الفصل 6: المطران يوسف الدبس والتاريخ المارونيّ

المطران يوسف الدبس والتاريخ المارونيّ

حين نكتب التاريخ، نختار طريقة بين طرائق ثلاث. إمّا نقدِّم كتابًا مدرسيٌّا يكون في متناول الجميع ولا يضايق أحدًا، ونعطي الأمور العامَّة دون الدخول في التفاصيل. وإمّا نأخذ بنظرة الوضعيَّة1 فنقتصر على ما هو موضوع أمامنا، ما يمكن أن نراه ونلمسه، فننتزع كلَّ فكر ما ورائيّ، كلَّ عاطفة، كلَّ نظرة تبتعد عن الأشياء لتصل إلى الأفكار وبالتالي إلى الإيديولوجيا. تلك كانت نظرة هنري لامنس في حواره مع المطران يوسف الدبس، فتوقَّف عند الوثيقة كوثيقة، وما تجرَّأ بعد ذلك على اتِّخاذ الموقف. وتبعه في هذا الخطِّ المطران يوسف دريان والأب أنستاز الكرمليّ وعدد من الباحثين الذين نسوا أنَّ الوضعيَّة كوضعيَّة تعدّاها الزمن إن هي حصرت حالها هناك. في الماضي، كانت ناقدة بالنسبة إلى الدين مشدِّدة بالأحرى على نواقصه لا على صفاته الحسنة. فصارت اليوم منقودة بحسب مدرسة فرنكفورت، لأنَّها تحمل الخطر إلى المجتمع فتجعله ينعزل في الإيمانيَّة أي في إيمان يلجأ إلى الكلمة الموحاة أو الانطباعيّ الذاتيَّة، ويتجنَّب المواجهة الحقَّة. وإمّا نأخذ بالخطِّ الإيديولوجيّ بحسب المعنى الأصليّ للكلمة: علم الفكر. الفكر هو الذي يوجِّه البحث، ويكون نقطة الانطلاق لقراءة الأحداث الماضية. وإلاّ، ما قيمة التاريخ بالنسبة إلى الإنسان العاديّ، إن توقَّف عند نصوص قديمة أو تنقيبات ومدوَّنات. التاريخ يقود إلى الحياة، ذاك هو موقف المطران يوسف الدبس في نظرته إلى العالم الذي يعيش فيه.

1 - من هم الموارنة

بعد أن كتب المطران الدبس تاريخ سورية، منذ الخليقة إلى أيّامنا، في ثمانية مجلَّدات، حيث طبع المجلَّد الثامن سنتين قبل موته، ومنه استخرج الموجز في تاريخ سورية والذي طُبع في جزئين، سنة 1970، عاد إلى الموارنة في ما يُدعى الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصَّل. طُبع هذا الكتاب وجاء في 621 صفحة، فبدا »مجموعة الفقرات التي خصَّ بها الموارنة في تاريخه الأكبر«.

عند هذا الكتاب نتوقَّف قبل أن نقرأ ردَّ الدبس على من »هاجم« الموارنة، والفكرة التي دفعت هذا المطران لأن يكتب تاريخ سورية، وبعده تاريخ الموارنة.

جاء كتاب الجامع المفصَّل في اثنتي عشرة مقالة. الأولى، في القدّيس مارون وتلاميذه. وبدايتها: »نروي خبر القدّيس مارون عن توادوريطس أسقف قورش«. وبعد كلام عن القدّيس مارون الناسك وتعييده في الرابع عشر من شباط مثل »كنيسة الروم« والأديار التي بُنيت على اسمه، ذَكر تلاميذ القدّيس مارون »ذاك الفارس والحارث لجنَّة ا؟ في قورش«، بحسب خبر توادوريطس، وتوقَّف في عد 3 عند »انتشار رهبان القدّيس مارون في سورية« في القرن السادس، وفي عد 4 عند مناضلة الرهبان الموارنة عن الإيمان، والحوار مع اليعاقبة (عد 5). نلاحظ هنا أنَّ المطران نقل عن السريانيَّة نصٌّا نشره العالم فرنسوا نو، في مجلَّة المشرق، عدد 10، من سنة 1899.

والمقالة الثانية: في تاريخ الموارنة في القرن السابع. في هذه المقالة موقع الجدال مع الخصوم والعمل الدفاعيّ: علاقة المردة بالموارنة. واستند المطران الدبس إلى المراجع المارونيَّة التي سبقته. والموضوع الثاني: منشأ القدّيس يوحنّا مارون وأسقفيَّته. هنا تبع الدبس ما قاله السمعانيّ عن مولد يوحنّا »في قرية تسمّى سروم، موقعها في جبل السويديَّة، على مقربة من مدينة أنطاكية...« (ص 39). وانتقل الدبس في المقالة الثالثة إلى »تاريخ الموارنة في القرن الثامن« (ص 39-108) الذي كان امتدادًا لما في القرن السابع، فبدأ بذكر البطاركة »بعد أن توفّى ا؟ القدّيس يوحنّا مارون سنة 707« (ص 101). هنا يلفُّ الغموض تاريخ الموارنة: يذكر الدبس البطاركة ويتوقَّف عند قيس المارونيّ (ص 110ي) بحسب كتاب التنبيه والإشراف للمسعوديّ الذي طُبع في ليدن سنة 1894، صفحة 152 (ص 110). أمّا الكلام عن المطران داود، فلا سند له سوى ما قيل في كتاب الهدى. تلك كانت المقالة الرابعة مع عناوين هذا الكتاب الذي دُعي في وقت من الأوقات »دستور الطائفة المارونيَّة في القرون الوسطى«. مع أنَّ الكتاب ليس مارونيٌّا، بل تجميع يضمُّ العقيدة في ارتباط مع إيليّا النصيبينيّ (+ 1046) حول الثالوث، وأبو الفرج ابن الطيِّب (+ 1043) في كتاب الاتِّحاد\. ممّا يقابل ف 1-13 في نسخة الأبّاتي فهد. ويضمُّ كتاب الهدى ما دُعيَ »كتاب الناموس« الذي يجمع مجموعة قوانين جاءت من هنا وهناك. وما نودُّ قوله قبل كلِّ شيء هو أنَّ ما دُعيَ كتاب الهدى نُسخ في الحرف العربيّ قبل أن ينقل إلى الحرف الكرشونيّ. وكتاب الناموس هذا يرتبط بمجموعة ابن العسّال على ما يقول المطران دريان أيضًا.

وما نقوله عن كتاب الهدى الذي جاءنا من الشمال والجنوب، نقوله عن المقالات العشر لتوما الكفرطابيّ. فأين هي كفرطاب هذه؟ وعن الريش قريان المارونيّ الذي نشره الأباتي يوحنّا تابت. وكذا نقول عن تفسير منسوب إلى مار أفرام، حول سفر التكوين، حول سفر الخروج، خول سفر الأحبار. هي كتب جاءتنا من مصر. ولبثت في الأديار لأنَّه لم يكن لهم أدب قديم أو كتب قديمة مثل إنجيل ربّولا وغيرها؟ ففي ظنّي، لا أدب كتبه الموارنة قبل الاتِّصال برومة، وبشكل خاصّ مع تأسيس المدرسة المارونيَّة.

أطلنا الحديث في هذه المقالة لما فيها من موضوع جدال بين الموارنة وسائر الطوائف، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بيوحنّا مارون، أوَّل بطرك على الطائفة، كما يقولون، والذي ترك لنا المؤلَّفات التي ليست منه. وكانت روايات حاول أن يشرحها الأب ميشال الحايك، بأنَّ يوحنّا هذا كان ابن أخت الملك شارلمان. وهكذا رُبط تاريخ الموارنة بتاريخ فرنسا، في عودة إلى الوراء تنطلق من واقع الحماية الفرنسيَّة للموارنة، وتتجذَّر في الماضي البعيد.

في المقالة الخامسة (ص 119-135) تحدَّث الدبس عن البطاركة وعن الأديار، وحاول الردَّ على »غوليلمس أسقف صور اللاتينيّ في كتابه 22 في الحرب، فصل 8 ما ترجمته: »لمّا استراحت المملكة (مملكة أورشليم) من حرب صلاح الدين، سررتُ سرورًا موقوتًا في أنَّ ملَّة من السريان تسكن في عمل من فونيقي في سفح لبنان قريب من جبيل طرأ عليها تغيُّر مهمّ، لأنَّهم بعد أن كانوا اتَّبعوا مدَّة خمسماية سنة، ضلال مارون المبتدع، وتسمَّوا موارنة نسبة إليه، وكانوا يتمِّمون أسرارهم، منفصلين عن جماعة المؤمنين، استفاقوا بإلهام ا؟، وهبُّوا من تقاعدهم، وهلعوا إلى إيميريكس بطريرك أنطاكية اللاتينيّ، وهو الثالث من البطاركة اللاتين الذين ترأَّسوا هذه الكنيسة، وارعووا عن الضلال الذي كانوا متسكِّعين به، ورجعوا إلى وحدة الكنيسة الكاثوليكيَّة، واعتقدوا الإيمان القويم، وحافظوا على تقليدات الكنيسة الرومانيَّة بكلِّ احترام وإجلال« (ص 132-133).

ردَّ المطران حالاً على مثل هذا الادِّعاء الذي استند إلى سعيد بن البطريق. في المقالة السادسة (139-150) تحدَّث الدبس عن مجيء المسلمين إلى جبَّة بشرّي، ثمَّ عن حروب كسروان. واستند في ذلك إلى كتاب تاريخ بيروت لصالح بن يحيى الذي نشره الأب لويس شيخو اليسوعيّ، في المجلَّة الموسومة بالمشرق. قال صالح: »في شهر شعبان سنة 691هـ، سنة 1292م، توجَّه الأمير بيدرا (من مماليك الملك المنصور قلاوون) قائد السلطنة بمصر، وقصد جبال كسروان...« (ص 140). وغطَّت المقالة السابعة (ص 151-157) القرن الرابع عشر، والمقالة الثامنة (ص 159-177) القرن الخامس عشر. بعد البطاركة ذكر المقدَّمين، كما بعض الأساقفة. وما نلاحظ في هذه المقالات، هو أنَّ المطران الدبس يأخذ دومًا خطَّ الدفاع عن الطائفة المارونيَّة، مستندًا إلى ما قاله الذين سبقوه من مرهج بن نمرون البانيّ إلى البطريرك إسطفان الدويهيّ، وصولاً إلى البطريرك يوسف إسطفان، والبطريرك بولس مسعد في كتابه »الدرّ المنظوم في الردِّ على مزاعم البطريرك مكسيموس مظلوم«.

مع المقالة التاسعة (179-212) ندخل في التاريخ الحديث، مع الفتح العثمانيّ سنة 1516. توقَّف الدبس عند أعيان الموارنة، ثمَّ عاد يتحدَّث عن البطاركة ولا سيَّما مخائيل وسركيس ويوسف الرزيّ، مع مجمعين عُقدا سنة 1580 وسنة 1596. وما نلاحظ في هذه المقالة أسماء »بعض المشاهير الدينيّين الموارنة في القرن السادس عشر« (ص 208ي): يونان المتريتيّ، يوحنّا بن نمرون البانيّ، يوحنّا اللحفديّ، الحبيس يونان بن جلوان من أسمر جبيل.

في المقالة العاشرة (ص 213-263) ندخل في القرن السابع عشر مع الأمراء المعنيّين ومشايخ آل الخازن، مع »الشيخ حصن الذي جُعل قنصلاً لإفرنسة ببيروت« (ص 216). كما نتعرَّف إلى بطاركة مرُّوا في المدرسة المارونيَّة: البطريرك يوحنّا مخلوف، البطريرك جرجس عميره، البطريرك يوسف العاقوريّ، ويوحنّا الصفراويّ وجرجس البسبعليّ. وآخر بطريرك في القرن السابع عشر، إسطفانوس الدويهيّ. ونورد هنا رسالة من الملك لويس الرابع عشر »إلى البطريرك إسطفانوس بطرس الأنطاكيّ«. هذا نصُّها:

»أيُّها السيِّد الأجلّ، قد رفع إليَّ الخوري الياس، كاتب سرِّكم، الرسالة التي كتبتموها إليَّ في 20 من آذار سنة 1700، وعلمتُ منها، متأسِّفًا، المحن التي يقاسيها الكاثوليكيّون، أبناء ملَّتكم المارونيَّة، وشدَّة الضنك الذي تقاسونه لوقاية شخصكم من الإهانات التي يُنزلها البعض بكم. ولمّا كنتُ مستعدٌّا أن أبذل دائمًا كلَّ ما بوسعي من العناية بتأييد الدين الكاثوليكيّ الرسوليّ الرومانيّ في كلِّ مكان، لا سيَّما في أرجاء بطريركيَّتكم، حيث تعاظمت المحن، قد سلَّمتُ إلى كاتب سرِّكم رسالة جدَّدتُ بها الأمر الذي أصدرتُه قبلاً إلى سفيري بالقسطنطينيَّة، أن يصرف عنايته واهتمامه لينال من الباب العثمانيّ كلَّ ما يمكن من الأمور العائدة بالنفع للدين الكاثوليكيّ في بلاد الموارنة ليحفظكم بحراسته المقدَّسة. كُتب في مارلي، في 10 آب سنة 1701. التوقيع لويس. وفي أسفل الصحيفة: كولبر« (ص 238).

هذه الرسالة حفظها لنا دي لاروك في كتابه رحلة إلى سورية ولبنان. مرَّات عديدة يذكر المطران الدبس المرجع، ولكنَّه لا يحدِّد. ومرّات أخرى يورد الأخبار، سواء استقاها من مصدرها الأوَّل، أو أخذها عن الذين سبقوه من الموارنة. ويا ليته أوضح من أين أخذها، فنستطيع في خطاه أن نقرأ النصوص ونجاريه أو لا نجاريه في ما يستخلص من نتائج، ولا سيَّما في الدفاع عن طائفته. في هذا المجال، قال الأب ميشال حايك في مقدِّمة الجامع المفصَّل (ص. ب ب)،: »لو استطعتُ أو استطاع غيري... أن أرفِقَ كلَّ صفحة من الكتاب بالحواشي، توضيحًا للمصادر الواردة فيه بحسب عناوينها الأصيلة، وتتميمًا لها بمصادر أخرى حديثة، وتذييلاً للنصِّ بالآراء، المختلف عليها في بعض مواضيعه...«.

وبدأ الدبس يذكر الأساقفة، الذين رقّاهم البطريركان يوسف الرزّيّ ويوحنّا مخلوف. ثمَّ الأساقفة في أيّام الدويهيّ. والعلماء في القرن السابع عشر: بطرس مطوشيّ القبرسيّ، نصرا؟ شلق العاقوريّ، القسّ جبرائيل الصهيونيّ الإهدنيّ، العلاَّمة إبراهيم الحاقليّ، مرهج بن نيرون البانيّ. ثمَّ هناك »من اشتهروا بالغيرة والنسك. يجدر بنا أن نذكرهم كما ذكرنا العلماء« (ص 251). وتميَّز القرن السابع عشر بإنشاء الكنائس والأديار: مار شلّيطا مقبس، دير حراش، دير مار سركيس وباخوس في ريفون، دير مار عبدا هرهريّا، دير مار إلياس النبيّ في غزير، دير السيِّدة باللويزه، دير عين ورقة، دير مار سركيس إهدن. هذه المعلومات أخذها الدبس عن الدويهيّ الذي أشار إلى السنة التي فيها بُنيت هذه الأديرة. وذُكرت أيضًا كنائس بُنيت في بشعله ودرعون والعربانيَّة.

وانتهت هذه المقالة بذيلٍ: »في المجمع الذي عقده البطريرك يوسف العاقوريّ في دير حراش«. وذلك في 5 من كانون الأوَّل سنة 1644، في هذا المجمع تنظَّمت أمور قانونيَّة على مستوى الأسرار، ولا سيَّما الزواج. هنا ظهر التقليد اللاتينيّ واضحًا، وخصوصًا ما يتعلَّق بالأعياد.

وانتقلنا مع المقالة الحادية عشرة (ص 265-341) إلى »تاريخ الموارنة في القرن الثامن عشر«. ذكر الدبس أوَّلاً الأعيان: آل الخازن وآل حبيش، بطرس الشدياق وابن أخيه منصور، الشيخ مسعد الخوري وابنه الشيخ غندور، مشايخ آل الظاهر الذين هم من بيت الرزّ، مشائخ آل الدحداح. مشايخ جبِّة بشرّي، مشايخ أبناء إدِّه. ثمَّ ذكر البطاركة، من جبرائيل البلوزاويّ حتّى فيلبّوس الجميِّل. وما جرى من أحداث في أيّامهم من المجمع اللبنانيّ حتّى قضيَّة الراهبة هنديَّة. وفي مرحلة ثالثة، عدَّد »مشاهير العلم«: »يوسف البانيّ، جرمانوس فرحات، بطرس مبارك، بطرس التولاويّ، يوسف سمعان السمعانيّ...« في فصل رابع، ذُكرت »المجامع التي عقدها رؤساء الموارنة: المجمع اللبنانيّ (1736) وما تبعه من مجامع، وصولاً إلى مجمع بكركي الأوَّل سنة 1790 مع البطريرك يوسف إسطفان. وانتهت هذه المقالة في الكلام عن »بعض أديار الموارنة ومدارسهم وكنائسهم«: مار إلياس الرأس، دير السيِّدة في ميفوق، مار الياس شويّا، مار إلياس الكحلونيَّة. أمّا رهبان مار أشعيا فأسَّسوا دير مار أشعياء، مار الياس غزير، مار عبدا المشمَّر، مار إلياس أنطلياس، مار سركيس إهدن، دير عوكر، دير مار يوحنّا القلعة، مار روكس ضهر الحسين، مار بطرس القطّين، مار أنطونيوس بعبدا، مار أنطونيوس البادوانيّ جزِّين، مار إدنا الفتوح... وبدأت المدارس: عينطورة، زغرتا، عين ورقة...

في هذه المقالة الحادية عشرة، والتي تليها، بحث المطران يوسف الدبس، فأعطى لمحة واسعة ومفصَّلة عمّا يميِّز تاريخ الموارنة: على المستوى الدنيويّ (الأمراء الشهابيّون، يوسف بك كرم) والعلوم (بطرس البستانيّ، فارس الشدياق، رشيد الدحداح، إبراهيم النجّار) والسلطة الكنسيَّة: البطاركة يوسف التيّان، يوحنّا الحلو، يوسف حبيش، يوسف الخازن، بولس مسعد، يوحنّا الحاجّ، إلياس الحويِّك بطريركنا الآن«. وأضاف هنا كراسي المطارين...

لمحة واسعة في »تاريخ الموارنة«. ولكنَّه تاريخ يتبع »الكرونولوجيا« أو توالي الأجيال. بدأ مع مار مارون وصولاً إلى الزمن الذي يعيش فيه الكاتب مع البطريرك إلياس الحويِّك. هو وصف يتوسَّع بين قرن من الزمن وقرن آخر. ولكن أين تسلسل الأحداث وما هو الهدف من سردها؟ لا شكَّ في أنَّ المطران الدبس جمع الحجارة الكثيرة، وذكر أسماء الأشخاص والأمكنة، وتوقَّف عند المجامع والأديار والكنائس والمدارس، ولكن ما علاقة كلِّ هذا »بالبيئة الجغرافيَّة وانعكاسات المحيط السياسيّ وتقلُّبات الأوضاع الاقتصاديَّة وتفاعلات العوامل اللغويَّة وتفشّي الآراء الفكريَّة المستحدثة«؟ ذاك ما كان ناقصًا في كتابة التاريخ في محاولة المطران يوسف الدبس. ولكنَّه لم يختلف عن معاصريه، مع أنَّه حاول أن يخطو خطوة بالنسبة إلى سابقيه من مؤرِّخي الموارنة، فأمَّن الإطار الجامع لهذه المعلومات العديدة التي يفتخر بها »المارونيّ«.

2 - القصد الرعائيّ من كتابة التاريخ

تعدَّدت الآراء حول المطران يوسف الدبس وطريقته في كتابة التاريخ. فقال فيه مثلاً سليم خطّار الدحداح، أحد أعضاء الرابطة المارونيَّة: »على كثرة تآليفه، لم يقُم بخدمة كبيرة لتاريخ الموارنة«. والدكتور الياس القطّار: »في اعتقادي، لقد جمع الدبس كلَّ ما حرَّرته الأصول والمصادر والمراجع عن مسألة القدّيس مارون وعن تلامذته، ولا أعتقد بأنَّها كُشفت أمورٌ ونقاط أخرى جديدة ومهمَّة من هذا الموضوع، بعد قرن تقريبًا على ما كتبه«. ولكنَّ هذا الباحث يتساءل عن المراجع التي أخذ عنها، ويعتبر أنَّه لم يَعُد إلى المصادر اللاتينيَّة، مع أنَّه ذكر غيّوم الصوريّ بالاسم والمرجع. أمّا النصوص الفرنسيَّة مثلاً فلا أظنُّ أنَّ أحدًا ترجمها قبله، لا سيَّما وأنَّ سابقيه لم يتوقَّفوا كثيرًا عند علاقة الموارنة بفرنسا. وتبقى المقالتان الحادية عشر والثانية عشرة من بحثه الخاصّ. فماذا نقُص المطران الدبس؟ النهج التاريخيّ الذي عرفناه في القرن العشرين.

أمّا الدكتور جوزف لبكي، فبعد أن ذكر المصادر والمراجع التي استقى منها الدبس، وأشار إلى المعلومات الوافرة في ما دوَّنه المطران الدبس، قدَّم تقويمه فقال:

»هذا الضعف في المنهجيَّة التي اتَّبعها يستدعي إعادة النظر في عدد من استنتاجاته المتسرِّعة. لكن يجب ألاّ ننسى أنَّ هذا العيب المنهجيّ وقع فيه معظم علماء عصره حتّى في الغرب نفسه«. وواصل كلامه عن الدبس: »وينتمي إلى المدرسة التي تعتمد على سرد الأحداث التاريخيَّة دون تعمُّق كافٍ في دراستها«.

وفي مجلَّة الحكمة التي أفردت سنة 1999 عددًا خاصٌّا »بمؤسِّس مدرسة الحكمة، المطران يوسف الدبس« كان موقف للدكتور أنطوان قسّيس:

»لم يكن المطران يوسف الدبس.... لاهوتيٌّا ومفكِّرًا ومؤرِّخًا وحسب، إنَّما كان صاحب مدرسة تاريخيَّة قلَّما عرفها زمانه أو من عاصره ممَّن كتب باللغة العربيَّة«.

آراء متعدِّدة حول »التاريخ« الذي كتبه الدبس. ولكنَّ الهدف الذي توخّاه من خلال هذه الأبحاث العلميَّة الواسعة، تحديد موقع سورية في هذا الخضمِّ العثمانيّ الذي كاد يُفرغ سورية ولبنان وفلسطين من كلِّ هويَّة. ثمَّ تحديد موقع المارونيَّة العائشة في لبنان بشكل خاصّ، ثمَّ في سورية وفلسطين ومصر، بين سائر الطوائف المسيحيَّة وغير المسيحيَّة. لهذا كان العنوان: تاريخ الموارنة المؤصَّل. هي جذور عميقة على المستوى الدينيّ كما على المستوى السياسيّ. من هذا المنطلق، نفهم السبب العميق الذي جعل المطران يوسف الدبس يكتب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ساعة بدأت كلُّ قوميَّة من القوميّات، تبحث عن موقع لها في المجتمع. فما هي هذه الأصول، أو هذه الجذور التي طلبها الدبس في خطِّ الذين سبقوه من علماء موارنة؟

أوَّلاً: الجذور السياسيَّة. أين يبدأ تاريخ الموارنة؟ في قلب لبنان. هو بلد المقاومة منذ البداية. لهذا اهتمَّ الدبس بأن يجمع بين الموارنة والمردة. فجاء عنوان في الجامع المفصَّل (ص 25): »إنَّ هؤلاء المردة كانوا موارنة«. وتوسَّع في هذا العنوان فقال:

»إن سطوات الموارنة المارّ ذكرهم وحربهم مع عساكر يوستنيانس التي سنروي أخبارَها، أكسبتهم لقب مردة الذي سمّاهم به المؤرِّخون القدماء المذكورون، وهذا ممّا لا يمتري فيه عالم بالتاريخ: ومُطالع لأقوال المؤرِّخين التي رويناها مترجمة بحروفها، إذ صرَّحوا بأنَّ المردة سكّان لبنان، وخرجوا من لبنان، فاستحوذوا على ما جاوره، وضبطوا مشارف وأعالي لبنان، إلى غير ذلك ممّا يدلُّ صراحة على أنَّ هؤلاء المردة إنَّما هم الموارنة سكّان لبنان وجواره. وإلاّ فمن أين أتى هذا الشعب الغفير الباسل إلى لبنان، ومتى هاجر إليه؟ ولم نرَ في كتب المؤرِّخين القدماء والحدثاء خطَّة تشير إلى مهاجرة شعبٍ أوطانه، وتوطُّنه في لبنان وجواره، فكان أولئك المسيحيّين المنتمين إلى القدّيس مارون ورهبانه«.

ولكن جاء من يرفض هذه المقولة وأوَّلهم الأب هنري لامنس اليسوعيّ الذي اعتبر أنَّ الجراجمة والمردة شعب واحد وجيش واحد، وبالتالي لا علاقة بين الموارنة والمردة.

كتب المطران الدبس هذا الكلام في تاريخ سورية، فردَّ عليه الأب لامنس في مجلَّة المشرق (1902، ص 829-830). فكتب الدبس مقالاً في المشرق (1903، ص 404-413):

»قد أتحفنا »المشرق الأغرّ« في هذه المدَّة بمقالتين. إحداهما للأب هنري لامنس اليسوعيّ، والثاني للأب أنستاس الكرمليّ (المشرق، 1903، ص 301-309) عنوانهما المردة أو الجراجمة. وبما أنَّ الغرض من المقالتين هو البحث العلميّ الصرف، كان يقيننا ثابتًا بأنَّ حضرة الكاتبين يتلقَّيان بالمسرَّة الخوض معهما في هذا الميدان«.

لم يهتمَّ الدبس كثيرًا بالأب أنستاس. فهو كاهن وحسب، ولا يعرف إلى أين يقوده كلامه. فالمسألة أبعد من مسألة نصوص وأبحاث، بل تتعلَّق بهويَّة شعب كامل. من هذا المنظار نفهم ردَّة فعل الدبس على لامنس، الذي لم يتَّخذ موقفًا بالنسبة إلى هذه المسألة العلميَّة« وقال الدبس: في مقال سابق (المشرق، 1902، ص 914-923) »أيَّدنا كلامنا بثمانية أدلَّة تثبت رأينا في أنَّ المردة اسم للموارنة في القرن السابع«.

ماذا قال الدبس في مقاله السابق؟

»قالت أبوَّتك (الأب لامنس) الجليلة في مسألة المردة وظهورهم بغتة في لبنان وخروجهم منه: ذهب العلماء فيها إلى مذاهب شتّى، وإنَّك لا تبدي فيها رأيًا، بل تترك لقرّائك أن يصوِّبوا الرأي الذي يرونه أصحّ وأثبت«. ويقدِّم الأدلَّة:

الدليل الأوَّل: الاعتماد على ما قال علماؤنا ومؤرِّخونا. الدليل الثاني: قال لامنس: هؤلاء المردة اندثروا بسرعة. وجواب الدبس: هم لبثوا في لبنان، لأنَّهم جزء من موارنته. الدليل الثالث: المردة هم تجاه الفئة الملكيَّة. الدليل الرابع: ماذا يفعل ثلاثة علماء يذكرهم لامنس تجاه العدد الكبير »من فطاحل العلم؟« الدليل الخامس: قال الأب لامنس إنَّ المردة دخلوا إلى لبنان. أمّا المطران الدبس فقرأ النصّ اللاتينيّ عند الأب مين: »في هذه السنة خرج المردة من لبنان، فضبطوا كلَّ ما كان من جبل الأسود إلى المدينة المقدَّسة«. ولكنَّ الدبس يدافع عن »دخلوا« فيعتبر أنَّ المردة الذين كانوا خارج لبنان »في حماة حيث كان مركزهم الدينيّ«، دخلوا إلى لبنان. الدليل السادس: قال لامنس بوجود الكثيرين من العبيد والأسرى والوطنيّين. فأجاب الدبس: هذا يعني أنَّ المردة لم يكونوا من الأغراب. الدليل السابع، مع أنَّهم رُحِّلوا عن هذه البلاد كعسكر لبثوا موجودين فيها، ممّا يعني أنَّهم منها. والدليل الثامن: لا اتِّفاق على أصل المردة.

هذا الدليل الثامن مهم$ جدٌّا، لأنَّه يربط الموارنة بغياهب التاريخ، فيتجذَّرون عميقًا في هذه الأرض. ونحن لا نعجب من ذلك والمدن القديمة تبني أساساتها على »الأسطورة«. فرومة جعلت أساساتها في طروادة اليونانيَّة الأيونيَّة بواسطة إينيه الذي جاء من الشرق إلى الغرب.

ثانيًا: الجذور الكنسيَّة. كلُّ كنيسة تحاول أن تتأسَّس على أحد الرسل أو أقلَّه على الشهود الأوَّلين للمسيح. فكنيسة الإسكندريَّة تستند إلى مرقس، والقسطنطينيَّة إلى أندراوس، ورومة إلى بطرس وبولس، وأنطاكية إلى بطرس، وأفسس إلى يوحنّا وتيموتاوس. والموارنة؟ استندوا في البدء إلى أنطاكية، ولبثوا على هذا الاستناد إلى أيّامنا، فدعوا أبناء الكنيسة الأنطاكيَّة السريانيَّة المارونيَّة. ولكن ماذا بقي من أنطاكية ومن الكنائس التي ارتبطت بها، وهي مبعثرة مفتَّتة أشلاء، موزَّعة بين الشرق والغرب؟

حينئذٍ تطلَّعوا إلى رومة حين أتيح لهم الاتِّصال بها، ولا سيَّما مع الوجود الصليبيّ. وفي هذا المجال رفضوا قول غيّوم الصوريّ الذي أشرنا إليه، قال المطران الدبس في الجامع المفصَّل (ص 133):

»إنَّ كلام غوليلمس هذا يتضمَّن أمرين. الأوَّل، أخبارُه عن تسكُّع الموارنة خمس مئة سنة في الضلال تبعًا لمارون المبتدع وانعقاد المجمع السادس لنبذ ضلالهم وحرمه لهم. والثاني خبره عن ارتجاعهم على يد إيميريكس بطريرك أنطاكية. فالأوَّل كاذب بجملته، والثاني صادق في بعض الموارنة، لا كلّهم. وهناك البيان الأوَّل: إنَّ غوليلمس يقول: إنَّ المجمع السادس عُقد ضدَّ الموارنة (كما هي حرفيَّة العبارة) وأنَّه حرمهم. فنراهن كلَّ من شاء على أن يبيِّن لنا كلمة أو إشارة في النصِّ اليونانيّ لهذا المجمع أو ترجمته اللاتينيَّة القديمة، تُشعر بأنَّ هذا المجمع عُقد ضدَّ الموارنة أو أبان بأنَّه حرمهم«.

ثمَّ قدَّم الدبس استشهادًا »برسالة البابا إينوشنسيوس الثالث الموجَّهة إلى بطريرك الموارنة وأساقفتهم والشعب المارونيّ يولي فيه البابا البطريرك جميع حقوق البطريركيَّة الأنطاكيَّة من خضوع المطارنة له، واستعمال الباليوم درع اكتمال الخدمة الحبريَّة »على مألوف العادة«. وأضاف قداسته: »ونثبِّت لك ولمن سلفوا قبلك في الكنيسة الأنطاكيَّة إلى الآن ونهبها لك ولخلفائك بالسلطان الرسولي«.

ثالثًا: الجذور العقائديَّة. علاقة الموارنة بالمونوتيليَّة أو أصحاب المشيئة الواحدة. نبدأ فنقرأ ما دوَّنه الأسقف الملكيّ على صيدا، بولس الأنطاكيّ:

إنَّ فرق النصارى المتعارفة في وقتنا هذا أربع فرق، وذلك ملكيَّة ونسطوريَّة ويعاقبة وموارنة«. ثمَّ حدَّد الموارنة: »وأمّا الموارنة، فيعتقدون أنَّه أقنوم واحد إلهيّ. وطبيعتان، طبيعة إلهيَّة وطبيعة بشريَّة، وفعل واحد إلهيّ، ومشيئة واحدة إلهيَّة«. أبدأ أنا فأطرح السؤال: كيف عرف بولس الأنطاكيّ المورانة، وهل استند بشكل خاصّ إلى الكفرطابيّ؟ أو إلى »مؤلَّفات القدّيس يوحنّا مارون«؟

وماذا كان جواب المطران الدبس؟ أوَّلاً، براءة القدّيس مارون الناسك من هذه البدعة التي ظهرت بعده بمئتي سنة ونيِّف (ص 71). وإذا كان البابا بناديكتس الرابع عشر »أثبت قداسة مارون الرئيس«، فماذا نقول بعد ذلك؟ (ص 75). ثمَّ نشر الدبس رسالة كتبها قداسته إلى الأب نيقولاوس مركاري كاتب مجمع نشر الإيمان، هذه ترجمتها عن كتاب براءته (مجلَّد 4، ص 64، عن طبعته في رومة سنة 1758). والمناسبة: الأخ المحترم كيرلُّس بطريرك الروم الملكيّين مزَّق صور القدّيس مارون المطبوعة في رومة، وأعلن أنَّه لا يجوز إحصاؤه بين القدّيسين، لأنَّه عاش أرتيكيٌّا...«. وتابع النصّ البابويّ: ... اغتظنا أشدَّ الاغتياظ ممّا فعله الأخ المحترم كيرلُّس البطريرك بجسارة وعلى غير رويَّة، وكأنَّه أراد أن يتباهى بعمله وخبرته...« (ص 75-76).

ولا مجال هنا لذكر الجدال القاسيّ بين المطران يوسف الدبس، والمطران أقليمس يوسف داود، بل نكتفي بذكر مقدِّمة المطران داود عن الموارنة:

»فإنَّهم، مع علمهم بكثرة النفقات والأتعاب والمشقّات التي تكلّفَها الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ المقدَّس في الأحقاب الماضية على يد رهبانه ورسله وقصّاده لنشل تلك الطائفة من وهدة الضلال الذي كانت فيه يومًا وتثقيفها وتثبيتها في محجَّة الإيمان المستقيم، أنكروا ذلك وزعموا أنَّ أجدادهم تثبَّتوا في كلِّ الأجيال والقرون على الديانة الصحيحة وعلى طاعة الكنيسة الرومانيَّة أمِّ الكنائس الكاثليكيَّة دون سائر الطوائف الشرقيَّة، وأنَّهم لم يحتاجوا قطّ إلى من يهديهم ويرشدهم من الغرباء، وأنَّهم قد كانوا في كلِّ جيل وعصر بين سائر الطوائف النصرانيَّة الشرقيَّة مثل الورد بين الشوك، فهذا الزعم، فضلاً عن أنَّه مهين للكنائس المسيحيَّة الشرقيَّة، التي في الأعصار الماضية نبغ فيها الملافنة الجليلون وأولياء ا؟ الأطهار والعلماء الماهرون في كلِّ فنٍّ وكلِّ باب، فهو لا يخلو من أن يوجب عدم الشكر والكفران بما للكنيسة الرومانيَّة الفضل العظيم على الأمَّة المارونيَّة«.

ماذا ننتظر أن يكون جواب المطران الدبس في الدفاع عن الطائفة المارونيَّة؟ وفي أيِّ حال، ستكون رومة بجانب مطران بيروت وتفرض على المطران داود التراجع عن هجماته والاعتذار.

والجواب الأخير للدبس: »فمنذ نشأة بدعة المشيئة الواحدة في القرن السابع حتّى القرن العاشر، لا نجد خطَّة في مجمع أو في إحدى رسائل الأحبار الأعظمين أو في أحد كتب المؤلِّفين تشير إلى أنَّ مارون أو يوحنّا مارون أو الموارنة كانوا من المبدعين، أو تابعوا على بدعة، بل نرى المجامع والأحبار الأعظمين والمؤرِّخين البيعيّين ذكروا كلَّ بدعة وبيَّنوا من ابتدعها...«.

الخاتمة

ذاك الذي درس سنتين في عين ورقة، فأتقن على أثرها وبعد جهد شخصيّ اللغتين اللاتينيَّة والإيطاليَّة، ذاك الذي درس اللاهوت، لا في المعاهد، بل على يد الآباء الكرمليّين في طرابلس، ذاك الذي لم يمضِ إلى الجامعات في لبنان ولا في خارج لبنان، وصل إلى درجة من العلم جعلته يقابل عالمًا يسوعيٌّا مثل الأب هنري لامنس وينتهي النقاش بينهما على مستوى المحبَّة. ذاك الذي عرف الفرنسيَّة والسريانيَّة إضافة إلى العربيَّة، فامتلك السلاح الذي به يخوض غمار التاريخ فيصبح تاريخ سورية والجامع المفصَّل ينبوعين يستقي منهما الكثيرَ ابنُ القرن العشرين. اهتمَّ بالعلم فكان العالِم وأسَّس المدرسة والجامعة، ولكنَّ المنهجيَّة التي نعرفها اليوم لم تصل إليه، فجمع المعلومات وكدَّسها وقدَّمها في شكل اعتاد عليه عصره والعصور التي سبقته. ولكن يبقى له منهجه الخاصّ الذي فيه تفوَّق على الذين سبقوه من الموارنة. وما كان المؤرِّخ فقط، بل كان اللاهوتيّ الذي عرف مثلاً أنَّ المشيئة ترتبط بالطبيعة، وأنَّه إذا كان في المسيح طبيعتان، كما يقول الموارنة، فلا يمكن أن يقول بمشيئة واحدة هي المشيئة الإلهيَّة. كلُّ هذا استعمله من أجل شعبه فيعرفون جذورهم السياسيَّة والكنائسيَّة والعقائديَّة، ويفتخرون بما لهم من الآباء والأجداد، ويفهمون مسؤوليّاتهم في الآتي من الأيّام. ذاك ما أراد أن يقوله لنا ذاك الذي يُعتبَر أكبر شخصيَّة مارونيَّة في القرن التاسع عشر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM