الفصل 3: المسيرة الفكريّة في سفر الحكمة

المسيرة الفكريّة في سفر الحكمة

قبل أن نقدّم التعليم اللاهوتي في حك، في شكل منهجيّ، أردنا أن نر افق الكاتب في مسيرته، فنطرح على نفوسنا الاسئلة التي طرحها على قارئي الكتاب في عصره. من أجل هذا، نتوقّف عند مقدّمة المديح (1:1 - 6:21)، عند مديح الحكمة (6:22 - 9:18)، عند أعمال الحكمة (ف 9 - 19).

1 - مقدمة المديح (1:1 - 6:21)

أ - القرّاء (1:1أ؛ 6:1أ، 11ب)

إن 1:1أ؛ 6:1أ، 11ب التي تتجاوب في البنية الأدبيّة، تستلهم مز 2:10، وتبدو كأنها تتوجّه إلى من تسلّموا السلطة السياسيّة. واستلهم حك بشكل خاص أم 8:15 - 16؛ دا 2:21؛ 4:14. ولكننا نتساءل: أما يكون الملك الذي يتحدّث عنه الكاتب من نظام آخر؟ فلو كان العنوان الأصليّ للكتاب »حكمة سليمان« (ف 7 - 9 تلمِّح إلى سليمان)، لكان الملك الحكيم الحكيم في أورشليم، من يتوجّه إلى زملائه، فيدعوهم إلى أن يتربّوا على يد الحكمة (6:21)، وأن يستفيدوا من خبرته. ولكن بسبب اللقبَين المجيدين اللذين نالهما سليمان، الملك والحكيم، فالعبارات التي تدلّ على الملك على الأرض، يكون لها معنيان اثنان. فإن كان سليمان ملكًا عظيمًا وقاضيًا صالحًا، فهذا يعود إلى الحكمة التي طلبها ونالها. والمديح لا يقول شيئًا آخر.

ونتذكّر أيضًا إخفاء الاسم في سفر الجامعة. فالحكمة جعلت من سليمان ملكًا عظيمًا. ويُفهمنا عددٌ من نصوص العهد القديم أن الحكيم هو ملك، وهو يقضي بين الشعوب (أم 4:9؛ 4:15، العبري؛ 4:29 - 31). فاستعاد حك هذا الموضوع في 3:8؛ 5:16؛ 6:20 متطلّعًا إلى الملك الحكيم في الآخرة. لهذا يبدو المُلك السياسيّ خدعة بحتة. بدا الكاتب وكأنه يتوجّه، في العمق، إلى إخوته في اسرائيل، وهو يريد أن يقودهم إلى مملكة الحكمة. ولكن اسرائيل لا يبدو جماعة من لون واحد. فمنهم الذين يجرّبون الربّ (1:2، بايرازو) بهمساتهم (1:10)؛ لا يقال أن الإنسان يجرِّب الله إلاّ في سفر الحكمة. هنا يعود الكاتب إلى حدث مياه مريبة (خر 17:7؛ تث 6:16؛ مز 95:9). كما يمكن أن يشير إلى كل تاريخ اسرائيل (مز 78:41، 56؛ 106:14). »فالهمسات« (أو: التذمّرات) صدى لتذمّرات بني اسرائيل في البرية. نقرأ اللفظ (غونغسموس) في خر 16:1ي بشكل خاص، وفي سفر العدد (السلوى) وفي سي 46:7: تذمّر الشعبُ في البريّة، فأوقف كالب هذا التذمّر.

إذن، يبدو أن الكاتب يشير إلى الشعب المختار، لا إلى الوثنيين. ونلاحظ »إمفانيزو«: يسمح للناس بأن يروه (1:2؛ خر 33:13، 18). الله هو الفاعل. في خر 33، طلب موسى أن يرى الله فأعطاه الله ما طلب. فإن فكَّر حك بموسى فهو يميّز، داخل الشعب المختار، بين موقف الكثيرين وموقف موسى الذي كان موقفُه موقف الأمانة (10:16؛ عد 12:7أ حسب السبعينيّة).

اعتبر بعضهم أن حك كتاب تعليمي يتوجّه إلى طلاّب يهود يقدرون وحدهم أن يتبعوا الكاتب ويقدّروا خطبة تمتاز بدقائقها. هدفُ الكاتب واضح: أن يتيح للنخبة في شعبه أن يكتشفوا موقفًا إيجابيٌّا تجاه الحالة الحاضرة. ونضيف عنصرين. الأول، أراد الكاتب أن يثبِّت نخبةَ الشباب اليهودي في الاسكندريّة، في إيمانهم وفي عظمة تقليد ينتمون إليه. الثاني، أراد الكاتب لهذه الشبيبة أن تأخذ على عاتقها مهمة القيادة في الجماعة، فتستعدّ لمسؤولياتها. هذا ما يفهمنا منذ ف 6 أن الكاتب يختفي وراء شخص سليمان لكي يتكلّم. فسليمان الذي نال الحكمة (ف 7 - 9) هو فتى نجح في الملك بفعل الحكمة التي نالها. وهكذا نضيف وجهة تقول إن الخطبة تتوجّه إلى حكّام يُدعون لممارسة العدالة وتثبيتها وسط شعبهم.

إذن، توجّه حك إلى القرّاء اليهود. ولا يُستبعد أن يكون توجّه إلى الوثنيين، ولا سيّما في الاسكندريّة. فكلام الله لا ينحصر في جماعة واحدة، بل هو يصل إلى الجميع بطرقٍ لا يعرفها إلاّ الله.

ب - الحكمة (1:4ي؛ 6:12 - 21)

في 1:4ي، برزت الحكمةُ للمرّة الأولى، ولكن في وجه سلبيّ (تَهربُ من الخداع). أما في 6:12 - 21 فتبدو في شكل إيجابي. يقع هذان المقطعان في بداية »المقدّمة« وفي نهايتها، فيُبرزان الموضوع الرئيسي في الكتاب، الذي سوف يتوسّع فيه المديح.

l حسب 1:4ي، الخطيئة تمنع الحكمة من الدخول في الانسان الذي لا يمكنه بالتالي أن يقترب من الله. تماهت الحكمة مع الروح القدس، فأحبّت البشر، ولكنها أخذت موقفًا تجاه الخطيئة (1:6). إذا كان العهد القديم قد قرّب الحكمة من الروح، فإن حك يجعل الحكمة في المكانة الأولى ويشدّد على الطابع الخلقيّ والداخليّ لعملها. وإذا قرأنا 9:18 - 10:1 لا نستطيع أن نستنتج من 1:4 أن الحكمة لا تقوم بتجديد خلقيّ في الإنسان. ولكن يبقى أن الحكمة لا تقدر أن تلج الإنسان الذي يمنعها. ذاك هو سرّ الحريّة البشريّة. وبما أن الحكمة هي روح الرب (1:7)، فهي تلعب أيضًا دورًا في الكون، في خطّ ما قاله الفكرُ الرواقيّ.

l أما في 6:12 - 21، فالحكمة تظهر على أساس أم 1:1ي؛ 8:1ي؛ 9:1ي؛ سي 15:2. هي تأخذ المبادرة وتهب ذاتها للذين يطلبونها بحبّ وثبات. وحين يتقبّل الإنسانُ الحكمة، التي تجدّ من جهتها في طلب الذين هم أهل لها (6:16)، فهو يقترب من الله (6:19) لأنه تقبّل عربون الخلود واللافساد.

ج - الأشرار (2:1 - 20)

أولاً: مشروع الأشرار

الحياة البشريّة في نظرهم تبقى على المستوى الأرضي البحت، مستوى الذين ينكرون ما وراء موت الإنسان على هذه الأرض. ما من أحد يفلت من الموت الذي يذيب حتى الروح الذي هو نتاج الطبيعة الماديّة (2:2ج د؛ هي دخان). في الموت، تسقط الحياة والأعمال في النسيان المطلق، وهذا ما ينفي بشكل ضمنيّ، الدينونة في الآخرة. وإن هم أرادوا أن يقفوا بجرأة أمام مثل هذا المصير، يختارون »التمتّع بالحياة«، و»فشل الانتصار«.

غير أن الأشرار لا يتوقّفون هنا. بل يهاجمون البار بعد أن يحكموا عليه بمنطقهم: الضعيف إنسان لا فائدة منه. وحدها القوّة تُسند الحقّ. في هذا الاطار، لم يعد من قيمة للانسان. مع أن الأشرار لا يمكنهم أن يُعلنوا مشروعهم إلاّ لأنهم معافون، أغنياء، مقتدرون، إلاّ أنهم يُحسّون بلذعة من قبل البار الذي تبدو طريقةُ حياته اتهامًا لهم. ويروح الأشرار بعيدًا في نفْيهِم. هم يشكّون بالحقيقة الدينيّة التي يجاهرُ بها البار. وطرحُ السؤال هذا يتحوّل إلى هزء وسخرية. ففي نظر الأشرار، لا يتدخّل الله ابدًا، لا بالنسبة إليهم ولا بالنسبة إلى البار. وحين يموت الإنسان، ينتهي كل شيء.

ثانيًا: هويّة الأشرار

هناك من رأى في الأشرار »إبيقوريّين« (الاحساس هو معيار المعرفة والاخلاق، واللذة هي مبدأ السعادة شرط السيطرة عليها)، على ضوء »طبيعة الأشياء« (الجزء الثالث) للشاعر تيطس لوكراتيوس. رج حك 2:1ي. ولكن القسم الثاني من خطبة الأشرار تدل على عنفهم في الاضطهاد، وهذا ما لا يتوافق مع المدرسة الابيقوريّة. ثم إن الابيقوريين ما كانوا وحدهم في إنكار الخلود. وإذا انطلقنا من القسم الثاني من خطبة الأشرار، نظنّ أنهم يهود جحدوا إيمانهم (2:12). إذن، الأزمة هي في قلب الجماعة. ومع هؤلاء الجاحدين، قد يكون هناك وثنيّون. وأخيرًا، نحن لا نعرف اضطهادًا عنيفًا ضدّ اليهود، في الاسكندريّة، في القرن الأول ق.م. هذا يعني أن الكاتب انطلق من أمور قديمة، فجاءت بشكل نمطيّ، عام، في كلام عن المضطهِدين. تلك هي عقليّة اليهود منذ سنة 587 ق.م.

د - البار (2:10 - 20)

لسنا هنا أمام شخص محدّد. فإن 2:10 يذكر فئات من الأشخاص. مثل المسكين والأرملة والشيخ. منذ 3:1 سيتحدّث الكاتب عن الأبرار بشكل عام. وفي 18:13، سوف يُدعى اسرائيل »ابن ا«. لا نجد أية مقابلة أكيدة بين البار وفرد من الأفراد في تاريخ اسرائيل: لا نستطيع أن نُنشد صبرَ إرميا. كما لا نعرف شيئًا عن موته. ولا يقول إشعيا (52 - 53) إن عبد الرب المتألم قد مات لأجل إيمانه. ومع خبر موت العازر (2 مك 6:18 - 31)، لا نجد أيّ تقارب على مستوى الألفاظ. وقيل هو »معلّم البرّ« كما في قمران. ولكننا لا نعرف شيئًا عن موته، والخلود لم يكن عنصرًا من عناصر فكره الاساسيّة. هل نرى في 2:12 - 20 صورة مسيحانيّة؟ لقد رأى الآباء يسوعَ في هذا البار المتألم. إن هذا النصّ ليس مسيحانيٌّا في المعنى الحرفيّ، بل في المعنى الكامل. وهكذا يبدو أن 2:10 - 20 يدل على اسرائيل المؤمن الذي عرف الاضطهاد بيد الجاحدين. وقد يدلّ على حالة نمطيّة من الاضطهاد الدينيّ: هذه اللوحة تنطبق على عدد من الأبرار المضطهَدين، ولا سيّما يسوع في حاشه وآلامه وموته.

هـ - الخلق والخلود (1:13 - 15؛ 2:23 - 24)

نقرأ هذين المقطعين معًا. ففيهما يعود الكاتب إلى بداية مشروع الله الخالق، كما ورد في تك 1 - 3.

أولاً: حكم الكاتب على الأشرار

أضاعوا عقلهم (2:21)، والسبب هو فسادُهم (2:31ب؛ 1:3 - 4). هم لا يعرفون أسرار الله  أي الجزاء الذي يمنحه للقديسين (2:22؛ 1:5د). ثم إن الأشرار تعاهدوا مع الموت (1:16؛ أش 28:14 - 15). ظنّوه لا يسيء إلا للجسد، ساعة عملُهم يولّد الموت الروحي (1:11د).

ثانيًا: مشروع ا

إن مشروع الله حسب تك 1 - 3 هو البرهان. غير أن الكاتب يعيد تفسير هذه الفصول. تك 1 هو في حك 1:14ب وفي 2:23ب بشكل ضمنيّ. ولكنه يخضع لقراءة تك 2 - 3. في تك 1:26، نحن أمام معطية مشتركة بين جميع البشر وهي تتجلّى في التسلّط على الحيوانات. وفي حك 2:22 - 23، هذه الصفة الالهيّة التي يشارك فيها الانسان، لا تتماهى فقط مع اللافساد، بل هي تُعطى أيضًا للنفوس القدّيسة والنقيّة (2:22ج؛ رج 1:15؛ 2:23). هذا يعني إخضاع تك 1:26 كما في تك 2 - 3، وتوسيع بعد تك 2 - 3 أبعد من موت الجسد. وبمختصر الكلام، يرى حك أن اللاموت (الخلود) واللافساد يتوافقان مع مخطّط الخالق من أجل البار (مخطّط الخلود). وتشديد حك 1:4 على صلاح الكون، يوجّهنا نحو قيامة الأجساد ولكن بشكل ضمني وفي تلميح بسيط.

ثالثًا: الموت والخطيئة

عاد حك 2:24 إلى تك 3 فماهى بين الحيّة والشيطان أو إبليس (هي المرة الأولى يتمّ هذا التماهي). هناك من انطلق من طقوس قمران ففهم حك 2:24ب: حزب إبليس يجرّب العالم. إذن، لم نعُد أمام البشر بل أمام جنود إبليس. ولكن أمام هذا الموقف صعوبات. لا بدّ من القول بأن حزب إبليس هم الأشرار الذين اختبروا الموت. أمّا الكاتب فبدا كأنه يضمّ في الموت الذي يفكّر فيه الأشرار، والذي يبدو لهم بعيدًا بحيث لا يهتمون به، موتًا حاضرًا منذ الآن، موتًا لا يدرون به. ولكن تنكشفُ لهم كلُّ بشاعته حين ينتقلون من هذه الحياة. في هذا التحوّل في لفظ »ثاناتوس« (موت)، لبثَ واقعُ الموت الجسدي في خلفيّة الكتاب. بل إن هذا الموت هو الذي يسلّم الأشرار لقوّة الموت وعذاباته. والنظرة إلى الموت الاسكاتولوجيّ جاءت في خط الموت الجسدي. ثم إن هذا الواقع المتشعّب للموت هو حاضر منذ الآن في حياة الأشرار. إن قوّة الموت تمارس منذ هذه الأرض تأثيرَها على الذين يُتمّون أعمال الموت. وتصوّرَ الكاتب هذا الموت الروحي، في العمق، وكأنه حرمان من البرّ. فنفس اللابار أو الشرير هي ميتة منذ الآن، وهي تتطلّع لا إلى الخلود الحقيقيّ، بل إلى الموت الحقيقيّ في الآخرة.

إن هذا التعليم يهيِّئ الطريق لتعليم بولس حول الخطيئة الأصليّة. نجد أن بولس أضاف أن الجميع خطئوا، وأن هناك علاقة بين خطيئة آدم وخطيئة أولاده. نحن لا نماهي إبليس مع الموت، وإن يكن الموت متأثّرًا بإبليس ومشاركًا معه. والموت ليس فقط موت الجسد، بل سلطان الموت الذي صار شخصًا حيًا يعمل في العالم بمشاركة الشيطان.

و - حياة الابرار وما فيها من مفارقة (ف 3 - 4)

على ضوء ما سبق وقلنا عن الخلود، توقّف الكاتب عند ثلاث مفارقات في حياة المؤمن. (1) الأبرار المتألمون: لا يقال إنهم يتألّمون ويموتون لأن الأشرار شاؤوا ذلك، كما في 2:10 - 20. بل نفكر في مفارقة أيوب الذي وصل إلى عالم الموت. فالمحن والموت ليست عقابًا من الله للبار. فا يمتحن مؤمنيه، والموت ليس كارثة بالنسبة إليهم. (2) السعادة ليست في كثرة البنين كما في مز 127:5؛ 128:1. وعقمُ الرجل والمرأة ليس عقابًا. فلا قيمة سلبيّة أو إيجابيّة للعقم أو الخصب في حدّ ذاته: المعيار الحقيقيّ هو معيار الطهارة والفضيلة والأمانة للربّ. وثمر هؤلاء الأبرار هو من نوع آخر.

وموت البار قبل وقته هو مفارقة أخرى تُقدّم في عودة إلى أخنوخ، الذي كان أصغر الآباء الذين عاشوا قبل الطوفان (365 سنة. رج تك 5:24 حسب السبعينيّة؛ سي 44:16 كما في اليوناني؛ عب 11:5). ذلك كما كان الأمرُ بالنسبة إلى أخنوخ: انتقال أخنوخ كان انتقال النفس الخالدة، كما قال فيلون، فيلسوف الاسكندريّة. بل قال مناندريس: »من أحبّه الآلهة مات شابًا«.

ز - الاسكاتولوجيا في سفر الحكمة

نتذكّر هنا ما قلنا عن تأثير أخنوخ وقمران على سفر الحكمة. ونتوقّف عند النقاط التالية:

أولاً: الأبرار في الآخرة

رأى حك أن الانماط الثلاثة لحياة ترتدي المفارقة، ليست سلسلة من الفشل. فنجاحُ كلِّ حياة يُدرَك في الآخرة (جاءت الأفعال في صيغة المضارع). وهذا النجاح يتأسّس، في جوهره، على تعلّق المؤمن با، على الفضيلة وعلى الحكمة (3:11، 15؛ 4:9، 17): »الأمناء في الحبّ يقيمون لديه« (3:3ب. وظيفة »اغابي« في الحياة على الأرض وفي الآخرة). فالأبرار يكونون مع أبناء الله  ويقاسمون القديسين مصيرَهم (الملائكة 5:5)، فينالون من مَلكهم (ا) السلطان على الشعوب والأكاليل (3:8؛ 5:16). وسعادتهم (3:13) لن تكون فقط الأجر العادل لفضيلتهم، بل نعمة ينالونها من الله (3:9؛ 4:15).

ثانيًا: الأبرار في ما وراء الموت

ينحدر الأشرارُ ويعرفون الانحطاط التام في الألم (4:19). ينالون العقاب لأنهم احتقروا البار وتركوا الله (3:10). يصعدون ويأتون مرتجفين، هم الذين كانوا متشامخين (4:20؛ 5:2، 8)، ليواجهوا البارَّ الممجّد، وليكتشفوا أن حساباتهم كانت خاطئة، وأنهم أخطأوا في نظرتهم إلى البار. ويعون أيضًا (وهم أحياء في الآخرة، في شكل من الأشكال) مستوى حياتهم الخلقيّة: رفضوا كل الأخلاقيات فعاشوا بلا أخلاق، بلا إيمان ولا ناموس. كانت أخلاقياتهم أخلاقيات القوّة (5:6 - 7، 13). وهكذا تحقق ما قيل لهم: حياة باطلة. لا ثبات فيها ولا متانة. هي الدخان.

ثالثًا: زيارة ا

يأتي الله ليزور المؤمن، ليفتقده، ويسأله الحساب. فخلال الحياة على أرض البشر، ولا سيّما الأشرار منهم، يبحث روحُ الحكمة (1:6 - 7). عند الموت، يزور الله الأبرار (3:7، 9، 13؛ 4:15) الذين ينضمّون إلى حاشيته ساعة الحساب النهائيّ (4:20). أما الأشرار فيصعدون من الهاديس (شيول، مثوى الأموات) ليتواجهوا مرّة أخيرة مع البار. في حالة الزنى، أولاد الأشرار يتهمون آباءهم (4:6). وشرورهم تتهمهم (4:20، وخز الضمير). حينئذٍ يكون يومُ الحساب (4:20) ويُعلَن الحكم (3:18).

رابعًا: القتال الكونيّ الأخير (5:17 - 23)

سيأخذ الله سلاحًا من الكون، لا لينظم الكون، بل ليحوّله إلى صحراء (5:23؛ رج إش 24:1) بسبب الشرّ. ويزول كل مُلكٍ ارضيّ (5:23) فلا يبقى سوى ملك الأبرار مع الله (5:16). ويُطرح سؤال: هل يتضمّن تمجيدُ الأبرار قيامةَ الأجساد؟ لا يلمّح الكاتب إلى هذا الموضوع، ولكن يمكن أن نستشفه من خلال الاسكاتولوجيا البيبليّة والامتداد الجليانيّ. ما أراد الكاتب أن يقوله على مستوى الاسكاتولوجيا، هو أن ممارسة الفضيلة والأمانة ، تؤمِّنان للبار الخلود الذي هو قربٌ من الله في الحبّ. أما الشرير فيستبعد نفسه من هذه السعادة الأخيرة التي دُعيَ إليها الإنسان.

2 - مديح الحكمة (6:22 - 9:18)

الحكمة هي في متناول الجميع. في 6:22 - 23، التزم الكاتب بأن يعلن على الملأ أسرار الحكمة، فعارض مقالَ اليونان عن أسرار خفية لا تُكشف إلاّ لنخبة صغيرة. اقتنع حك بأن كثرة الحكماء تؤمّن خلاص العالم (6:24). وإن هو قدّم نفسه بسمات الملك سليمان، فلكي يؤكّد أنه مثل جميع البشر، بولادته وبموته. فالملك ليس بكائن إلهيّ. وصلاة سليمان في ف 9 تجعل هذا الملك إنسانًا لا يختلف عن سائر البشر.

أ - الحكمة

هي تتفوّق على جميع الخيرات، على الغنى والسلطة والعلم والثقافة، وعلى الفضيلة أيضًا، وكلّها تكوّن الشخصيّةَ البشريّة. ومصدرُ هذا التفوق هو أن الحكمة هي صانعة (7:22أ؛ 8:6)، هي أمُّ (7:12) جميع الخيرات. قد يقدّم الكاتب هنا تفسير أم 8:30أ (أم ن. رج فيلون، »في السكر« 8:31). وفي أي حال هو يُبرز الدور الناجع للحكمة في فعل الخلق. هذا ما سيقوله في 9:2. بل إن الحكمة تواصل العمل لتؤمِّن التماسكَ والنظام في الكون (7:24؛ 8:1). والحكمة لا تحمل فقط جميع الخيرات إلى الإنسان الذي يفضّلها. فعملُها داخليّ أيضًا: هي مبدأ الحياة الدينيّة والخلقيّة (7:27 - 30). وفي النهاية، »القرابة مع الحكمة تؤمّن الخلود« (8:17؛ رج 6:17 - 19). صُوِّرت طبيعة الحكمة وأصلها في 7:22ب - 26. وعبر إحدى وعشرين صفة (3 × 7) للروح الذي في الحكمة، بحث الكاتب عمّا يجعل هذا الروح فوق العالم الماديّ: هو يلج كلّ شيء. يمارس نشاطًا خلقيٌّا، ولا يتوخّى سوى الخير. في 7:25 - 26، حدّد الكاتب علاقة الحكمة با: نظر إلى الله في قدرته، وإلى الحكمة كواقع وضعيّ ثابت. يرتبط وجودُها كلّه با، وتقترب منه اقترابًا كبيرًا بحيث يتحدّث الكاتب عن حبّ »زواجيّ« بين الله والحكمة (8:34). وأخيرًا، ينطلق الكاتب من طبيعة الحكمة وأصلها ليشرح عملها (7:27 - 8:1).

وكيف نفهم صورة الحكمة؟ لقد جسّد الكاتب الحكمة. هل تكون اقنومًا؟ هذا ما قاله بعض الشرّاح متحدّثين عن تشخيص لبعض الصفات الخاصة با، معتبرين الحكمة في موقع يتوسّط الشخصيّة والكائن المجرّد. ولكن حك لم يكن ليجعل من الحكمة وسيطًا بين الله وخليقته، لأن الحكمة لن تترك آنذاك  أيَّ نشاط في العالم. فما ينسبه الكاتبُ إلى الحكمة ينسبه إلى الله نفسه الذي به ترتبط ارتباطًا كليٌّا. وهناك شرّاح آخرون اعتبروا تجسيد الحكمة، تعبيرًا شعريٌّا لا أساس له في الواقع. ولكن حك  لا يبقى على مستوى صورة أدبيّة. فهدفُ تشخيص الحكمة التعبيرُ عن عمل الله في الكون، عن حضوره بالنسبة إلى العالم وإلى الإنسان، وبشكل خاص إلى الأبرار. وقال أحدهم: »السرّ اللاهوتيّ لحضور الله وسكناه، يصوَّر في تمييز مع ذاته ولاتمييز«.

ب - الحكيم

قدّم نفسه صاحبُ سفر الحكمة في ف 7 - 9 على أنه سليمان الذي وصل إلى قمّة مجده: كيف ولماذا نال من الله الحكمة وكل ما تحمله هذه الحكمة معها من خير؟ وُلد كما يُولد كلُّ إنسان (7:1 - 6؛ 8:19 - 20 لا كلام هنا عن وجود النفس قبل حياتها على الأرض)، ففضَّل الحكمةَ على جميع الخيرات (7:8 - 10). لهذا طلبها من الله (7:7؛ 8:21). إذن، الصلاة هي في أصل حكمة سليمان. وبالحكمة التي نالها امتلك ثقافة واسعة (7:20ب. لا كلام عن سلطة سحرية كما ظنّ البعض). بل هو رغب الحكمة مثل عروس (8:2 - 18). وبفضل موهبة الحكمة التي وهبها الله لسليمان المصلّي، اعتبر هذا الملكُ نفسه ملكًا عظيمًا. ولكن هذا المُلك هو مُلك الحكيم كما في 1:1ي؛ 6:1ي. ويتوجّه الكاتب إلى كل من يريد أن ينال الحكمة. يتوجّه إلى هؤلاء الشبان الذين سيقودون الجماعة، مثل سليمان. ثم إن كانت الحكمة ضرورية للانسان، فهي ليست في متناوله. ولا يستطيع أن يضع يده عليها. هو يتقبّلها فقط من يد الله  وعليه أن يطلبها في الصلاة (7:7؛ 8:21). وإذ تمارس الحكمة لدى الإنسان دورًا نالته من الله  فهي تؤمّن اللقاء الحقيقيّ بين الله والإنسان (7:27 - 28). وفي النهاية، لا يمكن الكلام عن الحكمة ولا مدحها، إلا بمعونة الله (7:15).

ج - الصلاة (9:1 - 18)

استعادت الصلاة في ف 9، المواضيع الرئيسيّة التي توسّع فيها ف 7 - 8، ولا سيّما حضور سليمان (9:7 - 12) بين جميع البشر (9:1 - 6، 13 - 18)، والضرورة المطلقة بأن ينال الحكمة (9:6، 13 - 17أ). بدايةُ ف 9 ونهايته تشدّدان على قطبَيْ نشاط الحكمة: في عمل الخلق (9:2) تتماهى مع اللوغوس، الكلمة. وفي التدبير الخلاصيّ (9:17 - 8)، تتماهى مع الروح القدس. والعلاقة بين الله 9 وآ 10 ب - 11 هي على المستوى نفسه، ولكنها تنطبق على وضع سليمان. وهكذا يدخل الملكُ في تاريخ خلاصٍ بدأ قبله ولا يُفهم إلاّ لأنه عمل الربّ الذي به يستطيع الإنسان أن يحقّق دعوتَه (9:2ب - 3، 7 - 8).

وتحمل الحكمة إلى الإنسان المعرفة العميقة لمشيئة الله في شأنه، كما تعبِّر عنها التوراة. تماهت أيضًا مع الروح (1:15)، فحقّقت في الآباء المواعيد التي ذكرها إر 31:33 - 34؛ حز 36:26 - 29: الحكمة قوّة من عند الله. قوّة في داخل الإنسان، وهي تؤمّن إصلاح الخاطئ على المستوى الخلقيّ (9:18أ؛ 10:1ج).

3 - أعمال الحكمة (ف 10 - 19)

أ - الحكمة والآباء (ف 10)

أراد الكاتب أن يرتبط مع 9:18 فاستعدّ لقراءة أحداث سفر الخروج. انطلق يجول في سفرَي التكوين والخروج، متوّقفًا عند الوجوه الكبرى في تاريخ البدايات هذا دون أن يسمّي أحدًا، لأن كل واحد يقدّم للحكيم بُعدًا نمطيٌّا. افتتح السلسلة مع آدم، فأبرز وجه آدم بما فيه من شمولية ودور الحكمة في العالم. وبين الآباء، ذكر 10:10 يعقوب. ولمحّ 10:10 ح د إلى تك 28:12ي. والقديسون يدلّون على المعبد السماويّ (ترجوم تك 28:12ي؛ سفري عد 18:20). وهكذا شدّد الكاتب على نشاط الحكمة في الوحي. غير أن النشاط الذي يُبرزه الكاتب في ف 10 هو على مستوى الخلاص، فيتوسَّع في 9:18. آدم كان أول من انتُزع من سقطته بواسطة الحكمة. وإذ تحدّث الكاتب عن خطيئة آدم الشخصيّة، قدّم تفسيرًا لما في تك 3. وبفضل الحكمة، لبث ابراهيم قويًا أمام العاطفة الابويّة، حين طُلب منه أن يقدّم ابنه (10:5ج). وقاوم يوسف التجربة بفضل الحكمة. كل هذا يدلُّ على أن الحكمة تمارس تأثيرَها في داخل الانسان.

ب - استعادة نشيد الخروج (10:20 - 19:9)

انطلق الكاتب من خر 15:6 - 17 (رج إر 32:17 - 22؛ نح 9:9 - 31؛ مز 77:12 - 12) فما توجّه إلى القارئ، بل إلى الله  وذلك في10:20 - 19:9، وفي 19:22. وحين لا يكون ضمير المخاطب حاضرًا (أنتَ)، نكون أمام خطايا اقترفها الأعداء  والعقاب اللاحق. غير أن »أنت« الذي يتوجّه إلى الله  يدخل أيضًا في إطار الكلام عن الأعداء (خصوصًا في التجاوز الأول، 11:15 - 12:27): هكذا شدّد على اعتدال الله حين يعاقب المذنبين. وهذا الاعتدال يتأسّس على حبّ الله لخليقته. على رحمته التي تتوخّى المصالحة مع الخطأة. وتجنّبَ الكاتبُ أن يمتدح بني اسرائيل، لأنهم خطئوا في أوقات من تاريخهم: ولا يُذكر اسرائيل إلاّ في عودة إلى ا: هو يخصّ الله (12:19، 20). في الحقيقة، ليس الله فقط إله اسرائيل، بل إله الكون، والخالق، والعناية، والأب (14:3)، والسيّد الذي يحبّ الحياة (11:26). ومخلّص العالم (16:7).

ج - محبّة الله للبشر (11:15 - 12:27)

بعد الكلام عن الضربات التي حلَّت بالمصريين بسبب الحشرات (11:15)، قدّم الكاتب استطرادين، يبدأ الأول هنا وينتهي في 12:27. فشرح لماذا يعاقب الله بوسائل ضعيفة.

l التربية الالهيّة. يعاقب الخاطئَ عقابًا يناسب ذنبه. ويتصرّف الله بهذا الشكل ليقود الخاطئ إلى التوبة (11:23؛ 12:10)، وأخيرًا إلى الإيمان به (12:10). إن رفض الخاطئ أن يعود رغم العلامات التي قدّمها الله عن قدرته (12:17 ب)، واصل الله عقابَه. وإن تقسّى الإنسانُ حتى النهاية، كان العقابُ الأخير الموت (12:27د).

l سبب هذا الاعتدال. يتصرّف الله بهذا الشكل، لا عن ضعف، ولا عن جهل. ولا عن خوف من شخص أعظم منه (11:17 - 20؛ 12:9 - 14). بل لأنه قاسَ كلّ شيء (11:20د) حتى العقاب. فرحمة الله هي تجلٍّ لهذا القياس. وا رحيم، لا لأنه ضعيف، بل لأنه كليّ القدرة. وهذه القدرة هي قدرة الخالق الذي لا يقدر إلاّ أن يحبّ خلائقه، لأن روحه الخالد هو في عمله كلّه (11:23 - 12:1).

l العبرة من هذا الاعتدال (12:19 - 22). إن كان الله يتصرّف بهذا الشكل مع الوثنيين، فما يكون تصرّفه مع اسرائيل؟ نجد أن تصرف الله هذا يحمل عبرتين لبنى اسرائيل: من جهة، عليهم الاعتدال والرحمة مع الخطأة. ومن جهة ثانية، إن هم خطئوا، فليَرْجوا رحمة الله التي تمنح العودة.

د - انتقاد الديانات الوثنيّة (ف 13 - 15)

إن هذا الاستطراد الثاني يحاول أن يشرح أن الله عاقب المصريّين بالحيوانات، لان عبادة الحيوانات التي مارسها المصريون، هي أشنع أنماط الديانات الوثنيّة القديمة.

أولاً: الديانة الكونيّة (13:1 - 9)

ماذا يقول هذا النص؟ إن إله الوحي، الاله الذي هو (خر 3:4 حسب السبعينيّة)، هو ذاك الذي يسمّيه الفلاسفةُ صانعَ الكون. لا يبرهن الكاتب عن وجود الالوهة، بل يبيّن أن الفلاسفة اليونان تاهوا حين تكلّموا عن طبيعة الالوهة، فألّهوا عناصر الكون. إن التمييز بين وجود الالوهة وطبيعتها، الذي نجده ضمنًا في حك، أمر معروف في العالم القديم (شيشرون، خطيب رومة، فيلون، فيلسوف الاسكندريّة). فلو طبّق الفلاسفةُ نظريّة القياس في بحثهم عن طبيعة الالوهة، لتجنّبوا تأليه الكون. نحن هنا في أول خطوة في تاريخ الفكر حول اللجوء إلى القياس في الربوبيّة وعلم الالهيّات. فشلَ الفلاسفةُ، ربّما لأن سرّ الوحي لهم يصل إليهم كما وصل إلى شعب اسرائيل. ويبدو أن هؤلاء الفلاسفة كانوا من الرواقيين.

ثانيًا: عبادة الأصنام أو الاصناميّة (13:10 - 15:13)

نكتشف في هذا العرض ميزتين: في الاولى، يحلِّل الكاتب، في بداية خطبته ونهايتها، العملَ الاصناميّ، عبادة الأصنام (13:10 - 19؛ 15:7 - 13). أما قلب العرض (14:11 - 31) فيشرح أصل عبادة الأصنام وتوسعها إلى نتائجها اللاأخلاقيّة. استلهم الكاتب ما كان يُفعل أمام الاله ديونيسيوس، إله الطبيعة، فأسّس نقدَه على ما يقوله الكتاب عن الخلق. ثانيًا، هناك قطعتان متوسطتان تعارضان بين عبادة الأوثان وتاريخ الخلاص كما عاشه شعب اسرائيل (14:1 - 7؛ 15:1 - 6). ذُكر هنا بشكل ضمنيّ الظهورُ الإلهي (تيوفانيا) بعد خطيئة العجل الذهبيّ (خر 34:6)، وعبارةُ العهد (اكون لكم إلهًا وتكونون لي شعبًا). وحين يلتزم الشعب بالعهد، يُقرُّ بسلطان الله.

هـ - أحداث الخروج (11:1 - 14؛ ف 16 - 19)

نجد مبدأ تفسير هذه الفصول في العنوان: »أنجحت الحكمةُ أعمالَ شعبه على يد نبيّ قدّيس« (11:1؛ رج تث 34:10 - 12). وفي الخاتمة، في 19:22: »في كل شيء عظّمتَ شعبَك، في كل زمان وفي كل مكان«.

وجد اسرائيل نفسه يواجه الاعداء (11:3، 5) الأشرار (11:9). خطئوا أولاً حين أرادوا موت الأطفال الذكور لدى العبرانيين (11:7؛ 18:5؛ رج خر 1:22). ولكن خطأهم الكبير هو أنهم استَعبدوا بني اسرائيل (17:2؛ 18:4). وأخيرًا، ضلالهم الدينيّ حين عبدوا الحيوانات وعاندوا، فما أرادوا أن يعرفوا الرب (16:16).

والمحارب ليس اسرائيل، بل الربّ (11:8؛ 16:5)، يده (16:16)، كلمته (18:15). وحكم الله هذا (16:18؛ 17:1) يتهّم في الكون وبالكون الذي هو أداة حرب ناجعة للأبرار (16:17). وتتّخذ هذه الحرب شكلين: فعنصر الكون الواحد يعارض الأشرار ويؤاتي الأبرار (11:5؛ 16:24). ثم إن العنصر الذي كان أداة خطيئة للأشرار، انقلب عليهم فصار عقابًا (16:1). إذن، نرى الأشرار يقاسون العطش والجوع والسمّ ودمار الغلال بتقلّبات الطقس، والظلمة، قبل أن يموت أبكارهم في الضربة العاشرة، ويموتوا هم أنفسهم غرقًا في البحر الأحمر.

هذا لا يعني أن شعب اسرائيل طاهر بالنسبة إلى خصومه. فهو خاطئ أيضًا (11:8 - 9). ولكن العقاب يبقى موقتًا. ففي التربية الالهيّة، يكون الحدث علامة تنير الأبرار (11:8 - 9؛ 16:4ب، 11، 21 - 22، 26، 27 - 28؛ 18:21) والأشرار (11:13؛ 6:8، 18؛ 18:13، 18 - 19) حول تصرّف الله في هذا العالم وفي التاريخ البشريّ.

لم تلقَ هذه التربية الالهيّة من نتائج ايجابيّة لدى الأشرار. لا شكَّ في أنّهم شعروا بأن الله يعمل من أجل شعبه (11:13). وفي نهاية هذه الأحداث، أخذوا موسى على محمل الجدّ (11:14). ومع أنهم رفضوا أن يعرفوا الربّ (16:15). ومع أنهم لم يقدروا أن يفهموا أحكام الله التي تصيبهم (17:1)، طلبوا السماح من الأبرار، في النهاية، لأنهم عادَوهم (18:2). وأقروا أن هذا الشعب هو ابن الله (18:13). ولكن هذا التصرّف لم يستمرّ، فيدلّ الأشرار على موقفهم (19:2 - 3).

وحملت خيراتُ الله لشعبه دروسًا روحية دامت طويلاً. فالحيّة النحاسيّة ذكّرتهم بوصيّة الشريعة (16:6)، فتعلموا أن كلمة الله هي التي تشفي الجميع (16:12). وعلَّم المنُّ أبناء الله أن كلمة الله تُقيت أولئك الذين يؤمنون به، وتعلّمهم الصلاة منذ الصباح (16:26 - 28). وعمود النار الذي أضاء الظلمات، أعلن الشريعة التي هي نور لافاسد يجب على بني اسرائيل أن ينقلوه إلى العالم (18:4). والطعام الذي أكلوه بعجَلة خلال الليل الفصحيِّ، كان مناسبة لابناء ابراهيم بأن يقطعوا عهدًا مهما كلّفهم التزامُهم هذا (18:9). وذكر الكاتب أيضًا طقس التكفير الذي أتمّه هرون في البرية (18:20 - 25). وفي النهاية، حين عبر الأبرارُ البحر كما على اليابسة، أنشدوا الربّ الذي خلّصهم (19:9).

وتحتفظ خاتمةُ الكتاب بشكل خاص من أخبار الخروج، بتجديد الخلق. وبعد هذه الخاتمة يوجَّه الفكرُ نحو خلاص أجساد الأبرار. وفي 19:22 نقرأ نهاية بشكل مديح، وهي تؤكد أن خبر تاريخ الخلاص في الماضي يُلقي بضوئه على الحاضر كما حلّله الكاتب في ف 1 - 6. وبُعدُ الدعوة لاتّباع الحكمة، يستضيء حين نعرف أنها تماهت مع كلمة الله الخلاّقة (9:2) التي نجد تعبيرًا عنها في الشريعة. ومحنةُ الموت التي أراد الأشرار أن تصيب بني اسرائيل، تمّ تجاوزُها بفضل تدخّل الله في الكون. لقد منح شعبه من الخيرات ليذكّره بكلمته، والطعام الذي وهبه له (19:21ج) هو طعام الخلود.

خاتمة

خلق الله كل شيء من أجل الحياة، فاختار الأشرارُ الموت واضطهدوا الأبرار. هؤلاء قاسوا موت الجسد ولكن الحياة في الأخرى تكون ميراثهم. وسيعرف الأشرار بذلك عبر الموت، حين يرون مجد الأبرار، ويرون الله يتسلّح بقوى الكون فيزيل هذا العالم الذي صار شريرًا. وإذ أراد لنا الكاتب أن نكتشف طريق الحياة، دعانا إلى ممارسة البرّ واقتناء الحكمة (ف 1 - 6). وهذه الحكمة هي عطيّة مجانيّة من الله. ونحن نطلبها فنحبّها ونفضّلها على جميع الخيرات. والحكمة التي ينالها الإنسان تدفعه إلى ممارسة البرّ وبالتالي إلى الحياة. كما تعطيه أن يعرف الكون الذي تسوسه بحضورها الناشط (ف 7 - 9). والبرهان أن الحكمة تحمل الخلاص وتقود إلى الحياة، نجده في مثل الآباء (ف 10). كما أن أحداث سفر الخروج برهنت، عند تأسيس شعب اسرائيل، أن الله استعمل هذا الكون ليعاقب الأشرار الذين تجاوزوا كل حدود (ف 13 - 15)، وليدافع عن الأبرار (ف 16:19). وما حصل في بداية شعب الله  يتجّدد في النهاية من أجل أبنائهم الذين لبثوا على الأمانة. وموتُ الأشرار وخلاص الأبرار في عالم تجدّد من أجل الأبرار، في عالم صار المن فيه طعام الخلود (19:21)، صار المن قريبًا من كلمة الله (16:16)، ومن الحكمة (كما يقول فيلون)، كلُّ هذا يعود بالقارئ إلى القسم الأول من الكتاب.

إن حياة البار لا تجد ما يبرّرها بدون نظرة إلى نهاية الكون والإنسان، إلى الاسكاتولوجيا التي تفترض الكوسمولوجيا أو النظرة إلى الكون. لقد قرأ حك النصوص البيبليّة السابقة، ولا سيّما تلك التي تعود إلى أصل بني اسرائيل في مصر وفي البرية، كما فعلت أسفار الجليان والرؤيا. فهنا أيضًا يتضمّن التاريخ كوسمولوجيا، ويؤسّس في الوقت عينه الانتظار الاسكاتولوجيّ. إن طرق الخلاص تمرّ عبر الكون الذي يسوده الله وحده من أجل اخصّائه. والبرهان على ذلك ما يقوله سفر الخروج

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM