يعقوب وعياله في أرض مصر

يعقوب وعياله في أرض مصر

سفر التكوين 46:..28.

الحلقة 67:

أحبّائي الربّ يكون معنا، كما كان مع يعقوب حين نزل من مصر، أمّا موضوع حديثنا الآن فهو يعقوب وعياله في مصر. ونتابع سفر التكوين يعقوب وعياله في أرض مصر ونقرأ الفصل 46: 28.

وأرسل يعقوب يهوذا قدّامه إلى يوسف... لأنّ كلّ راعي غنم هو عند المصريّين قبيحة.

وهكذا استعدّ يعقوب للذهاب، حمل معه كما قلنا في السابق حمل معه بنه، أطفالهم، نساءهم، حمل كلّ ما له من خير وذهب إلى مصر. ويعقوب سيدخل إلى مصر كملك فاتح، هو ملك من نوع آخر. ونتساءل كيف يمكن ليعقوب أن يدخل كملك فاتح إلى مصر وهي أعظم دولة في ذلك الزمان. هنا نتذكّر الفصل 14 من سفر التكوين: جاء الملوك الأربعة، ملوك عظماء وأقوياء يمثّلون العالم كلّه بكلّ قوّته، بكلّ بطشه، انتصروا على من انتصروا، أخذوا الاسلاف، أخذوا الأسرى العديدين، وأخذوا لوطًا معهم ابن أخ ابراهيم ولكن ابراهيم غلبهم، غلبهم برقم رمزي 318 غلبهم بالواقع بإيمانه. إذًا يعقوب بإيمانه سيكون ملكًا في مصر كما كان ابراهيم بإيمانه ملكًا على العالم بأقطاره الأربعة ملكًا على هؤلاء الملوك الأربعة الذين جاؤا إلى أرض كنعان. وهكذا يبدو يعقوب شأنه شأن ابراهيم ملكًا من الملوك. فأرسل أمامه يهوذا قدَّمه إلى يوسف ليلاقيه في ارض كنعان. أرسل من ينادي أمامه. هنا لنا نظرة بعيدة إلى يسوع المسيح الذي جاء من مصر، نزل إلى مصر حين كان يضطهده هيرودس. ويعقوب أيضًا نزل إلى مصر، إلى يوسف. أمّا مع الطفل يسوع، فيوسف هو رفيق يسوع وأرسل يعقوب أمامه المنادي الذي يعلن عن قرب مجيئه. من هو هذا المنادي؟ يهوذا. نتذكّر أنّ من يهوذا خرج يسوع. يهوذا هو أب داود ويسوع هو ابن داود ومنه خرج يهوذا.

فإذًا يهوذا هو أوّل الواصلين إلى مصر يعلن أن يعقوب جاء إلى مصر. والأرض المحدّدة هي أرض جاسان. قلنا هي على حدود الدلتا يعني على حدود الأرض المزروعة. لأنّ بنو يعقوب هم رعاة كما قال منذ أيّام آبائه. علم يوسف بمجيء أبيه فذهب للقائه. يقول النصّ: أعدّ يوسف مركبته وصعد إلى هناك. كما قلت دائمًا أرض كنعان هي أرض نصعد إليها، خصوصًا أورشليم لأنّنا دائمًا في حجّ إلى أورشليم، والحجّ هو صعود. من هنا مزامير الصعود، مزامير المراقي، مزامير الحجّاج. »إن نسيتك يا أورشليم، فلتنسني يا يميني وليلتصق لساني في حلقي إن لم أرفعك«.

إذًا صعد يوسف إلى هناك ليلاقي يعقوب، أباه فكأنّه في حجّ إلى أبيه، فلمّا رآه أقبل إليه وعانقه طويلاً. نحن هنا على مستوى العواطف البشريّة. يوسف يعانق الأب، يقبّله ويبكي طويلاً. فقال له يعقوب: »دعني أموت الآن بعدما رأيت وجهك وعرفت أنّك حيّ بعد«. شدّد الكتاب على عاطفة يعقوب: عرفت أنّك حيّ بعد. لا شكّ أنّ يوسف فرح لمّا عرف من إخوته أنّ أباه ما زال حيّ، وكان اتّفاق بين يوسف وإخوته. كيف يكلّمون فرعون. هو سبق وكلّمه، يبقى على الإخوة أن يقولوا ما قاله الأخ الذي خلّصهم يوسف. مهمّ جدٌّا هذا التوافق في العمل. والتوافق في العمل، التوافق بين الإخوة هو الذي يعطي النجاح، يعطي السلام، يعطي الراحة. نتذكّر ما قاله يوسف لإخوته وهم راجعون: لا تتخاصموا في الطريق. وأمّا الآن فيوسف معهم وأبوهم معهم، فلا موضع للخصام بل للوفاق. وهكذا كانوا كلّهم يوسف والإخوة الباقون كانوا كلّهم صوتًا واحدًا. ماذا تعملون؟ نحن رعاة غنم وأصحاب ماشية. هنا عندنا فرق بين الحضارة المصريّة والحضارة الكنعانيّة. حضارة مصريّة مبنيّة على الزراعة لأنّ الأرض مرويّة، يرويها النيل، ذلك الإله الذي يأتي من البعيد، فيبدّل التربة سنة بعد سنة ويمنح الأرض الماء. ونتذكّر أنّ المصريّين كانوا قد فتحوا الترعن كانوا قد فتحوا القنوات لتصل المياه إلى عدد أكبر من الأراضي حتّى تكون الزراعة ناجحة. وهذا كان السبب في غنى مصر في ذلك الزمان. إذًا المصريّون هم أصحاب الزراعة، أمّا بنو كنعان فهم أصحاب الماشية. هم رعاة غنم، نتذكّر هنا بداية سفر التكوين. قايين كان ذلك المزارع، كان القويّ، وهابيل كان راعي الغنم، كان الضعيف. ومع ذلك، فالكتاب المقدّس، فضّل راعي الغنم على صاحب الأرض المزروعة. فضّل هابيل على قايين، مع أنّه كان الأضعف، مع أنّه قتل بيد قايين. وهنا أيضًا عندنا مقابلة بين أهل مصر المزارعين وبين رعاة الغنم. احتقر المصريّون رعاة الغنم ولكن الربّ قدّرهم كما قال بولس الرسول: »ما هو محتقر عند الناس يكرّم عند الله«. فنظرة الربّ غير نظرة البشر.

فصل 47

ويتابع النصّ فيقول: »فدخل يوسف على فرعون وقال له وقبل أن نتابع القراءة نفهم كيف أنّ الشعوب تنظر إلى بعضها البعض باحتقار. الغريب صار العدوّ، ومن ليس من شعبه لا يستحقّ الحياة. وهكذا في زمن المسيح، هناك البربريّ، وهناك اليونانيّ، هناك المختون واللاّ مختون وهناك الأبيض وهناك الأسود. وعلى مستوى مصر والعبرانيّين، كلّ راعي غنم ممقوت عند المصريّين، إذًا هم الحضارة وسائر الناس هم البربريّة، هم التأخر، هم التقهقر. ومع ذلك سيأتي يعقوب وأبناءه إلى أرض مصر. فالجوع أقوى من أيّ شيء.

فصل 47: 1: »فدخل يوسف على فرعون... وأحضرهم أمام فرعون«. نلاحظ هنا أوّلاً خمسة رجال، الرقم 5 هو رقم مقدّس في العالم العبراني. والخمسة كأنّها تمثّل سائر الرجال.

نتذكّر أيضًا هناك 5 أسفار موسى كأنّها تمثّل كلّ التوراة وليس فقط أسفار موسى الخمسة. ولكن 46 كتابًا من كتب العهد القديم. وأيضًا المزامير هي 5 أقسام كأنّي بها تمثّل كلّ صلوات الشعب الأوّل. وهنا أخذ يوسف خمسة رجال فكأنّه أخذ السبعين شخصًا الذين نزلوا مع يوسف إلى أرض مصر.

47: 3 »فقال فرعون لإخوة يوسف... فأوكلهم على ماشيتي«.

هنا نحسّ أنّ العبرانيّين دخلوا في أرض مصر. كما قلت سنة 1750 تقريبًا، دخلوا إلى أرض مصر وأقاموا فيها مئات السنين مع الملوك الرعاة. ولكن بقي عملهم عمل الرعاة. وأدخل يوسف يعقوب أباه وأوقفه بين يدي فرعون (47: 7) فباركه يعقوب. نلاحظ كما قلنا في البداية، يعقوب هو الذي يبارك فرعون، يعقوب هو الأكبر، هو الأكبر بإيمانه لا سلطته، هو أكبر بإيمانه بالله الواحد. لهذا هو الذي يحمل البركة، والبركة هي عطيّة الله، عطيّة الله التي تمرّ بيد أتقيائه، بيد أبراره. إذًا هنا يعقوب هو الذي يبارك. فقال له فرعون: »كم لك من العمر«؟ فأجابه يعقوب أيام غربتي 130 سنة قليلة وسيّئة كان أيّام حياتي على غير ما كانت أيّام حياة آبائي في غربتهم. وبارك يعقوب فرعون وخرج من بين يديه. فيعود ويقول النصّ مرّة ثانية: بارك يعقوب فرعون موضحًا أنّ يعقوب رجل الإيمان هو أعظم ما في الدنيا. ونحن أيضًا، إذا كنّا أبناء الإيمان فنحن نحمل أيضًا بركة إلى الآخرين. نتذكّر بولس الرسول حين يقول عن نفسه نحن الرسل جعلنا الله آخر الناس. نحن جهّال من أجل المسيح وأنتم فهماء، نحن ضعفاء وأنتم أقوياء، نحن لا شيء لنا ولكن لنا كلّ شيء، أجل. فالمسيح نفسه الذي كان غنيٌّا صار فقيرًا. ونحن تلاميذ المسيح قد نكون فقراء ولكنّنا في الواقع أغنياء. لا شيء لنا ونحن نعني كثيرين. يعقوب لا يملك شيئًا، هو الغريب يقول هنا »فأيّام غربتي«، هو الغريب، لا يملك إلاّ ما يستطيع الإنسان أن يحمله ومع ذلك هو الذي يُعطي، هو الذي يبارك فرعون. ونتابع القراءة (47: 11): »وأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم ملكًا في أرض مصر، في أجود موضع فيها وهو أرض رعمسيس. كما أمر فرعون، وعيّن يوسف لبيه ولأخوته وسائر بيت أهل أبيه مقدار ما يحتاجون إليه من الطعام حسب أيّامه«.

نفهم من هنا أنّ يوسف الذي جاء عبدًا إلى أرض مصر، إنّما أرسله الله لكي يخلّص إخوته من الموت جوعًا. لهذا قدّم لهم الطعام على حساب أيّامه وأضاف أعطاهم الأرض، أجود موضع فيها. إذًا انتبهنا أكثر من مرّة يقول أجود موضع في الأرض. إذًا تطلّعنا على مستوى الجغرافيا، فأرض جاسان ليست أفضل من أرض الدلتا المليئة بالمياه، وليست أفضل من هذه الأراضي القريبة من النيل، هي أرض الرعاة يعني هي على حدود الأرض المزروعة ولماذا هي أجود موضع فيها، لأنّ الربّ هو فيها. هنا نتذكّر جنّة عدن، جنّة عدن هي قطعة من الأرض، على الأرض. لماذا ظهرت غدن كما نقول في العربيّة موضع الرفاهيّة، موضع الخصب، موضع الغني، موضع الكرم، موضع الغلال الوافرة صارت كذلك لأنّ الربّ هو فيها. وإذا كانت هذه القطعة عن الأرض الصغيرة التي أعطاها يوسف لأبيه ولإخوته صارت أجود أرض في مصر، لا لأنّها أفضل من غيرها ولكن بسبب حضور الله فيها. الله هو الذي يحوّل ما هو تافه، ما هو بسيط، ما هو ضعيف، ما هو فقير، يحوّله إلى غنى أين منه غنى عالم البشر. ونلاحظ أيضًا يقول أعطاهم أرض رعمسيس. فنقرأء سفر الخروج الفصل الأوّل، نفهم أنّ رعمسيس هي مدينة للمؤونة سينسيها الشعب العبراني عندما كان عبدًا في أرض مصر. نلاحظ، مهمّ جدٌّا، لمّا كان الله معه، كان في الأرض أجود موضع في مصر، ولكن عندما أخذ يعيش ويهتمّ بطيخ مصر وخيارها وكساها وسمكها ولحمها، صارت هذه الأرض، أرض العبوديّة. إذًا ما يبدّل الأمور ليست الأشياء بل الإنسان الذي يعطي الأمور معناها الجديد. لن نتوقّف فيما يلي من النصّ وهو يتحدّث عن خطّة يوسف الزراعيّة. هذه الخطّة التي جعلت الشعب يتشارك مع الملك فيقدّم له خمس الغلّة كلّ سنة. الأرض تخصّ الملك، البهائم تخصّ الفرعون، كلّ شيء يخصّ الفرعون. وأخيرًا 47: 27 وأقام يعقوب وكلّ الذين.... فنموا وكثروا. هذه علامة البركة، ولكن هذا التملّك سيكون مؤقّتًا. أمّا النموّ والكثرة فستساعد شعب الله على أن يستعدّ للعودة إلى كنعان ليقيم فيها ويهيّئ الطريق لذلك الذي سياتي بعد الشعب الأوّل. »انموا وتكاثروا«، هنا نعود إلى سفر التكوين حين قال الربّ لآدم وحوّاء: »انموا واكثروا واملأوا الأرض«، وأيضًا في نوح قال الربّ أيضًا: »انموا واكثروا واملأو الأرض«. وهنا مع يعقوب المقيم في مصر عليه أن ينمو ويكثر ويملأ الأرض، ولكن إذا أعدنا قراءة الفصل الثاني نفهم أنّ هذا النموّ وهذه الكثرة يجب أن تتوافق مع نموّ وكثرة الآخرين وإلاّ ستكون الحرب. وهذا ما حدث بالنسبة إلى ابراهيم ولوط ابن أخيه. صار خلاف بين رعاة ابراهيم ورعاة لوط، فطلب ابراهيم من ابن أخيه أن يذهب إلى اليمين أو إلى اليسار ويترك القسم الثاني لعمّه. وعاش يعقوب في أرض مصر 17 سنة، فكان عمره 147 سنة. المهمّ في هذا المقطع الأخير هو أنّ يعقوب لا يريد أن يبقى في مصر، لهذا طلب من ابنه يوسف أن يدفنه لا في أرض مصر، بل في مقبرة آبائه. وعده يوسف بذلك، فسجد يعقوب على رأس سريره أو على رأس عصاه شاكرًا الربّ. وهكذا رافقنا يعقوب المقيم مع عياله في أرض مصر. ذهب إليها على بركة الله وحمل هذه البركة إلى فرعون وهذه البركة ظهرت بشكلٍ خاص عندما نما أبناؤه وتكاثروا. فصارت البركة التي حصل عليها امتدادًا لبركة ابراهيم واسحق وامتدادًا للبركة التي نالها آدم في بداية البشريّة ونوح بعد الطوفان. فكأنّنا هنا في بداية جديدة، هي بداية الشعب العبراني.

مع آدم كانت بداية البشريّة في أوّلها، مع نوح كانت بداية البشريّة بعد الطوفان، ومع يعقوب هي بداية الشعب العبرانيّ مع 12 قبيلة، مع 12 سبطًا سيمثّلون أسباط اسرائيل الإثني عشر الذين سيقيمون في أرض كنعان. جاءت البركة، حملها يعقوب من أرض كنعان إلى مصر، فنما شعبه وتكاثر. هذه البركة رافقت الفرعون بحيث كثرت الخيرات في أرضه فما مات أحد من الجوع. هذه البركة ستكون مع ابناء يعقوب عندما يعودون إلى أرض كنعان. يعودون شعبًا كبيرًا.

إذا كان الربّ معنا نصبح شعبًا كبيرًا، شعبًا قويٌّا، وإذا كنّا وحدنا، كنّا ضعفاء، وضاعب منّا البركة. أمّا يعقوب بالبركة التي نالها استطاع أن يبارك أبناءه ويبارك فرعون. آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM