الفصل 11: المردة والموارنة

المردة والموارنة (إلى الأب هنري لامنس اليسوعيّ)

1 - المسألة في مدخل

أستهلُّ رسالتي، إليكَ بالشكر والثناء عليكَ لما تجهدُ نفسَك بتدوينه بمجلَّة »المشرق« الغرّاء من الفصول الموعبة بالفائدة وخير العائدة على الدين والعلم والفضيلة. وأسألك أن لا يشقَّ عليك أن أورد بعضَ أدلَّةٍ تخالفُ ما كتبتَه أخيرًا في هذه المجلَّة في شأن المردة، لأنّي لم أضع ذلك على سبيل المباراة بل على سبيل البحث العلميّ التاريخيّ وبيان الحقيقة، ولم أتفرَّغ للتنقيب في كتب المؤرِّخين لإيجاد الأدلَّة الآتي ذكرها بل انتقيتُها من معلوماتي السابقة وممّا كتبته إلى الآن في تاريخ سورية وغيره.

قالت أبوَّتُك الجليلة في مسألة المردة وظهورهم بغتةً بلبنان وخروجهم منه: ذهب العلماء فيها إلى مذاهبَ شتّى وأنَّك لا تُبدي فيها رأيًا بل تتركُ لقرّائك أن يصوِّبوا الرأي الذي يرونه أصحَّ وأثبتَ. وظهرَ من أساليب كلامك ومجموعه أنَّك تجنحُ إلى الرأي المخالف لرأي الموارنة بهذه المسألة، ويقرأ القارئُ في خلال أسطركَ أنَّك ترجِّحُ رأي المخالفين، ولا ألومُك على ذلك، ولا يخطر في بالي أنَّك تعمَّدت إجحافًا بحقِّ الموارنة أو إنقاصًا بكرامتهم، إذ طالما رأيتُك تذبُّ عنهم وتنتصرُ لهم، بل أعتقد أنَّ لك مناظرَ علميَّة أشكلتْ عليك حلَّ هذه المسألة، فصنعتَ ما يصنعهُ العلماءُ الحاذقونَ نظيرك من إيراد المسألةِ بطريق الشكِّ تملُّصًا من مسؤوليَّة إنكارها بتٌّا، وأفرغتَ كلَّ ما قام بذهنك ممّا يضادُّها حتّى إذا وُجد من حلٍّ لك ما رأيتَ من المصاعبِ في القطع بها تابعتَهُ على ما رأيتَه صوابًا دون أن تتعرَّض للانتقاد، وهذا خاصَّةُ ما سوَّل لي أن أوردَ لك الأدلَّة الآتيةَ رجاء أن تحلَّ محلاٌّ مقبولاً في ذهن خالٍ من كلِّ غرض إلاّ الحقّ، وكشف الحقائق فتربح عالمًا ضليعًا شهيرًا لمحاماة هذه الحقيقة التي حاماها كثيرون من علمائنا، وإن لم تكن لها أهمِّيَّة كمسألة ثبوتِ الموارنة الدائم على الإيمان الكاثوليكيّ. فأقول: إنَّنا نحن الموارنة نعلمُ أنَّ المردة اسمٌ للموارنة لقَّبهم به أعداؤهم في القرن السابع، وأنَّ المردة والموارنة أمَّةٌ واحدة ولنا على ذلك الأدلَّة التابعة نتبدئ بما كان فيها عامٌّا.

2 - نحن هم المردة.. والأدلَّة ثمانية

1) الدليل الأوَّل

إنَّنا نعلم أنَّ من عادات المؤلِّفين الحميدة أن يعتمدوا في تاريخ كلِّ قبيلة ما دوَّنه علماؤها ومؤرِّخوها، وعلى ما يظهر لهم من تقليداتها العامَّة والثابتة، مفضِّلين ذلك على كلِّ ما سواه من أخبار المؤرِّخين الأجانب عنها. ونتعجَّب كلَّ العجب من أنَّ الموارنة يستثنيهم بعض الكتبة والمؤلِّفين من هذا الحكم العامّ ولا يلتفتون إلى ما دوَّنه كثيرون من علمائهم الجهابذة، أو أجمعوا عليه أيضًا كما في مبحثنا الحاليّ، فإنَّ جميع علمائنا وكتّابنا الذين ذكروا هذا المبحث أثبتوا أنَّ المردة لقب للموارنة ومنهم بطاركة متسامون بالعلم كالدويهيّ ويوسف إسطفان ومسعد، ومنهم جهابذةٌ يقرُّ لهم بالفضل والعلم أهلُ المشرق والمغرب ويستنيرون بنبراس مؤلَّفاتهم في كلِّ معضلة كالسماعنة والحاقليّ والبانيّ ومبارك اليسوعيّ وغيرهم. ولكن إذا أتى هؤلاء العلماء بشيء يخصُّ ملَّتهم ازدروا شهادتهم وشكُّوا في صحَّتها ولو كانوا مجتمعين عليها ولم يرعَوا تقليداتنا العامَّة والثابتة والراسخة أقدم الأيّام إلى الآن في عقل كلِّ مارونيّ، بل دُوِّنت في مجامعهم كالمجمع اللبنانيّ الذي صرَّح بأنَّ أصحاب الغزوات المبحوث عنهم إنَّما هم قدماء الموارنة. أتستحسن أبوَّتُك هذا التصرُّف مع الموارنة، وقد ذكرت أنَّ أئمَّة الموارنة ومنهم العلاَّمة السمعانيّ والحاقلانيّ ومرهج البانيّ والدويهيّ ومن تبعهم من علماء الموارنة وبعض الكتبة الأوروبّيّين كبارونيوس، إمام المؤرِّخين، ولاكويان وغيرهما ارتأوا أنَّ المردة هم الموارنة. أفلا ترى أنَّ شهادة هؤلاء الأئمَّة تُفضَّلُ على شهادات بعض الحاسدين للموارنة أو البعيدين عنهم، وليس بينهم من يستحقُّ أن يُعدَّ بين المشاهير أو يُقاس بمن ذكرتَ من الأئمَّة؟ أترُك الحكم بذلك لما أعهدهُ بك من الإنصاف.

2) الدليل الثاني

قالت أبوَّتك في المردة: »من غريب أمر هذا الشعب أنَّه لم يبدُ بادئ ذي بدء ضعيفًا ضئيلاً بل نراه جاثمًا فوق مشارف لبنان ضابطًا مضائقه، شاغلاً كلَّ نقطه الحصينة على مدى طوله من الشمال إلى الجنوب، وليس من يقوم في وجهه، بل كثيرًا ما ينقضُّ من مراكزه الحريزة فيغزو المعاملات القريبة منه دون أن يردَّ أحدٌ هجماته« إلى أن قلتَ: »فاندثر أمرهم على الفور كما ظهروا بغتةً دون أن يبقوا في لبنان أثرًا من مرورهم«. لعمرُ الحقِّ إنَّني موافقٌ لك في غرابة أمرِ هذا الشعب إذا كان ظهرَ بغتةً بالقوَّة والصولة والسطوة التي وصفته بها واندثر على فور لا أرى ذلك غريبًا فقط بل مستحيلاً، ولا أعلم له مثالاً في التاريخ. ولكن ليت شعري أما ترى أنَّ هذه الغرابة تزولُ، وهذه المعضلة تنحلُّ وتنجلي إذا قلنا إنَّ هذا الشعب ليس غريبًا من لبنان ولا أتى إليه بغتةً بل هو ساكن لبنانَ من أقدم الأيّام أي الموارنة، وكانوا منبسطين منه شمالاً إلى ما وراء أنطاكية وجنوبًا إلى أعمال فلسطين، وهذا كان يسهِّل غزواتهم ويُعسر ردَّ هجماتهم ويجعلهم جاثمين فوق مشارفِ لبنان، وضابطين مضائقه وشاغلين نقطه الحصينة. أوَ ما تفضِّلُ أبوَّتُك حلَّ هذه المعضلة بهذا الوجه البسيط والطبيعيّ والمعقول على الارتباك بدخولِ شعب غريب لا يُعلم من أين أتى، ولا كيف طرد السكّان الأصليّين من لبنان، ولا كيف استحوذ على مشارفه، ولا كيف حاز هذه السطوة وملأ القلوب رعبًا بغزواته المتواصلة في جبل اللكام إلى تخوم أورشليم؟ إنّي أثق بأنَّ نزاهتك عن كلِّ غرض إلاّ الحقّ تجعلُك وتجعلُ كلَّ منصفٍ أن يصوِّب ما قلته وينبذ الخلاف.

3) الدليل الثالث

إذا استقرينا التواريخ الصادقة رأينا أنَّ اسم المردة سمّي به في القرن السابع للميلاد بعضُ المسيحيّين الساكنين بلبنان لتمرُّدهم على من كان من ملوك الروم شاذٌّا عن الإيمان الكاثوليكيّ، مقابلاً لاسم ملكيَّة لمن بقي من المسيحيّين المذكورين مسالمًا وطائعًا للملوك المذكورين، فكان اسم مردة وملكيَّة متقابلين4 دالَّين في البدء على غرضين مدنيّين كما كان في ما بعد اسما قيسيّ ويمنيّ. وابتدأ هذا الانقسام في أيّام الملك هرقل الذي عاون على نشر بدعة المشيئة الواحدة، وتعاظمَ وبلغ الغاية في أيّام يوستنيانس الثاني الأخرم، وأبوَّتك لا تُنكر شيئًا من هذا بل دافعت حقَّ الدفاع وأحكمه عن أنَّ الملكيَّة من سكّان سورية ولم يأتوا إليها من محلٍّ آخر، فكما أنَّ الفريق الواحد وهو الملكيَّة ليس من قائل بأنَّه غريب عن سورية ولبنان أو أتى إليه من الخارج، فكذا يلزم أن يقال في الفريق الآخر أي إنَّه من سكّان سورية ولبنان ولم يأتِ إليهما من الخارج، لأنَّ الفريقين كانا معًا وفي بلاد واحدة ولم يسمِّ كلّ منهما بما سمّي به إلاَّ للفرق بينهما.

4) الدليل الرابع

إذا راجعنا أسماء من ذكرتهم لتأييد كلٍّ من الرأيين وجدنا أنَّك ذكرت لتأييد رأي الموارنة العلاَّمة السمعانيّ والحاقلانيّ ومرهج بن نمرون البانيّ والدويهيّ ومن تبعهم من علماء الموارنة، ونزيد نحنُ على هؤلاء المطران إسطفان عوّاد السمعانيّ والبطريرك يوسف إسطفان والبطريرك بولس مسعد إلى غيرهم. وذكرتَ من الأوروبّيّين بارونيوس ولاكويان وغيرهما، ونزيد نحن على هؤلاء نطاليس إسكندر وروهربخر ودي لارو إلى كثيرين غيرهم5. وأمّا الذين ذكرتهم من المخالفين لرأي الموارنة فهم الأب مرتين وإنكتي دي بارون، وابن العبريّ. فالأب مرتين أسقطت أنت شهادته لأنَّه قال إنَّ أصل المردة عرب، وأنت ترى خلاف ذلك. وأمّا دي بارون فترى أنَّه أصابه ما أصاب الرجل الأوروبّاويّ الذي كان يبحث عن مقام القدّيسة كاترين في الإسكندريَّة فوجدَ سوق العطّارين وتفاخر بأنَّه وجد مقام القدّيسة كاترين. فدي بارون وجد كلمة مردا السريانيَّة أو مردة العربيَّة فظنَّ أنَّه وجد فرعًا آخر لقبيلة مرد الذين كانوا قبل المسيح كما أفدنا نقلاً عنه: أتصدِّق أنت الذي طالما أثبت لنا ذكاؤك وأصالة رأيك أنَّ دي بارون أو غيره أمكنه أن يحقِّق أنساب مردة قبل المسيح إلى القرن السابع بعده حتّى يذكر ما قاله. أوَلا تعلم أنت وكلُّ خبيرٍ أنَّ المردة لقب لهؤلاء الجماعة أكسبهم إيّاهُ عملهم لا اسم قبيلتهم. وأمّا ابن العبريّ فنقلت عن تاريخ السريانيّ »أنَّ المردة جنودٌ للملك قسطنطين اللحيانيّ أرسلهم للمدافعة عنها« فعبارته الأولى أي إنَّ المردة جنود لقسطنطين اللحيانيّ هي صادقة مجازًا، لأنَّ الموارنة بغزواتهم وحملاتهم صدُّوا العدوَّ عن السطو على ما كان باقيًا من مملكة هذا الملك، بل أكرهوهم على رفع الحصار عن حاضرة دولتهم سنة 676، فكانوا أعظم جنود لهذا الملك، ولم يكن المردة يقاومون من ملوك الروم إلاَّ من كان شاذٌّا عن الإيمان الصحيح كقُسطنت ويوستنيانس الأخرم، وأمّا قسطنطين اللحيانيّ فكان صحيح الإيمان غيورًا عليه فلم يكونوا يقاومونه بل كانوا ينجدونه ويعتمدون على إشارته. وأمّا عبارة ابن العبريّ الثانية وهي: أرسلهم إلى الشام للمدافعة عنها، فلم تصل يدي إلى الأصل السريانيّ لأحقِّق كلمة أرسل منها والذي قرأته في ترجمة لاتينيَّة غير مارونيَّة لهذه الكلمة Constituit أي أقامهم أو جعلهم للمدافعة في الشام، وعلى ذلك لا يكون في العبارة الثانية أيضًا ما يخالف رأي الموارنة بل تكون صادقة بالمعنى الذي قدَّمناه وإن ثبت أنَّ أصل الكلمة السريانيَّة (أرسل) فيكون ذلك خطأ من ابن العبريّ يثبته عليه كلُّ ما ستراه في الأدلَّة السابع والتاسع والعاشر. وخلاصة كلامنا في هذا الدليل أنَّ أبوَّتك أوردت لتأييد رأي الموارنة جهابذة كثيرين مشهورين يقرُّ لهم بالفضل والعمل كلُّ خبير، وأوردت لرأي المخالفين لهم شهادة الأب مرتين وأسقطتها أنت، ثمَّ شهادة دي بارون وهي ساقطة من نفسها، وشهادة ابن العبريّ وهي معتلَّة كما رأيت. وهب شهادة هؤلاء الثلاثة صحيحة أتُقاس بشهادة فطاحل العلم الذين ذكرتهم لا من قبيل العدد فقط بل من قبيل القوَّة والاعتبار وقبول الشهادة أيضًا؟ أدعُ الحكم لإنصافك هنا أيضًا.

5) الدليل الخامس

لعلَّ أبوَّتك تقول إنَّما تركتَ توافانس ممّا ذكرتهم لتأييد الرأي المخالف للموارنة مع أنَّه عمدة في كلامك. فأجيب أنّي لم أتركه ولم أغفل عنه بل أردت أن أفردَ له فقرة مخصوصة هي هذه. قالت أبوَّتك: »يؤخذ من أقدم ما ورد من المردة أنَّ لبنان لم يكن مركزهم الأوَّل. قال المؤرِّخ توافانس عنهم إنَّ المردة دخلوا لبنان وفي هذا القول ما لا شبهة فيه عن مجيئهم إلى لبنان من محلٍّ آخر«. فأجيب أوَّلاً أنّي نقلتُ عن توافان هذا أخبارًا للمردة في كتابي تاريخ سورية معتمدًا على تاريخه الذي طبعه الأب مين في مكتبة الآباء اليونان، فوجدتُه يقول في تاريخ السنة التاسعة للملك قسطنطين اللحيانيّ ما ترجمته بحروفه عن اللاتينيَّة: »في هذه السنة خرج المردة من لبنان فضبطوا كلَّ ما كان من جبل الأسود إلى المدينة المقدَّسة«. وأمّا كيف ترجمت أبوَّتك دخل المردة عوضًا عن خرج فأظنُّ أنَّك نقلت كلامًا آخر لتوافان لأنَّه ذكر المردة في تاريخ سنين عديدة أو أردتَ أن تقول إنَّ قدرينوس (الذي عرَّبته أنا وغيري شدرانوس) قال إنَّ المردة دخلوا لبنان لأنّي وجدت مثل هذه اللفظة في كلامه.

أجيب ثانيًا: أنَّه لو ثبت أنَّ توافان أو شدرانوس أو غيرهما قال: إنَّ المردة دخلوا لبنان فلا يثبت أنَّ المردة أتوا حديثًا إلى لبنان. فأنتَ تعلم ولا يفوت خبيرًا بتاريخ المشرق أنَّ الموارنة كانوا منبثِّين في شماليّ لبنان أي في حماة حيث كان مركزهم الدينيّ، وفي حمص وأنطاكية وباقي السهول التي هناك وفي جنوبيه إلى أورشليم. فالقول إنَّهم دخلوا لبنان يكون المراد به أنَّهم تجمَّعوا من خارج لبنان ودخلوا هذا الجبل الحصين وضبطوا مشارفه وخفروا مضائقه وحصَّنوا قلاعه وأخذوا يشنُّون الإغارات إلى الشمال والجنوب من لبنان، وهذا ما يظهر دون تكلُّف لمن يطالع ما كتبه عن المردة توافان وشدرانوس وزوناراس وبولس الشمّاس وأنسطاس المكتبيّ وغيرهم. وقد ذكرت كثيرًا من أقوالهم في المجلَّد المذكور من كتابي تاريخ سورية. فإذًا لو صحَّ أنَّ توافان أو غيره قال »دخل المردة لبنان« فلا ينتج من ذلك ما يخالف رأي الموارنة أنَّ المردة من أمَّتهم.

6) الدليل السادس

حجَّتنا أبوَّتك بقول آخر قاله توافان وهو: »وانضمَّ إليهم كثيرون من العبيد والأسرى والوطنيّين حتّى أصبح عددهم في مدة وجيزة ألوفًا كثيرة«. وأوجزتْ أبوَّتك هذا الكلام فقلت: »والتجأ إليهم الوطنيّون«. فشوَّش الإيجاز العبارة وأردفتَها بقولك: »وفي هذا دليل على أنَّ المردة لم يكونوا من أهل لبنان بل غرباء«. فصحيح العبارة ما ذكرته عن توافان نفسه في تاريخ السنة التاسعة لقسطنطين اللحيانيّ. وإذا كان أصل العبارة وصحيحها انضمَّ أو التجأ إليهم كثيرون من العبيد والأسرى والوطنيّين فماذا يكون فيها ممّا يخالف رأي الموارنة، وأبوَّتك صرَّحت مرارًا في فصولك نفسها في آثار لبنان أنَّ الموارنة لم يكونوا يسكنون وحدهم لبنان بل خالطهم غيرهم في غزواتهم كثيرون من الوطنيّين فما يكون في ذلك من الدليل على أنَّ المردة لم يكونوا من أهل لبنان بل غرباء؟

7) الدليل السابع

قالت أبوَّتك إنَّ المردة بعد إبعادهم عن لبنان وتفرُّقهم على قولك في بلاد الأرمن وأضالية وقبرس والمورة، لم يزالوا في كلِّ هذه البلاد على نظامهم العسكريّ وكان لهم ضبّاط يسمّونهم كاتيبانو. فلو كان المردة عسكرًا أرسله ملوك الروم إلى لبنان لعاد كلّ من هذا العسكر إلى بلاده ووطنه، وانضمَّ إلى أهله ولم تكن حاجة أو محلّ أن يبقوا على نظامهم العسكريّ، وأن يكون لهم ضبّاط يسمَّون باسم مخصوص أو كان ملك الروم الذي استقدمهم إليه ضمَّهم إلى عسكر وجعلهم كباقيه لو كانوا جالية من آسيا الصغرى أو أرمينية أو إيران أحلَّهم أحدُ ملوك الروم في لبنان ثمَّ استرجعهم لرجعت هذه الجالية إلى مواطنها التي تركتها من عهد قريب، لأنَّ فتح سورية كان سنة 636، وذكرُ هؤلاء المردة ابتدأ على قولك سنة 677 وإبعادهم عنها كان نحو سنة 692 فتكون المدَّة من إحلالهم في لبنان إلى إخراجهم نحو خمسَ عشرة سنة. فلمَ لم ترجع هذه الجالية إلى مواطنها، ولمَ اعتُبرت كأنَّها غريبة ولزمت أن تحفظ نظامها العسكريّ وأن يكون لهم حاكمٌ مخصوص وأنَّه اسم خاصّ أينما حلُّوا على ما قلت أنت في بلاد الأرمن أو جوار أضالية أو قبرس أو بلاد اليونان والمورة؟ أما ترى أنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ هؤلاء المبعدين لم يكونوا عسكرًا للملك الرومانيّ ولا من أهل أرمينية أو آسيا الصغرى بل من السكّان الأصليّين في لبنان وهم الموارنة؟!

إنَّ العلاَّمة السمعانيّ أنبأنا في المجلَّد الرابع من مكتبة الناموس بأمور ذات أهمِّيَّة في أخبار هؤلاء المبعدين من الموارنة، فقال: إنَّ الملك قسطنطين السابع بُرْفيروجنات الذي كان في منتصف القرن العاشر قال في كتابه المرسوم بتدبير الملك المطبوع بباريس إنَّ المردة نُقلوا إلى بمفيلية وقام قائدهم في مدينة أضالية وذكر في كتابه الأوَّل في أعمال المملكة عمل بمفيلية وقال: »فيه المردة الذين جلوا من لبنان يليهم قائد لهم وقد استمرّوا هناك من عهد يوستيانس إلى أيّامنا«، أي أيّام المؤلِّف في نحو نصف القرن العاشر وقد أسهب في الفصل 50 من كتابه المذكور الكلام فيهم، وممّا قاله إنَّ ملك القسطنطينيَّة كان ينصِّب للمردة واليًا منهم في أضالية يسمّى قبطانًا، وأنَّ الملك لاون الحكيم أباه نصَّب لهم واليًا اسمه أستوراشيوس بلاتين، وكان ينصِّب لهم قاضيًا يسمّى قاضي أضالية. ثمَّ قال السمعانيّ في سنة 1074 كان أحد هؤلاء القضاة اسمه ميخائيل ألَّف كتابًا في الناموس الدينيّ والمدنيّ طبع بفرنكفورت سنة 1596، وكان في القسطنطينيَّة مرتبة لكبير المردة من أيّام الملك ميخائيل السابع في القرن الحادي عشر إلى أن فُتحت القسطنطينيَّة سنة 1453. واستشهد السمعانيّ لذلك كتابًا لغريغوريوس كودونيوس كوروبالات الذي كان حيٌّا عند الفتح المذكور. وممّا قاله هذا المؤلِّف: إنَّ كبير المردة كان يحمل في القسطنطينيَّة عكّازًا من فضَّة مموَّهًا بالذهب. واستشهد السمعانيّ أيضًا متّى جاتر الكاهن في كتابه في مراتب القصر القسطنطينيّ حيث روى أنَّ الرتبة السابعة عشرة بعد الملك كانت لكبير المردة. واستشهد أيضًا كتابًا مجهول المؤلِّف. هذا خلاصة ما رواه السمعانيّ في هؤلاء المردة المبعدين. أوَما ترى، أبتِ، أنَّ كلَّ ذلك لا يصدَّق على عسكر كان بلبنان أو على جالية احتلَّته بعضَ سنين بل إنَّ ذلك بيِّنة قاطعة على أنَّ هؤلاء المردة المبعدين كانوا من الموارنة سكّان لبنان الأصليّين، واستمرُّوا منفصلين عن باقي سكّان آسيا الصغرى قرونًا وميَّزتهم الحكومة نفسها عنهم، ولو كانوا عسكرًا أو جالية لما كان محل$ لشيء من ذلك؟!

8) الدليل الثامن

إنَّ أصحاب الرأي المخالف لرأي الموارنة لا يتَّفقون على أصل المردة وقد أنبأتنا أبوَّتك أنَّ ابن العبريّ يقول إنَّهم جنود لقسطنطين الملك، ولم يعرِّفنا من أين كان هؤلاء الجنود. وإنَّ بعضهم قال: إنَّهم كانوا قبل دخولهم لبنان يسكنون بلاد الأرمن وولايات آسيا الصغرى، وإنَّ دي بارون يجعلهم فرعًا من المرد الذين كانوا قبل المسيح، وإنَّ بعضهم يقول إنَّهم أصلاً من قبيلة إيرانيَّة دخل عليهم أخلاط من عناصر سوريَّة وأرمينيَّة، وإنَّ الآب مرتين اليسوعيّ يقول إنَّهم من العرب. ففي هذا الخلاف الكثير قول من نصدِّق وبقول من نكذِّب؟ أوَما ترى أنّ هذا الخلاف نفسه بيَّنةٌ على بطلان هذه الأقوال وأنَّ كلاٌّ منها ينقض الآخر فضلاً عن نقضنا لها جميعها بما أوردناه إلى الآن من الأدلَّة القاطعة منها: بيِّنتين قاطعتين ]كذا[ خاصَّة الأولى اشتراط معاوية في معاهدة الصلح بينه وبين الملك قسطنيطين اللحيانيّ أن يمنع الملك إغارات المردة وغزواتهم وهو يدفع لقاء ذلك مبلغًا من المال والرجال والخيل. ولو كان هؤلاء المردة جنودًا للملك أو جالية أدخلها إلى لبنان حديثًا لشرط بلا بدَّ جلاء هؤلاء الجنود من لبنان، والأمر واضح وضوح بقاء المردة على غزواتهم بعد ذلك، ولم يذكر هذه الأمور كتبةٌ من الموارنة بل توافان وشدرانوس وزوناراس، والثلاثة من مؤرِّخي الروم المعوَّل على كلامهم في تواريخهم تلك الأيّام ومن أشهر المؤرِّخين. والبيِّنة الثانية بقاءُ هؤلاء المردة قرونًا في آسيا بعد إبعادهم إليها منفصلين عن غيرهم من سكّانها ولايةً وقضاء كما أثبت الملك قسطنطين السابع برفيروجنات أنَّهم بقوا كذلك من أيّام يوستنيانس الثاني في آخر القرن السابع إلى أيّامه في أواسط القرن العاشر.

خلاصة

لعمرُ الحقّ إنَّ هذه بيِّنة لا تُردُّ على أنَّ المردة لم يكونوا جنودًا لأحد ملوك الروم ولا جالية أحلُّوها في لبنان ثمَّ أخرجوها منه بعد مدَّة وجيزة. ومن المعلوم أنَّ أولئك الجنود وتلك الجالية لم يكونوا إلاّ من مملكتهم، فعندَ عودهم إليها ينضمُّون إلى باقيها ولا يبقون منفصلين قرونًا. وقد بسطنا هذين البرهانين آنفًا ولم نكرِّر ذكرهما هنا إلاّ على سبيل الاستخلاص لردِّنا هذا الذي نختمه بقولنا: إذا كانت هذه أدلَّتنا التي نعتبرها قاطعة ويعتبرها كذلك كلُّ منصف، وكان هذا اختلاف الأقوال عند من ينكر علينا ذلك. فيحقُّ لنا أن نتشبَّث برأينا هذا إلى أن تُردَّ أدلَّتنا هذه جميعها ويورد علينا أدلَّة أخرى قاطعة تثبت زعم خصومنا، وعلى الأقلّ إلى أن يتَّفقوا برأي واحد على أصل هؤلاء المردة.

فهذا ما رأيت أن أورده لأبوَّتك الجليلة سائلاً إيّاك أن تُحلَّه في صفحات مجلَّة »المشرق« الغرّاء علَّه يكون من الأبحاث العلميَّة التي تتفضَّل هذه المجلَّة بنشرها، علاوة على فضلها بنشر ما يعود بالنفع على الدين والفضيلة. وأختم رسالتي هذه بالشكر لك ولأصحابك الآباء المحترمين التعبين بنشر هذه المجلَّة التي أجلُّها وأجلُّهم وأدعو بالتوفيق لكم جميعًا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM