الفصل 12: ليس الجراجمة المردة

ليس الجراجمة المردة

قد أتحفنا المشرق الأغرّ في هذه المدَّة بمقالتين إحداهما للأب هنري لامنس اليسوعيّ في الجراجمة والثانية للأب أنستاس الكرمليّ عنوانها المردة أو الجراجمة وبما أنَّ الغرض من المقالتين هو البحث العلميّ الصرف كان يقيننا ثابتًا أنَّ حضرة الكاتبين يتلقَّيان بالمسرَّة الخوض معهما في هذا الميدان.

إنَّ واقع الحال هو حضرة الأب لامنس كتب مقالة أولى أنكر أنَّ المردة من الموارنة فأجبناه على هذه المقالة وأيَّدنا كلامنا بثمانية أدلَّة تثبت رأينا في أنَّ المردة اسم للموارنة في القرن السابع غير أنَّ الأب المومأ إليه عوضًا عن أن ينقض تلك الأدلَّة كما تقتضي طريقة الجدال الحقَّة ويأتي بما يزيد في تأييد رأيه إن كان ما يؤيِّده، أتى بالمقالة الثانية يثبت رأيه بما لا نراه يؤيِّده، زاعمًا أنَّ الجراجمة أشبه بالمردة في أحوالهم فهم المردة أنفسهم.

ثمَّ رأينا في المشرق مقالة الأب أنستاس أشبه بمقالة الأب لامنس فتحتَّم علينا أن ندوِّن هذا الردَّ انتصارًا لما نراه حقٌّا.

في زعم الأب لامنس

هلمَّ ننظر الآن في ما كتب الأب لامنس في هذا الشأن، قال: »ثمَّ يذكر البلاذريّ تاريخ الجراجمة على مألوف عادته في ذكر غيرهم من الشعوب القديمة فنرى في كلامه بعض الإبهام لأنَّه يروي بحقِّهم الروايات المختلفة التي جمعها دون أن يقضَّ ذهنه في إثبات صحَّتها أو التوفيق بينهما. رويدك، أبي، إنَّ ما قلته عن البلاذريِّ مُسقط لشهادته وموجب لعدم الاعتماد عليها؟ فمن جمع روايات مختلفة ولم يعنَ بإثبات صحَّتها، والتوفيق بينها، أفيسوَّغ الاعتماد على رواياته؟ قلتَ بعد ذلك: »من يقابل بين هذه الروايات الشتَّى يأخذه الانذهال لما يجد بين أخبار الجراجمة والمردة من التشابه. وقضيت أخيرًا استنادًا إلى هذا التشابه بأنَّ الجراجمة هم المردة وأنَّك تطابق بينهما في التشابه وحده وإن عظم، لا يجعل الاثنين واحدًا، وإلاّ فيحلُّ مثل هذا الكلام إلى ما يبنى عليه من القياس فيكون كلُّ اثنين تشابها كان أحدهما الآخر. والحال أنَّ الجراجمة يشبهون المردة، فإذًا الجراجمة هم المردة؟ أفيصحُّ هذا القياس؟

ومع ذلك فلنرَ ما هذا التشابه قلت: ما ذكره المؤرِّخون عن قدوم المردة من شمال سورية إلى جنوبها وعن احتلالهم جبل لبنان وسكونهم في جوار حمص وبعلبكَّ ودمشق قد رواهُ البلاذريُّ متقطِّعًا لم نهتدِ في كلامك إليه كاملاً، فأخذناهُ عن مقالة الأب أنستاس فإذا هو:

»خرجتْ خيلُ الروم إلى جبل اللكام وعليها قائد من قوّادهم ثمَّ صارت إلى لبنان. وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة أنباط وعبيد أبّاق من عبيد المسلمين، فاضطرَّ عبد الملك إلى أن صالحهم على ألف دينار في كلِّ جمعة، وصالح طاغية الروم على مالٍ يؤدّيه إليه لشغله عن محاربته... ثمَّ إنَّ عبد الملك وجَّه إلى الروميّ سحيم بن المهاجر فقتلهُ ومن كان معه من الروم، ونادى في سائر من ضوى إليه بالأمان، فتفرَّق الجراجمة بقرى حمص ودمشق ورجع أكثرهم إلى مدينتهم باللكام«.

انتهى كلام البلاذريّ. والظاهر منه أوَّلاً أنَّ هؤلاء الغزاة روم وقائدهم روم، ولا ذكر فيه للجراجمة إلاَّ تبعًا كالأنباط والعبيد. وأنت أوهمت أنَّ كلَّهم جراجمة.

ثانيًا: إنَّ هذه الغزوة واحدة كانت في أيّام عبد الملك والمؤرِّخون الذين تكلَّموا عن المردة بدأوا بذكر غزواتهم من أيّام معاوية، ودامت في أيّام مروان إلى خلافة ابنه عبد الملك الذي كانت غزوة الروم في أيّامه، فلا تشابه بل خلاف في الزمان وغيره.

ثالثًا: إنَّ عبد الملك صالح خدعةً الروم على ألف دينار يدفعها كلَّ يوم جمعة لطاغية الروم. والذي ذكره المؤرِّخون عن المردة أنَّ معاوية صالح قسطنطين اللحيانيّ بسبب غزواتهم على مالٍ وخيل وعبيد يبذلها له، ثمَّ إنَّ عبد الملك صالح يوستنيانوس الثاني لهذا السبب على مال بشرط أن يكبح المردة، وينفي عسكرهم. فالخلاف ظاهر أيضًا ولا تشابه.

رابعًا: إنَّ عبد الملك على قول البلاذريّ أرسل ابن المهاجر فقتل القائد الروميّ وكثيرين من جماعته وأمَّن من تابعه فتفرَّق الجراجمة بقرى حمص ودمشق، وعاد أكثرهم إلى مدينتهم. والذي ذكره المؤرِّخون عن المردة أنَّه بعد الصلح مع معاوية استمرُّوا على إغارتهم مدَّة طويلة، وبعد الصلح مع عبد الملك حاربتهم عساكر يوستنيانوس لا عسكر الخليفة، ولم ينتصروا على المردة بل أخذوا اثني عشر ألفًا من عساكرهم خدعةً ومكرًا وأوصلوهم أوَّلاً إلى أرمينية، ولم يتفرَّقوا بقرى حمص ودمشق. فانظرْ كم من الخلاف بين المردة والجراجمة وبين البلاذريّ والمؤرِّخين الذين ذكروا المردة، وأنت تقول إنَّ ما ذكره البلاذريّ عن الجراجمة وما ذكره المؤرِّخون عن المردة واحد، وأنَّ بين الأمَّتين تشابهًا بل اتِّفاقًا حملك على أن تطابق بينهما كما سيجيء من كلامك. وذكرت فقرة من كلام البلاذريّ مقطوعة عمّا قبلها وهي »تفرّق الجراجمة بقرى حمص ودمشق« لتوهم أنَّهم المردة أي الموارنة الذين كانوا منذُ نشأتهم يسكنون في جهات حمص وحماه حيث كان دير أبيهم القدّيس مارون ورهبانه.

والخلاصة أنَّه لا تشابه بين الأمَّتين إلاّ بأنَّ المردة انضمَّ إليهم عند غزواتهم أسرى وعبيد ووطنيّون، والروم في الغزوة المذكورة ضوى إليهم جراجمة وأنباط وعبيد أبَّاق، لكنّ هذا التشابه عام$ في كلِّ ثورة، وكلَّما ثار قوم انضوى إليهم كلُّ من له مصلحة بثورتهم، وهذا نراه إلى اليوم في كلِّ محلٍّ فضلاً عن الخلاف بين من ضووا إلى المردة ومن ضووا إلى الروم المذكورين. وحيث إنَّ الأب لامنس والأب أنستاس اعتمدا في مقالتيهما على التشابه خاصَّة، فنرى هنا ما ذكره الأب لامنس في باقي أقواله عن هذا التشابه، ونذكر أقوال الأب أنستاس عند ردِّ كلامه مبيِّنين أن لا تشابه بين المردة والجراجمة بل أوجه الخلاف كثيرة.

فقد استشهدتُ قولَ البلاذريّ في »فتوح البلدان« »أنَّ الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزاج... يقال لها جرجومة«. والمردة كانوا في لبنان وجواره على قول كلِّ من ذكروهم، فالخلاف ظاهر.

ثمَّ نقلت عن البلاذريّ أيضًا »أنَّ الوليد بن عبد الملك وجَّه إلى الجراجمة مسلمة بن عبد الملك فافتتح مدينتهم وصالحهم على أن ينزلوا حيث أحبُّوا من الشام، وعلى أن لا يُكرهوا على ترك النصرانيَّة ولا تؤخذ منهم جزية... وأنَّ الخلفاء أجروا الأرزاق على هؤلاء الجراجمة واستعانوا بهم في حروبهم«. فشتّان بين ما ذكرته هنا عن الجراجمة وبين ما ذكرته أنت نفسك عن المردة. فكيف تستشهد للمشابهة ما هو نص$ في الخلاف، على أنَّه إذا صحَّت هذه الرواية كان بيِّنة عليك لا لك. فالمردة كانوا يسطون في أيّام معاوية وأيّام عبد الملك بن مروان، وأخذ يوستنيانوس منهم اثني عشر ألفًا، وأنت قلت ذلك، والبلاذريّ يقول في الجراجمة إنَّهم صولحوا وأحسنَ إليهم بعدم أخذ الجزية، وأجرى الخلفاء الأرزاق عليهم واستعانوا بهم في حروبهم، فهذا بيِّنة لنا عليك أنت الذي تزعم أنَّ الأمَّتين واحدة. فضلاً عن أنَّ هذا كان في القرن الثامن بعدَ انقضاء غزوات المردة.

نقلت أيضًا عن البلاذريّ قوله: »خرج في جبل لبنان قوم شكَوا عامل خراج بعلبكّ، فوجَّه صالح بن عليّ بن عبد ا؟ بن العبّاس من قتل مقاتلتهم، أقرَّ من بقي منهم على دينهم، وردَّهم إلى قراهم، وأجلى قومًا من أهل لبنان«. فأين الذكرُ بهذا القول للجراجمة وأنّى حقَّ لك أن تقول بعد إيراده دون فاصل »هذا دليل واضح أنَّ قومًا من الجراجمة كانوا قبل هذا العهد في لبنان«؟ فلو اكتفيتَ بما نقلته عن البلاذريّ في كلامه عن ميمون الروميّ أنَّه لم يكن من الجراجمة وأنَّه نسبَ إليهم اختلاطه بهم وخروجه بجبل لبنان معهم لاتَّسق ذلك مع كلامك، وإن لم يفدك في مقصدك أنَّ الجراجمة والمردة أمَّة واحدة ولو ثبت. فقيام بعض الجراجمة بين المردة لا يُثبت منه أنَّ الأمَّتين واحدة كما صرَّحت بمدَّعاك بقولك: »إنَّ الاتِّفاق بين أحوال المردة وأمور الجراجمة يحملنا أن نطابق بينهما«، أتسمّي ما ذكر من الخلاف اتِّفاقًا؟ وعدلتَ عن أن تسمّيه تشابهًا ثمَّ نقضتَ المشابهة والاتِّفاق بخاتمة كلامك حيث قلت: »فكان إذًا في لبنان قوم من الجراجمة وهذا ما أردنا بيانه«. ونحن نقول إنْ ثبت هذا فأيُّ مضرَّة لنا منه؟ فإن وجد قوم من الجراجمة بين المردة في لبنان أينتج منه أنَّ الجراجمة هم المردة أو أن يؤخذ منه ما يضادّ ما أثبتناه. هذا خلاصة كلِّ ما قلت.

في زعم الأب أنستاس الكرمليّ

هلمَّ ننظر الآن إلى مقالة الأب أنستاس الكرمليّ. قد افتتح كلامه بقوله: إنَّه مارونيّ قحّ وإنَّه كثيرًا ما دافع عن أنَّ المردة والموارنة أمَّة واحدة، وأنَّه لمّا طالع نبذة الأب لامنس الأولى كاد يغمى عليه وقرأها بلمحة بصر، وإنَّه بعد أن طالع الردَّ على الأب لامنس انشرح صدره ولكن ما حشّى به هذا الأب ذلك الردَّ أعاد اعتلاله وأكرهه أن يبحث عن الحقيقة. فهلمَّ ننظر ما قال حضرة الأب أيضًا. قال: إنَّ نتيجة بحثه أدَّته »أوَّلاً إلى أنَّ المردة في الأصل من أقوام فارس، والكلمة فارسيَّة لا حظَّ لها من الاشتقاق العربيّ أو الآرامي«. قلنا لو قال ذلك أعجميٌّ لاغتُفِر قوله، وأمّا أن يقوله سريانيّ مارونيّ عربيّ فلا يُغتفر له. وقال: »ثالثًا كان المردة في الأصل رومًا جاؤوا سورية مع غيرهم«. وقال: »رابعًا إنَّ اسم المردة والأصحّ الجراجمة اسم قومٍ محارب اجتمع أفراده من أمم شتّى وأديان مختلفة«. فهذه ثلاثة أقوال مختلفة فليقل لنا على أيِّها يعتمد، وعلى أيِّها اعتمد كان ناقضًا لرأيه. فإن كان المردة من الفرس أو الروم أو أمم شتّى فليسوا جراجمة، فكان عليه أن يصرِّح على أيِّ هذه الأقوال يعتمد، أو على الأقلّ أن يعبِّر عن مقصده بما يفهمه الجمهور.

قال ثانيًا: »إنَّ من سمُّوا القوم مردة من السوريّين أخذوا التسمية عن اليونان« قلنا هذا مخالف للظاهر البديهيّ، فالمردة سوريّون وسريان واسمهم يطابق السريانيَّة والعربيَّة دالاٌّ على تمرُّدهم وعصيانهم ولا سبيل لليونان ليسمّوهم بهذا الاسم السريانيّ أو العربيّ. والقول إنَّهم سمَّوهم كذلك تشبُّهًا بالمرَد الذين كانوا في القرن التاسع قبل المسيح خرافة سيأتي ردُّها. قال: »خامسًا إنَّ الجراجمة قبل أن يأتوا لبنان كانوا يسكنون ولايات آسية الصغرى«. قلنا: »فلم يأتوا إذًا من جرجومة، فجرجومة في سورية، فسامح ا؟ كاتب هذه المقالة بهذه الأقوال المتناقضة، ولكن لا نسامحه بما قاله بعد ذلك عنها »فهذه كلُّها حقائق أصبحت عندي مثبتة راهنة«.

ثمَّ أخذ الأب أنستاس يورد شهوده، فذكر أوَّلاً توافان فنحجُّه بما ذكر منه. فما معنى قوله: »إن يكعّ جيش المردة الذين في لبنان ويمنع شنّ غاراتهم... وفي السنة الثانية استرجع المردة الساكنين في لبنان، وبهذه الصورة هدم سورًا حصينًا«؟ فمن طالع أقوال توافان في محلاّت عديدة، وأقوال شدرانوس وزاناراس وأنستاس المكتبيّ وبولس الشمّاس والملك قسطنطين السابع بن لاون الحكيم من القدماء، وأقوال من لا يمكن عدُّهم من المتأخِّرين تحقَّق أنَّ جميع هؤلاء يفهمون بالمردة سكّان لبنان ومن انضمَّ إليهم من إخوانهم الذين كانوا في نواحي أنطاكية وحمص وحماة لا غزاة أتوا إلى لبنان أو مرُّوا به، ولا سيَّما لأنَّ كلَّ هؤلاء العلماء صرَّحوا أنَّ غزواتهم وغاراتهم استمرَّت طويلاً.

وقال الأب لامنس في مقالته الأولى: »أقلّ من نصف قرن« وكلّ هؤلاء أيضًا سمّوهم مردة لا جراجمة؛ فيجيبنا صاحب المقالة أنَّ توافان سمّى الجراجمة مردة لنكتة بديعيَّة تاريخيَّة. وملخَّص المقالة أنَّ توافان سمّى الجراجمة مردة ليُفهم القارئ أنَّ ما جرى بين الجراجمة والعرب يشبه ما جرى بين المردة وأعدائهم قبل المسيح بقرون. يريد بالمردة بكلامه هذا القبيلة التي كانت في نواحي طبرستان قبل المسيح بتسعة قرون، وهذه القبيلة يسمّيها إفرنسيّون Mardes مردس أو مرد، فمن يصدِّق أنَّ توافان تكلَّم في تاريخ بالألغاز، فالألغاز والنكت البديعيَّة لا تكون في التاريخ. وكيف وافق توافان على هذه التسمية كلَّ العلماء الذين ذكرناهم وكثيرون غيرهم، ولم يحلَّ أحدهم هذا اللغز أو يفكَّ هذا المعمّى إلى أن اهتدى إليها صاحب المقالة؟ فمثل هذا الكلام لا يحتاج ردٌّا. وفي جملة أقوال الأب لامنس في مقالته الأولى أنَّ المردة من هؤلاء المرد، ثمَّ عدل عن ذلك وقال في مقالته الثانية إنَّهم الجراجمة.

أورد الأب أنستاس قولاً لابن الأثير في الجزء الرابع جُلَّ ما قاله فيه: »إنَّه خرج قائد من قوّاد الضواحي في جبل اللكام واتَّبعه قوم من الجراجمة والأنباط والأبَّاق وغيرهم، ثمَّ سار إلى لبنان ]على قوله وفي نسخة مدرستنا التي هي من الطبعة الأزهريَّة إلى لبنان[، فبذل عبد الملك إلى هذا الخارج ألف دينار في الجمعة فركن إلى ذلك ولم يفسد في البلاد، ثمَّ وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر فأظهر ممالأته له، وذمَّهُ لعبد الملك. ولمّا تمكَّن منه أكمن له من جنوده فقتله وبعضًا من أصحابه«. هذه رواية ابن الأثير، وهي رواية البلاذريّ نفسها التي مرَّ ذكرها لا غيرها. ومع ذلك فليقل لنا الأب أنستاس: أيسوّي بين ما كان لهذا القائد وبين ما يقوله المورِّخون عن المردة وإغارتهم في أيّام معاوية حتّى أيّام عبد الملك، وبين ما كان من العهدتين بين معاوية وعبد الملك وملوك الروم بسبب المردة، وبين ما بذله عبد الملك لهذا الخارج ألف دينار في كلِّ جمعة ليسكنه خدعة، وبين قتله وبعض أصحابه، وبين إجلاء اثني عشر ألفًا من المردة؟ ثمَّ هبْهُ سار إلى لبنان أيكون هو وأصحابه المردة فلم يحارب كما حاربوا وقُتل ولم يُقتلوا؟ كلاّ إنَّ هذه الرواية لا تنطبق على المردة ولا على الجراجمة أيضًا لأنَّهم كانوا أتباعًا كما رأيت في قول ابن الأثير هذا، وفي قول البلاذريّ.

ثمَّ جاء صاحب المقالة بكلام أخذه من »معجم البلدان« لياقوت في اسم جرجومة وبعض تاريخها. وجُلُّ ما له علاقة بمبحثنا هو قوله: »خرج منهم قوم إلى الشام مع ملك الروم في نواحي الشام، وقد استعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيّام بني أميَّة وبني العبّاس، وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة«. فهذا مؤيِّد لرأينا لا لرأي الأبوين لامنس وأنستاس، لأنَّ المردة كانوا على خلاف ذلك.

ثمَّ أورد كلام البلاذريّ، وذكر ممّا له علاقة بمبحثنا ما ذكره ابن الأثير في عصيان الجراجمة بأكثر تفصيل، وهذا قدَّمنا ردَّه. ثمَّ أعاد علينا ما ذكره الأب لامنس في افتتاح الوليد جرجومة سنة 707م وتأمين أهلها وأن ينزلوا حيث أحبّوا، وأسهب في الخبر أكثر من الأب لامنس، فكان من كلامه أكثر بيان لما نثبته نحن خلافًا لهما. ولا تسهُ عمّا مرَّ من أنَّ الكلام على حدثٍ جرى في أوائل الجيل الثامن إذ كان نفي عسكر المردة وخمدتْ جذوتهم، فلا ينتج منه شيء يدلُّ على أنَّ الجراجمة والمردة أمَّة واحدة. ثمَّ روى عن البلاذريّ أيضًا أنَّ المتوكِّل على ا؟ »الذي كان في القرن الثالث للهجرة أمر أن تجري الأرزاق على الجراجمة إذ كانوا ممَّن يستعان بهم في المسالح«، وهذا ايضًا يؤيِّد رأينا لا رأيهما.

ثمَّ قال: »هذا ما أخذناه بحرفه عن تاريخ هذا الكاتب المحقِّق، وأنت تعلم علوَّ منزلة البلاذريّ من تدوين الحوادث، إذ إنَّك لا ترى أبدًا هذا الجهبذ يلقي الكلام على عواهنه بل يسنده دائمًا إلى من حدَّثه به«. وقد مرَّ أنَّ الأب لامنس قال في حقِّه: »نرى في كلامه بعض الإبهام لأنَّه يروي في حقِّهم (الجراجمة) الروايات المختلفة التي جمعها دون أن يكدَّ ذهنه في إثبات صحَّتها أو التوفيق بينها«. فأي$ منكما يا أبويَّ صدق وأيّ لم يصدق؟ أمّا أنا فأرى الأب أنستاس أحكم إذ طبَّق كلامه على غرضه، لكنّني أرى الأب لامنس أصدق إذ نطق بالحقِّ وما رويتماه من أقوال البلاذريّ شاهد عدل لذلك.

جاءنا أخيرًا الأب أنستاس بشهادة من التاريخ السريانيّ لابن العبريّ (طبعة بدجان) وتفاخر بها حتّى قال بعد إيرادها: »قطعت جهيزة قول كلّ خطيب« وجعل هذا الكلام خاتمة مقالته، فأمعنَّا النظر في هذه الشهادة فإذا هي من أكبر الحجج لنا وبيِّنة دامغة عليه، فنورد ترجمته لكلام ابن العبريّ وفقًا للأصل السريانيّ الذي ذكره هو، فينظر القارئ أنَّه يؤيِّد جليٌّا ما نثبته لا ما زعمه هو والأب لامنس. قال بعد إيراده الأصل السريانيّ: »وهذا تعريفه: إنَّ أناسًا من الروم (كانوا يسمّون حينئذٍ رومًا كلّ من اتَّبع ملوك الروم وانتصر لهم ضدَّ العرب) غزاةً مردة (وفي الأصل أناسًا غزاة روما          والكلمة منسوبة إلى         أي المتمرِّد أو خالع الطاعة فصحيح ترجمتها منسوبين إلى المردة) وكان أهل سورية يسمّونهم جراجمة أي أبطالاً (وفي الأصل كان السريان لا أهل سورية يسمّونهم         والكلمة بمعنى الأبطال أو الجسورين وليست نسبة إلى الجراجمة (وإن وافقت بعض حروف اسمهم) ضبطوا البلاد من جبل الأسود وكلِّ جبل لبنان، وكابد العرب منهم كثيرًا وفي الآخر تغلَّب العرب فقتلوا بعضًا منهم وسملوا عيون آخرين«.

فصحيح ترجمة كلام ابن العبريّ هو »أنّ أناسًا غزاة رومًا من أمَّة المردة ويسمّيهم السريان بلغتهم كركوميا أي أبطالاً ضبطوا كلَّ البلاد من جبل الجليل إلى الجبل الأسود وجبل لبنان إلخ«. وهذا الكلام الأخير نفسه ورد كأنَّه بحروفه في أقوال توافان وشدرانوس وزاناراس في كلامهم عن المردة، وكذلك رواه كلّ من رووا أخبارهم. فلا شكَّ إذًا في أنَّ ابن العبريّ تكلَّم في هذه الفقرة على المردة وليس للجراجمة فيه الأقرب اسمهم من اسم كركوميا الذي فسَّره الأب أنستاس نفسه بأبطال           بالسريانيَّة معناها الخرّوب أو نوى الخرّوب                 خرّوبة وليس في مادَّة الاسم ما يدلُّ على الشجاعة أو القوَّة وتفسير الأب أنستاس بأبطال مُشعر بأنَّ الكلمة ليست منسوبة إلى جرجومة بل وافق مقصده أن يقول جراجمة ويفسِّرها بأبطال كما هو تفسيرها الصحيح.

حكم أخير

فإذا شهادة ابن العبريّ بيِّنة ظاهرة لنا، وما كان يحقُّ له أن يتفاخر بها ويترنَّم بأناشيد الظفر قائلاً: »قطعت جهيزة إلخ« بل حقّ علينا أن نسديه شكرًا جزيلاً على أنَّه هدانا إلى بيِّنة أخرى فوق ما لنا من الحجج على أنَّ المردة اسم الموارنة في القرن السابع أكسبتهم إيّاه غزواتهم وإغاراتهم، ثمَّ عادوا إلى اسمهم موارنة، ونعتدُّ ذلك حقيقة أثبتها كلُّ علمائنا، ونحن أحقرهم في مقالتنا السابقة ومقالتنا هذه، وقد جزمنا أن لا نعود، إلى الكلام فيها إلاّ أن يردّ من يخالفنا فيها كلَّ أدلَّتنا بموجب قوانين الجدال، ولا يلقى عندنا ما يخالف هذه القوانين، وإلاّ عدم الاكتراث. هدانا ا؟ جميعًا إلى الصواب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM