الفصل 8: المردة والجراجمة

المردة والجراجمة في حوار بين المطران يوسف الدبس والأب هنري لامنس اليسوعيّ

عالمان كبيران تحاورا في بداية القرن العشرين، مع احترام الواحد لرأي الآخر، بما في الرأيين من الاختلاف. الأوَّل هو المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت الذي توفّي سنة 1907، وها نحن في المئويَّة الأولى لوفاته. والثاني هو الأب اليسوعيّ هنري لامنس (1862-1937). ذاك المتخصِّص الكبير في الدروس الشرقيَّة العربيَّة. أمّا الموضوع فهو كلام عن المردة والجراجمة. هل هما شعبان أم شعب واحد؟ وما مدى ارتباطهما بالموارنة في زمن تأسيسهم كطائفة ثمَّ كأمَّة؟ أمّا الأب لامنس فلبث على المستوى العلميّ الصرف. والمطران الدبس استند إلى الرباط الحميم الذي يُدرج الحقبة المردويَّة في الهويَّة المارونيَّة. نبدأ فنتعرَّف إلى هذين العملاقين في العلم. ثمَّ نتحدَّث عن المردة والجراجمة. وننهي كلامنا بالحوار الذي تمَّ بين الدبس ولامنس في هذا المجال.

1 - الأسقف والأب

أ - يوسف الدبس

هو يوسف الياس حنّا الدبس1. عاش جدُّه في غزير (كسران) قبل أن يهاجر في نهاية القرن الثامن عشر إلى رأس كيفا (لبنان الشماليّ). تزوَّج والده إلياس بروجينا عطيّه، ووُلد يوسف في 8 تشرين الأوَّل 1833. انتقلت الأسرة إلى كفرزينا (لبنان الشماليّ)، وفي تلك القرية الوادعة تربّى يوسف وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة بالسريانيَّة والعربيَّة. في 25 شباط 1867، أرسله المطران بولس موسى كسّاب، رئيس أساقفة طرابلس، إلى مدرسة عين ورقة بعد أن توسَّم فيه كلَّ خير. هناك أضاف يوسف الدبس إلى اللغتين العربيَّة والسريانيَّة، اللغتين الإيطاليَّة واللاتينيَّة اللتين كانتا تُعطَيان فقط للطلاب المتفوِّقين. ولكنَّه اضُطرَّ مع رفاقه لهجر المعهد في نهاية العام الدراسيّ 1850، لأسباب داخليَّة.

أقام يوسف في طرابلس سنتين (1851-1852) يعلِّم فيهما اللغة العربيَّة. كما أنَّه ما تخلّى عن اللاتينيَّة، فتعلَّم بها الفلسفة على يد الخوري يوسف السمعانيّ، واللاهوت على يد أحد الآباء الكرمليّين. وما بلغ العشرين من عمره حتّى ترجم كتابًا للقدّيس ألفونس ليغوري عنوانه: تاريخ الهرطقات مع دحضها2. مع هذا المؤلَّف المترجَم تبدأ حياته العلميَّة ولن تنتهي إلاّ بوفاته.

ما إن رسم كاهنًا في 15 حزيران 1855 حتّى تسلَّم مهمَّة التعليم (1855-1860) في مدرسة مار يوحنّا مارون في كفرحي. يُقيم في الشتاء داخل جدران المدرسة يترجم ويعلِّم الفلسفة واللاهوت، وفي العطلة الصيفيَّة في الديمان عند البطريرك. سنة 1860، دخل في أمانة سرِّ البطريركيَّة، ولبث في هذا الموقع اثني عشر عامًا (1860-1872) إلى أن صار أسقف بيروت. قال عن نفسه: »كنتُ فيها كاتبه وأمين أسراره وملازمًا له في أشغاله«3 ومعرِّفًا له.

أتراه توقَّف في تلك الفترة عن البحث والتنقيب والكتابة؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. أوَّلاً، تعلَّم الفرنسيَّة من دون معلِّم بحيث أخذ يجيدها، كما عمل على مستوى الشعر والنحو والخطّ4. في القانون، ترجم كتاب الرسوم القانونيَّة5. وانطلق الدبس من أشهر المفسِّرين الغربيّين فقدَّم تحفة الجيل في ترجمة الأناجيل6. كتاب ضخم يقع في أكثر من ألف صفحة. قال عنه الكاتب: »كان النجاز من تبييضه يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من نيسان سنة 1869 في بكركي«7. ما يلفت النظر، هو مقدِّمة من ثلاثين صفحة تبحث في الترجمة السريانيَّة والعربيَّة للأسفار المقدَّسة، وفهرسٌ للمواد المتضمِّنة في الكتاب تسهيلاً للواعظين. أمّا البداية، فجاءت كما يلي:

»نحمدك يا من جعلت الإنجيل نورًا لبصاير (لبصائر) المؤمنين، وركنًا قويٌّا للدين، وللعالمين هدي مبين. أمّا بعد فيقول العبد المفتقر إلى عفو ربِّه الخوري يوسف إلياس الدبس المارونيّ اللبنانيّ إنَّه لمّا كانت تفاسير البشاير (البشائر) الإنجيليَّة الشريفة من أجلِّ الكتب قدرًا، وأولاها فخرًا، وأعظمها نفعًا، وأضرِّها شرعًا، ومع هذا كانت في العربيَّة نادرة الوجود، ويضطرّ في اقتنايها (اقتنائها) إلى مبالغ من النقود...«

نلاحظ منذ البداية القصد الرعائيّ عند المطران الدبس. فهو لا يطلب العلم من أجل العلم، بل من أجل تثقيف الكهنة وأبناء الشعب. ذكر من سبقه: كورنيليوس الحجريّ، الخوري يوسف البانيّ، المطران جرمانوس فرحات... وأراد أن يسير في خطاهم. كما نودُّ القول منذ البداية، لم يكن المطران الدبس ذاك الذي مرَّ في المدارس الكبرى في باريس ورومه وغيرهما من عواصم العالم. فهذا الذي أتقن اللاتينيَّة والإيطاليَّة وألمَّ بالفرنسيَّة، بالإضافة إلى العربيَّة والسريانيَّة، درس، طالع، بحث، فكان نتاجُه ثمرة جهد شخصيّ منذ مطلع حياته.

وحين صار الخوري يوسف أسقف بيروت، بل رئيس أساقفتها، لبث ذاك الكاهن في »رعيَّته« التي هي أبرشيَّة بيروت الواسعة بالنسبة إلى سائر الأبرشيّات المارونيَّة، والباحث الذي لا يكلّ ولا يملّ. وإذ أراد إيصال العمل، كان له منبرٌ يتحدَّث عنه، ومطبعة هي المطبعة العموميَّة التي صارت سنة 1908، المطبعة العموميَّة المارونيَّة. والجريدة هي النجاح التي كانت أوَّل جريدة يوميَّة تظهر في المشرق8 ثمَّ المصباح. ونذكر هنا ما قاله الأستاذ بطرس البستانيّ في دائرة المعارف (7: 624):

»أسَّس المطبعة العموميَّة سنة 1866 بالاتِّفاق مع الخواجة رزق ا؟ خضرا، وطبع فيها كتبه... ثمَّ كتبًا أخرى ذات بال... وقد صرف كمال الجهد والاجتهاد في تيسير اقتناء هذه الكتب حتّى أصبحت منتشرة عند أبناء اللغة العربيَّة. وأنشأ في هذه المطبعة جريدة النجاح، ثمَّ خلفتها جريدة المصباح، ميسِّرًا الاشتراك بها بأقوى المساعدات، ومهتمٌّا بإيداعها فصولاً ومقالات علميَّة مفيدة. حتّى يسوغ القول إنَّ له قسمًا كبيرًا من السعي والحركة في التقدُّم العلميّ بواسطة ترجماته وتأليفاته بهذه المطبعة والجريدتين المذكورتين، ولا سيَّما مدرسة الحكمة التي شيَّدها«.

ومع مدرسة الحكمة، كانت جامعة الحكمة »أحيا فيها مدرسة الفقه البيروتيَّة« »وجمع نخبة من الأساتذة... وضمَّهم... في دائرة أنشأها عام 1881 تحت اسم الدائرة العلميَّة المارونيَّة9.

وإذ لا مجال للتوسُّع في أعمال المطران الدبس وليس أقلَّها بناء كاتدرائيَّة مار جرجس المارونيَّة في وسط العاصمة بيروت، وإذ لا مجال لذكر كلِّ ما كتبه وطبعه ونقَّحه من كتب طقسيَّة وليتورجيَّة، وإذ لا مجال لذكر الاتِّهامات التي لحقت به فوصلت به الأمور إلى رومه، نتوقَّف عند ذاك الذي دُعيَ »كاتب التاريخ«. أمّا موسوعته المشهورة فهي تاريخ سوريا. ظهر المجلَّد الأوَّل سنة 1893، والثامن والأخير سنة 1905. ثمَّ اختصر هذه الموسوعة في جزئين دعاهما الموجز في تاريخ سوريا10. وفي مرحلة ثالثة، اختار من هذا الموجز، الفصولَ المتعلِّقة بتاريخ الطائفة المارونيَّة في كتاب سمّاه: الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصَّل11.

عنوان الموسوعة: تاريخ سوريا منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. هكذا اعتاد الأقدمون أن يفعلوا، ومثلهم فعل المطران الدبس، بالرغم من تقدُّمه في السنّ والوهن في جسمه. وأخبر عنه أنَّه كان »يربط جفنيه بملاقط يمنعهما من الإغماض بعدما أصابهما الارتخاء«. وهكذا جمع المطران الدبس الماضي والحاضر من التاريخ الدنيويّ والدينيّ لكلِّ المدنيّات التي تعاقبت على المشرق منذ بدء معالم الزمن. وقسم كتابه الكبير إلى أربعة أجزاء بثمانية مجلَّدات: المجلَّد الأوَّل: في شعوب سوريا القديمة من بابليّين وحثّيّين وأشوريّين وفينيقيّين (طُبع سنة 1893 في 423 صفحة). المجلَّد الثاني: في العبرانيّين (1895، 687 صفحة). المجلَّد الثالث: ملحق في أنبياء التوراة، وفي سوريا على عهد الإسكندر وخلفائه، وفي زمن الرومان، وفي أجيال المسيحيّة الأولى حتّى القرن الثاني (1898، 680 صفحة). المجلَّد الرابع: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ حتّى القرن السابع (1899، 595 صفحة). المجلَّد الخامس: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ مع مشاهير رجالها تحت الحكم الإسلاميّ حتّى القرن الحادي عشر (1900، 581 صفحة). المجلَّد السادس: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ مع مشاهير رجالها منذ قدوم الإفرنج حتّى الفتح العثمانيّ (1902، 663 صفحة). المجلَّد السابع: في تاريخ سوريا أيّام السلاطين العثمانيّين مع مشاهير رجالها حتّى القرن الثامن عشر (1904، 504 صفحات). والمجلَّد الثامن: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ من القرن الثامن عشر إلى الزمن الحاضر12.

ذكر الدبس مراجعه وأهمُّها قاموس البيبليا الذي بدأ بالظهور سنة 1895 بهمَّة الأب فيكورو13. كما ذكر مؤلِّفين عديدين استقى من عندهم معلوماته. فبالإضافة إلى صاحب قاموس البيبليا الذي كتب الكثير أيضًا14، نذكر ده كارا15 وفرنسوا لانرمان16. تلك كتب سعى إلى اقتنائها. كما كان يستفيد من أسفاره للاطِّلاع على الوثائق المحفوظة في المكتبات الأوروبّيَّة.

ماذا قيل عن كتابة المطران الدبس للتاريخ؟ بداية نورد حكم الأب ميشال حايك في مقدِّمته إلى الجامع المفصَّل: »لقد صحّ أنَّ الضعف يعتري أقسامًا معيَّنة من كتاباته بسبب الضعف العلميّ نفسه الذي يميِّز عصره بالنسبة إلى عصرنا. فاليوم، وقد فُرض على البحّاثة الدقَّة في ضبط النصوص ومقارنتها بغيرها، وإعمال الشكِّ في مضامينها، وقراءتها في إطارها البيئويّ والزمنيّ، نشعر أيضًا بضعف المنهجيَّة التي اتَّبعها، وبضرورة إعادة النظر في عدد من استنتاجاته التي تبدو متسرِّعة. ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ هذا العيب المنهجيّ واقع على مجمل علماء عصره في الغرب نفسه« (ص. ل) وأضاف الأب حايك ممتدحًا ذاك الذي »حاول أن ينهض بالشرق المتخلِّف على المستوى الفكريّ«. وأنهى كلامه: قد لا يُثبت العلمُ اليوم »صحَّة مواقفه« في كلِّ جدالاته، ولكنَّ هذه المواقف »في بعض جوانبها« كانت أقرب إلى الصحَّة من مواقف مناظريه.

وكان حكم أقسى مع سليم خطّار الدحداح. فكتب في مجلَّة المشرق، 31(1900) ص 196: »إنَّ الدبس على كثرة تآليفه لم يَقُم بخدمة كبيرة لتاريخ الموارنة«. نقابل هذا الحكم مع حكم صاحب دائرة المعارف: »ومَن طالعَ تأليفاته وأمعن النظر في خطبه يرى أنَّه تحرَّى فيها مجرَّد الإفادة...«. أمّا الأب هنري لامنس فدوَّن في إطار المراجع لكتابه: سوريا، موجز تاريخيّ حُكمَه على تاريخ سوريا فقال: »إنَّ مجموعة الوثائق التي ضُمَّت في تقميش المطران الدبس، تاريخ سوريا، 8 مجلَّدات، سنة 1891، إلخ، لم تخضع لنقدٍ كافٍ في القساوة«17.

سنة 1999، قدَّمت مجلَّة الحكمة عددًا خاصٌّا18 بمناسبة »اليوبيل الخامس والعشرين بعد المئة لقيام أعمدة »الحكمة« على يد المثلَّث الرحمة المطران يوسف الدبس«19. وكانت نظرات تاريخيَّة إلى ما تركه من أبحاث20. نورد أوَّلا كلامًا للدكتور أنطوان قسّيس21:

»لم يكن المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة أبرشيَّة بيروت (1872-1907) لاهوتيٌّا ومفكِّرًا ومؤرِّخًا وحسب، إنَّما كان صاحب مدرسة تاريخيَّة قلَّما عرفها زمانه أو من عاصره ممَّن كتب باللغة العربيَّة. ولعلَّ »تاريخ سورية« والمنهجيَّة التي اتَّبعها في عرض المعلومات التاريخيَّة والأثريَّة المتوفِّرة في زمانه، هما أصدق دليل على فرادة الدبس في رسم خطٍّ فكريّ تاريخيّ نهجيّ باللغة العربيَّة لم يضاهِه أحد حتّى الذين عابوا عليه منهجيَّته التاريخيَّة«22.

ب - هنري لامنس

كان الخوري يوسف الدبس من الشرق، أمّا الأب هنري لامنس فمن الغرب. من مدينة غاند في بلجيكا. ما خرج الأسقف المارونيّ من لبنان لإكمال دراساته، أمّا الكاهن اليسوعيّ، فدرس اللاهوت في إنكلتره، ثمَّ كان في لوفان من أعمال بلجيكا. وأقام في فيينا، عاصمة النمسا، حيث أتقن اللغة الألمانيَّة. وسبق له في الجامعة اليسوعيَّة أن درس اليونانيَّة مع الأب فرنشر وأتقنها إتقانًا كبيرًا بحيث »قرأ كتاباتها الأثريَّة على صخور لبنان وفي كهوف الشمال السوريّ. وناقش العلماء الأثريّين في مواضيعها«23.

وُلد هنري في عائلة مسيحيَّة، في 1 تموّز 1862. وفي الخامسة عشرة من عمره، ترك موطنه، واتّخذ لبنان موطنًا ثانيًا له. دخل الكلّيَّة اليسوعيَّة تلميذًا، سنة واحدة. وفي 23 تمّوز 1878، دخل دير الابتداء حيث قضى سنتين قبل أن يمضي خمس سنوات في »درس البيان والخطابة واللغات«. ثمَّ دخل سلك التعليم.

ما يدهش الباحث هو تملُّك هنري لامنس من ناصية اللغة العربيَّة، بحيث نشر فيها المؤلَّفات وهو في الثلاثين من عمره.

لا نريد أن نتوقَّف عند الدراسات الإسلاميَّة التي قام بها الأب لامنس، ولا عند المجهود الكبير الذي قام به من أجل »درس الكتب الإسلاميَّة في أصولها العربيَّة، وفي مؤلَّفات المستشرقين، على اختلاف النزعات واللغات«24 بل نودُّ أن نقرأ بعض ما تركه عن الدولة الأمويَّة، وعن آثار سورية ولبنان.

منذ العدد الأوَّل في »مقالات الكلّيَّة الشرقيَّة« الصادرة عن جامعة القدّيس يوسف، في بيروت، توالت كتابات الأب لامنس عن الأمويّين: دراسات حول حكم الخليفة الأمويّ، معاوية الأوَّل. القسم السادس، حزب العثمانيَّة والمعتزلة:

»إذا وجب علينا أن نصدِّق التقليد المناوئ للأمويّين، وبعد خسارة الأدب التاريخيّ القديم لدى العرب السريان25، تسمِعنا النصوصُ المحفوظة رنَّة الصوت هذه، في الحرب بين معاوية وعليّ: جميع رجال الإسلام ذوي الاعتبار، اصطفّوا إلى جانب علي. مقابلهم نشاهد فقط شخصيّات نادرة لا حقّ لهم بكثير احترام26، أو أضلَّهم الطموح27. وبما أنَّ عددهم قد يُحدث شعورًا مؤلمًا، تهامل التقليد فما قدَّم لائحة بهؤلاء المنشقِّين28. ففضَّل أن يبعثر أسماءهم ويمزجها بأحداث ذات أهمّيَّة قليلة. جاءت المناورة وما نقصتها المهارة، ولدى القارئ الغافل قد تُولِّد الانتقاد بأنَّه بين أصدقاء محمَّد الأحياء بعد، لم يبق شك$ حول شرعيَّة ادِّعاءات صهره. إنَّ لهذا ضلال.

»لبث الأنصار بأكثريَّتهم مؤيِّدين لعليّ. وفي احتجاجهم على اختيار أبي بكر، وهو احتجاج يتوخّى بشكل خاصّ هيمنة قريش، وجدوا عليّ بجانبهم، تسوقهم دوافع مختلفة، توالت ثلاثة انتخابات ردَّت ادِّعاءاتهم إلى حكم الإسلام. فظنّوا أنَّه يجب أن يعلموا عليّ بأنَّه انضمَّ في الماضي إلى احتجاجاتهم على تسمية خلفاء مباشرين لمحمَّد29. هذا لا يمنع ثلاثة من أكثر الأنصار اعتبارًا، كما سوف نرى، حسّان بن ثابت، نعمان بن بشير، كعب بن مالك، أن يشجبوا بشدَّة مقتل عثمان30.

أوردنا هذا المقطع لنبيِّن طريقة البحث عند الأب لامنس31: الحواشي الكثيرة. الروح النقديَّة لما نقرأ في المراجع. وهنا بالنسبة إلى معاوية والأمويّين. فنحن لا نقدر أن نحسب ما نقرأ، كأنَّه الحقيقة التي لا تناقَش، وإلاّ كنّا في الخطأ. في كلِّ هذا يبدو الأب اليسوعيّ مهتمٌّا بعودة الأمور إلى نصابها وإحلال الحقّ بالنسبة إلى الأمويّين في شكل عامّ، وإلى معاوية الأوَّل في شكل خاصّ32. ويظهر تعاطفه ضمنيٌّا تجاه هذه السلالة »السوريَّة«، سلالة الأمويّين، المقيمة في دمشق. فأرض سوريا ولبنان عزيزة على قلبه، كما موطنه إن لم يكن أكثر. وفيه قال ألفرد نقّاش خلال مأتمه في 25 نيسان 1937: »لا كلام في ساعة الوداع الأخير إلاّ كلام الوداع... هو العالم المتضلِّع من تاريخنا، الدارس أحوالنا وتقاليدنا، وقف إلى جانب اللبنانيّين في ساعات حياتهم السياسيَّة الخطيرة، المظلمة، فتلمَّس فيها الطريق، وهداهم إليها. وكانت نصائحه درر حكمة ضمَّت في سلك المنطق« (المشرق، 1937، ص 164).

ونقرأ صفحتين عن لبنان:

»ليس من أحد يجهل اليوم موقع لبنان ونواحيه الأربع، وكلّ يعرف أنَّ المراد به تلك السلسلة الجبليَّة الممتدَّة بين البحر المتوسِّط وبحر الشام والنهرين الشهيرين النهر الكبير والليطانيّ.

»بيد أنَّ معناه لدى القدماء لا ينطبق على مفهومنا به في عهدنا. وأوَّل ما ينبغي استفتاؤه من كتب التاريخ الأسفارُ المقدَّسة، فإنّ هذا الاسم فيها ورد على صورة لبنون         وهكذا عرفه أيضًا الفينيقيّون. أمّا الأشوريّون فيدعونه لَبَّنانو. وممّا يستفاد من الكتاب الكريم أنَّ لبنان جبل شاهق فخيم في شماليّ نهر الليطانيّ يحدّ أرض الميعاد من تلك الجهة.

»وقد تكرَّر ذكرُ لبنان في صحف العهد القديم وإن كان هذا الجبل خارجًا عن ملك بني إسرائيل. وأكثر ما ورد اسمه في أوصاف الكتب الشعريَّة كما أثبتنا ذلك في مقالتنا عن أرز لبنان (المشرق 4: 930-938). وذكروا بين خواصه الثلوج الغرّاء التي تكلِّل هامته (راجع سفر إرميا 18: 14) فبيَّنوا بهذه الأوصاف أنَّهم أرادوا لبناننا لا سواه«33.

تلك صفحة. والصفحة التالية تبرز معرفة الأب لامنس في اليونانيَّة واللاتينيَّة: »لعلَّ المؤرِّخ بوليب أوَّل من سبق فبيَّن بضبط وتدقيق تخوم لبنان. وهو يَفْصله عن الجبل الشرقيّ فصلاً صريحًا ويذكر بين السلسلتين سهل البقاع ويجعل في هذا السهل مخرج نهر العاصي. وممَّن أجادوا في تعريف اتِّساع لبنان ديودور الصقلّيّ في القرن الأوَّل قبل الميلاد حيث قال إنَّ لبنان يمتدّ من صيدا، إلى جبيل وطرابلس وإنَّ غابات الأرز تظلِّل قممه.

»أمّا معاصره اسطرابون فإنَّ في كلامه لبسًا وإبهامًا. وهاك تعريب ما كتب قال: إنَّ سورية المجوَّفة واقعة بين جبلين تفصلهما على التقريب مسافة واحدة في طولهما. وكلاهما يبتدئ قريبًا من البحر. أمّا لبنان فإنَّ أوَّله عند طرابلس وجبل ثيوبروسوبون (رأس الشقعة. راجع تاريخ الأبصار، 1، ص 140). وأمّا جبل أنتيليبانوس فبدؤه بقرب صيدا (كذا) وهما ينتهيان عند الجبال الغربيَّة التي تشرف على إقليم دمشق«. وفي الفصل ذاته قد أثبت اسطرابون أنَّ منتهى لبنان عند رأس الشقعة وهو يروي أنَّ أعالي لبنان كصنّان وبوروما يأوي إليها قوم من اللصوص وقطّاع الطرق، وكذلك يزعم أنَّ هؤلاء الأوباش يملكون على البتورون وجيغرتا ويسكنون الكهوف المشرفة على البحر وحصن الشقعة«34.

ذكر لامنس ثلاثة مؤرِّخين دوَّنوا في اليونانيَّة. بوليب35، ديودور36، اسطرابون37. وسوف يذكر في اللاتينيَّة بلين38. »وفي وصف بلين ما هو أقرب إلى الحقيقة من سواه. وهو يجعل أوَّل لبنان عند صيدا. ثمَّ يذكر امتداده شمالاً إلى مدينة سيمرة القديمة، أعني وراء مصبّ النهر الكبير بقليل حيث يبتدئ جبل بريلوس وجبل النصيريَّة«.

ويقدِّم الأب اليسوعيّ حكمه: »فترى من ثمَّ أنَّ القدماء في حدود القرن الرابع كانوا وقفوا على حقيقة موقع لبنان وأفرزوه عن الجبل الذي هو قائم في وجهه وبيَّنوا وجهة امتدادهما. غير أنَّ كتبة القرون التالية عادوا فخلطوا بين الجبلين. وما أفضى بهم إلى هذا اللبس التقاسيم السياسيَّة التي أدخلها ملوك الروم في ذلك العهد فاختلطت الأسماء وصارت الأعلام تدلُّ على غير ما وُضعت له سابقًا« (حاشية 33، ص 7).

وسبق له في الصفحة عينها فانتقد مقال اسطرابون الذي أوقف حدود لبنان عند طرابلس »لأنَّ جبل عكّار يعدّ أيضًا من لبنان«. قال: »غير أنَّ إسطرابون وهَم وهمًا جسيمًا بأنَّ كلا الجبلين يبدأ بقرب البحر عند صيدا، وهو خطأ لا صحَّة له في أنتيليبانوس. وكذلك قد أخطأ بقوله إنَّ الجبلين ينتهيان عند دمشق وهذا يصدَّق عن لبنان. وقد ساء ظنُّه في الجبلين إذ وصف سيرهما من الغرب إلى الشرق أي من البحر إلى داخل بلاد الشام، وهما في الحقيقة يسيران من الشمال إلى الجنوب فيجاران سيف البحر«.

ذكرنا هذا لنبرز طريقة الأب لامنس في استعمال مراجعه التي يذكرها بالتدقيق، وهذا أمر لم يعتد عليه العالم العربيّ القديم. ونشير إلى أنَّ الأب لامنس »مسَّ في دروسه مواضع فتحت باب الجدل بينه وبين الأدباء. فعالج أصليَّة الروم الملكيّين في بلادنا، وبيَّن أنَّهم آراميّون أصلاً، وكذلك قضيَّة المردة أو الجراجمة فأثبت أنَّهم غير الموارنة...« (المشرق 1937، ص 174). وهذا ما يقودنا إلى القسم الثاني من مقالنا.

2 - المردة، الجراجمة، الموارنة

حين نقرأ دائرة المعارف الإسلاميَّة في المقال حول الجراجمة، نرى الكاتب يضع بين قوسين »المردة«39، فيتعبر أنَّ الجراجمة هم المردة، ولا حاجة إلى مقالة أخرى. فالجراجمة هم سكّان جرجومة الواقعة في جبل أمانوس (اللكام) في مناطق المستنقعات الواقعة إلى الشمال من أنطاكية بين بياس وبوخا. وقد يرتبط هذا الموضع بالاسم القديم جرجوم الذي يدلُّ على مقاطعة يجب أن نبحث عنها في مرعش، كما يقول رنيه دوسو في طوبوغرافيَّة سوريا.

ويواصل مقالُ دائرة المعارف: أقام الجراجمة على الحدود العربيَّة البيزنطيَّة، ولعبوا في بداية الإسلام دورًا هامٌّا في الحرب الدائرة بين العرب والبيزنطيّين فدعاهم المؤرِّخون البيزنطيّون: المردة.

نورد هنا بعض النصوص القديمة. الأوَّل، ميخائيل السريانيّ:

»وفي السنة التاسعة لقونسطينوس، أتى الروميّون40 إلى جبل لبنان. تسمّوا مردة41 أو ليفوريّين42. دعاهم أبناء سورية جراجمة43. أقاموا (في الأرض) من جبال الجليل إلى الجبل الأسود44. كانوا يخرجون على الدوام فيقومون بالسلب والنهب، لأنَّ الروميّين بعثوا بهم لأجل ذلك. وفي النهاية تقوّى عليهم الطيئيّون فمنهم من قتلوا، ومنهم من فقأوا لهم عيونهم« (شابو 2: 455 الفرنسيّ، 4: 437 السريانيّ).

ونقرأ في شابو 2: 469 الفرنسيّ، 4: 445-446 سريانيّ ما يلي: »وحين رأى عبد الملك هذه التي كانت كلّها، أنَّ الحرب تحيط به من كلِّ جانب وبالأخصّ لأنَّه يتعذَّب بسبب المردة الذين في لبنان، طلب أن يصنع صلحًا مع الروميّين. قبل يوستينيانوس أن يعمل صلحًا عشرَ سنوات. تمَّ الاتِّفاق بينهما بأن يخرج المردة45 من لبنان ويمنع لصوصه46 عن أرض الطيئيّين. ومقابل هذه، يعطي عبد الملك للروميّين كلَّ يوم ألف درهم47 وجوادًا واحدًا وعبدًا واحدًا... وأخرج الملك مردة48 لبنان وأدخلهم إلى بيت الروميّين. وكانوا اثني عشر ألفًا«.

ما لاحظناه في النصِّ السريانيّ، اختلاف كتابة اسم »المردة«، فاعتبر شابو الشكل الأخير خطأ. والأسماء: مردة، ليفوريّون، جراجمة، لصوص... هو الغموض يلفُّ بهذه المجموعة فلا نعرف المعنى الأصليّ للفظ »م ر د«.

الثاني، تيوفان في الكرونوغرافيا. سنة 6169 للخليقة. 677-678 بعد الميلاد. أمّا العنوان فهو: السنة التاسعة لقسطنطين إمبراطور الرومان:

»... في تلك السنة، دخل المردة إلى لبنان49 واحتلّوا مناطقه من الجبل الأسود إلى المدينة المقدَّسة (أورشليم). واحتلّوا أرفع المواقع في لبنان. فهرب إليهم عدد كبير من العبيد وأسرى الحرب وأهل البلاد، بحيث كوَّنوا في مدَّة قصيرة من الزمن آلافًا وآلافًا... وحين علم معاوية ومستشاروه بذلك، ارتعدوا واستنتجوا أنَّ مملكة الرومان هي في حماية ا؟. فأرسل معاوية موفدين إلى الإمبراطور قسطنطين ليطلب الصلح واعدًا إيّاه بجزية سنويَّة. استقبل الإمبراطور هؤلاء الموفدين وبعد أن استمع إلى مطلبهم أرسلهم إلى سورية... ويكون على العرب أن يقدِّموا للرومان 3000 قطعة ذهب، خمسين أسير حرب، خمسين جوادًا مؤصَّلاً. هذا الاتِّفاق الذي عُقد بين الجانبين لمدَّة ثلاثين سنة، أمَّن السلام بين الرومان والعرب...«50.

ويتواصل الكلام بالنسبة إلى سنة 6178 للخليقة أي 686-687 ب. م.:

»... في تلك السنة، أرسل عبد الملك وفدًا إلى يوستنيان ليثبت الصلح. فتقرَّر الصلح بحسب الشروط التالية: يُبعد الإمبراطور طغمة51 المردة عن لبنان ويمنع هجماتهم. فيعطي عبد الملك للرومان، كلَّ يوم، ألف درهم، وجوادًا واحدًا وعبدًا واحدًا، ويتقاسم الاثنان جزية قبرص وأرمينيا وإيبيريا. فأرسل الإمبراطور الحاكم بولس لدى عبد الملك ليثبت معاهدة السلام، ودوَّن المحضر أمام الشهود. وحين رجع الحاكم الموقَّر، أرسل الإمبراطور فأخذ المردة وكان عددهم اثني عشر ألفًا، بحيث قطع قوَّة الرومان، لأنَّ جميع الأمم الحدوديَّة التي يقيم فيها العرب اليوم، من المصِّيصة إلى أرمينيا الرابعة، كانت مقفرة وغير آمنة بسبب هجمات المردة، وحين تراجع هؤلاء، قاست بلاد الروم كثرة الشقاوة من كلِّ نوع، من قبل العرب«52.

الثالث، البلاذري، فتوح البلدان53. والعنوان: أمر الجراجمة.

»حدِّثني مشايخ من أهل أنطاكية أنَّ الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزجاج، فيما بين بيّاس وبوقا، يُقال لها الجرجومة. وأنَّ أمرهم كان في أيّام استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق54 أنطاكية وواليها. فلمّا قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها، لزموا مدينتهم وهمّوا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم، فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبِّهوا عليهم. ثمَّ إنَّ أهل أنطاكية قضوا وغدروا، فوجَّه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية، وولاّها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري. فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها، ولكنَّهم بدروا بطلب الأمان والصلح. فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية...

»فلمّا كانت أيّام الزبير وموت مروان بن الحكم وطلب عبد الملك الخلافة بعده لتوليته إيّاه عهده واستعداده للشخوص إلى العراق لمحاربة المصعب ابن الزبير، خرجت خيل للروم إلى جبل اللكام وعليها قائد من قوّادهم، ثمَّ صارت إلى لبنان وقد ضوَت إليها جماعة كبيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أباق من عبيد المسلمين. فاضطرّ عبد الملك إلى أن يصالحهم على ألف دينار كلَّ جمعة، وصالح طايفة الروم على مال يؤدّيه لشغله عن محاربته وتخوّفه أن يخرج إلى الشام ليغلب عليه«55.

أوردت بعض النصوص وما أردتُ التوسُّع فيها ولا مناقشتها. فجلّ ما أبتغيه أن أبرز ما يتراءى من اختلاف ممّا جعل الدارسين يتحدَّثُون عن »مشكلة المردة - الجراجمة«56. هناك قول أوَّل: »لا نعرف أصل الجراجمة والمردة بالتحديد«. والقول الثاني: وجود هؤلاء الذين يدعونهم المردة (المصادر اليونانيَّة) والذين يدعونهم جراجمة (المصادر العربيَّة). فكيف نربط التمرُّد (كما في اللغات الساميَّة) باللفظ اليونانيّ؟ قال المؤرِّخون السريان: شعب واحد بتسميتين. وألصقت التهم بأنَّهم لصوص وقطّاع طرق. أمَّا ما يجمع الموارنة بهم فنزر يسير. كلّ ما في الأمر، هو أنَّ ما قامت به فئة قامت به الفئة الثانية، خلال الحرب بين الأمويّين والبيزنطيّين. ثمَّ إنَّ بداية تكوين المارونيَّة حصلت في ذلك الوقت. أمّا منطقة العمل فضاقت أو اتَّسعت بحيث امتدَّت من جبال الجليل وصولاً إلى الأمانوس أو جبل اللكام، ممّا يتعدّى كثيرًا مساحة لبنان حيث أقام الموارنة، على جزء صغير منه. في هذا المناخ كان الحوار بين المطران يوسف الدبس والأب اليسوعيّ هنري لامنس57.

3 - عالِمان يتحاوران

ننطلق في كلامنا من ردِّ المطران الدبس كما نقرأه في مجلَّة المشرق، السنة السادسة 1903. وتلك هي البداية:

»قد أتحفنا المشرق الأغرّ بمقالتين إحداهما للأب هنري لامنس اليسوعيّ نُشرت في العدد 24 من السنة الخامسة58 (ص 1122) في الجراجمة. والثانية للأب أنستاس الكرمليّ في العدد 7 من سنته السادسة (ص 301) عنوانها المردة أو الجراجمة59. وبما أنَّ الغرض من المقالتين هو البحث العلميّ الصرف، كان يقيننا ثابتًا بأنَّ حضرة الكاتبين يلتقيان بالمسرَّة الخوض معهما في هذا الميدان.

»إنَّ واقع الحال هو أنَّ حضرة الأب لامنس كتب مقالة أولى أنكر فيها أنَّ المردة من الموارنة، فأجبناه على هذه المقالة، وأيَّدنا كلامنا بثمانية أدلَّة تثبت رأينا في أنَّ المردة اسم الموارنة في القرن السابع. غير أنَّ الأب المومأ إليه عوضًا أن ينقض تلك الأدلَّة كما تقتضي طريقة الجدال الحقَّة ويأتي بما يزيده، أتى بالمقالة الثانية يُثبت رأيه بما لا نراه يؤيِّده، زاعمًا أنَّ الجراجمة أشبه بالمردة في أحوالهم. فهم المردة أنفسهم. ثمَّ رأينا في المشرق مقالة الأب أنستاس أشبه بمقالة الأب لامنس فتحتَّم علينا أن ندوِّن هذا الردَّ انتصارًا لما نراه حقٌّا.«

ما الذي توخّاه المطران الدبس؟ البحث العلميّ الصرف. ولكن لا شكَّ وراء هذا »البحث« هناك محاولة إسناد بداية الموارنة في لبنان. من أجل هذا، استند الكاتب إلى الكتَّاب الموارنة ليدلّ على التماهي بين الموارنة والمردة. ولكن وجب عليه قبل ذلك أن يفصل المردة عن الجراجمة. فاستند في دراسته إلى ابن القلاعيّ والدويهيّ ومرهج بن نمرون البانيّ في كتابه عن أصل الموارنة والسمعانيّ والبطريرك يوسف العاقوريّ...«60. ونذكر بعض ما ورد في الجامع المفصَّل (ص 21): في سطوة المردة أي الموارنة في هذا القرن. وفي ص 25: في أنَّ هؤلاء المردة كانوا موارنة. وأنهى الكلام: »وسندًا إلى كلِّ ما مرَّ نقول إنَّ المردة هم الموارنة حقيقة« (ص 29). فلماذا هذا التشديد من قبل المطران الدبس؟ نجد الجواب في »مقالة ثانية في تاريخ الموارنة في القرن السابع«. فالمطران يقدِّم »درسًا« لأبناء رعيَّته وأمثولة تدعوهم إلى العمل المشترك:

»ذكرنا في تاريخ الموارنة في القرنين الخامس والسادس والقدّيس مارون وتلامذته وتكاثر رهبانهم وأديارهم وتوافر الجمهور المنتمي إليهم والمسمّى باسمهم. ونذكر في هذا العدد دورهم الدنيويّ في هذا القرن، وذلك درس نلقيه إلى أبناء ملَّتنا وجميع مواطنينا نحذِّرهم به من التهوُّر في مهواة المناوأة للسلطة السائدة فيهم بوسوسة أصحاب الأغراض البعيدين عنهم. فمن المعلوم أنَّ الخلفاء الراشدين صرفوا اهتمامهم عند أخذهم سورية وطرْدهم ملوك الروم منها إلى فتح مدنها ولم يكترثوا لسكّان جبالها لقلَّة أهمّيَّتها ولتعسُّر مسالكها وأنَّ ملوك الروم ما انقطعت مطامعهم في استردادها وظلّوا يوسوسون لسكّانها ليلبّكوا أمرها ولا تستقيم حالها ليتيسَّر لهم العَود إليها كما حاولوا مرّات فلم يظفروا. فمن ذلك أنَّهم وسوسوا للموارنة وكانت مساكنهم حينئذٍ في الجبال من جبال الجليل إلى جبال أنطاكية فلبّكوا حكومتهم وتوافرت غزواتهم في السهول حتّى اضطرّوا بعض الخلفاء أن يعقد صلحًا مع ملوك الروم على شرائط سيأتي ذكرها ومنها أن يبكّتوا الموارنة الذين تلقَّبوا عندئذٍ مردة ويصدُّوهم عن غزواتهم. وكانت النتيجة أنَّ هؤلاء الملوك البيزنطيّين أنفسهم الذين وسوسوا للموارنة وهيَّجوهم على مخالفة رضى حكومتهم انقلبوا على المردة وأذاقوهم الأمرَّين ومكروا بهم فسبوا اثني عشر ألفًا من نخبة شبّانهم وأبعدوهم عن أوطانهم وجيَّشوا عليهم وأخربوا أكثر بلادهم وحرقوا أديارهم وعمدوا إلى القبض على بطريركهم واتَّصلوا إلى طرابلس على مقربة عنه. ولو لم يتدارك ا؟ أمرهم بالنصر على الجيش البيزنطيّ لأبادوهم عن آخرهم. فهذه هي الأمثولة التي نريد أن يتمثَّل بها أبناء ملَّتنا ومواطنونا ليخلصوا في الطاعة للحكومة السائدة عليهم«61.

هو موقف مبدأيّ يقفه المطران الدبس. أمّا الأب لامنس، فبدا ذاك الباحث المتجرِّد الذي لا يجعل عاطفته تميل فتسيطر على براهينه. وإليك ما كتب:

»في بهرة القرن السابع أعني سنة 677، يذكر مؤرِّخو اليونان لأوَّل مرَّة قومًا يجعلون سكناهم في جبال الشام من جبال اللكام شمالاً إلى حدود فلسطين جنوبًا وهم يدعونهم مردائيّين ويعرفهم المحدثون باسم المردة. ومن غريب أمر هذا الشعب أنَّه لم يبدُ في بادئ ذي بدء ضعيفًا، ضئيلاً، بل نراه جاثمًا فوق مشارف لبنان ضابطًا مضايقه شاغلاً كلَّ نُقَطه الحصينة على مدى طوله من الشمال إلى الجنوب وليس من يقوم في وجهه، بل كثيرًا ما ينقضّ من مراكزه الحريزة فيغزو المعاملات القريبة منه دون أن يَردّ أحد هجماته. ولم يزل أمر هؤلاء المردة في اشتداد حتّى صار كلُّ الملهوفين والمطرودين من أهل الوطن وأصحاب الفاقة يلتجئون إليهم ويلوذون بحمايتهم ويزيدونهم عددًا وقوَّة. ولا غرو أنَّهم لو ثبتوا مدَّة على ذلك لأتوا بالأعمال الخطيرة لولا أنَّ ملوك الروم الذين كان المردة يخضعون لهم أمروهم بالخروج من لبنان بعد ظهورهم فيه ببضع سنين فاندثر أمرهم على فورٍ كما ظهروا بغتة دون أن يُبقوا في لبنان أثرًا من مرورهم« (تسريح، ص 41).

هي صفحة جديرة بأن تكون بداية ملحمة لدى العارفين »بالأديب« الأب لامنس، لا فقط بالعالم الباحث. وطرح السؤال:

»فمن ترى هذا الشعب؟ كيف ظهر على فجأة دون أن يذكر أحد وجوده في بلاد الشام ولبنان سابقًا؟ أنّى خرج؟ هذه أسئلة...«

واستند الأب لامنس إلى المراجع فأعطى الفرضيّات التالية:

- لبنان لم يكن مركزهم الأوَّل، بل دخلوا إليه.

- هم فرقة من الجند لا شعب من الشعوب.

- يخدمون تحت حكم ملوك الروم.

وواصل الأب لامنس متحدِّثًا عن علاقة هؤلاء المردة بالموارنة:

»ولكن هنا مسألة أخرى لا يتَّفق فيها أرباب العلم تريد أصل المردة وجنسيَّتهم. فقد ارتأى بعض الأئمَّة ومنهم العلاَّمة السمعانيّ والحاقلانيّ ومرهج بن نمرون والدويهيّ ومن تبعهم من علماء الموارنة... أنَّ المردة هم الموارنة. وأقوى حججهم لبيان ذلك أنَّ المردة كانوا قومًا من النصارى يسكنون لبنان ولا نعرف في القرن السابع شعبًا يدين بالنصرانيَّة ويسكن لبنان غير الموارنة« (ص 43).

ولكنَّ المردة كانوا فرقة جنديَّة. فيجيب هؤلاء العلماء: ولكنَّهم لم يكفّوا عن غاراتهم بعد انعقاد الصلح. فقال لامنس في ذلك: »فهذا الاحتجاج لا يخلو من القوَّة وهو يبيِّن ما في هذا البحث من المعضلات«.

هنا قد يقف لامنس مع »أصحاب الرأي الآخر (الذين) ينكرون توحيد المردة والموارنة«. ويعلن في النهاية: »هذا ومن المقرَّر الثابت أنَّ ظهور الموارنة كأمَّة مستقلَّة قد اتَّفق مع عهد حروب المردة في لبنان. وإن لم يسلِّم القرّاء بأنَّ الموارنة هم المردة فإنَّه لا سبيل إلى النكران بأنَّه وُجدت بين الفئتين علاقات ودّيَّة. وممّا يتَّضح أيضًا من تاريخ ذلك العصر أنَّ الموارنة عند خروج المردة من لبنان لم يتبعوهم في مهاجرتهم آسية الصغرى بل ثبت معظمهم في جبلهم«.

في هذا الخطِّ راح الدكتور إلياس القطّار مع الذين خافوا من النعوت التي لصقت بالمردة فما أرادها أن تصل إلى الموارنة. ونسيَ أنَّ الذين كتبوا عن المردة كانوا من الخصوم. سواء تيوفان أو أغابيوس (محبوب) المنبجيّ62. وحكم بقساوة على المطران الدبس الذي اعتبره قليل الاطِّلاع مع أنَّه ذكر من المراجع ما لم يذكره غيره، بل ظنَّ أنَّه لم يلجأ إلى المراجع الأولى. قال: »ولا يتَّضح ما إذا كان أخذ عن هؤلاء مباشرة أو نقل عنهم بالواسطة من مرجع آخر. واتَّضح أنَّه أهمل مصدرين مهمَّين هما ابن عساكر في »تاريخ دمشق« وميشال السوريّ، المؤرِّخ السرياني« (الحكمة، ص 360). لست أدري من يمكنه أن يقرأ المراجع السريانيَّة أن يقول »ميشال السوريّ«. هذا يعني عودة صاحب المقال إلى النسخة الفرنسيَّة. أمّا الكاتب فهو ميخائيل الكبير أو ميخائيل السريانيّ63. وابن عساكر المولود في بداية القرن الثاني عشر والذي يعلن: »وأخبرني غير واحد... فأخبرنا غير واحد من شيوخنا...« (حاشية 50، ص 164)، وأودُّ أن أذكِّر القارئ طول باع المطران الدبس في اللاتينيَّة والسريانيَّة، ممّا أتاح له أن يعود إلى مصادر لا يستطيع جلّ أساتذتنا اليوم إن لم نقل كلَّهم أن يعودوا إليها. وجاء الحكم الأخير للدكتور قطّار أقسى من حكم الأب لامنس. قال:

»لقد أحاط الدبس بمصادر مسألة المردة، الجراجمة ومراجعها إلى حدٍّ كبير، دون أن يكون قد اطَّلع على المصادر كافَّة. ولكن يبدو أنَّه كان مسحورًا بإيديولوجيَّة ربط الموارنة بالمردة، لذلك لم يقرأ المصادر بتأنٍّ كبير فاشتطَّ في ربط الموارنة بجماعات من قطّاع الطرق لا تشرِّف تصرُّفاتهم الموارنة، كما أنَّ الإعاشات التي قدَّمتها الدول الإسلاميَّة الأمويَّة للجراجمة لا تنطبق على الموارنة. لقد رحل المردة كقوَّة عسكريَّة، وربَّما بقيت جاليات منهم امتزجت مع الموارنة، وشتّان بين مدرسة القدّيس مارون النسكيَّة، وبين المردة الذين يعتبرهم ابن العبريّ وميشال السوريّ، الذي نسيَ الدبس أن يأخذ عنه64، شعبًا واحدًا مع الجراجمة، ويعيشون كلصوص« (الحكمة، ص 361). ولكن تهرَّب الدكتور قطّار من إيديولوجيَّة فوقع في إيديولوجيَّة لا تقلُّ عنها خطورة فاعتبر أنَّ المطران الدبس »اشتط« وكأنَّ الأمر واضح لدى مؤرِّخين نقلوا مرارًا بعضهم عن بعض وما استطاعوا حتّى الآن أن يعرفوا معنى الكلمة اليونانيَّة »مردايتاي«.

ونعود إلى المطران الدبس فنقرأ بعض ما أرسله »إلى حضرة الأب الجليل هنري لامنس اليسوعيِّ الجزيل الاحترام«65.

»أستهلُّ رسالتي إليك بالشكر والثناء عليك لما تجهد نفسك بتدوينه بمجلَّة المشرق الغرّاء... وأسألك أن لا يشقَّ عليك أن أورد بعض أدلَّة تخالف ما كتبته أخيرًا في هذه المجلَّة في شأن المردة لأنّي لم أضع ذلك في سبيل المباراة بل على سبيل البحث العلميّ التاريخيّ وبيان الحقيقة ولم أتفرَّغ للتنقيب في كتب المؤرِّخين لإيجاد الأدلَّة الآتي ذكرها التي انتقيتها من معلوماتي السابقة وممّا كتبتُ إلى الآن في تاريخ سورية وغيره« (ص 915).

»قالت أبوَّتك الجليلة في مسألة المردة وظهورهم بغتة بلبنان وخروجهم منه ذهب العلماء فيها إلى مذاهب شتّى وأنَّك لا تبدي فيها رأيًا66، بل تترك لقرّائك أن يصوِّبوا الرأي الذي يرونه أصحّ وأثبت. وظهر من أساليب كلامك ومجموعه أنَّك تجنح إلى الرأي المخالف لرأي الموارنة بهذه المسألة. ويقرأ القارئ من خلال أسطرك أنَّك ترجِّح رأي المخالفين ولا ألومك على ذلك، ولا يخطر في بالي أنَّك تعمَّدت إجحافًا بحقّ الموارنة أو إنقاصًا بكرامتهم...«.

ويعلن المطران الثابتة: »نحن الموارنة نعلم أنَّ المردة اسم للموارنة لقَّبهم به أعداؤهم في القرن السابع، وأنَّ المردة والموارنة أمَّة واحدة«. ثمَّ يقدِّم ثمانية أدلَّة لا مجال لذكرها هنا ويُنهي بالخلاصة التالية:

»لعمر الحقّ إنَّ هذه بيِّنة لا تردّ على أنَّ المردة لم يكونوا جنودًا لأحد ملوك الروم ولا جالية أحلّوها في لبنان ثمَّ أخرجوها منه بعد مدَّة وجيزة. ومن المعلوم أنَّ أولئك الجنود وتلك الجالية لم يكونوا إلاّ من مملكتهم، فعند عودهم إليها ينضمّون إلى باقيها ولا يبقون منفصلين قرونًا... فهذا ما أردت أن أورده لأبوَّتك سائلاً إيّاك أن تُحلَّه في صفحات مجلَّة »المشرق« الغرّاء علَّه يكون من الأبحاث العلميَّة التي تتفضَّل هذه المجلَّة بنشرها، علاوة على فضلها بنشر ما يعود بالنفع على الدين والفضيلة. وأختم رسالتي هذه بالشكر لك ولأصحابك الآباء المحترمين بنشر هذه المجلَّة التي أجلُّها وأجلُّهم وأدعو بالتوفيق لكم جميعًا« (ص 923).

في الردّ على الأب لامنس، قال المطران الدبس: »لم أتفرَّغ للتنقيب«. نحن لا ننسى انهيار صحَّته وضعف بنيته، بحيث لا يستطيع بعد أن يقوم بأبحاث جديدة. ولكنَّه لبث متشبِّثًا برأيه. وسوف يقول في آخر كتاب كتبه سنة 1905، أي قبل موته بسنتين: »هذا ما سطَّرته في تاريخ سورية، ولكن ظهر في إحدى المجلاّت العلميَّة سنة 1902 فصل لأحد العلماء اهتمَّ كاتبه أن يجعل هذه المسألة محلاٌّ للريب، وجلَّ ما قاله أنَّه يتعجَّب من ظهور المردة من أوَّل أمرهم جاثمين فوق مشارف لبنان ضابطين مضائقه ثمَّ خرجوا منه بغتة« (الجامع، ص 26) . يشير المطران هنا إلى الأب لامنس. ويضيف سيادته: »فأجبته على ذلك في المجلَّة المذكورة مبيِّنًا بطلان ما أدعم عليه في بحثه ومثبتًا أن ليس المردة إلاّ اسم  للموارنة في القرن السابع وصفوا به لتمرُّدهم« (الصفحة عينها). وقال في ص 27: »إنَّ العالم المذكور بعد اطّلاعه على ردِّنا الذي لخَّصناه عاد إلى البحث دون أن يرد دليلاً واحدًا من أدلَّتنا، بل زعم أنَّ المردة هم الجراجمة في جبل اللكام. واستند إلى أقوال أدّاها البلاذريّ فيها ما يشبه ما ذكره توافان عن المردة، وانتصر له عالم آخر باسطًا رأيه فأجبناهما بمقالة أثبتتها المجلَّة المذكورة منكرين عليهما أنَّ ما ذكراه من فقر البلاذريّ مطابق لما ذكره توافان عن المردة، وبيَّنا كثيرًا من الفرق بين أقوال المؤرِّخَين العربيّ والروميّ، وأبنّا أنَّ التشابه بين أمرين ليس حجَّة للحكم بأنَّ الأمرين واحد«.

وهكذا عاد الدبس إلى مجلَّة المشرق وإلى الأبوين لامنس وأنستاس بعد أن انتظر منهما أن يسندا رأيه في وقت حرج كانت تعيشه الأمَّة المارونيَّة خلال النظر إلى تأسيس لبنان الكبير الذي سوف يعلن سنة 1920. وسوف يقول المطران: »وقد جزمنا أن لا نعود إلى الكلام فيها (في هذه المسألة) إلاّ أن يرد من يخالفنا فيها كلَّ أدلَّتنا بموجب قوانين الجدال، ولا يبقى عندنا ما يخالف هذه القوانين إلاّ عدم الاكتراث. هدانا ا؟ جميعًا إلى الصواب« (المشرق 1903، ص 413). ونشرت مجلَّة المشرق في نهاية هذه المقالة حاشيتين. الأولى للأب هنري لامنس والثانية لإدارة المجلَّة. في الأولى قال لامنس:

»إن سمح لنا السيِّد الجليل كاتب المقالة، أوردنا هنا بعض ملاحظات نسأل سيادته أن يرمقها بنظره السامي:

1 - إنَّنا في مقالنا عن المردة »لم ننكر أنَّ المردة من الموارنة«، وإنَّما اكتفينا بذكر آراء العلماء في هذا الشأن تاركين للقرّاء أن يختاروا ما يرونه أقرب إلى الحقّ (المشرق 5: 828). أمّا مقالتنا الثانية عن الجراجمة، فقد سعينا بأن نثبت فيها استنادًا إلى الكتبة الأقدمين من يونان وعرب أنَّ اسم المردة والجراجمة أطلق على أمَّة واحدة أو بالحريّ أنَّ الجراجمة كانوا أقرب فرق المردة إلى الشام.

2 - ليس بين رأيي ورأي حضرة الأب أنستاس اختلاف جوهريّ. وكذلك لا يختلف رأينا في رفيع مقام البلاذريّ بين المؤرِّخين. إلاّ أنَّ حضرة الأب أنستاس بيَّن خصوصًا عظم شأنه ودقَّة معارفه بينما أنا الفقير أبديتُ أسفي على أنَّ هذا الكاتب »لم يوفِّق بين الروايات التي أثبتها« (المشرق 5: 1133).

3 - لسنا والأب أنستاس أوَّل من ارتأى أنَّ الجراجمة والمردة شعب واحد، فإنَّ غيرنا، وفضلهم بين العلماء شاهد، قد سبقوا ورجَّحوا هذا الرأي. فإن كنّا أخطأنا فإنَّ هذا الخطأ يشمل قومًا مبرِّزين.

4 - لم تكن نيَّتنا لمّا قادنا سياق كلامنا عن شعوب لبنان إلى البحث عن المردة أن نباشر جدالاً مع أحد. كما أنَّنا الآن لا نقصد ذلك. وغاية ما أردنا أن نوضح ما حسبناه الحقّ. وقد عرف كاتب الأرز في عدده 399 الصادر في 16 آذار المنصرم لنا ولحضرة الأب أنستاس حسن نيَّتنا. فنشكره على امتداحه اعتدال خطَّتنا« (ص 412).

هكذا يكون العلماء. مع أنَّ الأب لامنس عرف إلى الفرنسيَّة الألمانيَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة، فهو لم يتهجَّم على شخص مثل المطران يوسف الدبس67، بل ترك الباب مفتوحًا. وما »تشيَّع« للأب أنستاس دون رويَّة، بل بيَّن له بعض الخلل في قراءة البلاذري. وما أراد أن يتفرَّد برأيه وكأنَّ العلم وقف عنده، فجعل نفسه »الفقير« »بين العلماء«.

وكما أقفل المطران الدبس الكلام في هذا المجال، هكذا فعلت مجلَّة المشرق: »بعد مقالة السيِّد المفضال والمطران الجليل يوسف الدبس والملاحظات السابقة، لم نعُد نرى داعيًا لمواصلة هذا البحث، ومن ثمَّ لا نقبل رسالة لأحد في هذا الصدد. فلكلّ أن يفحص ما جاء به الفريقان من الأدلَّة ويرتإي ما يرى فيه وجه الصواب جريًا على قول القدّيس أوغسطينس: »فلنلازمنَّ الوحدة في عقائد الإيمان، والحرّيَّة في الأمور غير الثابتة، والمحبَّة في كلِّ شيء« (ص 413).

الخاتمة

المردة، الجراجمة، الموارنة. موضوع كثرت حوله المراجع، وبقيت الفئات عند مواقفها، حيث يرى كلُّ واحد أنَّ الحقَّ بجانبه. هذا يفضِّل هذا المرجع وذاك مرجعًا آخر، ساعة يبدو أنَّ المرجع الأساسيّ يبقى المؤرِّخ تيوفان في الكرونوغرافيا. كان الأب لامنس ذاك الباحث العاقل فما تجرَّأ على اتِّخاذ موقف محدَّد منه. بل ترك الباب مفتوحًا. أمّا المطران الدبس فقد أخذ بإيديولوجيَّة الباحثين الموارنة القدماء بشكل عامّ، حفاظًا على أمرين: دوام استقامة الإيمان عند الموارنة. ثمّ ربط المردة بالموارنة. ما يمكن ملاحظته هو أنَّ هذه الفئات الثلاث وُجدت تقريبًا في الزمن نفسه وتفاعلت، وقيل عن الجراجمة ما قيل عن المردة. الجراجمة عادوا إلى جبل اللكام كما قالت المصادر. والمردة أو من تبقّى منهم امتزج باللبنانيّين عامَّة وبالموارنة خاصَّة، على مثال بقايا الصليبيّين بعد أن تركوا الشرق نهائيٌّا. في كلِّ هذا يبقى الغموض حاضرًا بحيث لا يستطيع أحد أن يجزم في هذا الأمر، لا سيَّما وأنَّ الانفعالات قويَّة. المراجع التاريخيَّة التي ذكرت عُرفت منذ زمان بعيد لدى الموارنة. ولا أظنُّ أنَّ المحدثين أضافوا الكثير على ما أورده هؤلاء وفي نهايتهم المطران الدبس. يبقى تفسير هذه المراجع. وقيل عن الدبس: لم يكن حياديٌّا. فهل من مؤرِّخ حياديّ؟ لا أظنّ، وإلاّ لماذا استعادة الماضي من أجل الحاضر؟ أمّا المطران فأراد أن يعود إلى المراجع ليقدِّم درسًا للموارنة في أيّامه وهو من دعوه »من آخر المصلحين الكبار الذين عرفتهم المارونيَّة في القرن التاسع عشر«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM