الفصل 10: مارون الناسك

مارون الناسك

ما الموارنة إلاّ جماعة من السريان السوريّين، دانوا بالدين المسيحيّ مذ كان في مهده، واستمرُّوا متشبِّثين بعرى الدين الكاثوليكيّ لدى ثَوَران عواصف البدع في سورية بإرشاد القدّيس مارون ورهبانه الأفاضل. ولذلك نفتتح تاريخهم بذكر القدّيس مارون الذي يُعتبر أبًا لهذه الطائفة وقد اتَّخذته شفيعًا.

1 - البارئ... بعيدًا قريبًا

نروي خبر القدّيس مارون عن تواردوريطس أسقف قورش الذي كان معاصرًا ومجاورًا له، ولا يبعد أن يكون عشيرًا له. فإنَّ توادوريطس قال في مقدِّمة كتابه في النسك حيث تكلَّم في القدّيس مارون: »وكان يلذُّ لي أن أطوف في براري قورش وأُنعم عينًا بهذه الأزهار العجيبة التي يزري عرفها بأفخر الطيوب«. ومن المؤكَّد أنَّ توادوريطس رُقِّي إلى كرسي أسقفيَّة قورش سنة 423، والقدّيس مارون كان كاهنًا في أوائل القرن الخامس كما يظهر في رسالة »فم الذهب« إليه من منفاه، وسنأتي على ترجمتها. و»فم الذهب« توفِّي سنة 407. وإذا كان القدّيس مارون لقي ربَّه نحو سنة 433 على قولٍ بعضهم، فيكون عاشر توادوريطس أسقفًا؛ وإن كانت وفاته سنة 410 على قول آخرين فيكون عاشره كاهنًا. فشهادة توادوريطس للقدّيس مارون إذًا لا مردَّ لها ولا معترض عليها لأنَّهما كانا في عصر واحد وبلد واحد، وتوادوريطس ثقة. وإليك ترجمة ما قاله في كتابه في النسّاك فصل 16:

»سبيلي أن أذكر بعد هذا مارون. فإنَّ هذا أيضًا جمَّل عقد القدّيسين الإلهيّ. فإنَّه عزم أن يصرف حياته في البرِّيَّة لا يأوي منزلاً فتسلَّق إلى قمَّة جبل في قورش. وكان هناك هيكل للوثنيّين يعبدون فيه الأبالس، فكرَّسه ؟. وكان يتردَّد إليه ونصبَ لنفسه مظلَّة حقيرة قلَّ ما أوى إليها. وكان يجهد نفسه في الأعمال اليدويَّة التي اعتادها النسّاك، بل استنبط زيادة عليها حاشدًا ثروةَ الحكمة، واثقًا بأنَّ المجاهد يزداد نعمة ما ازداد عملاً. فمنَّ عليه ا؟ الجوّاد بموهبة شفاء الأمراض سابغة، حتّى ذاعت شهرته في كلِّ قطر واستأتت إليه الزائرين من كلِّ فجّ، فكان يحقِّق خبرهم الخبر، وكنت ترى الحمّى تزول بظلِّ بركته، والأبالس ينهزمون من الممسوسين، والمبتلَين بأيِّ نوع كان من المرض يُشفَون بعلاج واحد. فللأطبّاء في كلِّ داء دواء وأمّا القدّيسون فلهم دواء واحد في كلِّ الأدواء، وهو الصلاة. ولم يكن يشفي الأمراض الجسديَّة فقط بل كان يُبرئ أيضًا النفوس المعتلَّة فيشفي هذا من داء البخل، وذاك من مرض الغضب، معلِّمًا هذا القناعة وشارحًا لذاك وصايا العدل والبرّ، حاثٌّا البعض على العفاف والطهارة، ومحرِّضًا غيرَهم على الدَّعة والتواضع، وقد انكبَّ على الحراثة الروحيَّة فغرست يداه أغراسًا كثيرة مونعة فيها ثمار الحكمة. وهذه الجنَّة المخضلَّة المزهرة الآن في قورش إنَّما هي ؟ من صنع يديه. ومن ثمارِ هذه الحراثة يعقوب الكبير الذي حُقَّ له أن يُخصَّ به القول النبويّ »الصدّيق كالنخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمي«، وغيره ممَّن سنأتي على ذكر كلٍّ منهم إن شاء ا؟.

وبينما كان منصبٌّا على هذه الحراثة في كرم الربِّ شافيًا النفوس والأجساد، دهمه مرضٌ خفيف فقضى به منتقلاً إلى ربِّه فكان نزاع شديد بين مجاوريه على جثَّته. ولمّا كان أهل البلد الأقرب إليه أكثر عددًا، وقد أتوا جميعهم هزموا الباقين واختطفوا هذا الكنز النفيس، وبنوا له هيكلاً عظيمًا وينتفون إلى اليوم بمعونته، ويكرمون هذا البطل الظافر بحفلات عامَّة. وأمّا نحن فننعم ببركاته وإن كنّا بعيدين عنه، ويغنينا ذكرُه عن قربِ ضريحه إلينا«.

وكان القدّيس مارون صديقًا صدقًا للقدِّيس »يوحنّا فم الذهب«، يجمعهما ولاء مستديم وحبّ قديم تدلُّ على ذلك رسالةٌ كتبها إليه »فم الذهب« في منفاه، وهي السادسة والثلاثون من رسائله التي نشرها الأب مين وإليك ترجمتها بما أمكن من الدقَّة:

»إلى مارون الكاهن الراهب:

أمّا بعد فإنَّ علاقات المودَّة والمعروف التي تضمُّنا إليك تجعلُ أبصارنا شاخصةً إليك كأنَّك قائم هنا. فإنَّ بواصر المحبَّة من طبعها أن لا يحجبها بُعدُ المسافات، ولا يُوهنها طولُ الزمان. وكان في ودِّنا أن تكون مكاتباتنا إليك متتالية، ولكن يحول دون ذلك مشقَّةُ الأسفار وندورُ المسافرين. والآن نهدي إليكَ طيِّبَ السلام، ونسألُك أن تتيقَّن أنَّنا نذكرك كلَّ حين، وأنَّ لك في فؤادنا منزلةً أينما حللنا. فاهتمَّ أنت إذًا بأنْ تواترَ إلينا أنباء عافيتك، فإنَّ أخبارَ صحَّتِك، على بعدِنا بالجسد، تولينا عظيمَ السرور وتخوِّلنا تعزية كبرى في غُربتنا ووحدتنا ويلذُّ لنا كثيرًا أن نعلمَ أنَّك متعافٍ. وجُلُّ ما نسألك إيّاه أن تصلّي وتبتهل ؟ من أجلنا«.

وهذه الرسالة لم تكن مؤرَّخة، ولكن لا بدَّ من أنَّها كُتبتْ في إحدى السنين من سنة 404 إلى سنة 407 التي كان فيها »فم الذهب« في المنفى. وقد أنبأنا العلاّمة البطريرك إسطفانوس الدويهيّ الإهدنيّ أنَّ هذا القدّيس لم يقتصر على الإماتات والتقشُّف والعكوف على الصلوات وهو منتصب على قدميه، بل باشر أعمال الرسالة؛ فإنَّه كان يجول أحيانًا متعهِّدًا النسّاك والمجاهدين، حاضٌّا لهم على تحمُّل مشاقّ سيرتهم وعلى التقدُّم في الكمال والحكمة الروحانيَّة، ويطوف في القرى والمدن مستميلاً الكفرةَ والأثمة إلى سواء السبيل، حاثٌّا المؤمنين على مُجانبة الرذائل والجدّ في السير في طريق الفضيلة، داعيًا الموسرين إلى مباشرة أعمال الرحمة، معزِّيًا البائسين إلى غير ذلك من أعمال الرسالة.

2 - الوفاة... العيدُ والجثمان الضائع

أمّا سنة وفاة القدّيس مارون فلم يذكرها توادوريطس، ولم نعثر في كتب القدماء على ما يُعيِّنها. والذي رواه العلاّمة البطريرك بولس مسعد أنَّه لقي ربَّه سنة 410. وجاء في المعجم التاريخيّ الجغرافيّ لبويليا: »القدّيس مارون ناسك ورع كان في سورية في القرن الخامس، رُقِّي إلى درجة الكهنوت سنة 405 وأدركته الوفاة سنة 433. وقد نسِّك على جبل قريب من قورش، واستدعى إليه جمعًا كبيرًا من التلامذة. فأنشأوا أديارًا عديدة ويُعيَّد لذكره في 9 و14 شباط. وحبَّذا لو كان مؤلِّف هذا المعجم أو مصحِّحوه أنبأونا عمَّن من القدماء أخذوا رواية تاريخهم لترقّي القدّيس مارون إلى الكهنوت ولوفاته.

أمّا المعبد الذي أقيم على ضريحه ثمَّ صار ديرًا لرهبانه فلم يذكر توادوريطس محلَّه ولا اسم البلد الذي أهلُه اختطفَ جثَّة القدّيس مارون، لأنَّ ذلك كان معلومًا عند ذلك الجيل، والذي عليه ]اتَّفق[ المحقِّقون أنَّ المعبد والديار كانا على شاطئ العاصي بين حماه وحمص كما حقَّق السمعانيّ مفسِّرًا كلام توادوريطس ومستشهدًا باجيوس10 الذي قال: »إنَّ هذا الدير نزله الجميع منزلةَ أوَّل الأديار في سورية الثانية، كما يتبيَّن من أعمال المجمع الخامس المسكونيّ الذي شهده بولس الشمّاس ويوحنّا الكاهن، ووقَّعا على رسائل رهبان ذاك الإقليم إلى يوستنيانس الملك، وإلى منّا بطريرك قسطنطينيَّة، بمنزلة نوّاب دير القدّيس مارون، أوَّل أديار سورية الثانية«.

وقد أخذ المؤمنون يعيِّدون للقدّيس مارون بعد وفاته كلَّ سنة بحفلات عامَّة كما رأيت في كلام توادوريطس، وتعيِّد الكنيسة الرومانيَّة له في 14 شباط ومثل ذلك كنيسة الروم، وتسمِّيه مارونيوس بحسب صيغة نهاية الأسماء اليونانيَّة. وكان الموارنة قديمًا يعيِّدون له في الخامس من كانون الثاني، وهو اليوم الذي كرَّس فيه القدّيس يوحنّا مارون كنيسة دير كفرحي باسمه في أواخر القرن السابع. قال العلاَّمة البطريرك إسطفان الدويهيّ، في »تاريخ الموارنة«: تشهد للتعييد للقدّيس مارون في الخامس من كانون الثاني نسخُ الشحيم المخطوطة إحداها، خطَّها الشمّاس إلياس بن داود من بلاد طرابلس سنة 1805 يونانيّة، توافق سنة 1494م، وأخرى خطَّها جرجس البردوط بن يوحنّا بن بشاره التحوميّ سنة 1533 في قبرس بقرية قرباسية. وكان الموارنة يعيِّدون للقدّيس يوحنّا مارون البطريرك في 9 من شباط، وصاروا يحتفلون لذكر القدّيسين مارون ويوحنّا مارون في يوم واحد كما يظهر من فهرست أعيادنا المطبوع في رومة مرّات. وفي سنة 1787 نقل البطريرك يوسف إسطفان عيد القدّيس يوحنّا مارون إلى الثاني من آذار، واستمرَّ عيد القدّيس مارون في 9 شباط إلى اليوم11.

وأمّا الأديار التي بنيت على اسم القدّيس مارون فكثيرة، منها الدير المذكور الذي بُني في محلِّ مدفنه بين حماه وحمص بالرستن، ويقال إنَّه كان فيه ثمانمائة راهب وكان يسمّى دير البلّور. ومنها دير قريب من مخرج نهر العاصي ويسمّيه أبو الفدا مغارة الراهب، وقد نقرت مخادعه كلُّها في صخرة صمّاء. ومنها دير على مقربة من دمشق، قال الدويهيّ فيه قد استدللنا برسومه وأطلاله الباقية إلى الآن على نظمته وحسن رونقه، وقد ذكره ابن الحريريّ المؤرِّخ في كلامه على الملك الحاكم بأمر ا؟ في تاريخ سنة 386 للهجرة الموافقة لسنة 995م حيث قال: »إنَّ الملك كان ينزل بمكان يقال له الدكَّة بين نهر يزيد وتورا، وقيل هي فوق نهر يزيد قرب دير مارون«. ومن أدياره الشهيرة دير بناه القدّيس يوحنّا مارون في بلاد البترون في شرقي قرية كفرحي، فإنَّ هذا البطريرك لمّا فرَّ من وجه جيش يوستنيانس الأخرم سنة 694، سار على ما قيل من أنطاكية إلى دير الرستن، فأخذ هامة القدّيس مارون ولمّا استقرَّ في كفرحي بنى هيكلاً وديرًا على اسم القدّيس مارون ووضع هامه هناك وسمّى ذلك الدير ريش مارو أي رأس مارون، ريش موران أي رأس سيِّدنا، وأمر أن يعيَّد للقدّيس مارون في الخامس من كانون الثاني كما مرَّ ذكرًا النقل هامته إلى هذا الدير.

قال العلاَّمة الدويهيّ، في »تاريخ الموارنة«: روى لودوفيكس بن يعقوب في كتاب له جمـع فيه تراجم القدّيسين الموجودة ذخائرهم في مدينته فولينيو بإيطاليا، إنَّه في سنة 1130 قدم الشام أحد رهبان القدّيس مبارك، وطاف في الأماكن المقدَّسة. وبعد أن أتمَّ زيارته جال في لبنان وظفر بهامة القدّيس مارون، ففرح بها فرحًا عظيمًا وأخذها إلى وطنه وطفق يخبر الشعب بفضائل هذا القدّيس وبالمعجزات التي أجراها ا؟ على يده والأمَّة المنتمية إليه. فبنى له أهل فولينيو كنيسة، وضعوا فيها هامة القدّيس مارون في 18 آب، فانتشر ذكره في تلك الأصقاع، وكثر عداد من يحجُّون إلى كنيسته، وفرضوا عيدًا سنويٌّا له، ومنح أحد الأحبار الرومانيّين غفران مئتي يوم لمن زار كنيسته يوم عيده. ثمَّ إنَّ لوقا أسقف فولينيو نقل سنة 1194 رأس القدّيس مارون من هذه الكنيسة إلى كنيسة الأسقفيَّة، وعمل له المؤمنون صوانًا من فضَّة، ويعيِّدون له كلَّ سنة في العاشر من آذار، ويطوفون به أمام الشعب بالتجلَّة والاحتفاء.

3 - ذخائر النعمة... ودعاء

وهذا ما رواه العلاّمة الدويهيّ ونقله عنه العلاَّمة البطريرك بولس مسعد. وقد تسنّى لي مدَّة إقامتي في رومة سنة 1887 أن قابلتُ أسقف فولينيو وحدَّثته في هذا الشأن. فحقَّق لي أنَّ التقليد عندهم ينطبق على ما رويته، وأنَّه ما برح في كنيستهم شيءٌ من هامة القدّيس مارون يُعطون منه المؤمنين ذخائر. فسألته أن يتحفني بشيء منها. فأهدى إليَّ خمسًا منها، فكنت له شاكرًا لهديَّة أثمن عندي من الذهب والجواهر.

وقد تعطَّف الحبر الأعظم الرومانيّ البابا إكليمنضس الثاني عشر ومنح في براءته المؤرَّخة في 15 نيسان سنة 1734، وفي براءة أخرى مؤرَّخة في 21 كانون الثاني سنة 1740، غفرانًا كاملاً يغنمه من اعترف بخطاياه وتناول القربان الأقدس وزار إحدى كنائس الرهبان أو الراهبات اللبنانيّات أو رهبان القدّيس أشعيا في 9 شباط الذي يعيِّد به الموارنة للقدّيس مارون. ثمَّ عمَّم العلاَّمة البابا بناديكتس الرابع عشر في براءته المؤرَّخة في 12 آب سنة 1744 هذا الغفران الكامل لكلِّ من يزور أيَّة كنيسة كانت من كنائس الطائفة المارونيَّة المبنيَّة وقتئذٍ، والتي سوف تُبنى يوم عيد القدّيس مارون في 9 شباط. ومن شاء الاطلاع على هذه البراءة فليراجعها في كتاب »الدرّ المنظوم« للمثلَّث الرحمة البطريرك بولس مسعد12.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM