الفصل 13: الموعظة الأولى الإيمان والأعمال الصالحة

الموعظة الأولى الإيمان والأعمال الصالحة

تمهيد باسترجاع

لو سمع لوتاروس ما رويته من فضائل القدّيس مارون لقال لمَ هذا التلف؟ ولمَ هذا التعب والجهاد كلّه؟ فكان يكفي لتبرير القدّيس مارون ولاكتسابه مرتبة صالحة لنفسه في السماء أن يؤمن الإيمان الصحيح بأنَّ ا؟ واحد بثلاثة أقانيم، وأنَّ الأقنوم الثاني الذي هو الابن نزل من السماء وتجسَّد وافتدانا إلى غير ذلك من العقائد الدينيَّة القليلة فقط ولا حاجة إلى امتلاك الفضائل، وعمل الأعمال الصالحة لنوال أسرار الوجه أمام ا؟ والخلاص. فالإيمان وحده يكفي وبالتالي إنَّ الاستسارة الحسنة والجهاد حبٌّا با؟ والمثابرة على الصلوات والأعمال الحسنة لا حاجة إليها البتَّة، بل إنَّ جميع أعمال الأبرار الصالحة خطايا، والبارُّ يأثم كلَّما عمل صالحًا، فيكون الحاصل على زعم لوتاروس أنَّ كلَّ ما عمله القدّيس مارون من الفضائل والصلوات والإماتات والنُسك والأصوام والتأمُّلات الروحيَّة وتحمُّل المحن وما أشبه، ليس هو فضيلة فقط بل هو بأجمعه آثام. وما قاله مار بولس من أنَّ الذين يستسيرون حسنًا يكسبون لأنفسهم مرتبة صالحة فقد أراد بالاستسارة حسنًا ارتكابَ الخطايا والمآثم لا عملَ الأعمال الصالحة. ولئلاّ يرتاب أحد أو يُنكر أنَّ لوتاروس علَّم هذا التعليم السقيم، وزعم هذا الزعم الفاسد نورد ألفاظ لوتاروس نفسها بهذا المعنى تأكيدًا لقولنا، ثمَّ نأتي إلى تفنيد هذا الضلال الفظيع ليظهرَ من ذلك كونُ الإيمان وحده لا يكفي للخلاص، وكونُ الأعمال الصالحة لازمة أيضًا له، ويلزم أن نقتدي بآبائنا القدّيسين في صنعها.

1 - المعتقد... بين النظريَّة والوصاة

1) الإيمان النظريّ

فقد قال لوتاروس في تفسيره الإصحاح الثاني من رسالة غلاطية: »حيث يُعلَّم أنَّ الإيمان يبرِّر ولكن يلزمُ حفظ وصايا ا؟ أيضًا... فهناك إنكار المسيح وإبطال الإيمان حالاً إذ يُنسبُ لوصايا ا؟ وسنَّته ما يخصُّ ا؟ وحده«، وقال في التفسير المذكور أيضًا: »إنَّ الإيمان وحده يبرِّر... وليس الإيمان المتضمِّن المحبَّة«، إلى أن يقول: »لو صحَّ أنَّ الإيمان لا يبرِّر خلوٌّا من المحبَّة لكان لا نفع للإيمان ولا قوَّة له«. وقال في القضيَّة الثالثة من المجلَّد الأوَّل من تأليفه: »إنَّ الإيمان لا يبرِّر بل لا يكون إيمانًا ما لم يكنْ دونَ الأعمال بالكلّيَّة ولو زهيدة«. وقال في كتابه »في سبي بابل«: »وهكذا ترى ما أغنى الإنسان المسيحيّ فإنَّه لا يستطيع، ولو أراد أن يفقدَ الخلاص بأيَّة خطيَّة كانت إلاّ إذا لم يشأ أن يؤمن فلا يستطيع شيءٌ من الخطايا أن يُهلكه إلاَّ عدمُ الإيمان«. وقال: »كن أثيمًا واقترف خطايا كبيرة ولكن أومن إيمانًا قويٌّا، وافرح بالمسيح الذي انتصر على الخطيَّة والموت والعالم، بل يلزم أن نخطي ما دمنا في هذه الحياة، فإنَّ هذه الحياة ليست موطنَ البرِّ بل ننتظر كما قال بطرس سماءً جديدة وأرضًا جديدة يحلُّ بها البرُّ ويكفينا أن نعرف... حملَ ا؟ الرافعَ خطايا العالم، والخطيَّة لا تبعدنا عن هذا ولو ارتكبنا الفحشاء والقتل ألف مرَّة في النهار. أتظنُّ شيئًا زهيدًا الثمنَ والفداء الذي قدَّمه هذا الحملُ العظيمُ عن خطايانا«؟ فهل أكثر صراحة من هذه العبارات لإيضاح زعم لوتاروس المنوَّه به؟!

وهوذا ألفاظ لوتاروس وغيره من أتباعه بالمعنى الثاني أي إنَّ الأعمال الصالحة خطايا. قال لوتاروس: »إنَّ العمل الصالح المصنوع حسنًا هو خطيَّة عرضيَّة. فهذه القضيَّة تُنتج نتجًا صريحًا من الأولى إلاّ أنَّه ينبغي أن يُزاد عليها ما قلته في محلّ آخر مسهمًا، وهو أنَّ هذه الخطيَّة عرضيَّة لا يطبعها إلاّ من قبل رحمة ا؟... فإنَّ كلَّ عمل من البارّ هو أهلٌ للشجب وخطيَّة مميتة إن حكم عليه بحكم ا؟«. وقال ملنطون: »وأمّا الأعمال التي تتبع التبرير فهي نفسُها بخسة لحصولها في جسد ما بروح دنِسًا وإنْ صدرتْ بروح ا؟ الذي يشغل القلوب المبرَّرين«. وقال: »قد علمنا أنَّنا نتبرَّر بالإيمان وحده... إنَّ أعمالنا واجتهادنا ليس إلاَّ خطيَّة«. وقال كلوينوس: »إنَّ من يبحثون عملاً كأنَّهم أمام ا؟ عن قاعدة البرِّ الحقيقيَّة يعلمون بلا ريب أنَّ أعمال الناس جميعها أدناس وأقذار إن اعتبرت بحسب رتبتها، وما يعتبره عامَّةُ الناس برٌّا فهو عند ا؟ دنِسٌ مجرَّد، وما يظنُّونه كمالاً فهو رجاسة وما يسمَّى مجدًا فهو خزيٌ وعار«. وقال: »لا ينبغي أن يزعج من يقولون إنَّ الأعمال الصالحة تستحقُّ الهلاك لا جزاء الحياة إنْ نُظر فيها نظرًا مدقَّقٌّا«.

2 - العمل بالوصاة

فهذا ما قاله من ادَّعوا ومن يدَّعي أتباعهم أنَّهم مصلحو العالم. وإنّي على يقين من أنَّ مجرَّد ذكر أقوالهم على سماعكم هو أكبر مفنِّد لتعليمهم ويشمئزُّ منه كلُّ سامع لم يفقد شعائرَ الدين، ويرى فيه نوعًا من الهذيان. فكيف يمكن الإيمان وحدَه أن يبرِّرنا ويخلِّصنا ولو ارتكبنا الفحشاء والقتل ألف دفعةٍ في النهار؟ فما نفعُ وصايا ا؟ وتكرار المسيح لها في إنجيله؟ وإن كانتِ الأعمال الصالحة خطايا فماذا يبقى إلاّ أن تكون الخطايا أعمالاً صالحة؟ فأيُّ ذي عقلٍ سليم، ولا أقول أيُّ مؤمنٍ يسلِّم بذلك؟ فهذه الاعتباراتُ الموجزة تكفي مونةَ الردِّ على زعمِ أخصامنا ومونة إثباتِ تعليمنا الكاثوليكيّ بأنَّ الإيمان وحده لا يبرِّر. وأنَّ الأعمال الصالحة ليس إثمًا بل هي لازمةٌ للخلاص أيضًا. على أنَّنا لا نكتفي بهذا الإيجاز الكافي بل نثبتُ مقصدنا بالبرهانات العقليَّة وآيات الكتاب وشهادات التقليد.

- ونورد أوَّلاً على عادتنا البرهانات العقليَّة اللاهوتيَّة. فقولوا لي، أولادي الأعزّاء، هل ترون أنَّ المسيح أتى إلى الأرض ليمنع الكمال ويجعل التراخي في حفظ الوصايا الإلهيَّة والطبيعيَّة أو أتى يعلِّمُ الناس الكمال ويشدِّدهم في المحافظة على تلك الوصايا؟ وهل ترون أنَّه تألَّم ومات وفاءً عن الخطايا ودفعًا لها، أو تألَم ومات ليملكها في العالم ويسهِّل للناس اقترافها؟ فلا غروَ أنَّكم تجيبون بل يجيبُ كلُّ مؤمن وكلُّ مطالع للإنجيل بل كلُّ ذي حسٍّ طبيعيّ أيضًا أنَّ مصدر الكمال لم يأتِ ليعلِّم الناس الرذائل بل ليعلِّمهم الكمال ويشدِّدَهم في حفظ الوصايا التي يأمر بها الطبعُ وسنَّته الإلهيَّة والأزليَّة، ولم يتألَّم ويمتْ إلاّ من جرَّاء الخطيئة، ولكي يرجع الناس عنها. والحال أنَّنا لو قلنا إنَّ الإيمان وحده يبرِّر الإنسان ويكفيه مونةَ الخلاص من قبلِ ارتكاب الخطايا، فأين يبقى تعليمُ الكمال وكيف لا يتراخى الناسُ في حفظ الوصايا، ولا ينفتح سبيلٌ رحبٌ وسيع للمآثم؟ وكيف لا يكونُ موت المسيح ووفاؤه لا لتقليل الخطايا بل لتثيرها بإطلاقه للناس جرأةً على ارتكاب الخطيَّة أكثر من ذي قبلُ، وليقترفوا الإثمَ مُطمئنّين على الخلاص ولو تمرَّغوا بحمأة الرذائل بحيث لا يزيغون عن الإيمان وهو القائل: ما أضيق الباب وأكربَ الطريقَ المؤدّي إلى الخلاص! فلو صحَّ زعم لوتاروس فأينَ الضيق في الباب أو الكربُ في الطريق، ويكفي الإنسان مونةَ خلاصِه مجرَّدُ اعتقاده الفكريّ. والمخلِّصُ هو القائل أيضًا إنَّ ملكوت السماء يُغصب والغاصبون يختطفونه، فأين الغصبُ ممَّن لا يحتاج إلى قهرِ أمياله ولا إلى قمعِ شهواته بل يكفيه أن يعتقدَ أنَّ المسيح ابنُ ا؟، وأنَّه تجسَّد وتألَّم ومات من أجله.

وأبرهن بنوع آخر: إن كان الإيمانُ وحده لازمًا للخلاص فلمَ هذا الحشو كلُّه في العهد الجديد من ذكرِ وصايا وأوامر ونواهٍ وتهديداتٍ للمخالفين بل حكم عليهم بالعذاب المؤبَّد لأنَّهم أهملوا أعمال الفضائل كإطعام الجياع وإسقاء العطاش وإكساء العراة إلخ؟ فإذًا أقلُّ تبصُّر في هذا الأمر يبيِّنُ كونَ زعم لوتاروس هذا مستحيلاً ومنافيًا الكتاب المقدَّس على خطٍّ مستقيم.

- وأمّا من برهانات الكتاب فنورد أوَّلاً البرهان السلبيّ الذي أورده العلاّمة الكردينال بلرمينوس وهو أنَّ لوتاروس ومن تابعه يتفاخرون كثيرًا بالتمسُّك بعرى الكتاب المقدَّس، ولا يريدون أن يعرفوا ينبوعًا غيره للحقائق الدينيَّة، فعليهم إذًا أن يبرهنوا لنا بآية من هذا الكتاب تصرِّح أنَّ الإيمان وحده يكفي للتبرير والخلاص. فإن وجدتْ آيةٌ تصرِّح بهذا اعتقدناه لا محالة أنَّهم حتّى الآن ما استطاعوا ولا يستطيعون أن يوردوا نصٌّا يبيِّن كونَ الإيمان وحده كافيًا للتبرير والخلاص. وكلمة وحده التي زادها لوتاروس في الترجمة الجرمانيَّة على قول الرسول أنَّ الإنسان يتبرَّر بالإيمان لا وجودَ لها في إحدى النسخ اليونانيَّة أو اللاتينيَّة البتَّة، حتّى لم يستطع هو نفسُه أن ينكرَ زيادته تلك الكلمة إذ طولب بها بل قال: »هكذا أريد وهكذا آمر فلتكن إرادتي موضع البرهان«. أمّا نحن فنقول، وفقًا للكتاب المقدَّس، إنَّ الإنسان يتبرَّر بالإيمان، ونرهنُ بآيات الكتاب نفسه أنَّ الإيمان وحده لا يبرِّر الإنسان، وبرهاننا على ذلك قاطع واضح مصرَّح في الكتاب المقدَّس حتّى لا يمكن أن يكون شيء أكثر توكيدًا منه. وقد أوردتُ في خطب أخرى بعض البرهانات لهذه الحقيقة وأورد بعضها الآن أيضًا.

فمن الآيات التي هي نصّ في إثبات مقصدنا قولُ مار يعقوب الرسول: »ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد إنَّ له إيمانًا وليس له أعمال. أترى الإيمان يستطيع أن يخلِّصه«؟ فكيف يكون التصريح إن كان هذا ليس تصريحًا بما نحن له مثبتون؟ وهل يمكننا أن نقول نحو في هذه الأيّام ما هو أكثر صراحة بهذا المعنى؟ إذا أردنا نصرِّح به، وقد زاده مار يعقوب تصريحًا بقوله: »إنَّ الإيمان إذا كان دون أعمال كان ميتًا بنفسه«، وقوله: »أرأيتم أنَّ الإنسان يتبرَّر بالأعمال لا بالإيمان وحده«؟ وقوله: »كما أنَّ الجسد من دون الروح ميتٌ هكذا الإيمان من دون الأعمال هو ميت«. ولهذا لا يمكنه أن يفعل شيئًا ولا أن يأتينا بثمرة خلاصيَّة، وهذا واضح حتّى لم يجد لوتاروس مفرٌّا من وضوحه فأنكر كون رسالة مار يعقوب من الأسفار المقدَّسة. مع أنَّ كلوينس سلَّم بأنَّها منها، واللوتاريّون المتجدِّدون أنفسهم يعترفونها من الأسفار المقدَّسة ولا يسقطونها من عددها حتّى قال أحدهم بوداوس: »إنَّ الواضح الآن عند الجميع أنَّ يعقوب الرسول مؤلِّف هذه الرسالة وأنَّ شهادته إلهيَّة«. ونعدلُ عن الاستشهاد بالآباء القدّيسين والعلماء الكاثوليكيّين لإثبات كون هذه الرسالة من جملة الأسفار المقدَّسة، على أنَّنا لسنا نبرهنُ هذه العقيدة من رسالة مار يعقوب وحدها بل من آيات أخرى أيضًا كثيرة من باقي الأسفار المقدَّسة.

إنَّ مار بولس نفسه الذي يتفاخر أعداؤنا باستشهاده لتعليمهم علم ما بينهُ وبين قول مار يعقوب الطباق التامّ إذ قال رسول الأمم: »ليس الذين يسمعون الناموس أبرارًا أمام ا؟ بل العاملون بالناموس يتبرَّرون«، يعني أنَّه لا يتبرَّر من سمع الناموس وحفظ وصاياه وسلك بمقتضاها. وقد قال هذا الرسول أيضًا: »لو صار فيَّ الإيمان كلُّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيَّ المحبَّة فلستُ بشيء«، فيشير الرسول إلى قول المخلِّص: »لو كان فيكم إيمان كحبَّة الخردل وقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا لا ينتقل«. ومع ذلك يشهد بأنَّ الإيمان العظيم بهذا المقدار لا يفيد شيئًا في خلاص النفس إن كان خاليًا من المحبَّة أم سائر الأعمال الصالحة. نعم قال الرسول في محلّ آخر إنَّ الإيمان يبرِّرُ لكنَّه يريدُ به الإيمان الحيَّ المقترن مع غيره من الأعمال الصالحة، ومع العزم الثابت على حفظ الوصايا الإلهيَّة، أعني المقترن مع المحبَّة. وقد صرَّح بذل في قوله: »وأمّا في يسوع المسيح فلا يفيد الختان شيئًا ولا الغرلة بل الإيمان الذي يفعل بالمحبَّة«. فكأنَّه يقول لا منفعة في الدين المسيحيّ نظرًا إلى الخلاص لكون الإنسان مختونًا أو أغلف بل المنفعة للإيمان وليس للإيمان وحده مجرَّدًا بل له مكمَّلاً بالمحبَّة وحيٌّا وفاعلاً، به حفظُ الوصايا وصنعُ الأعمال الصالحة.

ولنسمعْ مَن أرسل من حضن الآب ليعلِّم المسكونة طريق الخلاص، فلم نره البتَّة قال إنَّ الإيمان وحده يخلِّص بل نراه لمّا سأله ذلك الشابّ: ما الذي أعمله لأرث الحياة الأبديَّة؟! أجابه إن شئتَ أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا لا أن تؤمنَ فقط. نراه يصوِّرُ نفسه يوم الدينونة مقضيٌّا بالهلاك المؤكَّد على الأشرار، لأنَّهم لم يؤمنوا بل لأنَّهم لم يعملوا الأعمال الصالحة إذ يقول: »اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديَّة لأنّي جعتُ فلم تطعموني وعطشتُ فلم تسقوني« إلخ... بعد أن يُثيب الأبرار لأنَّهم صنعوا هذه الأعمال إذ يقول: هلمَّ يا مباركي أبي رثوا المُلك المعدَّ لكم من قبلِ إنشاء العالم، لأنّي جعت فأطعمتموني إلخ... ونراه أيضًا يقول: »ليس كلُّ من يقولُ لي يا ربّ يا ربّ يدخلُ ملكوتَ السماء بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماء«، يعني لا يكفي لدخول الإنسان السعادةَ وفوزه بالخلاص أن يؤمن بي ويدعوني ربَّه وفاديه بل يلزمه أن يعمل أيضًا إرادة ا؟ بحفظ وصاياه. نعم قال المخلِّص لبعض من أبرأهم من أمراض أو عاهات: »إيمانك خلَّصك«. لكنَّ المراد بذلك ليس الإيمان المبرِّر بل المعنى أنَّ إيمان أولئك المسقومين بكون المسيح ابنَ ا؟ وقادرًا أن يشفيهم جعلَهم يتخلَّصون من أمراضهم. وهذا واضح وبيِّن بواقع الحال. ولو افترضنا أنَّ المراد بذلك الإيمان المبرِّر والمسبِّب الخلاص الأبديّ فلا ينفي ذلك الأعمال الصالحة، ولا يوجب الحصرَ بأنَّ الإيمان وحده خلَّص أولئك، وما من ناكرٍ أنَّ الإيمان هو الأسُّ والأصل الأوَّل للتبرير والخلاص.

وإذا أحببتم أن تسمعوا شيئًا ممّا قاله باقي الرسل بهذا المعنى فاسمعوا مار بطرس زعيم الرسل يقول: »اجتهدوا يا إخوتي أن تحقِّقوا دعوتكم وانتخابكم بواسطة الأعمال الصالحة«. فإذًا لا يكفي الإنسان للبرِّ والخلاص إيمانه بأنَّ خطاياه غُفرتْ له باستحقاق المسيح، وأنَّه مدعوّ إلى السعادة بل يلزم أن تقترنَ مع الإيمان أفعالُ الفضائل والأعمال الصالحة لتحقِّقَ دعوةَ الإنسان للسعادة، ويفوزَ بالخلاص. واسمعوا أيضًا ما يقولُ مار يوحنّا الرسول: »يا بنيّ لا يطغينّكم أحد فإنَّ من يصنعُ البرّ فهو بارّ«. فإذًا للفوز بالبرِّ والخلاص لا بدَّ من صنع البرِّ والأعمال الصالحة ولا يكفي الحصول على الإيمان وحده.

ومن البرهانات على صحَّة هذه العقيدة كونُ بعض علماء البروتسطنت أنفسهم قد ساءهم زعم لوتاروس أنَّ الإيمان وحده كافٍ للتبرير والخلاص فأنكروه عليه وخالفوه به، وحملهم على ذلك وضوح آيات الكتاب والبرهانات اللاهوتيَّة الناقضة لزعمه. فمن جملة هؤلاء العلماء هو غس كروسيوس، فإنَّه لدى تفسير رسالة مار يعقوب القانونيَّة، يصوِّر الإنسان المتشبِّث بتعليم لوتاروس متكلِّمًا هكذا: »إنَّ أعمالي ليستْ بصالحة لكنَّ إيماني قويم صالح، ولهذا ليس خلاصي على شيء من الخطر« إلى أن يقول: »قد تجدَّد في هذا العصر التعيس ذلك الرأي... الذي يلزم أن يخالفه كلُّ من أحبَّ التقوى وخلاص القريب، فإنَّ الإيمان لا يفيدُ أحدًا البتَّة خلوٌّا من العمل. وقال جيورجيوس بولس في توفيق كلام الرسول بأن هذا التعليم ما ترجمته: »إنَّ هذا التعليم هو عارٌ وخزيٌ من سنين عديدة لكنيسة المصلحين، ولا يوجَد تعليمٌ يسخر به البابويّون أو يتعقَّبونه بصرامة أكثر منه، وليس ذلك دون الصواب فإنَّه ضلال ليس بخفيف وغلط وخيم وغواية في الإيمان«. وقال يوحنّا جيرردوس ملطِّفًا هذا الزعم ليطابق تعليم الكنيسة الرومانيَّة: »يلزم أن تعلم بتدقيق دفعًا لتهمات الخصوم أنَّ لفظة وحده ]من قولهم أنَّ الإيمان يبرِّر وحده[ لا تحصرُ المحمول كأنَّ الإيمان المبرِّر يكون وحده منفصلاً عن المحبَّة وباقي الفضائل، لأنَّ الإيمان الحقيقيّ هو حيّ لا ميت، وهو فعّال بالمحبَّة لا مجرَّدٌ عن الفعل. وقال فرنسيس بوداوس: »إن فُهمَ بالأعمال الصالحة تلك الحركات التقويَّة والصالحة التي من شأن الندامة كمقت الخطايا والعزم على الفرار منها في ما بعد، فلا ريب بوجود هذه الأعمال في الإنسان المتبرِّر، وهي تتقدَّم الإيمان به... على أنَّ هذه الأعمال تكون متَّحدة أبدًا مع الإيمان، وهي الرجاء والمحبَّة ولا يمكن إلاّ أن تكون موجودة عندما يتبرَّر الإنسان، وإن لم تساعدْ من أحد الوجوه على التبرير«. وقول هؤلاء العلماء من الواضح كثيرًا أنَّه يخالف رأي لوتاروس وزعمه كما قدَّمنا كلامه، ويبعدُ كثيرًا عمّا في قوانين معتقدهم، فيقرّون إذًا مُضمرًا أنَّ لوتاروس ضلَّ وعلَّم الكذب، وإذا كان الأمر كذلك فنسألهم هل يقولون إنَّ لوتاروس مرسلٌ من ا؟ لإصلاح الكنيسة أوَّلاً؟ فإن قالوا الأوَّل قلنا: كيف تجسرون إذًا أن تخالفوا تعليمه وتبتعدوا عنه، وإن قالوا الثاني أي إنَّه غير مرسل من ا؟ قلنا: كيف تتركون إذًا بيعة ا؟ المتلألئة فيها علاماتُ الكنيسة الحقيقيَّة بدعوى رجل أنَّه مرسل من ا؟ وليس كذلك، وقد ضلَّ في حقائق جوهريَّة كلِّيَّة الاعتبار؟

لا بدَّ أن ترغبوا في أن تسمعوا شيئًا من التقليد ومن كلام الآباء الأوَّلين، الذين كانوا قريبين من عصر المخلِّص ومن اعتقاد الكنيسة في الأجيال التابعة إلى أيّام المدَّعين الإصلاح. فالبيِّنات على ذلك لا تعدُّ ولا تحصيها مجلَّدات لا أقولُ خطب، فليس أحد من المؤلِّفين الكاثوليكيّين إلاّ وفي كلامه حجج لهذه العقيدة. وعليه فنجتزئ برواية قليل من أقوال الآباء على سبيل المثل.

قال القدّيس إغناطيوس في الرسالة إلى أهل أفسس: »إنَّ الإيمان يجذبنا إلى ا؟ والمحبَّة طريق تقتادنا إليه تعالى«، وقال القدّيس إكليمنضوس الرومانيّ على رسالة قرنثية الثانية: »إنَّنا نصيرُ أبرارًا بالأعمال لا بالكلام«، إلى أن يقول بعد ذلك: »إنَّنا نرى جميع الأبرار كانوا متجمِّلين بالأعمال الصالحة ومن حيث إنَّنا أُمرنا بذلك فلنصنع بكلِّ قوانا أعمال البرّ«. وقال أيضًا بعد ذلك: »طوبى لنا أيُّها الأحبّاء إذا عملنا بوصايا الربّ باتِّفاق المحبَّة لتُغفرَ آثامنا بالمحبَّة«. وقال القدّيس يوستينوس الشهيد في خطابه مع تريفون مزدجرًا اليهود: »إن ندمتم على خطاياكم وعرفتم من صلبتموه أنَّه المسيح وحفظتم وصاياه فزتم بغفران خطاياكم«. وقال القدّيس إيريناوس: »كما أنَّ من تقدَّم إلى ما هو أحسن، وصنع ثمار الروح يخلصُ في كلِّ حال من شركة الروح، وهكذا من استمرَّ في أعمال الجسد يحسب جسديٌّا لأنَّه لم ينلْ روح ا؟ فلا يمكنه أن يظفر بملكوت السماوات«. فإذًا الأعضاء التي تهلك بها فاعلين ما هو للفساد بها نفسها نحيا فاعلين ما هو للروح. وقال القدّيس كبريانوس: »كيف يقول إنَّه يؤمن بالمسيح من لم يصنع ما يأمر المسيح أن يصنعه«. وقال القدّيس أفرام السريانيّ: »كما أنَّ الجسد ينمو بقوَّة النفس الحيويَّة هكذا النفس وإن ظهر أنَّها صحيحة تكونُ ميتة خلوٌّا من الأعمال، فإنَّ حياتها تقومُ بالأعمال الصالحة عن الإيمان«. وقال أوريجانوس: »إنَّ من أقروا بالإيمان بالمسيح ولم يستعدُّوا بالأعمال الصالحة للخلاص كانوا أشبه بالعذارى الجاهلات«. وقال القدّيس غريغوريوس النزينزيّ: »شيَّد على أساس العقائد الأعمال الصالحة لأنَّ الإيمان دون الأعمال ميتٌ كما أنَّ الأعمال ميتة إذا لم يكن الإيمان«. وقال القدّيس أمبروسيوس: »لا تجعلنا الرغبة في الإيمان أن نتقاعد عن الأعمال، فإنَّ كمال الإنسان المؤمن تتضمَّنه هذه العبادة الموجزة ليثبتَ بالإيمان والأعمال قائلاً يلزم أن أصنع هذه ولا أترك تلك«. وقال »فم الذهب«: »إذا لم نسر سيرة لائقة بإيماننا فنقعَ في العذابات الأبديَّة«. وقال في تفسير بشارة يوحنّا: »تقول هل يكفي إذًا أن تؤمن بالابن لتدرك الحياة الأبديَّة. لا لعمري فاسمعِ المخلِّص موضحًا هذا المعنى بهذه الألفاظ ليس كلُّ من يقول لي يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماء، والتجديف على الروح يكفي للطرح في جهنَّم. وماذا أقول من جهة المعتقد لأنَّه وإن أحسَّ الإنسان المعتقد بالآب والابن والروح القدس فإذا لم يُحسّن سيرته فلا ينفعه الإيمان بشيء لخلاصه. ولا تخالنَّ أنَّ قوله: هذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنَّك الإله الحقّ وحدك، إنَّ هذا يكفينا للخلاص، فإنَّنا نحتاج أيضًا إلى تهذيب سيرتنا وخصالنا. وإن قال من يؤمن بالابن فله الحياة الأبديَّة فلا يحقُّ لنا أن ننتجَ من ذلك أنَّ الإيمان وحده يكفي للخلاص، وهذا تؤيِّده أقوال الإنجيل المتواترة الملاحظة السيرة الصالحة«.

فهل أوضح من هذه الأقوال العسجديَّة؟... وقال القدّيس إيرونيموس: كما أنَّ الجسد بدون الروح هو ميت هكذا الإيمان دون الأعمال هو ميت، ولا نظنُّ أمرًا عظيمًا كوننا نعرفُ ا؟، فالشياطين أيضًا تؤمن به وترتعد. ومن قال إنَّه ثابت فيه يلزمه أن يمشي كما مشى هو«. وقال القدّيس أوغسطينس: »إنَّ مار بولس لم يذكر أيَّ إيمان كان يعتقد به با؟ إلاّ الإيمان الخلاصيّ والإنجيليّ بالتمام الذي تصدرُ أعماله عن المحبَّة، فإنَّه قال الإيمان الذي يفعلُ بالمحبَّة، ولهذا أثبت أنَّ الإيمان الذي يظهرُ للبعض أنَّه كافٍ للخلاص لا يفيدُ لشيء، حتّى إنَّه قال ]أي الرسول[: »لو كان فيَّ الإيمان كلُّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيَّ المحبَّة فلست بشيء«. وقال في الكتاب المذكور: »إنَّ الإيمان يمكن أن يوجدَ دون المحبَّة لكن لا يمكنه أن ينفع«. وقال القدّيس غريغوريوس الكبير: »ربَّما يقول أحد في نفسه إنّي آمنتُ فأخلص، فحقٌّا يقول إذا تمسَّك بالإيمان مع الأعمال، لأنَّ الإيمان الحقيقيّ هو ما لا يخالفُ الإنسانُ به بواسطة أعماله ما يقوله بكلامه«. ولولا خشيتي مللكم لأطلتُ في إيراد شواهد الآباء.

فقد اتَّضح إذًا، أولادي، بالبرهان العقليّ اللاهوتيّ وبآيات الكتاب الصريحة وإقرار بعضِ الخصوم بالحقّ خلافًا لبعضهم، وبشهادات الآباء القدماء أنَّ الإيمان وحده لا يكفي للتبرير والخلاص، بل لا بدَّ من الأعمال الصالحة. وأمّا الزعم بكونِ هذه الأعمال الصالحة نفسها خطايا فلا يحتاجُ إلى الردِّ بل يكفي ذكره للاشمئزاز منه، فضلاً عن كونه لا يقبله العقل السليم والريب بكونه قد وجد من المسيحيّين المعتقدين الوحي من يقول به أولى من الريب بصحَّته. وقد أوردنا في بدء كلامنا كلمات من قالوا به بنصِّها فلندعهم وما يقولون.

3 - البيت الروحيّ، أساسه والبناء، فاعتبار

إنَّ الإيمان وحده لا يكفي للخلاص، لا بالمعنى الاعتقاديّ فقط بل بالمعنى العمليّ والأدبيّ أيضًا، أي لا يكفينا أن نعتقد هذه الحقيقة نظريٌّا ونخالف لوتاروس بها فقط، بل يلزم أن نعمل بها أيضًا، أي لا نكتفي باعتقادنا أنَّه يلزم للخلاص، عدا الإيمان، عملُ الأعمال الصالحة بل يلزم أيضًا أن نعمل هذه الأعمال إن أحببنا أن نخلص. فإنَّ الرسول لم يقل إنَّ الذين يؤمنون حسنًا بل قال إنَّ الذين يستسيرون حسنًا يكتسبون لأنفسهم مرتبة صالحة. والقدّيس مارون وكلُّ من أدركوا السعادة والمجدَ الأبديّ لم يؤمنوا حسنًا فقط بل عملوا حسنًا أيضًا فكانت أعمالهم الصالحة الطريق المؤدّي إلى الخلاص. فبهذا الطريق وبإثر هؤلاء يلزم أن نسير إن رمنا أن نبلغ حيث بلغوا فجميعنا والحمد ؟ نعتقد هذه الحقيقة نظريٌّا أي إنَّ الإيمان وحده لا يخلِّصنا، ولكن ما أقلّ بيننا من يعمل بها! فاعتقادنا إيّاها أساس والعمل بها بناء. فمن سوء الحظِّ يقال فينا إنَّ عندنا من بيتنا الروحيّ الأساس فقط، ولا شيء من البناء عليه وما النفع من الأساس وحده؟ فأنت تعتقد أنَّ الإيمان لا يكفيك للخلاص بل تلزمك له الأعمال الصالحة أيضًا. فاعتقادك حسنٌ لكنَّك لا ترغب في صحَّة الاعتقاد وحدها بل في الخلاص أيضًا. وعلى موجب هذا الاعتقاد الصحيح نفسه لا تفوز بالخلاص بمجرَّد الإيمان بل لا بدَّ من مباشرة الأعمال الصالحة أي مجّانيّة الرذائل واقتناء الفضائل. فثابر إذًا على هذه الأعمال الصالحة إن شئت أن تكون عاقلاً، إن شئت أن تكون رجلاً يقوم صنيعه على مقتضى ما له من المبادئ الراهنة، إن شئت أن تخلص، وإلاّ فما هذا التناقض فترغبَ الخلاص طبعًا واعتقادًا ولا ترغبه لأنَّك مع اعتقادك أنَّ الإيمان لا يكفي له تكتفي به. فأنت بذلك أشبه بمن يتاجر بالفكر فقط أي يتأمَّل بما من الربح من صنف البضاعة الفلانيَّة ويحكم ويجزم بأنَّ صنفًا منها يربح ولا يتّجر به، ويريد أن يغتني وهو لا يباشر العمل. فهل يغنيه فكره وحده؟ وكذا اعتقادك أنَّ الأعمال الصالحة لازمة للخلاص وإضرابك عن عملها فلا تخلص بالفكر الصحيح كما لا تغتني بالمعدَّل الصحيح. فهل تريد الخلاص أو الهلاك؟ لا شكَّ بأنَّك تجيب أريد الخلاص، وكذا ترغب حقيقة بل طبعًا أيضًا، ولكن من حيث إنَّك تعتقد أنت نفسك أنَّ الخلاص لا يكفيه الإيمان فقط فعلى موجب حكمك نفسه، مع كونك لا تفرُّ من الرذائل ولا تسعى للفضائل، تكون مريدًا الهلاك وراغبًا فيه، ومخالفًا جوابك بأنَّك تريد الخلاص فتفتكر وتقول إنّي أريد الخلاص ولكن بعد أن أعمل أعماله. فإذًا لا تريده الآن ولكن سوف تريده. ومن يضمن لك أنَّك تبقى حيٌّا إلى حين تريد وتعمل؟؟ وهل تبقى في أمرٍ مهمّ بل ليس أهمُّ منه في العالم دون ضمانة أو كفالة وأنت تكدُّ ليلاً ونهارًا لتجد لأقلِّ مبلغٍ من مالك ضمنيٌّا وكفيلاً، لتطمئنَّ عليه؟ أفنفسك وحدها تستحقُّ أن تهملَ على مجرَّد أمل بطول الحياة لا ضمين له؟ وهل من خسارة في العالم توازي خسارة الإنسان نفسه مدى الأبديَّة كلِّها؟ فالآن الآن اعمل أعمال الخلاص إذا كنت ترغبُ فيه حقيقة كما يقضي عليك طبعُك نفسُه بهذه الرغبة وكما تعتقد.

فهل من وقت أنسب لعمل الأعمال الصالحة من هذه الأيّام المكرِّسة لها أيّامُ الصوم المقدَّس؟ فاجهدوا نفوسكم إذًا على صرف هذه الأيّام كما ينبغي، مثابرين على الحضور إلى الكنيسة لسماع القدّاسات والاشتراك بالصلوات والاستفادة بكلام ا؟، مواظبين على الصلوات والاعتراف وتناول القربان الأقدس، محافظين على وصيَّة الصوم والانقطاع عن أكل اللحم والبياض دون أن تقنعوا نفوسكم بأعذار باطلة عن حفظ هذه الوصيَّة. نعم إنَّ الكنيسة الأمّ الحنونة لا تُلزم بشرائعها إذا كان منها مضرَّة كبرى وانزعاج ثقيل، لكنَّها لم تقصد بشريعة الصوم والقطاعة تنعيم الجسد بل قمعه، ولم تقصد راحة الإنسان وانبساطه بل إماتة جسده والمقاومة لأمياله، وإلاّ فأين الأجر في ذلك وأين النفع الروحيّ؟ فمقصد الكنيسة من الصوم الإماتة وإضعاف الجسد، هذا العدوّ الداخليّ المشتهي أبدًا ما يضادُّ الروح، والوفاء عن آثامنا السالفة. فكيف يُقبلُ إذًا العذرُ ممّن يقول إنَّ الصوم والقطاعة يضعفان جسدي ويشقّان عليَّ؟ وهذا هو نفسُ المقصد من شريعة الكنيسة وأنت تجعله عذرًا للتفسيح، منها فيمَ تفي إذًا عن الآثام التي تسامحت فيها لأميالك؟ وكيف تكفُّ جماح هذا الجسد إذا لم تضعفه؟ ومع ذلك ألستَ تفعل ما يضعفُ جسدك إلاّ الصوم، فتلك الأسهار الطويلة للَّعب أو للأشغال تضرُّ بجسدك أكثر من الصوم والقطاعة، ومع هذا نراك تصنعها دون اختشاء على صحَّتك، وطمعًا بربح قليل أو ملذَّة عابرة. وذلك الجري النهار كلَّه وتلك الأفكار التي تجعل الدوار برأسك هي أضرُّ صحّتك من الصوم. فلمَ لا تُعفي نفسك منها ترفيهًا لجسدك وإن كنت معذورًا حقٌّا من حفظ وصيَّة الصوم برأي الطبيب الماهر، أما يترتَّب عليك أن تعيض عن هذا بأفعال أخرى تقويَّة؟ فهل تصلّي في هذا الوقت المقبول أكثر ممّا في باقي الأوقات؟ وهل أنت فيه أكثر محبَّة للفقراء وأوفر سخاء عليهم؟ وهل تواظبُ على الكنيسة أكثر؟ وهل تقصرُ عنان أميالك عمّا تفعل في باقي الأوقات؟ فشريعة موسى كانت ترسمُ على من تعذَّر عن تقدمة خروف أن يقدِّم زوج يمام أو فرخي حمام، فإن كنت متعذِّرًا عن حفظ وصيَّة الصوم والقطاعة فأصلحْ ذلك بغيرها من الأعمال الصالحة فتكون حينئذٍ أعمالُك مطابقة لإيمانك فيكون سيرُك حسنًا وكاملاً بالمعتقد والعمل، فتكتسب المرتبة الصالحة والسعادة الكاملة التي ألتمسها لي ولكم أجمع، بشفاعة القدّيس مارون الذي نعيِّد له في هذا النهار وبنعمة الآب والابن والروح القدس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM