الفصل 9: في العقل والوحي تفنيدًا لمذهب العقليّين

في العقل والوحي تفنيدًا لمذهب العقليّين

أيُّها السادة،

ألقى أحد أعضاء هذه الدائرة في الحفلة السابقة خطبة دحض بها مذهب المادّيّين مبيِّنًا بها مضارَّه الكبرى بالدين والهيئة الاجتماعيَّة، وأشبه بهذا المذهب مذهب العقليّين أو البرهانيّين بل قد يمتزج به في بعض المسائل، فنمهِّد بالخطبة السالفة السبيل إلى تفنيد مذهب العقليّين الذي زعم أصحابه أنَّ بالعقل الفرديّ وحده الكفاءة والأهليَّة لتدبُّر أمر الدين والآداب، ولا حاجة إلى الوحي الربّانيّ، مع أنَّنا نعلمُ بالاختبار اليوميّ أنَّ عقلنا ضعيف جريح عرضة للتغيُّر فلا يدرك ما كان غامضًا، وبأولى حجَّة ما يفوقه رتبة. ونراه جريحًا بأمياله فتحمله الشهوة على ما حظَّرته عليه الشريعة ويُريه الغضبُ غيرَ الواجب فرضًا والحرام حلالاً، ويصوِّب اليوم ما خطَّأه أمس، ويستحسن غدًا ما يمتدُّ إلى العمليّات اليوميَّة أيضًا. ولذلك تدارك ا؟ عزَّ وجلّ الإنسانَ بإيحائه إليه بعض حقائقَ لازمةٍ له، فتلافى بالوحي ضعفَ العقلِ وجرحه وتغيُّره، فاستكبر الإنسان وادَّعى أن لا حاجة له بالوحي بل يكفيه العقلُ وحده مؤونةَ التدبُّر بأمر الدين والآداب، فكان لمن قال بذلك ضلال كثير المضارّ بالدين والهيئة الاجتماعيَّة. فسوَّلت لي همَّتي، وإن قاصرة، أن أفنِّد هذا الضلال بخطبتي هذه مقسومة إلى ثلاثة أقسام: أبيِّن في الأوَّل منها أنَّ العقل وحده لا يصلُح ولا يمكن أن يكون قاعدة في أمور الدين والآداب، وفي الثاني أنَّ الوحي ممكنٌ ولازم وموجود فعلاً ويلزم الاعتماد عليه مع العقل؛ وفي الثالث أنَّ البرهانيِّين وكلَّ الذين يدَّعون أنَّهم يتدبَّرون بأمر الدين والآداب بمقتضى العقل يُصغون خلافًا لإرشاد العقل أيضًا فلا يكون لهم معتمد على العقل السليم ولا على الوحي بل هم على ضلال ولا يعلمون.

القسم الأوَّل

إنّي أفترض قبلَ كلِّ شيء اعتقادنا وجود واجب الوجود الذي هو ا؟ وكونه مثيبًا الأخيار ومعاقبًا الأشرار بسعادة خالدة أو عقاب مؤبَّد. أفترض هذا ليقيني أنّي لا أخطب في معطِّلة أو معتزلة ينكرون وجودَ ا؟ أو عنايته أو خلود النفس، بل بمؤمنين يعتقدون كلَّ ذلك. وإنْ قرأ غيرُكم خطبتي وخامره ريبٌ في الحقائق الأساسيَّة التي ذكرتها فأرجعه إلى خطبٍ عديدة أُلقيتْ في دائرتنا وغيرها وطبعت، فتسهلُ مراجعتها على أيٍّ كان.

أحطَّ بعضُ العلماء قدرَ العقل حتّى جعلوه قاصرًا عن الوصول إلى توكيد شيء، واتَّصلوا إلى الريب بكلِّ حقيقة. وهذا بطلانه ظاهر فلا نطيلُ الكلام بردِّه وهو غيرُ المقصود بكلامنا. وعظَّم غيرُهم قدرَه حتّى جعلوه يُدرك كلَّ شيء ويعتمدُ عليه في كلِّ شيء حتّى في أمر الدين والآداب. وهذا منفيّ من أوجه عديدة أكتفي بذكر بعضها.

أوَّلها: أنَّ الدين والآداب شريعةٌ ملزمة فلا يمكنُ أن يكونا من مخترعات عقل كلِّ واحد. وكما أنَّه لا يسوَّغ لكلٍّ أن يسنَّ لنفسه شريعة على هواه. فكذا لا يمكنه أن يستنبطَ لنفسه شريعة الدين والآداب التي هي أسس جميع الشرائع. فكيف يمكن للعقلِ الضعيف المستحوذةِ عليه الانفعالاتُ والشهواتُ والنفس الأمّارة بالسوء أن تسنَّ لنفسها شريعة وتضع مبادئها في العمل وهي تنهاها عمّا تميل إليه طبعًا. لعمركم لو ساغ لكلٍّ أن يصنع لنفسه دينًا وآدابًا لما كان لكلٍّ منّا إلاّ دينٌ وآداب بحسب إيثاره، ولم يكن لأحد منّا دين أو آداب تقهر أمياله أو تكبح شهواته، وبالنتيجة لا يكون لنا دين وآداب حقيقيَّة، هذا فضلاً عن الاختلاف الذي يكون في هذا الدين والآداب، فإنَّه يكون متعدِّدًا تعدُّد الناس، ومختلفًا اختلاف أميالهم. وترى أنَّه يندُر أو يكاد يستحيلُ وجودُ إنسانين يتَّفق فيهما اتِّفاقًا كاملاً العقل والأميال. فإذا نفسٌ تصوِّرُ الدين وقواعد الآداب ينفي كونها اختراعَ كلِّ واحد لنفسه. ومن المبادئ أن ليس لأحد أن يكون قاضيًا في دعواه، فبالأولى ألاّ يكون مشترعًا لنفسه، وإلاّ لكان رئيسًا ومرؤوسًا معًا، وهما نقيضان. فالعقل إذًا يساعدنا ويُنيرنا في إدراك شرعة الدين والآداب والعمل بها، لكنَّه ليس المشترعَ الساميّ لها.

ثانيها: أنَّه من المبادئ البديهيَّة التي لا يُنكرها عاقل أنَّ غيرَ المالِك لا يملكُ أو بلفظٍ آخر لا أحد يعطي ما لا يملك. ومن البديهيّات الثابتة بالاختبار اليوميّ أنَّ العقل البشريّ متقلِّب ومتغيِّر، والحال أنَّ قواعد الدين والآداب يلزمُ أن تكون ثابتة راسخة. فإذًا لا يمكن أن يصدر عن المتقلِّب ما هو ثابت، وعن المتغيِّر ما هو راسخ وغير متغيِّر، أي لا يمكن الدين والآداب، التي تقتضي طبعًا أن تكون ثابتة وراسخة أن يكون مصدرُها العقل المتقلِّب المتغيِّر. فكل$ من مقدِّمات هذا القياس لا يمكنُ التكذيبُ أو الشكُّ بها. فهل يُشكُّ بكونِ غير المالك يملك؟ فمن يطلب من النار ماءً وهي لا تملكه؟ فهذا أوضح من أن يبيَّن أو في كون العقلِ متغيِّرًا ومتقلِّبًا. فهذا نراه بالاختبار في كلِّ يوم بل في كلِّ ساعة، أو بكون الدين والآداب تستلزم ذاتًا الثبوتَ والرسوخ وإلاّ فلا تكون قاعدة، فالمقدِّمات ثابتة فلا مفرّ من النتيجة البديهيَّة كمقدِّماتها.

ثالثها: أنَّ الدين والآداب يلزم أن يكون عامَّةً فلا تحتملُ حكمة الباري، ولا نظام العالم أن يكونَ لكلٍّ دين يدين به على هواه. ولا أن يكون لكلٍّ آدابٌ يستسير بها على مأثوره، بل لا بدَّ من دين واحد صحيح وآداب واحدة حقَّة، لأنَّ ذلك حقّ، فالحقّ لا يتجزَّأ ولا يتعدَّد مع الاختلاف. فأنبئوني إذًا، سادتي، كيف يمكن أن يكون الدين والآداب عامَّة إذا كان العقلُ البشريّ هو الذي يسنُّ شريعتها؟ فمن يجمع وكيف يجمع بين هذه الأديان والآداب الفرديَّة ليتألَّف منها دين وآداب عامَّة؟ وكيف يمكنُ السذّج والأمّيّين، وهم السواد الأعظم في العالم، أن يصوغَ كلٌّ منهم دينه وآدابه؟ فإذا كان المتمدِّن المتعلِّم بعض اللغات أو المتحلّي ببعض المعارف يمكنه أن يفترض لنفسه دينًا وآدابًا - هذا إذا سلَّمنا بذلك مجاراة مع أنَّه منكَر - فكيف يمكن من يسمّيه هذا المتمدِّن فلاّحًا أو أمِّيٌّا أن يصنع ذلك وهو يعسرُ عليه أن يفهم الدين والآداب مع شرحهما له. هذا وفي هذا المتمدِّن نفسه لم يُثبت الدين إن كان عقلُه هو المنشئ له. فكل$ منّا يعلمُ أنَّه يكون له أفكار وهو شابّ، وأفكارٌ وهو كهل، وأفكار وهو شيخ يخالف بعضُها بعضًا. فعلى أيٍّ من هذه الأفكار المعوَّلُ في تدبُّر أمر الدين والآداب؟ أوَهل تريد أن يكون لنا دينٌ في الشباب وآخر ونحن كهول وآخر ونحن شيوخ، وأن نسمّي مع ذلك هذا الدين عامٌّا ثابتًا كما يلزم أن يكون الدين والآداب؟ هذا ومن البديهيّ أنَّ شرائع الدين والآداب يلزم أن تكون مُلزمة، ومن فرض الإلزام أمكنه أن يحلَّه ويبطله، فكيف يمكن أن يسمّى دينًا أو قاعدةً للآداب ما لا إلزام له إلاّ من إرادتنا، وهي كما عقدت يمكنها أن تحلّ؟ وأيَّة سلطة لنا على غيرنا لنضع عليه نير الدين والعمل بقواعد الآداب إن كان ذلك اختراع عقلنا، وهو ذو عقل نظيرنا، وله ما لنا من الحقوق؟ والنتيجة أنَّ ماهيَّة العقل والدين والآداب نفسها وخواصَّها الجوهريَّة تدلُّنا أن ليس في العقل وحده الكفاية للتدبُّر في أمر الدين والآداب.

رابعها: إذا نظرنا في هذا الأمر من جهة الاختبار في من تقدَّمنا وازددنا تأكيدًا بعجز العقل عن أن يكون قاعدة راهنة للدين والآداب. فإذا أجلتم نظركم في التاريخ منذ الصدر الأوَّل للعالم حتّى الآن لن تجدوا البتَّة شعبًا احتجبت عنه أنوار الوحي، وأمكنه أن يهتدي بمجرَّد إرشاد العقل إلى دين حقٍّ يليق با؟، أو إلى مبادئ آداب حقَّة خالية من فظائع شنيعة، وهذا مُجمَعٌ عليه ليس له من نكير، فقد طمت التواريخُ والآثار المبيِّنة له، ونجتزئ عن التطويل في إثباته بتذكُّرنا أنَّ أكثر القبائل أو كلَّها التي خلت عن الوحي اعتقدت كثرةَ الآلهة، وقد تغلَّبت عبادةُ الكواكب والنجوم عند أسلافنا الشرقيّين من كلدان وفرس وفينيقيّين ومصريّين، وقد كان أسُّ دينٍ أكثر الشرقيّين ومبدأ اللاهوت عندهم التعليم بمبدأين أو إلهين إله للخير وإله للشرّ، وما برح هذا المعتقد مستمرٌّا في الهند واليونان، وقد اتَّصل المصريّون أن يعبدوا بعضَ الحيوانات بل بعض الأعشاب النابتة في البساتين كالبصل والثوم حتّى سخر بهم الشاعر اللاتينيّ بقوله ما ملخَّصه: »قد حُرِّم مضغ البصل والثوم«. فيا لها من قبيلة مقدَّسة تنبت بساتينها مثل هذه الآلهة.

وإذا ساغ لنا أن نرتاب بكون جميع الأفراد اعتبروا خشب التماثيل وحجارها آلهة، فلا مندوحة أنّا من الإقرار بكون العامَّة والسواد الأعظم في الوثنيّين نزَّل التماثيل والأوثان منزلة الآلهة ساجدًا متعبِّدًا لها. وقد روى جرديل الشهير أنَّ جيراننا سكّان صور غلَّلوا تمثال معبودهم بسلاسل لئلاّ يفرَّ هاربًا، ومن المشهور قول أراسوس بهذا الشأن في الوثن: »كنتُ خشبًا مُلقًى لا نفعَ له فنحتني النجّار تمثالاً وأحبَّ أن أكون إلهًا فأنا الآن إله«. وقد أدّى الرومان واليونان لأبطالهم في حياتهم وبعدَ مماتهم العبادة المتوجِّبة للآلهة فهذه أخصُّ القبائل المتمدِّنة في تلك الأعصار، وهذه منكراتُ معتقداتها لخلوِّها عن الوحي، وقد زادت على ذلك نسبة الرذائل والفواحش لآلهتها، بل جعلت هؤلاء الآلهة أربابًا ونصراء للمنكرات. وأصحابُها كما صرَّح وكرَّر ذكرَ ذلك الشعراءُ الأقدمون، لا سيَّما أومير اليونانيّ وفرجيل اللاتينيّ، ولم تكن آداب من لم يُشرق عليهم الوحيُ أصحَّ وأقومَ من معتقداتهم، فإنَّ طقوسَهم الدينيَّة نفسَها وذبائحهم ومجتمعاتهم في هياكلهم عينِها لم يكن يضحّى فيها الدمُ البشريّ البريء فقط، بل كان يُضحّى بها كلّ خجل وحياء في ارتكاب الفواحش، حتّى يمكن أن تسمّى مقماة الأرجاس والفظائع، ويأبى اللسانُ خجلاً التلفُّظ بما كانوا يتمرَّغون به ولا تمرُّغ الخنازير بالحمأة. ولكي أذكر أشياء ومحالَّ قريبة منّا مكانًا أقول لو تذكَّرتم ما كان يجري في هيكل الزهراء في أفقا عند منبع نهر أدونيس أو تمُّوز المعروف الآن بنهر إبراهيم، أو ما كان يحدثُ في هيكل عشتروت في صور من الفواحش المخجلة لاحمرَّ وجهُ كلٍّ منّا خجلاً من مجرَّد رواية فظائع عبرتْ منذ قرون. وكانت تلك الرذائلُ ترتكب تكرمةً للآلهة كأنَّها فضيلة، ومثلُ ذلك ذبحُ الأطفال وغيرهم من الناس تكرمةً للآلهة. وسنعود إلى هذا الموضوع في الكلام على ضرورة الوحي، وننتج الآن أنَّه مهما يكنْ من قوَّة العقل فليس به الكفاية لفرض قواعدِ الدين والآداب، ولو مهما عظَّم العقليّون ومنكرو الوحي قوَّة العقل، فإنَّ الاختبار أفادنا أنَّ كلَّ من احتجب عنه نور الوحي، فردًا كان أو شعبًا، بربريٌّا كان أو متمدِّنًا، وجدناه قد تسكَّع في ديجور الجهل وعلمِ المستحيلات، وركبَ الموبقات. فإذًا لا بدَّ من الوحي لجعل مبادئ الدين والآداب ملزمة وثابتة وعامَّة. وإذا لم تكنْ كذلك فلا يمكن أن تكونَ دينًا وآدابًا حقيقة. فلننظرِ الآن إن كان هذا الوحي ممكنًا وضروريٌّا وموجودًا فعلاً.

القسم الثاني

إنَّ كون هذا الوحي ممكنًا هو أمرٌ بديهيّ ظاهر إذ لا منافاة فيه، لا من جانبه تعالى ولا من جانب الناس ولا من جهة الحقائق نفسها. فإذا كان للإنسان أن يكشف أفكاره أو حقائق لآخر، فكيف لا يستطيع ذلك من هو على كلِّ شيء قدير، فهل تعوزُه واسطة لذلك؟ أوليسَ حكمتُه لا حدَّ لها ولا نهاية والأمر أوضح من أن يوضح؟ أمّا من جانب الإنسان فلا مانع للوحي أيضًا، فهو مؤهَّب طبعًا لفهم الحقائق التي تُكشَف له، وهو بغريزته صالحٌ للتعلُّم من أفراد نوعه وغيرهم. فما الذي يصدُّه عن أن يفهم ويدرك ما يكشفه ا؟ له توٌّا أو بواسطة؟ وهذا كالأوَّل بوضوحه، ومثلهما الثالث أي لا منافاة مَن قبِل الحقائق بنفسها، لأنَّها إذا كانت عائدةً لخير الإنسان ونظام العمران ومجدِ ا؟ وفوز الناس بسعادةٍ فأيُّ الموانع من أن تكون مادَّةً لوحي ا؟، ولو تضمَّنتْ أسرارًا تفوق الفهمَ البشريّ؟ فإنَّ في الطبيعة نفسِها أسرارًا نعتقدُ بها دون أن ندركَ كنهَها وعلَّتها، ويستطيع ا؟ تعالى أن يعلِّمنا ما يفوق فهمَنا لنعتقده. فالوحيُ إذًا ممكن وهذا ظاهر فلا نتوقَّف فيه.

إنَّ الوحي ليس ممكنًا فقط بل كان لازمًا وضروريٌّا وكلّ ذي عقل سليم يرى لزومه من جانب ا؟ وجانب الإنسان وجانب الحقائق بنفسها. فأمّا من جانبه عزَّ وجلّ فلأنَّ جودَه وعدله وحكمته تقضي عليه، من حيثُ إنَّه خلقَ الإنسان محتاجًا إلى الهداية وعرضةً لارتكاب الشرّ، كما كان قبلَ جريمة آدم، وجانحًا إليها كما صار بعدَها، أن يسعدَه بوحيٍ يوقف الإنسان على إرادته سبحانه، ويقوِّم مسيره وأعماله إلى الغاية التي افترضها له، ويُفقهه كيف يتدبَّر بنوع يليق بالخالق القدّوس والعادل وإلاّ فيكون عملُه تعالى ناقصًا إذ يوجد الإنسان محتاجًا إلى الرُشد ولا يُرشده كيف يستسير أو يتركُه وشأنه مع علمه بسوء حاله. وهذا ينافي صفاته القدسيَّة المشار إليها، وهي جوهريَّة فيه تعالى. فكيف يكون جوّادًا ويبخلُ على من خلقَه على صورته ومثاله بالإرشاد له ليستسير كما يجب؟ أو كيف يكون عادلاً إذا لم يكشفْ عن شريعته بنوع عامّ وثابت ليمكنه أن يُعاقب المسيء أو يثيبَ المحسن؟ فهل أظلمُ من ملكٍ يعاقب أناسًا لمخالفةِ إرادته، وهو لم يبيِّنها بل ترك كلاٌّ وعقله ليتصوَّر ما شاء، ويفعل ما تصوَّر وبدا له؟ وكيف يكون حكيمًا لو ترك رعيَّته دون ضابط أو قاعدة يفترضها ليقوِّم مسوّدوه أعمالهم على موجبها بل ترك كلاٌّ وشأنه مع معرفته باختلاف مفهومهم وأميالهم. فإذا صفاتُه تعالى الجوهريَّة التي هي نفس ذاته القدسيَّة تقضي عليه أن يُوحيَ إرادته ولا يكتفي بشريعة يسنُّها عقلُ كلٍّ من الأفراد لما أبنّاه من عدم كفاية العقل، لنقصه وتغيُّره وعدم استوائه في الجميع، ولعدم السلطة لأحد على الآخر طبعًا، فإذًا الوحي كان لازمًا من جانب ا؟.

وإن كان لازمًا من جانب ا؟ فهو من جانب الإنسان أضرُّ وألزم. ففطرةُ الإنسان نفسُها تستلزمُ وجود قاعدة مصدرها أعلى من نوعه تقيِّد أعماله وتدبِّرها. ويلزم أن تكونَ هذه القاعدة واحدة وعامَّة وإلاّ فلا تكون قاعدة بل يكون كلّ يفعل ما يشاء دون ضابط وأن تكون سلطته أعلى من الإنسان تحافظ على هذه القاعدة وتوطِّدها بفرض عقاب أو ثواب على من يخالفها أو يعملُ بها، وإلاّ فلا تكون ضابطًا ثابتًا أو وازعًا فعّالاً لأعمال الناس. والحال أنَّ عقل الإنسان عاجزٌ بنفسه عن وضع قاعدةٍ مثل هذه. فإذًا الوحي لازمٌ من جانب الإنسان كلَّ اللزوم.

فكبرى هذا القياس وهي لزومُ قاعدة لدين الإنسان وآدابه بديهيَّة لا منكر لها، ومنكرو الوحي يعترفون لزومها، لكنَّهم يقولون إنَّ قيامَها بالعقل. وقد برهنّا قبلاً الصغرى وهي أنَّ عقل الإنسان قاصر عن وضع مثل هذه القاعدة، ونزيدُها الآن برهانًا مستندين خاصَّة إلى الاختبار، فإنَّه أقوى من الاعتبارات النظريَّة. فإذا أجلنا أفكارنا في ما هو مشهور في التواريخِ ولا ينكره أحد وجدنا أنَّه كان للمصريّين كهنةٌ حكماء، وللهنود علماء ماهرون، وللفرس مجوس متبحِّرون، ولليونان وللرومان فلاسفة وحكماء طارت شهرتهم في الخافقين. وجميع هؤلاء أجهدوا نفوسهم بتأليف كتبٍ وإنشاء مدارس وإقامة منتديات علميَّة إلخ. ومع هذا كلِّه عجزوا عن وضع قاعدةٍ ثابتة وعامَّة لشعوبهم في أمر الدين والآداب، ومنعهم من ذلك انتقاصُ الوحدة والمرجع المقرِّ له من الجميع. أمّا نقص الوحدة فلأنَّ أولئك الفلاسفة والحكماء ومنِ اتَّبعهم كان كل$ منهم يخالف الآخر في قاعدة الدين والآداب، وما كان يُثبته فريقٌ كان ينقضُه الفريق الآخر، وكان التلامذة يخالفون غالبًا الأساتذة ولم يكن لتعليمهم مرجعٌ واحد يقرُّ له الجميع كما هو الوحي. فهذا المرجع أو الأساس عندهم كان العقل وكلّ منهم كان يدَّعيه محاميًا له، فعجزوا لانتقاص هذه الوحدة والمرجع عن إقناع الشعب بقاعدة راهنة للدين والآداب.

أمّا انتقاص السلطة فلأنَّه لم يكن لأحدهم سلطة شخصيَّة أو طبيعيَّة على الآخر ولا على الشعوب والسلطة العلميَّة أو بالأولى الاعتبار العلميّ كلّ ما كان يجدي عليهم إنَّما هو الإصغاء لكلامهم، والتشبُّع لهم لا مقاومة الشعوب أميالهم ولا كبح شهواتها ولا العدولُ عن أرباحها أو مغادرة عاداتها الأدبيَّة والدينيَّة. فضلاً عن أنَّ أولئك الفلاسفة كان يلزمهم مطاوعةُ الشعب بعاداته ومعتقداته لئلاّ ترذلهم العامَّة، فسقراط نفسه الذي يُعتبر شهيد التعليم بوحدانيَّة الإله اضطرَّ مرّات أن يقدِّم الضحايا لآلهة الوطن كما شهد السنوفون محاميه ومترجم حياته – في كتابه في أعمال سقراط وأقواله. هذا وإنَّ سلطة الفلاسفة واعتبارهم لم تكنْ تمكِّنهم من عقاب من يخالف أقوالهم أو ثواب من يعمل بها لتكون تعاليمُهم هذه القاعدة اللازمة للدين والآداب. فما تصنعُ المذلاّت الفصيحة البليغة في مدح الفضيلة أو ذمِّ الرذيلة إذا لم تكن سلطة تعاقب أو تثيب؟

على أنَّ أكبر الفلاسفة أنفسهم جهلوا حقائق كثيرة وعلَّموا خرافات عديدة. مثلاً سقراط علَّم أنَّ ا؟ غير ممتاز عن هذا العالم وأمر عند موته أن يُضحّى بديك كان عنده لاسكولابيوس، وأفلاطون وقد سمِّي الإلهيّ جعل ا؟ بمنزلة نفسٍ للعالم، واعتقد التناسخ وأباح قتل الأولاد القبيحيّ المنظر، وأرسطو علَّم بكون المادَّة أبديَّة وارتاب بخلود النفس، وفيثاغورس أوجب عبادة النجوم ودافع عن التناسخ؛ وهلمَّ جرٌّا في باقي الفلاسفة حتّى قال شيشرون: إنَّه لا يوجد رأي ولو مهما كان مستحيلاً إلاّ وأعجب بعض الفلاسفة. فإن كانت هذه حال الفلاسفة فما تكون حال العامَّة؟ فإذا العقلُ وحده عاجزٌ عن وضع القاعدة اللازمة للدين والآداب، والحال أنَّ هذه القاعدة لا بدَّ منها. فإذًا لا بدَّ من الوحي، ولا يستطيع العقليّون أو الطبيعيّون الذين ينكرون الوحي في أيّامنا أن يصنعوا ما عجز عن صنعه الفلاسفة والحكماء القدماء ونتيجتنا الأخيرة أنَّ الوحي لازم وضروريّ من جهة الإنسان، فضلاً عن لزومه من جانب ا؟.

إنَّ هذا الوحي ضروريّ أيضًا من جهة الحقائق نفسها التي يستند إليها الدين والآداب، ولا يكفي في ذلك العقل وحده، وهاك البرهان: إنَّ العقل نفسه يهدينا إلى وجود علَّة سامية أبدعت العالم وما فيه. وإنَّ هذه العلَّة أو الخالق لا بدَّ من تكريمه والتعبُّد له بعبادة ما، ونفسُنا عينُها تشعرُ بتوقٍ إلى سعادة دائمة وتحبُّ طبعًا هذه السعادة وتميلُ إلى الخلود والتأييد، كما نرى ذلك بيِّنًا في كلِّ ما تصنعه ليبقى بعدَها حفظًا لذكرها، كولادة البنين وترك الآثار الحسنة من مشروعات مهمَّة أو تآليف تستحقُّ الاعتبار أو بنايات أو امتياز بفضائل إلخ. فهذه الأمور السامية لا بدَّ لها من حقائق وقواعد يستشار بموجبها بأمنٍ وثقة بأنَّ ما يصنعه الإنسان يُرضي الخالق ويبلغُ إلى السعادة التي جعلها حدٌّا مؤبَّدًا للإنسان، لأنَّه كيف يمكن العقلَ أن يعلِّمَ بأمنِ أيَّة عبادة ترضي الخالق وأيّها يسخطه، وأيُّ عمل يُبلغ إلى السعادة وأيُّها يُبعد الإنسان عنها. وكيف يحصل الاتِّفاق على حقائق كهذه بل كيف يمكن إدراكها بمجرَّد العقل الضعيف المتغيِّر، فإذًا تعلُّق هذه الحقائق الدينيَّة والأدبيَّة بالخالق الذي هو أغلى من الطبيعة وانتسابها إلى سعادة خالدة أعلى من الطبيعة، ولو كان في الطبيعة الميل إليها تستلزم إرشادًا أعلى من الطبيعة وهو الوحي. فإذًا الوحي ضروريّ من كلِّ جهة.

إنَّ هذا الوحي الضروريّ موجود فعلاً والإله الجوّاد ينبوع الكمال لم يتركْ عمله ناقصًا، ولم يدع خلائقه تحتاج شيئًا ضروريٌّا بل قد منَّ بهذا الوحي الممكن والضروريّ من كلِّ جهة، وهو الكتاب المقدَّس الحاوي أسفار العهدين القديم والجديد. فيقول خصومُنا من أين نعلم أنَّ هذه الكتب حقيقيَّة؟ وليست مزوَّرة أو مخترعة من أناس مكّارين أو أصحاب مآرب؟ ومن يضمن لنا كونها وحيَ ا؟ حقيقة؟ فنجيبهم على هذه جميعها.

أوَّلاً: إنَّ العهد القديم بأسفاره لم يكن ممكنًا أن يكون مخترعًا أو مزوَّرًا أو أن يدخله تصحيفٌ أو تحريف يغيِّر جوهره. فإنَّ ا؟ سمح أن يكون في العهدين انقسامات واختلافات، وعرف بحكمته أن يُصدر من الشرّ خيرًا، فقد كان في العهد القديم انقسامات بين السمرة واليهود، وبين اليهود أنفسهم انقسامات إلى فرّيسيّين وزنادقة وغيرهم. فضلاً عن الانقسام الذي كان بين النصارى واليهود منذ أيّام المخلِّص. فإن كنّا نحن النصارى اختلقنا أو زوَّرنا أو حرَّفنا أسفار العهد القديم، فكيف أمكن إدخال هذا التزوير أو التحريف عند اليهود أيضًا؟ وكيف أمكن بقاءُ الكتب التي في يدهم والتي في يدنا على المطابقة التامَّة إلاّ في بعض اختلافات القراءات وفي اعتبار بعض أسفار كونها قانونيَّة أو لا. وكذا لو كانوا هم اخترعوا أو زوَّروا هذه الأسفار فكيف أمكن لنا أخذها عنهم وبقاؤها عندنا إلى الآن، ثمَّ إنَّ السمرة لم يكونوا يشتركون اليهود بل كان بينهم بغضٌ وضغينة مستمرّان. والحالّ أنَّ بعضَ أسفار العهد العتيق هي عند الطرفين على طباق تامّ إلاّ في بعض كلمات، فلو زوَّر السمرةُ تلك الأسفار لصاح بهم اليهود أو لو زوَّرها اليهود لصاح بهم السمرة. فاتِّفاق الضدّين أو المتضادَّين على هذه الأسفار مدَّة هذه الأعصار العديدة، بين يهود وسمرة ويهود ونصارى، هو دليل قاطعٌ على كون هذه الأسفار غيرَ مخترعة ومزوَّرة.

ثمَّ في العهد الجديد قد سمح ا؟ أن يكون بين النصارى أنفسهم انقسامات واختلافات منذ القرن الأوَّل إلى هذا القرن. فقد كان في القرن الأوَّل تبّاع سيمون الساحر وكيرنتوس وأبيّون والنيقيلاون وغيرهم. وفي القرن الثاني كربوكرات ووالنتينوس وإبيفان ومونتانوس وغيرهم. وفي الثالث تبّاع سابيتوس وبولس السميساطيّ وماني وغيرهم. وفي الرابع الدوناتيّون والأريوسيّون والمكدونيّون وغيرهم. وفي الخامس البيلاجيّون والنساطرة والأطاخيّون وغيرهم. وفي السادس اليعاقبة والثلاثيّون وغيرهم. وفي السابع أصحاب المشيئة الواحدة وغيرهم. وفي الثامن محاربو الإيقونات وهلمَّ جرٌّا إلى اليوم. فوجود هذا الانقسام ساعد كثيرًا على إثبات الأسفار المقدَّسة من وجهين: الأوَّل أنَّه لمّا كان الكاثوليكيّون يعترضون خصومهم ويحجُّونهم بآيات هذه الأسفار لم يقل الخصومُ قطُّ بكونها مزوَّرة أو غير صحيحة، أو لم يكتبها رسل المسيح وتلاميذه، والثاني أنَّ الفِرق المتضادَّة حفظت الأسفار المقدَّسة وهي عند جميعها واحدة. فلو كانتْ مزوَّرة أو محرَّفة لما قبلها فريق من الآخر مع الخصام بينهم. وقد بقي من هؤلاء إلى اليوم النساطرة واليعاقبة والبراصمة وغيرهم. وها كتبهم المقدَّسة وبينها وبين كتبنا المطابقة التامَّة.

ثمَّ لو كانت أسفار العهد الجديد مزوَّرة أو محرَّفة لكان هذا التزوير والتحريف إمّا قبل موت الرسل وإمّا بعده والأمران منقوضان. فلا قبلَ موت الرسل لأنَّه من كان يجسر أن يزوِّر إنجيلاً أو رسالة باسم رسول أو مبشِّر في أيّامه ونُصبَ عينيه؟ وكيف يسكت هو على ذلك أو يحتمل أن ينشرَ أحد باسمه تعليمًا مخالفًا لتعليمه؟ وكيف يختفي ذلك عليه ولو خفي عليه كيف يُخفى على تلامذته؟ والمرء على ما يُقرأ ويعلم ويعلِّم ويعمل به في كلِّ يوم ولا يمكن إيجاد هذا التزوير أو التحريف بعد موت الرسل والمبشِّرين، لأنَّه كيف يُمكن مثلاً، أهل رومية وغلاطية وقرنثية وغيرها، أن يصدِّقوا أنَّ مار بولس كتب إليهم رسائل وهي لم تبلغ إليهم في أيّامه؟ وكيف يمكن أن يقرأوا هذه الرسائل خلوةً أو جهارًا متفاخرين بكون الرسول كتبها إليهم مع أنَّهم لم يتلقّوها منه ولا سمعوا شيئًا عنها؟ ثمَّ إنَّ الناس في كلِّ عصر لا يموتون سويَّةً بل يبقى في العصر التابع أناس عاشوا في العصر السابق. فالقرن الثاني مثلاً كان في أناس شبُّوا في القرن الأوَّل والقرن الثالث حوى أناسًا شبُّوا في القرن الثاني، وهلمَّ جرٌّا. فلو فرضنا هذا التزوير أو التحريف وقع في القرن الثاني لصاح بأصحابه من كانوا في القرن الأوَّل أنَّنا لم نسمع شيئًا من هذا، أو سمعنا ما يخالفه. فلا يمكن إذًا إدخال أسفار مهمَّة تُقرأ في كلِّ يوم وتتعلَّق بأمر الدين والآداب، أو إدخال تحريف جوهريّ فيها، وإن تقبَّله كلُّ الفرق على اختلافها وتضادِّها، لا سيَّما أنَّ نُسخ هذه الأسفار المقدَّسة انتشرتْ منذ عهدِ كاتبيها في الآفاق، وكُتبت وتُرجمت إلى لغات عديدة فلا يمكن تواطؤ الممالك الشاسعة على تزويرها، أو تحريفها بنوع واحد. ونزيد ذلك إيضاحًا بقولنا مثلاً نحن النصارى في بيروت مؤلَّفون من عدَّة طوائف أو فرق أي لاتين وموارنة وروم غير متَّحدين ومتَّحدين وأرمن وسريان وبروتسطنت. فكيف يمكنُ فرقة منّا أن تدخلَ سفرًا مقدَّسًا ولا يصيح بها سائرُ الفرق وإن أدخلته عندها فكيف تُدخله عند غيرها. وقد كان النصارى دائمًا كما نراهم الآن منقسمين إلى فرق.

هذا وإنَّ هذا التزوير لا يخلو من أن يكون أوجده اليهود أو الوثنيّون أو النصارى. والحال أنَّ اليهود لا يُمكنهم ذلك لمضادَّة النصارى لهم ولاحتواء هذه الأسفار حتّى الآن ما يضادُّهم صراحة. فلو زوَّروها هم فليس أقلّ من أن يسقطوا منها ما يخالف زعمَهم. ولا يمكن أن يكونَ الوثنيّون زوَّروها، لأنَّها تحوي ما يلاشي الوثنيّة ويضادُّها على خطٍّ مستقيم كالتعليم بإله واحد، وما أشبه. ولو صنعوا ذلك فلا أقلَّ من أن يكونوا أسقطوا منها ما يُخالف زعمهم، ولا يمكن أن يكونَ النصارى أقدموا على هذا التزوير أو التحريف لأنَّ هؤلاء فرقٌ مختلفة يُضادُّ بعضُها بعضًا، وقد وجدوا كذلك في كلِّ عصر فضلاً عن الاختلاف بينهم وبين اليهود. فأيُّهم زوَّر أو حرَّف احتجَّ عليه الفريق الآخر وقاومه. والحال أنَّ هذه الكتب باقية عند الجميع على المطابقة. فإذًا ليست مخترعة أو مزوَّرة أو محرَّفة.

هذا وإنَّ مَن يُنكرون هذه الأسفار أو يقولون باختراعها لا يمكنهم أن يأتوا ببيِّنة ناطقة باسم مَن أقدم على هذا التزوير، أو بذكر الوقت الذي جرى فيه، فأيٌّا نصدِّق؟ هل من يأتي بما أتينا به من البيِّنات الراهنة الدامغة والتي لا سبيل إلى إنكارها أو من قال هذه الأسفار مزوَّرة دون بيِّنة أو تعيين من زوَّر أو أين زوَّر أو متى زوَّر؟

وأمّا ما يثبت كون هذه الأسفار موحاة أو ملهمة من ا؟ فنجيب أن لا بدَّ من شهادة إلهيَّة لإثبات كون ما كُتب بهذه الأسفار وحيًا إلهيًا. ويلزم أن تكون هذه الشهادة ممّا لا يقدر البشرُ ولا الطبيعةُ نفسها أن تأتي بمثلها بل يفوقُ قواها أجمع. وتقوم هذه الشهادة بنوعين: المعجزات وحدوث ما فيه نقض لشرائع الطبيعة أو ما تعجز عنه الطبيعة والبشر عجزًا بيِّنًا. والنبوءات وهي الإنباء بحدثِ أمر مستقبلٍ بعيد لا يمكنُ مدارك العقل البشريّ التوصُّلُ إليه. فكلُّ مرسل أو كاتب أيَّد ا؟ رسالته أو ما كتبه بمعجزة أو نبوَّة حقيقيَّتين، مخالفتين لنظام الطبيعة وفائقتين قوَّة البشر ومداركهم، تحقَّق أنّ رسالته من ا؟، وأنَّ ما علَّمه وكتبه إنَّما هو بوحي ا؟ وهذا ممّا لا سبيل لإنكاره، لأنَّ المعجزات والنبوّات من حيث إنَّها تفوق قوى الطبيعة والبشر ومداركهم، فلا يمكن أن تكون إلاّ شهادة من ا؟، وتعالى سبحانه عن أن يشهد للكذب، وما دامت المعجزة أو النبوَّة يمكن التوصُّلُ إليهما بقوَّة الطبيعة أو مدارك الناس فلا نعتبرهما معجزة أو نبوَّة.

والحال أنَّ الأسفار المقدَّسة التي أثبتنا سلامتها من كلِّ تزوير وتحريف هي طامية بذكر المعجزات والنبوّات الحقيقيّة. فعلينا إثبات هذه الصغرى كيلا يبقى مفرّ من النتيجة فنقول بالإيجاز في هذه المادَّة الوسيعة، إنَّ المعجزات والنبوّات في أسفار العهدين كثيرة مثلُ ضربات مصر وإجراء ماءٍ من صخرة وإقامة أموات وإبراء أمراض وأسقام بمجرَّد كلمة الأمر وردِّ البصر على عميان وإنطاق بُكم وإشفاء مخلَّعين، إلى غير ذلك ممّا لا يجهله كلُّ من طالع الأسفار المقدَّسة. وكذا النبوّات في العهد القديم لا سيَّما ما لاحظ منها الفادي وآلامه وصلبه وموته وقيامته. وفي العهد الجديد نبوّات المخلِّص على موته وقيامته وخراب الهيكل وتشتيت شمل اليهود ورؤى يوحنّا الرسول إلى غير ذلك.

فتاريخ هذه المعجزات والنبوءات كتبه أناسٌ عاصروا الحوادث وقبلتْه الأجيال والأعصار، وأجمعت عليه الفرقُ المختلفة المتباغضة. وأمّا معجزات العهد الجديد ونبوءاته فقد دوَّنها أناس شهدوها وحرَّروها في نفس المحالّ التي حدثت بها. وكانت روايتها تشجب كثيرين ولاةً ومسوَّدين وتثبت الظلم على كثيرين. وكان الكاتبون ضعفاء ساذجون لا سند لهم إلاّ الحقّ، وأيَّد روايتهم كثيرٌ من خصومهم وخصوم المسيح واحتملوا العذاب المبرّح حتّى القتل إثباتًا لروايتهم. انقسموا من بادئ بدئهم إلى فرق كثيرة متضادَّة ولم يضادَّ أحدهم الآخر بهذه النبوءات والمعجزات البتَّة، هذا وإنَّ من كتبوا هذه الأمور لم يكن ممكنًا لهم أن يغشّوا ولم يريدوا أن يغشُّوا، ولو أرادوه لما قدروا، فلم يكن ممكنًا أن يغشُّوا لأنَّهم رأوا المسيح مجترحًا هذه الآيات مرأى العين أو نقلاً عن ثقات كثيرين تلقّوها منهم بأثر صنعها ولم يريدوا أن يغشُّوا غيرهم، لأنَّهم كانوا سذّجًا وعانوا لذلك آلامًا وعذابات بل الموت أيضًا، ولم يكن ذلك ليكسبهم من جانب ا؟ إلاّ الإثم، ومن جانب البشر إلاّ الضرّ والعذاب، بل لو أرادوا أن يغشُّوا لما استطاعوا لأنَّهم دوَّنوا ما صُنع أمام جموع غفيرة والمحلاّت نفسها التي صُنعَتْ فيها المعجزات أو قيلت النبوءات، وأمام من شهدوها وهم حسّاد ومبغضون، وأمام من صُنعتْ بهم مع تعيين أسمائهم ومحلاّتهم، ومع كونهم أحيانًا كثيرين مثلَ الآلاف التي أشبعت بالخبزات الخمس، ومثلَ الذين رأوا كسوف الشمس واستيلاء الظلام على الأرض يوم صلبِ المخلِّص. فكيف يمكن مثلَ هؤلاء أن يغشُّوا ولو تعمَّدوا المكر والخديعة؟

وكذا قُل في النبوءات على المخلِّص وصلبه وقيامته ممّا ورد في العهد القديم كأنَّه مفصَّلٌ بل كأنَّه تاريخ حوادثَ ماضية ولا سيَّما نبوءات أشعيا وداود على آلام المخلِّص وقيامته إلى غير ذلك ممّا رواه أنبياء العهد القديم من أقدم الأيّام، مع أنَّه لم يكن إنسان، ولو مهما تعاظم حذقه، يستطيع أن ينبئ بذلك قبل ألوف أو مئات من السنين، ثمَّ تأتي الحوادث مصداقًا لما أنبأ به. وكذا نبوءات العهد الجديد المتعلِّقة بآلام المخلِّص وقيامته وانتشار تعليمه إلى أقصى الأرض وخراب الهيكل وتشتيت اليهود، فإنَّه لم يكن ممكنًا عرفانها بمجرَّد الذكاء أو الحذق البشريّ، لا سيَّما أنَّ المسيح كان يصنعُ ما يستوجب عرفان الجميل والمدحة، وكان يحفظُ شريعة موسى ويأمر بحفظها، ويصنع العجائب رحمةً للناس، كشفاء لمرضاهم وإقامة موتاهم وسدِّ إعوازهم وهلمَّ جرّا، وقد فاه بنبوءته عند دخوله أورشليم بالتسبيح والتهليل. فعلى أيِّ قلب بشريّ كان يخطر أنَّه يحلُّ به ما تنبَّأ به عليه. وكذا نبوءته على انتشار تعليمه في الأرض كلِّها مع علمه أنَّ دعاته اثنا عشر صيّادًا يضادُّهم ملوك الأرض وشعوبُها، حتّى الشعبُ اليهوديّ. وكذا نبوءتُه على خراب الهيكل مع أنَّه كان مزدانًا بالهدايا والنذور من اليهود وغيرهم، ومع كونه قد مرَّ على اليهود ألوف السنين وما تشتَّت شملُهم التشتيت الذي تنبَّأ عليه. فإذًا رسالةُ المسيح ثابتةٌ بالمعجزات والنبوءات، وكلُّ ما علَّمه ممّا كتبه أنصاره الذين جرى على يدهم مثلُ معجزاته هو وحيٌ إلهيّ، وقد استشهد المسيح وأنصاره دفعات لا تحصى بأسفار العهد القديم وأثبتوا أنَّها وحيٌ وكلامُ ا؟، فضلاً عمّا مرَّ معنا من الإثبات. فإذًا كلُّ ما حوته هذه الأسفار هو وحي إلهيّ لا مرية في صدقه ويلزمُ الاعتماد عليه.

فقد ثبت إذًا أيُّها السادة أنَّ الوحي ممكنٌ بل ضروريّ بل موجود فعلاً، وهو كلام ا؟ لنا، لا لنسمعه ونعلمه ونقرّ به فقط، بل لنعمل به أيضًا، وهو نور وإرشاد لعقلنا كيلا نضلَّ كما ضلَّ كلُّ من احتقر الوحي، وادَّعى أنَّ بالعقل وحده الكفاية لتدبُّر الدين والآداب. ومع هذا نريد أن نسلِّم مجاراة لمثل هؤلاء بأنَّ العقل وحده كافٍ. لذلك نرى إذا كانوا يستسيرون هم حقيقةً بنور العقل نفسه نظريٌّا وعمليٌّا.

القسم الثالث

أوَّلاً: نسأل من يُنكرون الوحي ويدَّعون أنَّ بالعقل وحده كفاية للتدبُّر بأمر الدين والآداب: هل دعواهم هذه تُطابق العقل وهل باعتمادهم عليها يستسيرون بحكم عقلٍ صحيح؟ فهم لا مناصَ لهم من أن يشعروا شعورًا بيِّنًا كباقي الناس بأنَّ العقل ضعيفٌ ومتغيِّر ومتقلِّب حتّى في المسائل العاديَّة، ولو شحذتهُ الفلسفة وحاز صاحبه من التمدُّن غايته. ويعلمون حقّ العلم أنَّ الدين والآداب أمورٌ خطيرة مربكة ضلَّ فيها أكابر الفلاسفة ولم يمكنهم إلى اليوم الإجماع على مبادئ أمور دون الوحي تتكفَّل بمقاومة الأميال والانفعالات، وتستلزم الثبوت دائمًا في كلِّ عصر على طريقة واحدة، ولا غنى عنها لفرد من الناس رجلاً كان أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، أمِّيًا أو عالمًا. فهل مع كلِّ هذا يرون أنَّ دعواهم هذه بكفاية العقل الضعيف المتغيِّر لهذه الأمور السامية وعدم لزوم الوحي فيها هي معقولة وصوابيَّة؟ وهل يُبيحهم عقلُهم الاعتماد على هذه الدعوى الواهية الباطلة في أمر هو أهمّ الأمور يتعلَّق عليه العمران وراحة الناس في العاجلة، وغايتهم في الآجلة، فإن خلوا نفوسهم مُنصفين أيقنوا أنَّ نفس دعواهم هذه لا يقبلُها العقل، وهم بالنتيجة مخالفون الوحي والعقل معًا، ومتسيسرون على غير هداية من أحدهما.

ليت من اتَّصلوا إلى إنكار الوحي وأوجبوا الاعتماد على العقل وحده خالفوا إرشاد العقل بهذه الدعوى الباطلة وحدها، كلاّ بل إنَّ هؤلاء بأيِّ اسم تسمّوا طبعيّين أو عقليّين أو ماسونيّين أو دايبست، قد اتَّصلوا بعمومهم إلى إنكار حقائق مهمَّة يعلِّمها العقل وهي ركنُ العمران ونظامُ العالم ومستقبلُ الإنسان. ونستشهد لهذا الشأن ما فاه به حبرُ الأحبار البابا لاون الثالث عشر في رسالته العامَّة الأخيرة الصادرة في 2 نيسان - إبريل من هذا العام في حقِّ من ينكرون الوحي فقال ونعمَ القائل: »على أنَّ الطبيعيّين لا يقفون عند هذا الحدّ بل إنّهم بجرأتهم أدخلوا نفوسهم في طريق يكتنفها الضلال من كلِّ جهة بالنسبة إلى حقائق ذات أهمّيَّة كبرى. وتهافتوا إلى أعمق الأضاليل وأقصاها، وذلك إمّا بسبب وهن الطبع الإنسانيّ وإمّا بقضاء ا؟ العادل الذي يعاقب كبرياء المتكبِّرين، فكان من ذلك أنَّه لم يبقَ عندهم ثبوتٌ ولا توكيد للحقائق التي يدركها نور العقل الطبيعيّ نفسه، كوجود ا؟ وروحانيَّة النفس البشريَّة وخلودها... لأنَّهم وإن أقرّوا بالإجمال بوجود ا؟، فليس ذلك راسخًا في نفس كلٍّ منهم باعتقادٍ ثابت وتصديق وثيق، كما يشهدون هم على أنفسهم... ولكنَّهم يذهبون في هذا مذاهب فاسدة على مثال الحلوليّين ممّا ليس في الحقيقة إلاّ إفسادًا لتصوُّر الطبيعة الإلهيَّة وإلغائها. ومتى انتقض هذا الأساس العظيم أو تزعزع تزعزعت أيضًا بطريق اللزوم تلك الحقائق المرشدةُ إليها الطبيعةُ كوجود جميع الأشياء بإرادة ا؟ الخالق الحرَّة، وتدبير العالم بالعناية الإلهيَّة وخلود النفس ووجود حياة للإنسان خالدة بعد هذه الحياة الفانية. وإذا سقطت هذه الحقائق التي هي بمنزلة مبادئ طبيعيَّة للعلم والعمل فتأمَّل ترَ بسهولة ما تصير إليه الخصال والآداب الخاصَّة والعامَّة. على أنَّنا لا نتكلَّم في الفضائل الفائقة الطبيعة التي لا يمكن أحد أن يباشرها أو يدركها دون نعمة أو هبة من ا؟، والتي لا يمكن أن يكون لها أثر في من تجرُّه مكابرته إلى إنكار سرِّ فداء الجنس البشريّ والنعمة السماويَّة والأسرار والفوز بالسعادة في السماء، فنقتصر كلامنا على الواجبات الصادرة عن الآداب الطبيعيَّة نفسها، فإنَّ الاعتراف با؟ خالقِ العالم ومدبِّره والشريعة الأزليَّة الآمرة برعاية النظام الطبيعيّ والناهية عن تشويشه وغاية الإنسان القصوى التي هي أسمى من الأشياء الأرضيَّة طرٌّا، وخارجة عن دائرة هذا العالم، فهذه إنَّما هي الينابيعُ والمبادئ لكلِّ عدلٍ وأدب، فإذا سقطت هذه المبادئ كما يفعل الطبيعيّون والماسونيّون فيسقط للحال أساس كلِّ أدب طبيعيّ ولا يبقى مطلقًا للعلم المميِّز بين العدل والجور قوام، ولا ظهير يتعزَّز به«.

فوجودُ ا؟ جلَّ وعلا، لا يدركُه العقل فقط بل لا يمكنُ لعقل سليم أن يتعامى عنه إذا تأمَّل بأقلِّ شيء من نفسه أو من كلِّ ما حوله في الجهات الستّ، ومع هذا اتَّصل كثير ممَّن أنكروا الوحي إلى أن أنكروا وجود واجب الوجود أيضًا.

ومن لم ينكرهُ منهم جعله كما أحبّ، وحسُن له لا كما تقتضيه ذاته تعالى السامية، فأراد ذلك الإنسان ووافق مرغوباته أن يكون تعالى لا عناية له بالعالم ولا بالناس لإرشادهم بوحي، وأن لا يكون منحطٌّا إلى مجازاة الناس عمّا يفعلون، ولا مباليًا بتعبُّدهم له أو عدمه، فاعتقد ا؟ كذلك، فوجب على ا؟ أن يكون كما تصوّره، والعياذ با؟، وعاد يدَّعي علينا أن يستند إلى نور العقل فأنعم بظلامٍ بدلاً من النور.

إنَّ العقل نفسَه يرشدنا إلى أنَّه هو قوَّة نفس بسيطة تخالف خواصُّها الجوهريَّة أو ذاتُها خواصّ المادَّة وذاتها على خطِّ الاستقامة، بل مهما جدَّ العقل ليوفِّق بين خواصّ المادَّة وخواصّ الافتكار مثلاً فلا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، لأنَّه يرى المادَّة متجزِّئة ذات أبعاد مجرَّدة عن الحركة والسكوت والافتكار، يخالف ذلك ذاتًا ولا تحمل عليه هذه الخواصّ البتَّة بل تنافيه، ومع هذا يزعم أكثر منكري الوحي أنَّ نفسهم مادّيَّة لا فارق بينها وبين المادَّة، ويكذِّبون عقلهم الذي يشهد شهادةً لا يمكنُ تأوُّلها أنَّه ليس مادَّة ولا قوَّة للمادَّة، إذ لا تملك مثل هذه القوَّة، ولا يمكنها أن تملكها ولو جدَّ كلُّ الطبيعيّين في الأجيال والأعصار كلِّها في الامتحانات ليجعلوا المادَّة تُبدي أقلَّ فكر أو تعقُّل، ومع هذا كلِّه يزعمون أنَّ العقل مرشدهم، وأنَّهم يستسيرون بهدايته ولا حاجة لهم إلى الوحي.

إنَّ العقل أيضًا ومشاعر النفس عينها تُنبئ أنَّه لا بدَّ من حياة أخرى غير الحاضرة ينالُ فيها من أحسن مسعاه الثواب، ومن أساءه العقاب. وهذا التصوّر يراه العقلُ ملازمًا له، ولا يمكن إبعادُه عنه بل ترى الإنسان يصنعُ بموجب هذا التصوُّر الملازم كلَّ ما يصنعه ليبقى بعده، وكلَّ ما يؤثِّره ليخلُدَ ذكرُه، فضلاً عن كونِ العقل يقضي بذلك بمجرَّد حكمه بوجود إله عادل وحكيم، ومعرفته بأنَّه إذا لم يكن الإله كذلك فلا يكونُ إلهًا. ومع هذا ترى من أنكروا الوحي وادَّعوا الاعتماد على العقل ينكرون كلَّ حياة بعد الحياة الحاضرة، وكلّ عقاب وثواب للإساءة أو الإحسان عملاً، ومن بقي منهم يقول بالحياة الأخرى وبالثواب والعقاب فيضعف هذا الاعتقاد به حتّى تمسي هذه العقائد الأساسيَّة عنده من جملة الاحتمالات فقط، فلا تفعل به شيئًا فيهملُ كلَّ ما يترتَّب على ذلك. وإذا كان بطبعه ممّن يميلون إلى إحدى الرذائل، أيَّتها كانت، أو إلى كثير منها، اعتكف على شهواته ومرغوباته دون التفات إلى هذا المعتقد الذي يتناساه رويدًا رويدًا كأنَّه لم يكن. وإن كان طبعًا ممَّن يكرهون الشرّ والملاذّ اعتراه فتورٌ قتّال لكلِّ فضيلة وعبادة وأصبح معتزلاً عن ذكر الآخرة فهذه حالة من يتفاخرون بتمدُّنهم وبعدم تصديقهم الوحي وباعتقادهم على إرشاد العقل فقط.

تلطَّفوا واسمعوا برهانًا آخر. إنَّ العقل نفسه يوجب معرفة الجميل والشكر على الإحسان، وشيئًا من التكريم لمن يلون أمرنا أو يقومون بنا. وهذا لا يشدُّ عليه أحد نكيرًا. فمن ينكرون الوحي ويعتمدون العقل ولو طنطنوا بأنَّهم أصحاب إنسانيَّة لا يغمطون النعمة ولا ينكرون المعروف المصطنع إليهم، ولو تفاخروا أيضًا بالحرص على واجبات الإنسانيَّة وذمّ من لم يعمل بها. فمع هذا كلِّه تراهم يعتريهم شللٌ عامّ عن كلِّ حركة عبادة أو شكر لإحساناته الطامية أو صلاتِه لنوال ما يبتغون أو شكرًا عمّا ينالون. هذا مع اعتقاد كثير منهم با؟ وعنايته ومع دعواهم الاستمساك بعروة العقل فكيف يتَّفق هذا وذاك؟!

وقد كان لي برهانات أخرى على هذا النمط اقتصرتُ عنها تفاديًا من مللِكم، وأكتفي باستلفاتكم أنَّه يعرضُ لكثيرين أن يُصابوا بهذا الداء ولا يعرفونه بنفوسهم ولا يعرفه غيرُهم فيهم إلاّ من مفعولاته. فبعضهم تستحوذ عليهم شهواتُهم أو رغائبُهم المنكرة، أيَّتها كانت، فيتناسَون الوحي وإرشاد العقل معًا دون أن يصرِّحوا لنفسهم أو غيرهم أنَّ هذا معتقدُهم، وربَّما إذا ردَّدوا فكرهم أو سئلوا أنكروا أنَّهم يذهبون مثلَ هذا المذهب مع وجود جرثومته فيهم، وهم لا يحزنون. وبعضهم لا يعكفون على رغائب محظورة ولكنَّ انشغالهم بأمور العلمِ وفتورهم بما تقتضيه نفسُهم يسوقانهم وهم لا يعلمون إلى هذا المذهب في جانب العمل والفريقان يسيران بهذا الضلال سيرًا عمليٌّا، وهذا أكثر شرٌّا من الرأي النظريّ، ومصدرُ ذلك عدم استشارة العقلِ وعدمُ الاكتراث بالوحي.

خاتمة

وبقي لي في الخاتمة برهان وجيز هو أنَّه من مبادئ العقل البديهيَّة أنَّه متى وُجد طريقتان لعملٍ مهمّ لزم السلوك بما كان أكثر أمنًا هذا لكي أسلّم مداراةً بأنَّ طريقة الوحي وطريقة الاستسارة بالعقل وحده هما في حالة الاحتمال فقط، بعد كلِّ ما أوردته من البراهين القاطعة على لزوم الوحي وعدم الكفاية في العقل لتدبُّر أمر الدين والآداب. فللدين وللآداب طريقتان: اتِّباع إرشاد العقل الضعيف مجرَّدًا عن الوحي، واتِّباع إرشاد الوحي مع العقل. فالسالك في الطريقة الأولى إن صحَّ لزوم الثانية لم يكن آمنًا في سلوكه على غير هدًى، وكان متعرِّضًا للضلال وللإخلال بالدين والآداب. وما أدراك ما يتفرَّع عنهما؛ وأمّا السالكُ بالطريقة الثانية الجامعة بينَ إرشاد الوحي والعقل فهو آمن من كلِّ جهة حتّى ولو صحَّ زعم مخاصميه. فإن كان الذين يُنكرون الوحي ويزعمون أنَّ بعقلهم وحده الكفاية لكلِّ شيء يتَّبعون إرشاد العقل حقيقة في كلِّ شيء فليتبعوا إرشاد العقل الواضح البديهيّ إلى هذا المبدأ، وهو السلوك بالطريق الأكثر أمنًا أي الاعتماد على الوحي والعقل، فيكونون آمنين كيفما كان الصحيح، وإلاّ فكفاهم أن يتفاخروا باتِّباع إرشاد عقلهم، ويتعامَوا عمّا يرشد إليه بديهيٌّا وبأقلِّ تكلُّف.

أنار ا؟ عقولَنا لنعلمَ الصواب، ونعملَ به أبدًا. ووفَّقنا جميعًا إلى مرضاته تعالى والفوز بغايتنا القصوى الأبديَّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM