الفصل 4: التعليم اللاهوتيّ في سفر الحكمة

التعليم اللاهوتيّ في سفر الحكمة

لم يكن صاحب حك فيلسوفًا ولا لاهوتيًا. وما اهتمّ بأن يقدّم عرضًا منهجيًا لنظام فكري، بل أراد ان يحضّ قرّاءه على البحث عن الحكمة وعن الحياة التي تتطلَّبها. هو لا يُعنى بتحديد أفكاره بدقة وبترتيبها في نظام. كتابُه تأملُ نفس ورعة ونداء شخص مؤمن إلى اخوته. لقد اراد ان يبين ان الحياة الحقة والأبديّة تقوم بان نُتمَّ ارادةَ الله بقيادة الحكمة.

1 - كتاب الحكمة ومسألة ا

تعليم حك اللاهوتي هو تعليم العهد القديم. انما هناك نقاط شدّد عليها الكاتب بسبب هدفه الدفاعي.

ما كان المعلمون يتكلّمون أبدًا عن براهين وجود الله  فهذا أمر نافلٌ في محيط مؤمن. أما صاحب حك، فقد كتب لجماعة مثقَّفة تبحث عن الحجج، فتطرَّق إلى وجود الله كما اكتشفه عن طريق القياس وبواسطة العقل (13:1 - 19). فالذين يتجاهلون هذا الوجود لا عذر لهم (رج روم 1:18ي). هذا لا يعني اننا نقع في انتروبومورفية ساذجة. فا هو السامي (11:23)، وقدرتُه التي خلقت كلَّ شيء (1:14؛ 11:7)، لا يحدّها شيء (11:21؛ 16:24). إنه في كل مكان وهو يعرف كلَّ شيء (1:6 - 10). رتَّب كلَّ شيء بقياس وعدد ووزن (11:17 - 20). إنه العادل وعدالته تفوق كلَّ حد (12:12 - 18). كلُّ شيء يرتبط به، الحياة والموت (16:13)، بل حتى الممالك الوثنية (6:1 - 11). لا شيء يفلت من قدرته التي تحفظ الكائنات، ولا من عنايته التي تهتمّ بجميع الخلائق (6:7 - 8؛ 11:26؛ 12:12 - 13). هو يدبِّر كلَّ شيء حتى السفن على المياه (14:3). ومن قدرته السامية واستقلاليّته، تنبع رحمتُه الحرة. هو يحبّ كلَّ الكائنات بدون استثناء، وقد كوّنها من أجل الحياة، وهو مستعد ان يغفر للتائبين إذا كانت توبتُهم صادقة (9:1؛ 11:21 - 12:2؛ 15:1). من هذا القبيل، يبدو حك في خط النبي هوشع مع نظرة أكثر شمولاً. فرحمة الله لا تصل فقط إلى شعب اسرائيل، بل إلى جميع البشر. وهكذا يهيّئنا حك لنقرأ ما كتبه يوحنّا مع التشديد على المحبة التي تغفر.

إذا كان الأمر هكذا، نفهم ان معرفة الله بنقاوة قلب هي أساس الحياة الاخلاقيّة (1:1 - 5). ومقابل ذلك، لا يستطيع الله الاّ أن يعاقب الذين لا يريدون أن يعرفوه بسبب ديانتهم الوثنية أو بسبب جحودهم لإيمانهم اليهودي، والذين يبتعدون عنه بالخطيئة. هو يعاقب اخصّاءه ليؤدِّبهم وينبّههم ويمتحنهم. أما الذين يستخفون به، فهو يعاقبهم ويحكم عليهم، ولكنه يدينهم برفق. وان رفضوا أن يفهموا، تركهم وأفكارَهم الخاصة.

هذا التعليم اسمى من كل ما يستطيع ان يقدّمه الوثنيون. فهم ان عرفوا الله السامي، أحاطوا معرفتهم بظلام كثيف، كما عند افلاطون، أو اعتبروه الكائن المجرد كما عند ارسطو، أو مزجوه بالكون كما عند الرواقيين. هذا التعليم بعيد عن تعليم فيلون الذي يشدِّد على تسامي الله تشديدًا يقربّنا من اللاأدرية ومن الثنائية، لان لا علاقة للمادة بما هو نقيّ بلا حدود. وهذا التفوّق في تعليم حك، يعود إلى التوراة وإلى التقليد اليهودي المتمسِّك بوحدانية الله. اما النظرة الشاملة، فإن عادت إلى العالم الرواقي، فهي تعود بالاحرى إلى الانبياء.

لا يعطي حك للرب لقبَ ملك، ولكنه يتكلم عن مُلك الله. وهذا المُلك هو تسلّط اخلاقي لا مملكة محلية. الله يمارس مُلكه من أعلى السماوات (9:10؛ 18:15) بواسطة الملائكة (10:10)، ويقود البشر إلى هدفهم بطرق سرية (2:22). اما الأبرار فيشاركون الله في ملكه بعد موتهم (3:8؛ 4:2؛ 5:16) ويملكون معه إلى الأبد (6:20 - 21).

وتجاه الله الكائن (3:1) تقف الأوثان. تحدّثت بعض أسفار التوراة أو الكتب المنحولة عن بطلان الأوثان وعن علاقتها بالشياطين. وكرَّس حك جزءًا كاملاً للحديث عن عبادة الأوثان، فعبرَّ عن ردة الفعل اليهوديّة تجاه هذه الظاهرة، وعن اعتقاد بتفوّق الديانة الاسرائيليّة التي سلّمها الله إلى شعبه لينقلها إلى العالم. عرف حك الوثنية وميَّز بين أنواع العبادات. هاجم الوثنية بطريقة علميّة وبوسائل مأخوذة عن الفلاسفة اليونانيين. وهكذا نظر الكاتبُ الملهم إلى قوى الطبيعة التي بها ربط الرواقيون أصل عبادة الاصنام (13:1 - 3)، ثم عبادة التماثيل التي تتفسَّر بتعليم يجعل البشر يؤلَّهون بعد موتهم (13:10 - 15:13) والتي ترتبط بالعبادات الخفيّة والفوضى الاخلاقيّة (14:21 - 23). وأشار حك أخيرًا إلى تعميم عبادة الاصنام في العصر الهيليني (15:4 - 5). ولكن ما يزيد نفور الكاتب، هو عبادة الحيوانات التي مارستها مصر حتى الزمن المسيحي (11:15 - 16؛ 12:23 - 24؛ 15:18 - 19). ان هذه العبادات لم توجد من البدء، بل هي إفساد للديانة الحقة. لقد كانت البشرية موحدّة في اصلها، ولهذا سيكون لهذه الشعوذات نهاية (14:11 - 14).

2 - كتاب الحكمة ومسألة الحكمة

مالت التوراة إلى تشخيص (اعتبارها كشخص هي فاعل) بعض صفات الله. فكلمة الله تبدو شخصًا حيًا (9:1 - 2؛ 16:12) سيُفني أبكار مصر (18:15 - 16). نحن هنا أمام صورة شعريّة، وبعيدون كل البعد عن تعليم اللوغوس (الكلمة) عند الرواقيّين وعند فيلون. نحن أمام قدرة الله الخلاقة كما في تك 1:1ي.

وعرفت التوراة روح الله. وذكر حك أيضًا روح الله الذي يسكن في الإنسان ويعمل فيه (1:4 - 5؛ 12:1)، ويحفظ كل المخلوقات في الوحدة داخل الكون ويعرف كل شيء (1:7). يبدو هذا الروح شخصًا (1:5 - 7؛ 9:17 - 18). ولكن حين ننظر إلى الأمور عن قرب، نرى ان الكاتب لا يميّز هذا الروح عن الحكمة (9:17). فلكليهما الصفات عينها: يُبغضان الشر (1:4؛ 1:5)، ويدخلان في كل شيء (1:7 و7:22 - 24؛ 8:1). وينسب الكاتب الملهم إلى الحكمة ما نسبت سائرُ الكتب إلى الروح مثل الهام الأنبياء (7:27). وسيتحدّث النص أيضًا عن روح الحكمة (7:22). اما العهد الجديد، فسيتحدّث عن شخص الروح القدس داخل الطبيعة الالهية.

أما المسألة المركزيّة الكبرى التي تُطرح في حك، فهي الحكمة الالهية التي تشكل اعلانًا لوحي كلمة الله. ان الكاتب الملهم يبقى مرتبطًا بسابقيه، وان عباراته تذكرنا بعبارات أم 8:1ي وسي 24:1ي. ولكن هناك نقاطًا تعليميّة تبدو موسعة: علاقاتُ الحكمة با، دورُها كسبب فاعل، ودورها في تاريخ اسرائيل، فتبيِّنُ كم يُحبّ الله البشر. وها نحن نتوقّف عند هذا التعليم.

ان مفهوم الحكمة قديم جدًا في التوراة، وهو يرتبط بتيارين فكريين: تيّار بشري وارستقراطي نجده في أقدم الأمثال، ويتطرق إلى الحكمة العمليّة المستخرَجة من الاختبار. وتيّار نبويّ يظهر خاصة في الكتب التاريخيّة، وينظر إلى الحكمة كامتياز الهي ينقله الله إلى البشر. هكذا تُشبِه الحكمة روح الرب وتُذكَر كثمرة لهذا الروح (أش 11:2).

وامتزج التياران بعد الجلاء مع سيطرة التيار النبوي، وظهر تعليمهما في الأسفار الحكمية (كتبوا أجمالاً بعد الجلاء) ومنها سفر الحكمة.

يمكننا أن نميّز هنا حكمتين: حكمة الهية، وحكمة نُقلت إلى البشر. فالحكمة هي أولاً صفة من صفات الله تساعده على أن يتصوّر ويتمّم أعماله الخارجيّة (من خير وجمال). تتّحد هذه الحكمة با وتنبع منه روحيًا. هي تُقاسمُ الله عرشَه السماوي (9:4). خرجت منه، فكانت انبثاقًا من مجده. لهذا يرى فيها الكاتب الصفات الروحية: إنها الخير الاسمى الذي لا مادة فيه (7:22 - 18:1). إنها قرب الله (8:3 - 9:4) وبالتالي تعرف كلَّ أسراره. إنها تختار بين أعمال الله تلك التي يجب أن تنتقل من التصوّر إلى التنفيذ، فتُتمّ كلَّ شيء (8:3، 4، 6، 7:21 - 22). كانت حاضرة مع الله حين خلق (9:9 - 12)، وهي تلعب دورًا في حفظ الله للكون وتدبيره (1:7؛ 7:27؛ 8:1). كانت بقرب الله حين جعل الإنسان رئيس الخلائق (9:2 - 3). ولكنها تلعب أشرف دور في تقديس نفوس الأبرار (7:27). وهكذا تقترب الحكمة من روح الله القدوس. ويتطرّق الكاتب إلى دورها الفاعل (7:22؛ 8:4)، بل يتحدث عن روح الحكمة (7:22 - 23). ولكن، هل نحن أمام اقنوم، أمام شخص ا؟ هذا الضوء الأخير سيصل إلينا مع العهد الجديد الذي يبيّن ان الحكمة هي كلمة الله  هي الله الخالق والمخلّص كالآب والروح.

وان كانت هذه الحكمة خيرًا إلهيًا محضًا، الا ان الله لا يحتفظ بها لنفسه. فنحن نجد بعض انعكاساتها في الإنسان. ونَقلُ الحكمة الذي يرتبط بارادة الله الحرة وصلاحه، يتطلّب استعدادات اخلاقيّة منها الابتعاد عن الخطيئة (1:4 - 5؛ 6:15 - 16؛ 7:27). لا يحق لنا ان ننال الحكمة، وكل ما نقدر ان نفعله هو ان نصلي لنحصل عليها مهما كانت حالنا (7:1 - 14؛ 9:1 - 18). الحكمة صديقة البشر (1:7)، وهي لا تطلب إلاّ أن تعطي ذاتها للذين يرغبون فيها (6:12 - 16). وهي تقودهم إلى الخلاص وإلى مشاركة الله في ملكه (6:17 - 21)، لأنها تهتمّ بأمورهم وتُعينهم في كل شيء. معها تصل إلينا كل الخيرات: العلوم (7:15 - 22؛ 8:8) والنجاح والارتياح (8:2 - 18). وهي تقدر ان تعلّم الانسان كلَّ شيء وبالاخص اسرار الله ومشيئته (9:13 - 18)، وتساعده للحصول على صداقة الله (7:1 - 14).

يمتدّ دورُ الحكمة إلى الأمور العاديّة كالملاحة (14:3 - 7). ولكن عملها الأدبي (8:7؛ 9:17) توقّف خاصة في اسرائيل (5:1 - 6)، في هذا الشعب الذي به سيشعّ النورُ على العالم (18:4). هنا يتوسع الكاتب في دور الحكمة الخلاصي خلال الفصول التاريخيّة، فينسب إليها الكاتب الملهم أعمالاً تنسبها التوراة إلى الله. ولا تضاربَ في ما يقول، بسبب اتحاد الحكمة با اتحادًا حميمًا.

3 - كتاب الحكمة ومسألة المصير البشري

كان للتوراة نظرة واضحة إلى طبيعة الإنسان: خلق الله جسدَنا ونفخ فيه نفسنا التي تجعلنا شبيهين بخالقنا وعلى صورته. والنفس تعيش بعد الجسد. هذا الاعتقاد ظل خفيًا وغير واضح بسبب فقر المفاهيم الفلسفية عند العبرانيين. وبدأ يتوضّح بعد الجلاء، فوصل إلى فكرة حياتنا قرب الله وفكرة قيامة أجسادنا في النهاية (دا 12:2). وسيعود حك فيما بعد، إلى فكرة حياتنا قرب الله.

يميّز حك في الإنسان عنصرين: الجسد والنفس، ويسمي النفس أيضًا الروح (9:15) والنسمة (15:16؛ 16:14). يتكوّن الجسدُ في الحشا الأمومي (7:1 - 6) وينفخ فيه الله النفس (15:11) فيجعلنا شبيهين به (2:23). الجسد جزء عادي من كياننا (1:4) وليس سجنًا للنفس، مع انه يثقِّل عليها بسبب طبيعته الفاسدة (9:15). المادة صالحة ان استعملناها حسب النظام (8:18؛ 14:4، 7). والروح مُعار للإنسان، وسيقدِّم عنه حسابًا (15:11، 16). الإنسان حرّ وهو يقدر ان يختار الخير والشر، الا ان حرّيّته ليست مطلقة. التربية والوراثة تؤثّران على الإنسان فتدفعانه إلى الانحراف والضلال (3:16 - 19؛ 4:3 - 6؛ 12:11).

ما هو مصيرُ هذا الكائن المعقَّد؟ هناك نظرة وثنية إلى الحياة (1:16 - 2:9) تقوم بأن نتمتّع بها ما دام لنا وقت. هذه النظرة هي خاطئة لأنها تصل بنا إلى الموت والهلاك. أما نظرة الله إلينا فأعمق من هذا: خُلق الإنسان للحياة (1:12 - 15)، وما دخلَ الموتُ إلى العالم الا بحسد الشيطان (2:24 - 25). وبما ان الله يريد الحياة للجميع فهو مستعدّ لأن يغفر (11:21 - 12:2). هذه الحياة تتضمَّن مرحلة أرضيّة في الحكمة أي في المعرفة والفضيلة وفي عبادة الإله الحقيقيّ وخدمته. ان روح الله يسكن في نفس البار ولا يُطرد منها الا بالخطيئة (1:4 - 5). وقد جعل الإنسانَ ابن الله وصديقه (2:16 - 18؛ 5:5؛ 9:4؛ 7:1 - 14، 27) بفضل الحكمة التي نالها. وهذه الحياة التي بدأت على هذه الأرض، تتضمّن الحياة الجسديّة والحياة الروحية، وهي لا تنتهي أبدًا. هي تقود إلى الخلود (اثناسيا أو عدم الموت 3:4؛ 4:1؛ 8:17؛ 15:3) وإلى الصلاح (افتارسيا أو عدم الفساد 2:23؛ 6:18 - 19) سبب وجودها. لا نتحدث عن الخلود والصلاح بالمعنى الفلسفي، ولن نطلب براهين عن طبيعة النفس. نحن أمام عطية من الله تتجاوز امكانيّاتنا الطبيعية. فلو قُتل البارُ ظلمًا وأُزيل قبل أوانه دون ان يترك عقبًا وبعد حياة فاشلة ظاهرة، فهو يحيا في الله  في السلام والنور، والحق والمحبة (3:1 - 3، 7 - 9؛ 4:7 - 17؛ 5:15). الموت عبور لا قيمة له بالنسبة إلى البار، ولا يستحقّ اهتمام الكاتب الملهم، والألمُ محنةٌ عابرة تنقّي الانسان وتطهّره (3:1 - 4:19؛ 5:15؛ 6:15 - 21).

اما حياة الشرير وان كانت لامعة أمام البلهاء، إلاّ انها موت حقيقي، موت مسبق في هذا الوجود. ولكنه يتحقّق بطريقة قاسية، عندما تأتي النهاية، في الظلام والألم (1:16؛ 2:21 - 25؛ 5:6 - 13؛ رج 1:10 - 11؛ 4:18 - 19). فإذا كان البار ينال جزاءه قرب الله  أي في السماء، فالشرير يُعاقَب في الجحيم (هاديس عند اليونانيين وشيول عند العبرانيين هما مثوى الموتى. رج 1:12؛ 4:19؛ 17:14، 21).

نجد هنا تطورًا هامًا بالنسبة إلى معطيات الوحي السابقة، رغم ان الكاتب الملهم يحتفظ بأمور كثيرة أخذها من سابقيه: فهو يتحدَّث عن الخلود في الذكرى أو في النسل (4:1؛ 8:13؛ رج 3:16 - 19؛ 4:3 - 6). والجحيم يدل على الموت الذي يشارك فيه الجميع، أو المكان المشترك الذي يقيم فيه الراقدون (16:13 - 14). وسيأتي الوحيُ المسيحي فينتزع آخر ما تبقّى من غموض.

لن نعجب في هذه الظروف إن رأينا حك يهتم اكثر من سائر أسفار التوراة، بمصير الأفراد. هو يتصوَّر عالم البشر كمواجهة بين حزبين: حزب الأبرار وحزب الأشرار. فالأولون ينالون الأكليل بعد الجهاد الذي قاسوه ببسالة ويملكون مع الله إلى الأبد ويسودون معه الأمم (4:2؛ 5:16؛ 6:12 - 21). أما الأشرار فيلاحقهم الغضبُ الإلهي الذي يحاربهم بالعناصر المتجمعة (5:17 - 23). والتمييز بين الحزبين يَتمُّ بزيارة (افتقاد) من الله (2:20؛ 3:7؛ 4:15)، أو بفحص ودينونة (1:9؛ 4:6؛ رج 3:18).

فكرة زيارة (أو افتقاد) الله تتعلّق تارة بالفرد في مجموعة (3:13) وطورًا بالجماعة (19:15 بالنسبة إلى المصريين؛ 14:11 بالنسبة إلى الاصنام؛ 3:7 - 9 بالنسبة إلى الأبرار). هذا يدّل على أن المجازاة الفرديّة تتميّز عن المجازاة الجماعيّة. ونجد التمييز ذاته حين نتحدّث عن الدينونة: هذه الدينونة تكون قاسية لمن تمرَّس بالمسؤوليات (6:1 - 11)، وتَتمّ في مرحلتين: دينونة خاصة بعد الموت (3:1 - 4:6، 18، 19)، ودينونة عامة في نهاية الزمن (4:20 - 5:23). لا نجد فصلا قاطعًا بين هاتين الدينونتين، لا في حك ولا عند الأنبياء ولا كتّاب الرؤى.

لا يتحدث الكاتبُ الملهم عن قيامة الأجساد بجلاء: فتصوُّرُه للإنسان المكوَّن من نفس وجسد، والصورة التي يعطيها عن الدينونة العامة والتي تشبه مسرحًا أرضيًا يتواجه فيه الأبرار والأشرار (5:1 - 2، 17ي)، وتصوره  الذي يريد الحياة (2:23ي) لا الموت، والذي يقدر ان يعيد الحياة إلى الذين مروا في الموت (14:13)، وأمانتُه للاعتقاد اليهودي المطابق للقيامة، والمقابلة بالنظرة القائلة بقيامة الاجساد، كلُّ هذا، لا يُفصح عنه الكاتب، لكي لا يصدم المحيط الوثني الذي سيقرأه والذي كان معارضًا لفكرة قيامة الموتى.

وبعد هذا، هل نسي الكاتبُ الملهم الدورَ المحفوظ لشعب اسرائيل في تاريخ البشريّة الديني؟ لا، لم ينسَه. فلقد لاحظنا أن البار هو اليهوديّ الامين  ولشريعته. اسرائيل هو الشعب الذي اختاره الله كابنه (18:8، 13)، ووعده مواعيد، وقطع معه عهدًا (12:21)، وحفظه من كل عبادة أوثان، وأشركه في حياته الحقّة (15:1 - 6). لقد حمى الله أمَّته دومًا وفي كل مكان وبكل الاشكال. تلك هي خاتمة الكتاب (19:22). وعلى شعب إسرائيل أن يلعب دورًا في الكون فيعطي الشعوبَ نور الشريعة (18:4). سيأتي يوم تزول فيه عبادة الاصنام أمام عبادة الله الواحد (14:11 - 14؛ 18:4). إذن ستكون عبر الزمن وقبل الدينونة العامة، فترةُ حقٍّ أعظم، وفترةُ نعَمٍ تُفاض على العالم. هذه هي النظرة المسيحانيّة التي لامسها حك بطريقة عابرة. هو لم يذكر المسيح. ولكننا نرى، نحن المسيحيين، في ذلك البار المضطهد ومثال كل الشهداء ونموذج كل الأبرار المعدّين للمجد، صورة الذي سبقنا على طريق الصليب إلى السماء (2:10 - 20).

4 - سفر الحكمة والعهد الجديد

سفر الحكمة هو آخر كتب العهد القديم وهو يعرض تعليمًا متقدمًا بالنسبة إلى أسفار التوراة. إنه يشكل تلاقيًا بين الوحي اليهودي والفكر اليوناني، فيربط عهد الشريعة بالإنجيل.

تأخّر سفر الحكمة في الظهور، فلم يأخذ به القانون اليهودي، ولكنه لقيَ استقبالاً حارًا من المسيحيّة في بداية عهدها. لا شك اننا لن نجد ايرادَا واحدًا واضحًا من حك في العهد الجديد، ولكننا متأكدون ان القديس بولس والقديس يوحنّا استلهما هذا السفر ليتحدّثا عن المسيح. وهنا نحن نقدم المقابلات التالية.

روم 1:18 - 20، حك 13:3 - 5: معرفة وجود الله وطبيعته بواسطة المخلوقات. قال حك 13:1ي: »وما من شكّ أن جميع الذين يجهلون الله هم حمقى من طبعهم ولم يقدروا أن يعرفوه على حقيقته من الروائع المنظورة التي صنعها... وهم عندما ظنوا أن المخلوقات آلهة فلانهم فُتنوا بجمالها، غير عالمين ان لها سيدًا أعظم منها وهو مصدر كل ما فيها من الجمال. أو عندما دُهشوا من قوتها ومحاسنها، كان عليهم أن يفهموا بها كم صانعها أعظم منها. فبعظمة المخلوقات وجمالها تُقاس عظمةُ الخالق وجماله«. وقال القديس بولس: »لأن ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله كان واضحًا جليًا لهم. فمنذ خلق العالم، وصفاتُ الله الخفيّة، أي قدرته الازلية والوهيته، واضحة جلية تدركها العقول في مخلوقاته. فلا عذر لهم اذن« (روم 1:19 - 20).

روم 1:21 - 32، حك 14:22 - 31. إن فساد الاخلاق متأتٍّ من عبادة الأوثان. قال القديس بولس: »عرفوا الله فما مجّدوه ولا شكروه كاله، بل زاغت عقولُهم وملأ الظلامُ قلوبَهم الغبيّة. زعموا انهم حكماء فصاروا حمقى واستبدلوا بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحافات. لهذا أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور يهينون بها أجسادهم« (روم 1:21 - 24). وقال حك: »وكأنما لم يكتفوا بضلالهم في معرفة الله  فمزّقهم الجهلُ الشديد حتى إنهم اعتبروا في جهلهم هذا التمزق سلامًا. وغير ذلك انهم قدموا بنيهم ذبائح، ومارسوا شعائر خفيّة وفجروا على نحو غريب« (حك 14:22 - 23).

روم 2:4. نقرأ هنا عن طول بال الله الذي يدعو الناس إلى التوبة. حدّث بولس الرسولُ اليهوديَّ الذي يدين الآخرين ويعمل أعمالهم فقال له: »أم أنك تستهين بعظيم رأفته وصبره واحتماله، غير عارف ان الله يريد برأفته ان يقودك إلى التوبة«. رج حك 11:23، 26؛ 12:2، 10، 19. نقرأ مثلاً في حك 12:1 - 2: »ولأن روحك الخالد موجود في كل شيء، فأنت به تؤدِّب الخاطئين، وتذكِّرهم بما يخطأون به، وتنذرهم ليتركوا الشر ويؤمنوا بك أيها الربّ«.

ونقرأ عن سلطة الله المطلقة في روم 9:20: »من أنت أيها الإنسان حتى تعترض على ا؟ أيقول المصنوع للصانع: لماذا صنعتني هكذا«؟ وتأتي صورة الخزّاف الذي يحق له أن يستعمل طينه كما يشاء (روم 9:21). هنا نلتقي مع حك 12:12: »فمن يسألك ماذا فعلت، أو يعارض حكمك أو يَدينك«؟ ومع حك 15:7: »وفي ذلك ان الخزاف يعجن الطين الليِّن ويجتهد في ان يصنع منه أوعية صالحة لخدمتنا...«.

قال حك 7:26 عن الحكمة: »لأنها ضياء النور الأبدي والمرآة النقية التي تعكس أعمال الله الصالحة«. وقال بولس (كو 1:15) عن المسيح انه صورة الله غير المنظور. واعتبرت عب 1:3 أن الابن هو »بهاء مجد الله وصورة جوهره«، فالتقت بما يقوله أيضًا حك 7:26.

سلاح الله هو في حك 5:17 - 20: »يلبس الله الحق درعًا والعدل خوذةً، ويتّخذ القداسة ترسًا لا يُقهر، وتكون شدّةُ غضبه سيفه المصقول، والعالم جيشه في مقابَلة الجهّال«. اما سلاح المسيحي عند القديس بولس: »فاثبتوا اذن متمنطقين بالحق، لابسين درع الاستقامة، منتعلين الحماسة في اعلان بشارة السلام. واحملوا الإيمان ترسًا في كل وقت... والبسوا خوذة الخلاص وتقلّدوا سيف الروح الذي هو كلام ا« (أف 6:14 - 17).

هذا عند القديس بولس، وتأثير حك عليه كان بعض المرات تأثيرًا أدبيًا. ولكن سيكون تأثيره على يوحنّا تأثيرًا أعمق. فيمكننا القول دون أن نغالي: إن حك فتحت الطريق ليوحنّا لكي يتحدث عن علاقات الكلمة با وبالبشر. وإليك أهم الآيات المتقاربة.

قال حك 8:3 عن الحكمة: »فهي في حوار مع الله مما زادها مجدًا، حتى ان الله ذاته، وهو رب الجميع، وقع في حبّها«. وزاد أنها جالسة على عرش الله (حك 9:3). اما يو 1:1 فقال: »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله  وكان الكلمة ا«. وزاد: »ما من أحد رأى الله. الابن الاوحد الذي في حضن الاب هو الذي أخبر عنه« (يو 1:18).

وتحدث حك 7:21 عن »الحكمة التي كوَّنت كل شيء« والتي »تعمل كل شيء« (حك 8:5). فهي كانت حاضرة حين صنع الله وهي تَعلم بأعماله (حك 9:9). وتكلم يوحنّا على نشاط الابن الكلمة الخلاق: »به كان كل شيء، وبغيره ما كان شيء ممّا كان... كان في العالم، وبه كان العالم« (يو 1:3، 10). وقال يوحنّا (5:20) أيضًا مبيِّنًا ان الابن يعرف كل شيء: »فالآب يحب الابن ويريه كل ما يعمل«، فالتقى هكذا مع حك 8:4: »منح الرب الحكمة معرفته الخفية، وتركها تنفِّذ أعماله« (رج 9:9؛ 10:11، 17).

وكتب يوحنّا (3:16 - 17) عن حب الله للبشر: »هكذا أحب الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية، وا أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليخلِّص به العالم«. وكان حك 1:6 قد قال: الحكمة روح محبة للبشر. وقال أيضًا (7:23): روح الحكمة راغب في الرأفة بالبشر. وقال أيضًا: »وأنت يا رب تحب الوجود كله ولا تبغض شيئًا فيه والا لما كنتَ أوجدتَه... وإذا أبقيت على شيء فلأنه لك، أيها الرب الذي تحبّ جميع النفوس« (11:24، 26). وقال حك 7:28: »ان الله لا يحب أحدًا الا الذي يلازم الحكمة«، فهيَّـأ الدرب لقول يوحنّا ان الله لا يحب الا الذين يحبون ابنه. قال يسوع: »من أحبني سمع كلامي فأحبّه أبي« (يو 14:23) وقال أيضًا: »فالأب نفسه يحبّكم لأنكم أحببتموني« (يو 16:27).

ثم ان نظرة يوحنّا تلتقي ونظرة حك إلى تاريخ العالم والنفوس: صراع لا نهاية له بين النور والظلمة، بين الحياة والموت، انتصار النور على الظلمة رغم المظاهر المعاكسة.

هذا هو سفر الحكمة، حاولنا في هذه المقدمة ان نهيِّئ الدرب. لم يبق لنا إلاّ أن ندخل فيه فنكتشف الغذاء الروحي في كتاب كان خاتمة العهد القديم ومدخلاً إلى العهد الجديد

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM