المطران يوسف الدبس صانع التاريخ
حين نذكر المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت من 11 شباط سنة 1872، إلى سنة وفاته في 4 تشرين الأوَّل 1907، يقف أمامنا ذاك الرجل الذي كتب التاريخ فيما كتب. يكفي أن نذكر تاريخ سوريا منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. ثمانية مجلَّدات تضمُّ آلاف الصفحات، استغرق العمل فيه قرابة اثنتي عشرة سنة، من سنة 1893 إلى سنة 1905، أي سنتين قبل وفاته. يقول فيه الأب ميشال الحايك: »ظلَّ يحيي لياليه ساهرًا لا يأخذه في العمل كلل أو ملل، بل يربط جفنيه بملاقط ليمنعهما من الإغماض بعدما أصابهما الارتخاء«. وكان لهذا التاريخ الطويل موجز جاء في جزئين: الموجز في تاريخ سوريا. وأخذ أيضًا من هذا التاريخ الموسوعةِ ما يتعلَّق بالموارنة: الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصَّل الذي طبعه سنة 1905.
كُتبت مقالات عن المطران الدبس في هذا المجال، وتوزَّعت الآراء: منهم من جعله في محازاة الأب هنري لامنس اليسوعيّ وربَّما تعدَّاه، وآخرون اعتبروا أنَّ »الإيديولوجيَّة المارونيَّة« سيطرت عليه، فلم يكن ذاك الموضوعيّ المحض، وكأنَّ التاريخ غرضًا ندرسه في مختبرات الفيزياء والكيمياء. فلولا الفكر الذي دفع هذا المطران، لما كتب ما كتب. لا سيَّما وأنَّ الهويَّة اللبنانيَّة بدأت تتركَّز بحيث تأخذ كلَّ طائفة مكانتها.
أمّا نحن فنتعرَّف أوَّلاً إلى هذا الحبر الجليل الذي اعتبره مؤرِّخون أكبر شخصيَّة مارونيَّة في القرن التاسع عشر. ثمَّ نتوقَّف عند مستويين: المستوى المادّيّ والمستوى الفكريّ، وفي الحالين يكون الهدف مركز المسيحيَّة بشكل عامّ والطائفة المارونيَّة بشكل خاصّ.
1 - من كفرزينا إلى أبرشيَّة بيروت
ولد يوسف الياس حنا الدبس في 8 تشرين الأوَّل 1833، في بلدة رأس كيفا، حيث هاجر جدُّه من غزير في أواخر القرن الثامن عشر. ثمَّ ارتحلت الأسرة إلى كفرزينا التي لا تبعد كثيرًا عن رأس كيفا، وهناك قضى الولد طفولته وصباه قبل أن يكتشفه مطران طرابلس السيِّد بولس موسى كسّاب ويرسله إلى عين ورقة سنة 1847. كان الفتى قد تعلَّم بعض العربيَّة والسريانيَّة في قريته، وها هو يتعمَّق في هاتين اللغتين ويضيف الإيطاليَّة واللاتينيَّة اللتين تُحفظان للطلاّب النجباء. وهل أنجب من يوسف إلياس الدبس، الذي أتقن الإيطاليَّة فترجم وهو ابن عشرين سنة كتابًا عن الإيطاليَّة يقع في 832 صفحة؟ وهل أنجب من ذاك الكاهن الذي درس اللاهوت على يد أحد الآباء الكرمليّين في طرابلس فبرع، كما تعلَّم الفرنسيَّة على يده، فكتب فيها وتحدَّث ولا سيَّما حين رافق البطريرك بولس مسعد في تنقُّلاته، ناهيك عن أسفاره الخاصَّة إلى فرنسا أو إيطاليا؟
رُسم يوسف كاهنًا في 15 حزيران سنة 1855، وبدأ حالاً مهمَّة التعليم (1855-1860) في مدرسة مار يوحنّا مارون، كفرحي (البترون) ومع التعليم كانت الترجمة عن الإيطاليَّة أو اللاتينيَة، كتبًا في خدمة الطلاّب الذين لم يكن في يدهم شيء: ترجم الرسوم الفلسفيَّة. ثمَّ مختصر المقالات اللاهوتيَّة. وسبق له فترجم تاريخ الأرطقات مع دحضها. إن نقصَه الوقتُ خلال السنة المدرسيَّة، كان يعوِّضه في عطلة الصيف، في الديمان، عند البطريرك. وترك المدرسة سنة 1860 ليكون أمين سرّ البطريرك مسعد من سنة 1860 إلى سنة 1872، سنة ارتقائه إلى الدرجة الأسقفيَّة في 11 شباط. ولكنَّه ما توقَّف عن الكتابة والترجمة حتّى وفاته. أمّا ما كتب فهو لخدمة المؤمنين عامَّة، والكهنة خاصَّة وعنه تقول دائرة المعارف ساعة الانطلاق في عمله الأسقفيّ:
»أخذ يكدُّ ويجدُّ ليلاً نهارًا، صارفًا الجهد إلى ما فيه جرّ المنفعة الروحيَّة والعلميَّة إلى أبناء طائفته وسائر أبناء وطنه، مكبٌّا على ما فيه خيرهم، قائمًا بأعباء وظيفته بالوعظ والإنذار والسهر، وكثيرًا ما تولّى بنفسه أمر الرياضات والاهتمام بالمدارس وتهذيب الكهنة ومساعدة أكثرهم في أحوالهم المعاشيَّة حتّى قلَّما يُوجَد قرية من قرى أبرشيَّته ليس فيها مدرسة أو مدرستان، موجِّهًا فريد العناية إلى النظر في أحوال الفقراء وإلى الأعمال الخيريَّة«.
مثل هذا النشاط لا بدَّ من أن يثير شهوة الحسّاد، فاشتكوا عليه إلى رومة وما كان جوابه، وهو المتكلِّم الإيطاليَّة واللاتينيَّة بطلاقة؟ وُضعت كتبُه بجانبه فكانت أعلى منه، وانتهت »المحاكمة« وسقطت ألسنة السوء. وعاد المطران »مظفَّرًا« وهبَّت الناس إلى لقائه في قواربهم وهو الآتي في البحر، وتبارى الشعراء والخطباء في مدحه. في أيِّ حال، لا يهاجم الحسّاد إلاّ الكبار الكبار. أمّا الصغار فلماذا إضاعة الوقت معهم وهم لا يكادون أن يكونوا موجودين.
2 - صانع التاريخ في بناء الحجر
»صانع التاريخ«. هكذا دعاه المونسنيور ميشال الحايك في مقدِّمته إلى »الجامع المفصَّل« الذي كتب واسترسل فجاء مقاله المرجع الأوَّل للتعرُّف إلى المطران يوسف الدبس. ذكر محطّات حياته، وأورد كلَّ كتاب من كتبه، سواء المؤلَّف أم المترجم، مع اسم الكتاب الذي نقل عنه.
وأوَّل عمل قام به، حضور الأبرشيَّة في قلب العاصمة، لا البقاء في الجبل اللبنانيّ. أن يكون المؤمن الخمير في العجين والملح في الطعام، لا بأس. ولكن لماذا لا يكون أيضًا نور العالم، كما طلب منّا السيِّد المسيح، و»هكذا يرون أعمالكم الصالحة ويمجِّدون أباكم الذي في السماء«.
كان الكرسيّ الأسقفيّ في عين سعاده فانتقل إلى بيروت العاصمة، ليكون الأسقف حيث الانتشار المارونيّ وسط أبناء رعيَّته. ومن أجلهم بنى الكنائس، مار يوسف قرب الحكمة، مار مخايل الرميل، مار إلياس في راس بيروت، مار مخايل في الشيّاح، مار يوسف في حارة حريك. ووسط العاصمة، كانت كنيسة مار جرجس صغيرة لا تليق بحضور الطائفة في العاصمة اللبنانيَّة التي أخذت أهمَّيّتها تزداد وتزداد، بعد أن كانت في القرن السادس عشر وما بعده أصغر من طرابلس فقط، وأقلّ أهمّيَّة من صيدا. مضى المطران إلى رومة ونقل »بازيليكا القدّيسة مريم العظمى«. واستعان بخبير إيطاليّ اسمه يوسف ماجيوري، شرع في البناء سنة 1884، وانتهى سنة 1894، فتمّ التدشين في أحد الشعانين من تلك السنة. وسيكون لهذه الكاتدرائيَّة تدشين آخر بعد ويلات الحرب التي عرفها لبنان قرابة خمس عشرة سنة (1975-1990).
ونقرأ ما كتبه سيادته عن تأسيس مدرسة الحكمة، وبعد »تعداد المدارس التي أنشأها الموارنة في هذا القرن« (أي القرن التاسع عشر بدءًا بمدرسة عين ورقة). قال:
»كلُّ ما مرَّ ذكره من مدارس أنشئ لتهذيب الإكليريكيّين وتعليمهم، ولم يكن في طائفتنا مدرسة لتعليم الشبّان العالميّين. ولمّا دعاني إليه بوافر سخائه، لا باستحقاقي، إلى أسقفيَّة بيروت، كان أوَّل اهتمامي إنشاء هذه المدرسة للعالميّين. وأشرتُ إلى ذلك في أوَّلِ خطبة ألقيتُها في هذه المدينة. وأخذتُ أستعدُّ لذلك وأبحث عن محلٍّ يوافق هذا الغرض، فشريت عدَّة قطع من الأرض في المحلَّة المعروفة بالغابة سنة 1874. وابتدأت في البناء السنة المذكورة بنوع أنّني أنجزتُ سنة 1875 قسمًا كبيرًا منه وأدخلت الطلبة إليه في أوَّل ت2 من هذه السنة. وواصلت السعي في تكملة هذه المدرسة فوهبني ا؟ التوفيق، فكان أكثر البناء القائم الآن مع الكنيسة كاملاً في آخر سنة 1878«. ولمّا تذكَّرت أبرشيَّة بيروت هذه المدرسة العريقة بعد مئة وخمس وعشرين سنة على التأسيس، سنة 1999، كانت الحكمة »حكمات« فتوزَّعت مدارس الحكمة في العاصمة وفي الجوار.
وأورد هنا ما قيل في الكتاب الذهبيّ لمدرسة الحكمة (1876-1926) بفم الشيخ أمين تقيّ الدين إلى مدرسة تعلَّم فيها:
بـنـوكِ فُــديـت يا أمَّ الـبـنين هم أهل الوفا لو تعلمينا
... ذرينا والخطوب فقد أتينا لعيدك رغم ذاك مهنّئينا
أبــوكِ أجـلَّــه التــاريخ ذكـرًا وأكبر فيه فضلَ الوالدينا
بـنـى الأخـلاقَ في لبـنان لمّا بناك فكان خير المصلحينا
وبعد مدرسة الحكمة، كانت الجامعة. حيث قال: وإنّنا نرغب خاصَّة في فتح مدرسة للحقوق، لأنَّ هذا العلم مُهمَل حتّى الآن في بلادنا. ورغبتنا أن نعلِّم في هذه المدرسة ليس فقط القانون العثمانيّ، بل مختلف القوانين الأوروبّيَّة أيضًا...«. لم يوفَّق المطران الدبس إلى فتح معهد الطبّ، بل أحيا مدرسة الفقه البيروتيَّة. وجاء اليوم من يواصل المسيرة في جامعة تنوَّعت فروعها ولا تزال.
المدرسة، الجامعة، المطبعة. عرف المطران أهمَّيَّة الطباعة، فكانت المطبعة العموميَّة الكاثوليكيَّة التي طبعت كتبه، كما جدَّدت طباعة الكتب الطقسيَّة حيث عمل الدبس على تهذيب عبارتها، فصول من رسائل القدّيس بولس، بالحرف الكرشونيّ سنة 1886، ثمَّ سنة 1897، وطبعة ثالثة سنة 1901 ثمَّ كتاب القربان أو القدّاس سنة 1888. وأعدَّت الطبعة الثالثة فظهرت بعد وفاة الدبس بسنة، أي سنة 1908. والنافور اليوميّ. وكتاب خدمة القدّاس الإلهيّ، وكتاب صلاة الفرض المعروف بالشحيم. كلُّ هذه الكتب لبثت حاضرة في الكنيسة المارونيَّة حتّى الإصلاح الليتورجيّ الأخير.
3 - صانع التاريخ في بناء البشر
هذا الذي فتح مدرسة »وطنيَّة« تجاه المدارس الأجنبيَّة، وبدأ بجامعة، ولولا الصعوبات لقابلت سائر الجامعات، بل كان فيها فرع لتدريس »الحقوق لم يكن يُوجَد غيره في جميع الأقطار العثمانيَّة ما خلا مدرسة الحقوق في الآستانة. وأسَّس ندوة علميَّة، وكان باحثًا يقف تجاه الباحثين الآتين من الغرب، أنريده مطمئنٌّا في عمله؟ ما جاءه المرض من كثرة الإجهاد »إثر احتقان في الدماغ« بل بسبب الوشايات التي أصابته في الصميم فما استطاع أن يسافر ساعة وجب السفر، بل انتظر أربعة أشهر ومضى إلى رومة وإسطنبول.
وتبارى الشعراء في استقبال المطران العائد. حسين أبو خزعل:
اركبْ، الهنا آتٍ أمِ الدهرُ باسم أم الأرض قد طافت عليها المغانم
والأمير شكيب إرسلان:
ولقيــا كما لاقـــــى الحبُّ حبيبه وقـد كان بالأرجاف أيأسه الهجرُ
والشيخ يوسف الأسير:
لـمـلَّة مـارون افـتـخــار بــمـثْلِــه فقد حاز أوصافًا بها قد علا قدْرا
أجل، يستحقُّ كلَّ مديح ذاك الذي كتب إليه محبُّوه: »تهنئات لمعالي ذي السيادة والفضل العلاّمة الشهير المطران يوسف الدبس احتفاء بيوبيله الفضّيّ«. من نجباء تلامذة الصفوف العربيَّة في مدرسة الحكمة 19 آذار 1897
خمس وعشرون سنة أسقفًا. اهتمَّ بالحجر وما نسي البشر. فبعد المدرسة والجامعة، أسَّس ندوة دعاها »الدائرة العلميَّة المارونيَّة«. ضمَّت نخبة من الأساتذة وغيرهم. غايتها: نشر العلوم والمعارف باللغة العربيَّة، بوجه التركيَّة أوَّلاً التي بدأت بعض البيوت البيروتيَّة تدرسها لألف سبب وسبب. وبوجه الفرنسيَّة وربَّما الإنكليزيَّة، بحيث يكون للعالم العربيّ لاهوته وفلسفته وسائر العلوم، وذلك تماشيًا مع نهضة أدبيَّة امتدَّت في القرن التاسع عشر بين لبنان ومصر وصولاً إلى المهاجر الأميركيَّة.
وعلى المستوى الدينيّ، كان المطران الواعظ والمرشد وكانت الرسائل الرعائيَّة. كان بنفسه يعظ في الرعايا، ويرشد الكهنة، وتأتي الرسائل الرعائيَّة تفنيدًا للتعاليم المضلَّة والتيّارات الجارفة التي بدأت تدخل إلى بيروت تلك المدينة التي كانت مفتوحة ولا تزال. ومن أجل هؤلاء الكهنة كتب تحفة الجيل في تفسير الأناجيل الذي استقاه من علماء الغرب وأغناه بما يعرف من اللغة السريانيَّة والكتاب المقدَّس فيها. وترك المواعظ والخطب والردود، ومنها ما يتعلَّق بالإفخارستيّا: إثبات وجود جسد المخلِّص ودمه حقيقة في سرِّ الإفخارستيّا.
وإذ لا نستطيع الاستفاضة أكثر، نودُّ أن نذكر محطَّتين كبيرتين في بناء الطائفة تجاه سائر الطوائف المسيحيَّة من جهة، وفي تجذير المارونيَّة بإزاء سائر الطوائف التي يتكوَّن منها لبنان.
أ - ثبوت الموارنة في العقيدة الكاثوليكيَّة
سنة 1900، كتب المطران في الفرنسيَّة، ثمَّ في العربيَّة: الحجَّة القاطعة الجليَّة على من ينكر ثبوت الموارنة في العقيدة الكاثوليكيَّة. رفعها إلى مجمع العاديّات في رومة s archéologique de RomeèCongr سيادة المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت.
هذا الكتيِّب (93 صفحة) يختصر ردٌّا على الخوري يوسف داود من الطائفة السريانيَّة الكاثوليكيَّة. عنوانه: روح الردود في تفنيد زعم الخوري يوسف داود. ما هو الموضوع؟ منذ غليوم الصوريّ، الأسقف اللاتينيّ على صور في زمن الصليبيبّين، رأى بعض المسيحيّين أنَّ الشرقيّين كلَّهم دخلوا في الهرطقات. والموارنة الذين دعاهم أحد البابوات »وردة بين الأشواك«، لم يشذُّوا عن القاعدة. إن هم لبثوا خلقيدونيّين، أي ارتبطوا بالمجمع المسكونيّ الرابع الذي انعقد في مدينة خلقيدونية، سنة 451، وإن هم جاهروا بالعقيدة التي تعلن: »المسيح الواحد، ابن، ربّ، وحيد، معروف في طبيعتين، بلا اختلاط ولا تحوُّل، بلا انقسام ولا انفصال، دون إلغاء لاختلاف الطبيعتين بسبب الاتِّحاد، بل بالحريّ مع احتفاظ كلِّ طبيعة متلاقيتين في شخص واحد...«، فقد وقعوا في هرطقة دُعيت المونوتيليَّة التي تقول: في المسيح مشيئة واحدة، لا مشيئتان. إن قلنا مشيئة واحدة، ربطناها بالأقنوم الواحد، أقنوم الابن في قلب الثالوث الأقدس. وإن قلنا مشيئتين، ربطنا المشيئة بالطبيعة، وفي المسيح طبيعتان.
أوَّل ردٍّ طُبع سنة 1871 (8+352 صفحة) وكان يوسف الدبس بعدُ كاهنًا. ولكن أعاد الخوري يوسف داود الهجوم في »جامع الحجج الراهنة في إبطال دعوى الموارنة« الذي جاء في 544 صفحة. فردَّ الدبس في كتابه الردّ على الحجَّة المسمّاة راهنة وهي واهنة. وكان الجدل شديدًا إلى أن تدخَّلت رومة فدوَّن المطران داود صكَّ اعتذار: »نحن المدوَّن اسمُنا أدناه يوسف داود الكاهن السريانيّ الموصليّ.. نطلب حبٌّا بسيِّدنا يسوع المسيح ورعاية لإرادة مجمع نشر الإيمان المقدَّس المسالمة والغفران بكلِّ خلوص وتواضع من غبطة السيِّد بطريرك أنطاكية وجميع مطارنة هذه الطائفة الشريفة وأساقفتها الكليّ الاحترام وبنوع أخصّ من سيادة المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت عن كلِّ ما نشرناه أخيرًا في الموصل أو غيرها«.
وكتب الأب ميشال الحايك: »وتصافى الرجلان على المحبَّة وعاشا في إخاء مستديم«. ولكن يبقى السؤال: لماذا هذا الجدل، وكيف يمكن أن يتمَّ بعد ثلاثة عشر قرنًا من الزمن؟ هنا نتذكَّر أنَّ المونوتيليَّة أو ما دُعيَ أصحاب المشيئة الواحدة، كانت قضيَّة معقَّدة، فيها من الفلسفة أكثر من اللاهوت. يكفي أن نذكر صلاة يسوع في بستان الزيتون: لا مشيئتي بل مشيئتك. إذا كانت المشيئة واحدة في قلب الثالوث، فهذا يعني أنَّ مشيئة الابن هي مشيئة الآب والروح القدس. وحين يقول يسوع »مشيئتي« أنا مع ضمير المتكلِّم، فهو يعني مشيئته البشريَّة، أمّا تحاشي التشديد على المشيئة الواحدة حتّى لدى البابا هونوريوس، فلإبعاد يسوع عن كلِّ »نيَّة« بشريَّة يمكن أن تحسَب خطيئة في خطِّ ما قاله الربُّ لليهود: من يقدر أن يبكِّتني على خطيئة. وقال بولس الرسول: شابهَنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة.
وحصل هنا ما سبق وحصل بالنسبة إلى أصحاب من دعاهم »الملكيّون« أصحاب الطبيعة الواحدة، أو المونوفيسيّين. قالوا فيهم: إنَّ الطبيعة الإلهيَّة ابتلعت الطبيعة البشريَّة فألغتها. ولكنَّ هذا الكلام ليس بصحيح. أمّا الخلاف فكان على ترجمة الألفاظ بين اليونانيَّة والسريانيَّة. وهكذا عاشت المسيحيَّة الشرقيَّة مئات السنين على كلمات ملتبسة وانتظرت القرن العشرين لتعرف أنَّها توقَّفت عند الحرف، ونسيَت أنَّ الحرف يقتل، على ما قال الرسول.
ولماذا حماسة الدبس في هذا المجال؟ لكي ينبِّه الرعيَّة إلى جذورها الكنسيَّة بحيث لا تمضي إلى هنا وهناك. تطلب الحقيقة لدى هذه البدعة، والتعليم لدى ذاك المذهب، فتصبح مثل حمامة طائشة، كما قال هوشع النبيّ. نحن منذ القديم مرتبطون بالكنيسة الجامعة، لا بفئة من الفئات مهما كان وزنها السياسيّ أو الماليّ أو الدينيّ كما تعتبره. وفي سبيل هذه الكنيسة، تحمَّل الموارنة ما تحمَّلوا بعد مجمع خلقيدونية: هم خلقيدونيّون. إذًا هم »ملكيّون« ولكنَّ لغتهم السريانيَّة، لا اليونانيَّة، لهذا رفضهم أبناء »اللغة اليونانيَّة«. ومن جهة ثانية، رفضهم أهل اللغة السريانيَّة لأنَّهم ليسوا »من حزبهم«. لهذا، اتَّخذوا لهم اسمًا خاصٌّا تيمُّنًا بناسك استقوا روحانيَّته، وأتوا إلى لبنان قبل أن يؤسِّسوا الأديرة هنا وهناك، ولا سيَّما على العاصي.
ب - أصول الموارنة في الأرض اللبنانيَّة
اعتبر بعض الأساتذة أنَّ ما كتبه المطران يوسف الدبس، انطلق من إيديولوجيَّة جعلته يشوِّه الحقائق، إن لم يشدَّها إلى صدره لكي تصل إلى حيث يريدها أن تصل. بل اعتبروا أنَّه لم يرجع إلى الأصول، بل أخذ من هنا وهناك. أيُّ خير أن يستقي الكاتب من الذين سبقوه؟ سواء كانوا ابن القلاعيّ أو مرهج بن نمرون أو البطريرك الدويهيّ، أو السماعنة. ولكن يشهد له الأب الحايك فيقول: »خطا خطوة جدِّيَّة بالنسبة إلى من سبقه من مؤرِّخي الموارنة«. لا شكَّ في أنَّه تسلَّم (منهم) الموادَّ التي جمعوها من مصادرها الغربيَّة والشرقيَّة. إنَّما الجديد عنده بالنسبة إليهم، فهو في تكوُّن تاريخ متَّصل الحلقات، منظَّم السياق، موحَّد الموادّ«. وقال الأب حايك عن الدويهيّ: »جمع الحجارة الكريمة من مقالعها، ولكنَّها بقيت مبعثرة في تاريخ الأزمنة للبطريرك العظيم، حتّى كان الدبس فحاول نحتَها وقصبَها ورفع البناء«. وأنهى الأب حايك كلامه: »فتاريخه (= الدبس)، على رغم ما أُلِّف بعده، لا يزال يحتلُّ مرتبة فريدة، من حيث هو، حتّى الآن، خير مدخل إلى تاريخ الموارنة العامّ«.
لن نتوقَّف عند الجامع المفصَّل الذي جمع فيه المطران الدبس كلَّ ما يتعلَّق بالموارنة في موسوعته: تاريخ سوريا، بل نودُّ أن نبيِّن اندفاع المطران لكي يركِّز الموارنة في التاريخ. بعد التاريخ الدينيّ الذي تحدَّثنا عنه بالنسبة إلى المونوتيليَّة، ها هو التاريخ المدنيّ. فالكيان اللبنانيّ بدأ يتجمَّع. فأين موقع الموارنة فيه؟ وهل أتوا إليه في القرن العاشر أو بعد ذلك الوقت؟ كلا. بل هم منذ القرن السابع وربَّما القرن السادس. وهنا كان الجدال الكبير حول علاقة الموارنة بمن دُعوا »المردة«. مع أنَّ اللفظ اليونانيّ الأصليّ لم يُعرَف بعد معناه. واللفظ السريانيّ جاء في ثلاثة أشكال وآخرها »م ر و د ا« أي المتمرِّدون لا شكَّ على السلطة البيزنطيَّة، كما على الأمويّين الذين أخذوا يسيطرون شيئًا فشيئًا على سورية ولبنان... فدعا مؤرِّخوهم هؤلاء »المردة« »قطّاع طرق ولصوصًا«.
لا مجال لمناقشة هذه الأمور التي جعلت الرادِّين الموارنة على المطران الدبس يتخوَّفون من إيديولوجيَّة لكي يقعوا في غيرها. فلو دُعيَ »المردة« بهذه الألقاب المشينة، هل يمنع أنَّهم كانوا في لبنان في القرن السابع، يوم كان الموارنة؟ خدعهم البيزنطيّون ورحَّلوا منهم العدد الكبير، ولكن أتُرى لم يبق منهم أحد؟ وأما كانت لهم علاقة مع الذين أقاموا في البلاد وتحدَّث عنهم المؤرِّخون بمناسبة وصول الناسك إبراهيم باسم مار سمعان العموديّ؟
هنا وقف المطران الدبس تجاه الأب لامنس اليسوعيّ. فهذا الأب العالم درس النصوص وما أراد أن يتَّخذ موقفًا. أمّا الدبس فكتب في مجلَّة المشرق (السنة الخامسة، 1902، ص 914-923) مبيِّنًا العلاقة بين المردة والموارنة، ومقدِّمًا ثمانية أدلَّة. وينهي المطران كلامه فيقول:
»لعمر الحقّ إنِّ هذه بيِّنة لا تُردّ أنَّ المردة لم يكونوا جنودًا لأحد ملوك الروم، ولا جالية أحلّوها في لبنان ثمَّ أخرجوها منه بعد مدَّة وجيزة. ومن المعلوم أنَّ أولئك الجنود وتلك الجالية لم يكونوا إلاّ من مملكتهم، فعند عودهم إليها، ينضمّون إليها ولا يبقون منفصلين قرونًا. وقد بسطنا هذين البرهانين آنفًا ولم نكرِّر ذكرهما إلاّ على سبيل الاستخلاص لردِّنا الذي نختمه بقولنا: إذا كانت هذه أدلَّتنا التي نعتبرها قاطعة ويعتبرها كذلك كلُّ منصف، وكان هذا اختلاف من الأقوال عند من يُنكر علينا ذلك، فيحقُّ لنا أن نتشبَّث برأينا هذا إلى أن تُردَّ أدلَّتُنا هذه جميعها. ويُورَد علينا أدلَّة أخرى قاطعة تُثبت زعم خصومنا. وعلى الأقلّ إلى أن يتَّفقوا برأي واحد على أصل هؤلاء المردة«.
قرَّب الدبس الموارنة من المردة، ولكنَّه رفض التماهي بين الجراجمة (الذين أتوا من جرجومة في جبل اللكام، في تركيّا الحاليَّة) والمردة. خاطب الأب لامنس على صفحات المشرق (السنة السادسة، 1903، ص 404-413):
»قلتَ (أيُّها الأب) بعد ذلك: »من يقابل بين هذه الروايات الشتّى، يأخذه الانذهال لما يجد بين أخبار الجراجمة والمردة من التشابه«. وقضيتَ أخيرًا استنادًا إلى هذا التشابه، بأنَّ الجراجمة هم المردة. وأنَّك »تطابق بينهما«. فالتشابهُ وحده وإن عظُم، لا يجعل اثنين واحدًا. وإلاّ فيحلُّ مثلُ هذا الكلام إلى ما يُبنى عليه من القياس، فيكون كلُّ اثنين تشابَها، كان أحدُهما الآخر. والحال أنَّ الجراجمة يُشبهون المردة، فإذًا الجراحمة هم المردة. أفيصحُّ هذا القياس؟«
ويورد المطران الدبس مراجع الأب لامنس ويفنِّدها. عندئذٍ يقول الأب اليسوعيّ في حاشية، في ذيل المقال: »إنَّنا قلنا في مقالتنا الأولى عن المردة »أنَّ المردة من الموارنة« وإنَّما اكتفينا بذكر آراء العلماء في هذا الشأن، تاركين للقرّاء أن يختاروا ما يرونه أقرب إلى الحقّ« (المشرق، السنة الخامسة، 1902، ص 828). ولكنَّ الأب لامنس عبَّر عن رأيه بأنَّ اسم المردة والجراجمة أطلق على أمَّة واحدة، أو بالحريّ أنَّ الجراجمة كانوا أقرب فرق المردة إلى الشامّ.
قيل الكثير عن معالجة المطران الدبس للتاريخ. امتلاكه اللغات الأجنبيَّة أتاحت له الوصول إلى المراجع والمصادر. وروح النقد التي تحلّى بها القرن التاسع عشر مارسها الدبس في أكثر من مناسبة. وأخيرًا، ذاك المتواضع يعرف حدوده مثلاً إزاء السمعانيّ، وهو الذي لم يخرج من لبنان من أجل الدراسة، بل كان يكتفي بزيارات قصيرة إلى المكتبات حين يكون في أوروبّا. ولكن أخذوا عليه حماسه في الدفاع عن الطائفة في سيرتها العقائديَّة وفي أصولها التاريخيَّة. كما أخذوا عليه روح التسلُّط. وكأنَّه يريد أن يفرض رأيه انطلاقًا من مركزه. كلُّ هذا يزول أمام ما قاله الدكتور جوزف لبكي (مؤرِّخون أعلام من لبنان، بيروت 1997، كما ورد في مجلَّة الحكمة): »ومهما تكن قيمة الدبس السياسيَّة ووزنه العلميّ، فلا يُنكَر أنَّه من آخر المصلحين الكبار الذين عرفتهم المارونيَّة في القرن التاسع عشر، ومن الذين عرفوا حقيقة رسالتها وأصالة شهادتها. فهو متجذِّر في تراث أمَّته، ومن أنشطهم علمًا وعملاً ونظرًا عقليٌّا«.
الخاتمة
تلك لوحة تصوِّر جوانب من حياة هذا الكبير، المطران يوسف الدبس. نذكره في المئويَّة الأولى لوفاته، لكي نسير في خطاه وفي خطى الكبار من الطائفة المارونيَّة، مع الدويهيّ وفرحات وقرألي والتولاويّ والسمعانيّ والحويِّك وغيرهم وغيرهم. هو لم يمرَّ مرور الكرام دون أن يترك أثرًا بعده، بل طبع التاريخ المارونيّ في أبرشيَّة بيروت بطابعه الخاصّ. أقبل الموارنة على العلم ونزلوا إلى بيروت، فحثَّهم على ذلك وفتح المدرسة والجامعة والندوات والأخويّات... كانوا أبناء قرى، فتعرَّضوا لمبادئ متضاربة. فنزل المطران إلى المعترك، وما اكتفى بالمحافظة على إيمان الأجداد، بل نظر إلى الأمام. فلماذا يخسر المؤمن إيمانه حين ينزل من الجبل إلى المدينة؟ وتحدَّثنا بشكل خاصّ عن عمله الدفاعيّ، بل الهجوميّ، سواء على مستوى ثبوت الطائفة المارونيَّة في الإيمان الكاثوليكيّ، أو تجذّرها في تاريخ لبنان »وحيلتنا مع بعض الموارنة الذين يطلقون الأحكام وأنّهم يدرون إلى أين تصل أحكامهم في التهجُّم على المقامات! قال أحدهم: »على كثرة تأليفه (= الدبس) لم يقُم بخدمة كبيرة لتاريخ الموارنة«. فجاء جواب الأب ميشال حايك، وبه ننهي مقالنا: »فالدبس لم يكن خادمًا أمينًا لتاريخ أمَّته أو كاتبًا لتاريخها فحسب، بل كان من أكبر صانعي هذا التاريخ من حيث هو فعل الأحداث، لا مجرَّد حديث عن الأحداث«. فالمطران الدبس وأمثاله، آثارهم تشهد لهم.