ 10) ولكن ما لم يفهمه العالم الوثني، هو الأفق الروحي الذي يفتحه حك أمامنا. فالشاب الفاضل ارضى الله فأحبّه الله، ولهذا انتشله من عالم الخطأة ونقله إلى حياة فضلى. هنا نتذكّر أخنوخ: »وارضى اخنوخ الرب. (بحثوا عنه) فلم يجدوه لأن الله نقله« (كذا في النصّ اليوناني من تك 5:24). ونقرأ في سي 44:16: »أرضى أخنوخ الرب فنقله« (رج عب 11:5). لم يذكر النصّ موت أخنوخ، ولكنه يقول إن البار يمّر عبر الموت. غير أن الموت في هذا المجال هو عبور من حياة إلى حياة. نلاحظ هنا الدور الذي لعبه حك 5:24 في التعبير عن الاعتقاد بالخلود. وهذا واضح من مز 49:16 (ا وحده يفتديني ومن يد الجحيم أو الموت يأخذني) و73:23 - 24 (انا معك في كل حين. أخذت بيدي اليمنى وهديتني حسب مخططك، ومن بعد إلى المجد تأخذني).

(آ 11 - 12) عاش هذا البارُّ، وسطَ الخاطئين، فخاف الرب أن يؤثِّروا عليه. فالشرُّ يفسد العقل. والمكرُ يلوِّث النفوس البريئة. ما يصحّ في كل عصر، يصحّ بالأخص في عالم الاسكندرية في القرن الاول ق.م. فالضلال لا يقدم نفسه بوجهه الخاطئ والمستهجن. والشرّ يعرف أن يسحرنا ويلقي بظلاله على عالم الخير. وتأتي الشهوة فتجعل الانسان يدوخ بعد أن تحمله من الشمال إلى اليمين وفي كل الاتجاهات.

ينتج عن هذا ان الموت المبكر نعمة من الله الذي أخذ، رفع (1 تس 4:17) إليه البار. جعل نفسه تتمتّع بالخير الأبدي، وأنقذها من مخاطر يمكن أن تقودها إلى الهلاك. واستند اللاهوتيون إلى هذا النص ليدلّوا على ان الله يعرف المستقبل. وانطلق منه اغوسطينوس ليبيّن ضد البلاجيين (تباع بلاجيوس الافريقي) أن قداستنا ليست عملنا بل عمل الله. إن الله يطيل الحياة أو يقصرها حسب مخططه الذي كوَّنه منذ الازل من أجل خلاص البشر.

(آ 13 - 14) سيزول اولاد الكافرين ولا يصلون إلى غايتهم. اما البار فوصل في أيام قليلة إلى الكمال. سار مسيرة طويلة في وقت قصير، لأن نفسه كانت مرضيّة للرب. هذا هو هدف حياته الوحيد. لهذا أسرع الله فأبعده عن عالم البشر.

وتشكّك الناس (ولا سيّما الوثنيون) من هذا الأمر، فما فهموه ولا استطاعوا أن يدركوه بسبب سوء استعدادهم. هنا نلتقي باشعيا (57:1 - 2) كما في النسجة اليونانية: »أنظروا كيف يموت الصدّيق ولا من يبالي به. يؤخذ الأبرار فلا يفطن أحد. يؤخذ البار من طريق الشرّ، ويكون قبره في سلام«.

(آ 15) سعادة الأبرار ثواب وأجرة، بل هي نعمة. أجل، الشعوب القاسية لا تفكّر أن النعمة والرحمة هما من عطايا الله لمختاريه، وأن العون الإلهي نعمة لقديسيه. المختارون والقديسون هم أعضاء شعب الله (في العهد القديم، وفي العهد الجديد، رج مز 105:6، 43؛ حك 10:17؛ 18:1؛ كو 3:12؛ 1 بط 1:1؛ روم 1:7؛ 12:13). اما هنا فيبدو أننا في جماعة المختارين والقديسين في العالم الآخر.

(آ 16) مات البار باكرًا وبلغ سريعًا إلى الكمال، فشجب الكافرين الأحياء، وأخزى الشيخ الذي قضى حياته في الخطيئة، بنبل حياته وجمال موته. ما استطاع كلّ هؤلاء أن يبلغوا الكمال، أما البار فبلغه في وقت قصير.

(آ 17 - 18) هذا الحكم يصيب الخطأة، لأن موت الشاب الفاضل بقي لهم لغزا: لم يفهموا مقاصد العناية. فكانت ردة الفعل الهزء والاحتقار. ولكن الرب يضحك عليهم (رج مز 2:4؛ 37:13؛ 59:9؛ أم 1:26).

(آ 19) ماذا سيكون جوابُ الرب؟ سيعاقب الأشرار بالموت. ويعود حك إلى صورة هبوط ملك بابل إلى الجحيم كما يرسمها لنا أش 14:4 - 22 (كما في النص اليوناني). هبط الملك القوي من عظمته، ودخل إلى الجحيم وسط هزء الموتى. ذاك الذي تمنّى أن يصعد إلى السماوات، نزل إلى أعماق الهاوية. استراح ملوك الأمم في قبورهم، أما هو فرُمي بعيدًا عن قبره.

يصيرون »جثة حقيرة«، لأنهم لم يُدفَنوا في قبر. ولم يُكرَّموا كسائر الموتى (أش 14:19؛ إر 22:19؛ 36:30). كان الاقدمون يعتبرون أكبر عقاب ان لا يُدفن الانسان (حز 32:19 - 32). فمن حُرم الدفن حُرم الراحة الأبديّة. يختفي ذكرهم: هذا هو عقاب الكافرين في الادب الحكمي (أم 10:7؛ مز 9:6؛ 34:17؛ 109:15؛ أي 18:17).

(آ 20) طُرح الكافرون في مثوى الموتى (آ 19)، وسيأتي وقت يُحاسَبون فيه على خطاياهم. يحضر الأشرار كمتَّهمين، وتقف آثامُهم أمامهم لتدينهم.

الخاتمة

قلب سفر الحكمة المقاييس. لم تعد المرأة العاقر منبوذة، ولا الخصيّ محتقرًا وملعونًا. فالخصب بالنسبة إليهما يقف على مستوى آخر، لا يفهمه إلاّ الذين ارتفعوا فوق مستوى المادة. وأجرُ البرّ لا يُعطى بشكل بركات ماديّة، بعد أن انفتح المؤمن على الخلود، وتطلّع إلى حياة من السعادة وراء هذه الحياة التي عرفت الفشلَ في الموت. ولم يعد العمرُ الطويل علامة بركة من قبل الله، والموت المبكر عقابًا. المهمّ هو العيش بحسب7%l error accessing QuarkXPress temporary file (#-40). [13]أبرار، هكذا ينجون من شرّ العالم الذي يمكن أن يُفسد أخلاقهم. والأبرار (إن ماتوا) تبقى فضيلتهم حاضرة وسط البشر. والربّ، في النهاية، هو حظّهم

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM