عظات حول سفر التكوين
ليوحنّا الذهبيّ الفم
ترك الذهبيّ الفم آثارًا واسعة، معظمها عظات سجَّلها السامعون بشكل ملخَّصات أو بطريقة الاختزال sténo، وما كتبها يوحنّا بيده. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى ديموستين خطيب أثينة، وشيشرون خطيب رومة، وأوغسطين أسقف عنّابة في أفريقيا الشماليَّة. عظات فيها الشرح الكتابيّ الذي أخذه هذا الواعظ عن معلِّمه ديودور أسقف طرسوس، وفي رفقة تيودور أسقف المصيصة. وفيها الأمور الخلقيَّة. فالذهبيّ الفم يعتبر نفسه طبيب النفوس الذي يشخِّص الأمراض ويتفهَّم الضعف البشريّ ولكنَّه لا يتوانى في إصلاح الخلل في المجتمع من أنانيَّة وزنى وكبرياء. وبين هذه العظات ثمانٍ حول سفر التكوين أُلقيَت خلال صوم 386 فتوقَّفت عند الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين.
عن هذه العظات نتكلَّم، فنكتشف غناها الكتابيّ أوَّلاً ولا ننسى الناحية الخلقيَّة في خطِّ ما قال يوحنّا نفسه لمؤمني أنطاكية في عظة من عظاته حول التماثيل: "مضت سنتان وأنا أحدِّث محبَّتكم، وما تومَّلت أن أشرح مئة سطر من الكتب المقدَّسة. والسبب هو أنَّكم تحتاجون أن تتعلَّموا من فمنا ما يمكنكم أن تحقِّقوه عندكم وبيدكم. هكذا يكرَّس القسمُ الكبير من الإرشاد للكرازة الخلقيَّة. يجب أن لا يكون الأمر هكذا. بل عليكم أن تسهروا بأنفسكم على تكوين عاداتكم، وتسلِّموا إلينا شرح الكتب المقدَّسة ومعناها الثاني".
1- عظات ثمان
"أتذكرون المسائل التي عُرضت عليكم في الأمس؟ فقد وصلتم إلى درجة كبيرة من التهوُّر والجرأة، بحيث جئنا نواجه الآن هذه المسائل بالجرأة عينها. أو بالأحرى، هذا ليس نتيجة الجرأة والتهوُّر، لأنَّنا لا نتَّكل على قوانا الخاصَّة، بل سلَّمنا المشروع كلَّه إلى صلوات الكهنة وإلى صلواتكم. هكذا كان استعدادنا قبل الذهاب إلى الحلبة. فلصلاة الكنيسة سلطانٌ كبير بحيث لو كنّا صامتين مثل الحجارة، تجعل هذه الصلاة لساننا أخفّ من كلِّ جناح. فكما أنَّ النسيم الذي يسقط في قلب أشرعة السفينة، يدفع المركب فيجعله أسرع من السهم، كذلك صلاة الكنيسة أيضًا حين تسقط على لسان الخطيب، فهي تدفع الخطبة بقوَّة أكثر من قوَّة النسيم. لهذا، نحن أيضًا كلَّ يوم، نستعدُّ بثقة. فإن كان في القتال الدنيويّ، عشرة مساندين أو عشرون وسط جمع غفير، فينزل المقاتل إلى الحلبة ويشجِّع، فكم بالأحرى نحن! فليس لنا فقط عشرة مساندين أو عشرون، بل الجمع كلُّه يتكوَّن من إخوتنا وآبائنا، بحيث تتمُّ بثقة هذه المهمَّة. إنَّما في القتال الدنيويّ، لا يكون للمقاتل كبير فائدة من المُشاهد: فعمل المُشاهد ينحصر في إطلاق صراخ التعجُّب أمام ما يحلَّل، وفي مخاصمة مساندي مزاحمه، من علوِّ مكانه. مقابل هذا، فالنزول إلى الحلبة، ومدُّ اليد، وسَحب رجل الخصم... غير مسموح. أمّا معنا نحن، فليس الأمر هكذا. فالسيِّد يستطيع أن ينزل بجانبنا وكذلك المشاهدون. يقفون قربنا، يشجِّعوننا، وبفضل ثباتهم تتثبَّت قوانا" (عظات، ص 180-183).
انطلق الدارسون من هذا المطلع، حيث يطلب يوحنّا صلاة إخوته، فتحدَّثوا عن خوفه وعدم خبرته حين يعتلي المنبر. هو في السنة الأولى من رسامته الكهنوتيَّة، سنة 386[3]. إذًا، ألقى هذه العظات سنة 386. وفي زمن الصوم الكبير. ففي تلك الأيّام من الاستعداد للعماد لدى الموعوظين، وللمناولة الفصحيَّة للمؤمنين، هو نظام جديد يشهد له القانون الخامس في مجمع نيقية. وهناك ثلاثة عناصر تحدِّد موقع هذه المواعظ في زمن الصوم.
ففي أربع عظات يُشار إلى الصوم. في العظة الأولى نقرأ: "الربيع عذبٌ للملاّحين، وهو عذب أيضًا للفلاّحين. ولكنَّ الربيع ليس بعذب للملاّحين والفلاّحين، بقدر ما زمن الصوم المؤاتي عذب لدراسة الحكمة والتأمُّل المسيحيّ" (1: 3). وفي العظة الخامسة (سطر 210): "هل نسمع هذا الصوت الهنيء؟ أمّا أنا فلا أستطيع أن أؤكِّد ذلك، لأنَّ احتقار الفقراء كبير عندنا. وزمن الصوم المؤاتي حيث نسمع التعليم في عددٍ من الدروس المتعلِّقة بالخلاص، صلوات متواصلة، اجتماعات يوميَّة...". وفي العظة الثالثة (س 9-15)، يتحدَّث الواعظ عن زمن تخفيف الحمل، موضوع محبَّة الله. وفي الخامسة، يعلن أنَّ الصوم بدون المحبَّة ليس بشيء (س 210-213).
كان يوحنّا يلتقي الجماعة كلَّ يوم. في الساعة الثالثة بعد الظهر. أمّا موقع سفر التكوين من أجل التعليم الأربعينيّ، فأمرٌ معروف في القرن الرابع. تحدَّثت إيجيرية عن شرح مقاطع هذا السفر في أورشليم. وفي أفريقيا، كان سفر التكوين نقطة الانطلاق للعظة عند أوغسطين في التعليم المسيحيّ. ونقول الشيء عينه عن سافاريان من جبلة في أنطاكية، وباسيل أسقف قيصريَّة وأمبروسيوس أسقف ميلانو. هؤلاء كلُّهم يعظون سفر التكوين ولاسيَّما الفصول الثلاثة الأولى منه.
هناك أسباب لاهوتيَّة وجيهة تشرح موقع سفر التكوين في زمن الفصح. بما أنَّ المعموديَّة التي تُعطى ليلة الفصح، هي خلق جديد في الإيمان بالمسيح الفادي، فالإيمان بالله الخالق يشكِّل مقدِّمة لا بدَّ منها. والتعليم البولسيّ مهمّ جدًّا في هذه الصياغة اللاهوتيَّة: "إن كان واحدٌ في المسيح، فهو خليقة جديدة" (2كو 5: 17). ففي داخل هذا الإطار الليتورجيّ، وعت الكنيسة الأولى التدبير الخلاصيّ في وحدته. وتشهد على ذلك كرازة الذهبيّ الفم الذي أراد لسامعيه أن يعوا إرادة الله الخلاصيَّة، منذ الخلق حتّى الفداء: "من أجله (= الإنسان) خُلقت السماء والأرض والبحر وسائر الخلائق. من أجل الإنسان الذي رغب الله بخلاصه رغبة كبيرة بحيث لم يوفِّر ابنه الوحيد من أجله" (2: 57-60). ثمَّ إنَّ النفحة الإسكاتولوجيَّة في نهاية العظات، تعطي البُعد الأخير لهذا الخلق الجديد.
ونقرأ في العظة الأولى، س 304-311: "حين لا يكون تعب ولا خطر ولا ارتياب ولا حظّ سيِّئ، وحين يكون ما ينمو أكثر وفرًا من الذي رُميَ في الأرض، وحين تُفرخ خيرات كثيرة "ما رأتها عين، ولا سمعت بها أذن، ولا خطرت على قلب بشر" (1كو 2: 9)، كيف لا نكون مهملين حين نتخلّى عمّا هو أكيد، لنطلب ما لا يوثق به، ما يحمل الأخطار ويتضمَّن عددًا من الخطوط السيِّئة".
وفي العظة الثانية (س 170-178): "أردت أيضًا أن أضيف بعض الكلمات في ما يخصُّ الصدقة، ولكنَّ الوقت لا يسمح لنا. حينئذٍ نصمت منذ الآن بعد أن فرضنا الحفظ بدقَّة لكلِّ ما قيل، والأخذ بعناية كبيرة، بسلوك مستقيم، لئلاّ نكون اجتمعنا هنا باطلاً وصدفة... لنصنع إذًا مشيئة الله بالجهوزيَّة التامَّة واللطف والغيرة الممكنين لكي نستطيع أن ندخل إلى السماوات وننال الخيرات المحفوظة لمحبّي الله. يا ليته يكون لنا جميعًا أن نشارك فيها بنعمة المسيح: فله ولأبيه وللروح القدس المجدُ والكرامة والسلطان إلى دهر الدهور. آمين.
وفي العظة السادسة (س 140-161): "اجعل من بيتك كنيسة. فعليك أن تؤدّي حسابًا أيضًا عن أولادك كما عن خدمك. وكما نحن نُطالب بالحساب تجاهكم، كذلك كلُّ واحد منكم يرى نفسه مطالبًا بالحساب تجاه خادمه، تجاه امرأته، تجاه ولده. في خطٍّ مثل هذه الأخبار، تستقبلنا الأحلام المنآة عن كلِّ ظهور استشباهيّ. فتلك هي الاهتمامات العاديَّة لدى أنفس خلال النهار، وتلك هي أيضًا التخيُّلات التي تجتاح رقادنا. وإذا حفظنا في الذاكرة ما يُقال كلَّ يوم، لن نحتاج إلى تعب كثير. فالكلام الذي يلي يكون أكثر وضوحًا ونحن نهتمُّ بالتعليم اهتمامًا أكثر. ولكن تكون فائدة أكبر لنا ولكم، لنا حين نعلِّم، ولكم حين تسمعون، قدِّموا مع المائدة المادِّيَّة المائدة الروحيَّة أيضًا فتكون لكم الطمأنينة وهذا الترتيب العجيب، والله يوجِّه الأعمال الحاضرة من أجل منفعتكم وكلّ شيء يكون سهلاً، هيِّنًا. لأنَّ يسوع قال: "أطلبوا أوَّلاً ملكوت السماوات، وكلُّ هذا يزاد لكم" (مت 6: 33). إذًا، نطلب هذا الملكوت لننال معًا خيرات هذه الدنيا وخيرات الأخرى، بنعمة يسوع ربِّنا ومحبَّته للبشر. به ومعه المجد للآب وللروح القدس الآن وعلى الدوام وإلى دهر الدهور. آمين".
وهكذا فعمل الله الذي يدشِّن الخلق يجد كماله في العالم الآخر. ومرمى الحياة المسيحيَّة بشكل عامّ والصيام بشكل خاصّ البلوغ إلى السعادة الأبديَّة. بهذه الثقة يشرح الواعظ الدعوة التي يوجِّهها المسيح للمختارين. فهل نسمع صوت السعادة والهناء هذا؟
2- الغنى الكتابيّ في هذه العظات
مواضيع عديدة ترد في هذه العظات: الإنسان يُقاد نحو خالقه عبر جمال الخلق (1: 142-145). في البدء، وُجدت دالَّة بين الله والإنسان. وبعد الخطيئة أعاد الله هذا الرباط الذي قُطع: وجَّه رسالة إلى الإنسان بواسطة موسى (1: 141-151). فتربية الله تشبه تربية ولد من أولادنا (1: 152-155). إنَّ استعمال لفظ "لنصنع" (تك 1: 26) تدلُّ على كرامة الإنسان السامية (2: 184-187). والإنسان الذي خُلق في نهاية أعمال الله، يُشبه ملكًا يدخل إلى مدينة هُيِّئ له فيها كلُّ شيء (2: 186-187)... أمّا التوجُّه الأوَّل، فهو يتركَّز على الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله.
أ- لنصنع الإنسان
تلا القارئ على مسامع الشعب تك 1: 26: لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا، فقام يوحنّا يشرح هذه الآية. أمّا الأسئلة المطروحة منذ البداية فهي: لماذا قال الله بالنسبة إلى الشمس والقمر والسماء وسائر الخلائق: لتكن (تك 1: 3). أمّا للإنسان، فقال: "لنصنع" (1: 26). وما معنى عبارة: على صورة. بعد المقدِّمة، بدأ يوحنّا شرح النصِّ الكتابيّ في العظة الثانية (س 49-78) والعنوان: كرِّم الإنسان من خلال لفظ: لنصنع.
"أوَّلاً، ينبغي أن نبحث فقط في النقطة التالية: لماذا، حين وُجدت السماء، لم يُقَل "لنصنع"، بل "لتكن السماء" (تك 1: 6)، "ليكن النور" (تك 1: 3). وهكذا على التوالي بالنسبة إلى كلِّ جزء من الخليقة. فهل يشكِّل الفعل "لنصنع" في هذا الموضع فقط، تشاورًا، تفكيرًا، مشاركة مع شخص آخر، مساوٍ في الكرامة؟ ومن هو الذي يُخلَق فينعم بمثل هذه الكرامة الكبيرة؟ هو الإنسان، الكاهن الحيّ، الكبير والعجيب، الذي هو في نظر الله، أهل لكرامة تفوق الخليقة كلَّها. من أجله خُلقت السماء والأرض والبحر وما تبقّى من مجمل الخليقة. الإنسان الذي رغب الله في خلاصه رغبة كبيرة، وبسبب ما وقَّر ابنه الوحيد. فالله ما فتئ يعمل بكلِّ الوسائل ليصعده وليجلسه من عن يمينه. وقد هتف بولس: "أقامنا وأجلسنا معه، عن يمينه، في السماوات، في المسيح يسوع" (أف 2: 6).
"لهذا، هناك تشاور وتفكير ومشاركة. هذا لا يعني أنَّ الله يحتاج إلى التشاور، لا سمح الله، بل إنَّ شكل الفصل يدلُّ على كرامة الكائن المخلوق. فيُقال لي: إذا كان أهلاً لكرامة تفوق الكونَ كلَّه، فكيف حصل أن يُخلَق بعد الكون؟ لأنَّه أكثر أهليَّة للكرامة من الكون. فهذا مثل ملك يدخل منتصرًا: القوّاد والرؤساء والحرس الشخصيّ والعبيد يسيرون أمامه لكي يستقبلوا الملك بكرامة عظيمة. بعد أن يهيِّئوا القصر ويُعدُّوا كلَّ الباقي من أجل خدمته. هكذا هو الأمرُ هنا: فمثل ملك يُدخل (إلى قصره)، سارت الشمس أمامه، والسماء ركضت أمامه، والنور دخل أمامه، وكلُّ شيء جاء إلى الوجود وأعِدَّ: حينئذٍ أُدخل الإنسان في النهاية، بكرامة عظيمة".
ب- مع من يتشاور الله
"لنصنع الإنسان بحسب صورتنا" (تك 1: 26). يسمع اليهوديّ. هو يقول: لمن قال الله: "لنصنع"؟ موسى هو الذي كتب هذا. موسى الذي يعتبر اليهود أنَّهم به يؤمنون فمن الواضح أنَّهم لا يؤمنون به. قال يسوع: "لو كنتم تؤمنون بموسى لآمنتم بي" (يو 5: 46). في الحقيقة، عندهم الكتب، ولكن عندنا الكنز الذي تتضمَّنه الكتب. عندهم الحرف، أمّا عندنا فالحرف والروح.
"إذًا، لمن قال الله: لنصنع الإنسان؟ يجيب اليهوديّ: إلى ملاك أو رئيس ملائكة. حقًّا أمركم مثل عبيد يستحقّون السوط: حين يوبِّخهم سيِّدهم ولا يستطيعون أن يجيبوا بلا مواربة، يعلنون إطلاقًا كلَّ ما يدور في فكرهم. قال اليهوديّ: توجَّه الله إلى ملاك أو رئيس ملائكة. ولكن أيَّ نوع من الملائكة؟ أيَّ نوع من رؤساء الملائكة؟ فلا سلطان للملائكة بأن يخلقوا ولا لرؤساء الملائكة بأن يُسمَّوا هذا. فحين خلق السماء والأرض، ما توجَّه إلى ملاك ولا إلى رئيس ملائكة، بل أنتج كلَّ شيء بنفسه. وحين أنتج الكائن الحيّ الذي هو أكرم من السماء والكون كلّه، حين خلق الإنسان، أيكون أشرك العبيد في خلقه؟ ولماذا؟
"لا، لا. ليس الأمر هكذا: أُعطي للملائكة أن يكونوا معاونين، لا خالقين، ولرؤساء الملائكة أن يؤدُّوا السجود لا أن يكونوا مشاركين في فكر الله وتشاوره. واسمع ما يقول أشعيا عن القوّات السرافيميَّة الذين يقفون فوق رؤساء الملائكة: "رأيت السيِّد الربَّ جالسًا هناك على عرش عالٍ رفيع، والسرافيم وقوف حوله. لكلِّ واحد ستَّة أجنحة، وبجناحين اثنين يغطّي وجهه" (أش 6: 1-3). وذلك لكي يحمي عينيه لأنَّهما لا تستطيعان تحمُّل النور الذي يجري من العرش. ماذا تقول؟ يقف السرافيم لدى العرش، في إعجاب كبير وفي رعدة، وذلك حين ينظرون تنازل الله. أترى الملائكة يشاركون في فكره ويقاسمونه تفكيره؟ ليس هذا بالرأي المعقول.
"ولكن من هو الذي قال له: لنصنع الإنسان؟ هو المشير العجيب، صاحب السلطان، الله القدير، رئيس السلام، أبو الدهر الآتي (أش 9: 5)، ابن الله الوحيد شخصيًّا له قال: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا" (تك 1: 26). وما قال أيضًا: "صورتي وصورتك" ولا "صورتي وصورتكم... بل "بحسب صورتنا"، فدلَّ هكذا أنَّ هناك صورة واحدة ومثالاً واحدًا. والحالّ، بين الله والملائكة لا صورة ولا تشبيه واحد. فكيف تكون صورة واحدة وشبه واحد بين السيِّد وعابديه؟" (2: 79-123).
ج- السيادة على الحيوان والسيادة على الأهواء
بعد "حوار" مع اليهوديّ حول مشاركة الله في الخلق، ننتقل إلى العظة الثالثة (س 40-71) مع مسألة مضاعفة: هل يستطيع الإنسان أن يسود أهواءه؟ هل يستطيع أن يسود الحيوانات المفترسة؟ أمّا صورة الله ومثاله فتعني تشبُّهًا بلطف الله ووداعته.
"سمعنا أنَّ الله صنع الإنسان بحسب الصورة. ذاك ما تعنيه العبارة: حسب صورة وحسب المثال، أو الشبه، كما سبق وقلنا: ليس هذا غياب اختلاف أونطولوجيّ، بل تشابهًا على مستوى الأمر. أمّا العبارة "حسب المثال" فتعني أن يكون داجنًا ووديعًا، ويكون قدر الإمكان، شبيهًا بالله على مستوى الفضيلة، كما قال المسيح: "تشبَّهوا بأبي الذي في السماوات" (مت 5: 45). فكما أنَّه في مدى الأرض الواسعة، بعض الكائنات محرومة من العقل، وأخرى متوحِّشة، كذلك في مدى نفسنا: بعض أفكارنا محرومة من العقل وأكثر بهيميَّة، وأخرى أكثر توحُّشًا وافتراسًا. إذًا، ينبغي أن نسودها، نتغلَّب عليها، ونسلِّم إلى العقل سلطة إرسال الأوامر لها. وتقولون: كيف نستطيع أن نتغلَّب على فكرة متوحِّشة؟ ماذا تقول، أيُّها الإنسان؟ نتغلَّب على الأفود وندجِّن نفسنا، ونشكّ أنَّها تستطيع أن تدجِّن وحشيَّة فكرتك؟ ومع ذلك، ففي وضع الأسد، طابع التوحُّش يوافق الطبيعة، وطابع التدجين يخالف الطبيعة. أمّا في وصفك، فالأمر يختلف: فالوداعة توافق الطبيعة والوحشيَّة تعارض الطبيعة.
"فأنت الذي ترذل الطابع الموافق للطبيعة وتجعل الطابع المعارض للطبيعة في نفس الحيوان المتوحِّش، ألا تستطيع أن تحفظ في نفسك الطابع الذي يوافق الطبيعة؟ أما هذا علامة لامبالاة كبيرة؟ وحين نكون أمام نفس الأسود، تضاف صعوبة أخرى على تلك التي سبقتها: فنفس الوحش محرومة من البراهين. ومع ذلك، اقتدتَ مرارًا إلى الساحة، أسودًا مدجَّنة أكثر من الخراف، وكثيرون يرمون الفضَّة لصاحبها كأجر للفنِّ والمهارة اللذين بهما دجِّن الوحش ومع نفسك، حيث العقلُ ومخافة الله وكلّ أنواع المعونات الآتية من كلِّ حدب وصوب؟ إذًا، لا تتذرَّع باعتذارات وذرائع، لأنَّ في قدرتك، إذا شئت، أن تكون مدجَّنًا، وديعًا".
3- الكتاب يشرح الكتاب
أ- من سفر التكوين إلى سفر التكوين
ذاك مبدأ عرفه آباء الكنيسة: الكتاب يشرح الكتاب. ويوحنّا ألقى الضوء على سفر التكوين بواسطة آيات مأخوذة من سفر التكوين، ليبرهن عن حقيقة يعتبرها أساسيَّة.
لم يُخلَق الإنسان عبدًا، بل هو فوق الخليقة، وهذا ما يبنيه التعارض بين "لنصنع" في تك 1: 26 وبين "ليكن" في 1: 3، 6. فالإنسان امتلك في الأصل، السيادة على الحيوانات (2: 49-52) فاستطاع أن يدعوها بأسماء.
"نحن نرتعب أمام الوحوش، نخاف بعد أن سقطنا من إعطاء الأوامر. لا أقول عكس ذلك، بل أؤكِّده. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ شريعة الله كاذبة. ففي البدء، لم تكن الأمور على هذه الحال: فالبهائم كانت تخاف الإنسان، ترتعد أمامه وتخضع كما لسيِّدها. ولكن حين سقطنا من دالَّتنا لدى الله ومن كرامتنا، خفنا منها.
"من أيِّ برهان يأتي هذا اليقين؟" جاء الله بالحيوانات إلى آدم ليرى كيف يسمّيها (تك 2: 19). وما هرب آدم مثل رجل صار فريسة الخوف: أعطاها كلَّها أسماءها مثل عبيد خاضعين له. تلك هي علامة سلطان السيِّد. لهذا، بما أنَّ الله أراد أن يبيِّن له أيضًا بهذه الفعلة، عظمةَ سلطانه، لكنَّه بإعطاء الأسماء، فدعاها بالأسماء التي نسبها الإنسان لها. قال الله: "كلُّ ما دعا به آدم كان اسمه" (تك 2: 19).
إذًا، تلك علامة أولى بأنَّ الوحوش لم تكن تُرعب الإنسان في البدء. وإليك علامة ثانية أوضح من الأولى: حوار الحيَّة مع المرأة (تك 3: 1-5). فلو أنَّ الوحوش أرعبت البشر، لما كانت المرأة لبثت مكانها حين رأت الحيَّة: كانت هربت، وما تقبَّلت نصيحتها. ولا تحاورت معها باطمئنان كامل. بل كانت أصابتها الرعدة وفرَّت. ولكنَّها تحاورت معها وما خافت، لأنَّ ذاك لم يكن موجودًا في ذلك الوقت. ولكن ما إن دخلت الخطيئة حتّى انتزعت أيضًا الامتيازات أيضًا الامتيازات المرتبطة بالكرامة..." (3: 88-112).
هذه الكرامة الرفيعة التي نالها الرجل، نالتها المرأة أيضًا. وفعل الأمر "لنصنع" الذي تفوَّه به الله حين خلق المرأة في تك 2: 18هو صدى للفعل الذي يماثله. ويثبت هذه المساواة تك 2: 20 حيث يجد آدم ما يساويه وسط الحيوانات. إذًا، بدا خضوع المرأة لزوجها نتيجة الخطيئة في تك 3: 6، على مثال خضوع العبيد لأسيادهم، وهو ينبع من ذنب حام تجاه أبيه نوح، وهو ذنب خطير جدًّا (تك 9: 20) بحيث يبدو بسيطًا تجاه سكر نوح.
نورد أوَّلاً ما قاله الذهبيّ الفم حول خضوع المرأة للرجل: "إذًا، وجدت وصيَّة أولى وعبوديَّة أولى، بحسبهما يسودُ الرجالُ النساء. فبعد الخطيئة صار هذا الوضع ضروريًّا. فقبل العصيان كانت المرأة مساوية للرجل على مستوى الكرامة. فحين كوَّنها الله، استعمل لخلق الرجل الكلمات التي استعملها لخلق المرأة. فكما قال "لنصنع الرجل بحسب صورتنا وبحسب مثالنا" ولم يقل "ليكن رجل"، كذلك بالنسبة إليها لم يقل: لتكن امرأة. بل هنا أيضًا: "لنصنع له عونًا". لا عون فقط، بل عون يقابله (تك 2: 18)، فدلَّ أيضًا على المساواة في الكرامة.
"فحين جاء من أجل حاجاتنا الحيويَّة العديدة، بكائنات محرومة من العقل لتكون شريكًا ومساعدًا، بحيث لا تظنّ أنَّ المرأة جزء من العبيد، أنظر كيف بيَّن الفرق بوضوح. قال الكتاب: "أتى بالوحوش إلى آدم، فما وجد عونًا شبيهًا به يقابله" (تك 2: 19-20). أما يكون الجواد عونًا وهو الذي يقف بجانبنا في زمن الحرب؟ والبقر أما هو عون، مع أنَّه يجرُّ المحراث ويتعب معنا حين زمن البذار؟ والحمار والبغل أما هما عونان يساعداننا لنقل الأمتعة؟ لهذا بيَّن بدقَّة. فما قال فقط: لم يُوجد عونٌ له، بل "لم يوجد عون يشبهه" (تك 2: 20). وهنا أيضًا: لا نصنع له فقط عونًا، بل عون يقابله".
"تلك هي الحالة قبل الخطيئة. ولكن بعد الخطيئة: "تنقادين إلى زوجك وهو يتسلَّط عليك" (تك 3: 16). قال الله: جعلتك مساوية له في الكرامة، فما عرفت أن تستفيدي من الوصيَّة، فانتقلي إلى الخضوع. ما احتملتِ الحرِّيَّة، فخذي العبوديَّة..." (4: 32-61).
ونورد ثانيًا التوازي بين خبرة آدم وخبرة قايين. "لهذا دُعيَت الشجرة "الشجرة التي تعرِّفنا بالخير والشرّ": فالوصيَّة التي تمارَس في الطاعة أو العصيان، أشارت إلى الشجرة. فقبل ذلك، عرف آدم أنَّ الطاعة هي الخير والعصيان هو الشرّ. ولكن فيما بعد، تعلَّم ذلك بوضوح بخبرة الأشياء عينها. ومثله قايين عرف أنَّ قتل الأخ عمل شرّ قبل أن يذبح أخاه ولكي نفهم أنَّه علم أنَّ عمله شرّ، اسمع ما قال: "تعالَ نخرج إلى السهل" (تك 4: 8). ولكن لماذا تجتذب أخاك إلى السهل، بعيدًا عن الذراع الوالديَّة؟ لماذا تضع نفسك في مكان مقفر؟ لماذا تجرِّده من كلِّ عون؟ لماذا تُبعده عن النظر الوالديّ؟ لماذا تسعى لكي تُخفي جسارتك إذا كنت لا تخاف الخطيئة؟! ولماذا تغضب أيضًا وتكذب بعد أن تقترف الجريمة وتُسأل؟ فحين قال الله لك: "أين هابيل أخوك؟" قلت: "هل أنا حارس أخي؟ (تك 4: 19). هذا يُوضح لنا أنَّه قام بهذا الفعل وهو يعرف القضيَّة بوضوح..." (7: 148-166).
ويواصل الذهبيّ الفم المقابلات داخل سفر التكوين: مع إبراهيم الذي ترك البغض تجاه أبيمالك، مع إسحق ويعقوب...
ب- من سفر التكوين إلى العهد الجديد
نلاحظ في هذه المواعظ، رغبة يوحنّا بأن يساعد سامعيه لكي يقرأوا النصَّ الكتابيّ قراءة فاهمة. ولكن مهما تكن هذه القراءة فهي تبقى ناقصة، إن لم يكن تناسق بين العهد القديم والعهد الجديد. وهذا ما يفهم المسيحيّ أن الإله الذي تكلَّم في العهد الأوَّل هو الذي تكلَّم في العهد الجديد. ويفهم خصوصًا سموَّ الخيرات التي قدَّمها يسوع المسيح، على الخيرات التي ضاعت بعصيان آدم.
أوَّلاً: سمفونيَّة الأسفار المقدَّسة
منذ العظة الأولى أراد يوحنّا أن يبيِّن التناسق والقرابة بين العهدين. هي سمفونيَّة. "هل رأيت القرابة بين العهدين؟ هل رأيت التناسق بين القراءتين؟ هل سمعتَ في العهد القديم كلمات داود حول الكرامة بالأمور الملموسة وبالأمور المقبولة؟ "تكلّم فأتت (المخلوقات) إلى الوجود" (مز 33: 9). وهكذا أيضًا في العهد الجديد، تكلَّموا عن القوى اللامنظورة، ولكنَّهم تكلَّموا أيضًا عن الخليقة الملموسة (1: 148-153).
تعجَّب بعضهم من اكتشاف المعاني في العهد القديم، فقال لهم الواعظ: "أيُّ عجب إن وجدنا في العهد القديم هذه الطريقة في التعليم؟ ففي العهد الجديد، الزمن المؤاتي من أجل قراءات فلسفيَّة، اتَّخذ بولس في حواره مع الاثنين، هذه الطريقة التي اتَّخذ موسى في تعليم اليهود. فهو أيضًا لم يكلِّمهم عن الملائكة ولا عن رؤساء الملائكة، بل عن السماء والأرض والبحر، فحدَّثهم قائلاً: "الله الذي خلق الكون وكلَّ ما فيه، الربُّ الذي يسود السماء والأرض، لا يسكن في هياكل صنعتها يدُ البشر" (أع 17: 24). ولكن حين تحدَّث مع الفيلبّيين (بل الكولوسيّين)، لم يقُدْهم في هذه الطريق، بل بلَّغهم إلى الخليقة الرفيعة، فحدُّثهم قال: "فيه خُلق كلُّ شيء في السماوات والأرض، العروش والسلاطين والرئاسات والقوّات. كلُّ شيء خُلق به وله" (كو 1: 16). وبالطريقة عينها، أشار الإنجيليّ يوحنّا أيضًا إلى الخليقة كلِّها معًا، حين صار لهم تلاميذ كاملون. ما قال "السماء والأرض والبحر"، بل: "كلُّ شيء به كان، وبدونه لم يكن عنصر واحد (يو 1: 3)، سواء المنظور أو اللامنظور" (1: 116-136).
وقدَّم يوحنّا الذهبيّ الفم طريق التربية في الكتاب كلِّه، من موسى والبدايات إلى الرسل وملء الحقيقة:
"وهكذا يكون كما مع معلِّم المدرسة: فالمعلِّم الذي تسلَّم طفلاً من والدته، يعلِّمه العناصر الأولى. ولكنَّ ذاك الذي تسلَّمه من معلِّم أوَّل، يقوده إلى دروس أرفع. وهذا ما حصل لموسى، كما لبولس ويوحنّا. فموسى الذي توكَّل على طبيعتنا ساعة لم تكن تعرف شيئًا وقد فُطمت حديثًا علَّمها العناصر الأولى حول معرفة الله. أمّا يوحنّا وبولس اللذان تسلَّما الناس من يدَي موسى كما من يدَي معلِّم في المدرسة، فقاداهم نحو دروس أرفع بعد أن ذكَّراهم باختصار، بالأمثولات الأولى" (1: 137-147).
هذه الوحدة بين العهدين، سعى يوحنّا لكي يدافع عنها ضدَّ اليهود الذين يرفضون العهد الجديد، وضدَّ بعض الهراطقة مثل المرقيونيّين الذين يجاهرون بثنويَّة بين إله عادل تعلنه الشريعة والأنبياء، وإله صالح أبي يسوع. وهكذا يشوِّهون الكتب المقدَّسة، يمزِّقونها. هم يرذلون العهد القديم. ويحذفون من العهد الجديد كلَّ ما يرتبط بالقديم.
ذكر يوحنّا في مقاله حول الكهنوت "الطريق الضيِّقة المحصورة" التي يجب أن يمشي فيها: فعليه أن يبرهن للقريبين من اليهود أنَّ العهد القديم لا يكفي نفسه بنفسه. وللمعجبين بالتيّارات الغنوصيَّة أنَّ العهد القديم قيمة كبيرة جدًّا. "على من يقاتل على الجبهتين أن يعرف هذا الاعتدال الحكيم. فإن أراد أن يعلِّم اليهود بأنَّه لم يعد وقتُ التعلُّق بالشريعة القديمة، يتَّهمونه بلا مراعاة ويعطون للهراطقة الذين يريدون أن يمزِّقوها سبيلاً خطرًا للهجوم. أمّا إن شاء أن يُغلق لهم فمهم مجَّدوه وأفرطوا وقدَّموها بإعجاب وكأنَّها بعدُ ضروريَّة لعصرنا، يعطون الكلمة لليهود".
إنَّ البرهان عن وحدة الأسفار المقدَّسة يبرز أوَّلاً في لجوء الواعظ بشكل عاديّ إلى العهدين، وحين يعظ حول سفر من العهد القديم، يحافظ على التوازن الملحوظ في استعمال الإيرادات التوراتيَّة والعهد جديديَّة. والذهبيّ الفم يذكر الأناجيل بقدر ما يذكر سفر التكوين. وهو يستند أكثر ما يستند في تفسيره إلى الرسائل البولسيَّة، أكثر ممّا يستند إلى سفر التكوين.
إنَّ التوازي بين الإيرادات الكتابيَّة يشدِّد على تماهي الأسلوب في العهدين، لأنَّ المعلِّم (الروح القدس) هو واحد. مثلاً، أورد تك 1: 1؛ أع 17: 24؛ كو 1: 16؛ يو 1: 3 وقرأها في شكل متكامل (الينابيع 433، ص 152-155). وكذلك فعل حين أورد تك 3: 16: أف 5: 25، 33؛ 1تم 2: 12-14؛ في توازٍ تامّ في التعليم حول وضع المرأة في سفر التكوين كما في الرسائل البولسيَّة: بيَّن الواعظ أوَّلاً النظام البولسيّ: "أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم" فهذا صدى لما في سفر التكوين (3: 16) الذي يقدِّم الرجلَ للمرأة على أنَّه ملاذها: "تميلين نحو زوجك". ثمَّ يقارب تك 3: 16ب (وهو يسودك) من الفرائض البولسيَّة التي تبرِّر سلطة الرجل على المرأة. حدَّث الذهبيّ الفم المرأة فقال لها:
"لا تعرفين أن تُعطي الأوامر، وهذا ما بيَّنتيه في اختبار الأمور. إذًا، كوني إحدى الخلائق التي تُؤمَر، وأقرّي أنَّ الرجلَ سيِّدك: "نحو زوجك تتوجَّهين، وهو يسود عليك" (تك 3: 16). ولكي لا تظنّ عند سماع العبارة "نحو زوجك تتوجَّهين"، أنَّ سلطة السيِّد لا تحتمَل، ذكر أوَّلاً ألفاظًا تدلُّ على العناية: "نحو زوجك تتوجَّهين". أي هو يكون ملاذك، مرفأك، أمانك. في كلِّ الكوارث التي تحصل، أعطيك أن تتوجَّهي نحوه وتلوذي به. وربطهما معًا، لا بهذا الشكل فقط، بل بإلزامات طبيعيَّة فرمى حولهما قيدًا صاغته الرغبة، مثل رباط لا يمكن أن يُقطَع. هل رأيت كيف أنَّ الخطيئة أدخلت الخضوع، وكيف أنَّ الله في مهارته وحكمته، استفاد من هذه الحالة لأجل إفادتنا.
"واسمع كيف أنَّ بولس تحدَّث أيضًا عن هذا الخضوع، لكي تتعلَّم من جديد السمفونيَّة بين العهد القديم والعهد الجديد. قال الرسول: "لتكن المرأة صامتة لكي تتعلَّم بكلِّ خضوع" (1تم 2: 11). هل رأيتَه أيضًا يُخضع المرأة للرجل؟ بل انتظر وتعلَّم أيضًا أنَّ القضيَّة هي هي. لماذا "بكلِّ خضوع"؟ "لأنَّه، كما قال لا أسمح للمرأة أن تعلِّم" (آ22)، لأنَّها أعطت مرَّة تعليمًا رديئًا لآدم. "ولا أسمح لها أيضًا أن تتسلَّط على الرجل" (آ12)، لأنَّها مارست مرَّة، سلطة رديئة على الرجل. "بل آمرها أن تلزم الهدوء" (آ12). بيَّن لنا السبب. قال: "لأنَّ آدم أضلّ، والمرأة التي أضلَّت اقترفت المعصية" (آ14). لهذا، أحدرها من عرش التعليم. فالذي لا يعرف أن يعلِّم، فليتعلَّم. وإن كان لا يريد أن يتعلَّم وهو يتمنّى أن يتعلِّم، يدمِّر نفسه وفي الوقت عينه يدمِّر تلاميذه. هذا بالحقيقة ما حصل أيضًا للمرأة.
"إذًا، أن تكون خاضعة للرجل، وأن تكون خاضعة لله بسبب الخطيئة، برهان واضح. ولكنّي أريد أن أسمع هذه الكلمة الرفيعة: "إلى زوجك يكون انقيادك وهو يسود عليك" (تك 3: 16). أريد أن أتعلَّم كيف أنَّ بولس تحدَّث أيضًا عن هذا الخضوع فمزج سلطان المعلِّم بالحنان. أين فعل هذا؟ قال في الرسالة التي وجَّهها إلى الكورنثيّين (أو بالأحرى الأفسسيّين): "أيُّها الرجال، أحبُوا نساءكم" (أف 5: 25). هذا في ما يخصُّ "نحو زوجك يكون انقيادك". "لكي تهاب المرأة زوجها" (آ33). هذا في ما يخصُّ "هو يسود عليك". أترى كيف أنَّ سلطة السيِّد ليست صعبة الاحتمال، حين يكون السيِّد مولَعًا بعبده، وحين ترافق المحبَّة المخافة. وهكذا أزيل طابع العبوديَّة الذي لا يُحتمل. تلك هي الوصيَّة الأولى التي أدخلتها المعصية. فلا تحاول أن تفهم أنّ الله نظَّم الأمور بالضرورة: هي الخطيئة التي جعلت الطبيعة في العبوديَّة" (4: 61-108).
وفي مسيرة واحدة، ننظر إلى وعد المسيح للصّ (لو 23: 43)، وإلى تنبيه الله حول شجرة المعرفة (تك 2: 17)، وإلى تأكيد المسيح: "من لا يؤمن بالابن قد أدين... ومن آمن بالابن، انتقل من الموت إلى الحياة" (يو 3: 18؛ 5: 24). فالمقاطع الثلاثة تبيِّن في نظر يوحنّا، أنَّ العهدين يعلنان حقائق يستبق فيها القولُ الخبرة.
ثانيًا: سموُّ عطايا المسيح على خيرات خسرناها
نقطة الانطلاق عبارة بولسيَّة يردِّدها الذهبيّ الفم مرارًا ليبيِّن الطابع الذي لا يتصوَّره بشر للعطايا التي يمنحها المسيح: "خيرات لم ترها عين، ولا سمعتها الأذن، ولا خطرت على قلب إنسان". أي السماء التي تتفوَّق على الفردوس (الأرضيّ) فما عرفه البشر الأوائل أنفسهم (1كو 2: 9؛ 1: 307-308؛ 7: 353-354).
وإن لم يكن لنا أن نختبر ملء الاختبار هذا الملء إلاّ في الآخرة، فسموّ مواهب المسيح على الخيور الأصليَّة، ندركه منذ الآن. فالقسم الكبير من العظة السابعة يتركَّز على الصليب على أنَّه خشبة (شجرة) خلاص تحمل الخيور السامية إلى الذين خسَّرتهم إيّاها المعصية بالنظر إلى الشجرة المحرَّمة.
"ولكن، لكي لا نُتعبَ عقلكم، نمضي وننقل الكلام عن الأمور المعتَّمة إلى الأمر المضيئة. فذهنكم يتعب حين يتعلَّق بتفكيرات دقيقة. لهذا يحسن بنا أن نحمل إليه الراحة فنعطيه أفكارًا أكثر وضوحًا وأكثر إنارة. إذًا، نعود إلى شجرة (خشبة) الخلاص، إلى الصليب. فهي التي دمَّرت كلَّ الأمور المخيفة التي أدخلتها الشجرة الأخرى. أو بالأحرى، ليست الشجرة الأخرى هي التي أدخلت الأمور المخيفة، بل الإنسان الذي أدخل كلَّ ما دمَّره المسيح فيما بعد، حين أدخل بوفرة خيراتٍ أعظم منها.
"لهذا السبب أيضًا، قال بولس: "حيث تكاثرت الخطيئة فاضت النعمة" (رو 5: 20). أي إنَّ الموهبة أكبر من الخطيئة. لهذا قال أيضًا: "لم تكن عطيَّة النعمة متناسبة مع الذنب" (آ15). أي أنَّ الله لم يُعطِ نعمة بقدر ما الإنسان خطئ. فالربح لم يكن متناسبًا مع الخسارة، والتجارة لم تكن متناسبة مع غرق السفينة. فالخيور تجاوزت الشرور، وهذا له ما يبرِّره. فالشرور قد أدخلها عبدٌ، وكانت قليلة. والخيور منحها السيِّد، وبالتالي كانت أكثر وفرة. لهذا قال بولس: "عطيَّة النعمة لم تتناسب مع الذنب. ثمَّ أضاف أيضًا الفرق: "لأنَّ الدينونة قادتنا إلى الحكم بذنبٍ واحد، أمّا عطيَّة النعمة فاقتادتنا من ذنوب كثيرة إلى التبرير" (رو 5: 16).
"حديثي غامض جدًّا. فلا بدَّ من أن أقدِّم الحلّ: "الدينونة" أي العقاب، القصاص، الموت. "واحد". أي خطيئة واحدة. قال: خطيئة واحدة أدخلت مثل هذا الشرِّ الكبير، أمّا عطيَّة النعمة، فما أنقذتنا فقط من هذه الخطيئة الفريدة، بل من كثير غيرها. لهذا قال: "عطيَّة النعمة جاءت بنا من زلاّت كثيرة إلى التبرير. لهذا هتف يوحنّا (المعمدان) أيضًا: "هذا هو حمل الله" لا "الذي يرفع خطيئة آدم"، بل "الذي يرفع خطيئة العالم" (يو 1: 29). أرأيتَ كيف أنَّ عطيَّة النعمة لا تتناسب مع الذنب، وكيف أنَّ هذه الشجرة التي تحدَّثنا عنها، أدخلت خيورًا تتجاوز الشرور التي حملت في البدء".
ويواصل الذهبيّ الفم كلامه، فيقابل بين آدم واللصّ، بين ما فعله إبليس وما فعله يسوع المسيح (7: 263-307).
"قلت هذا لئلاّ تظنَّ نفسك نلتَ ضررًا بسبب الناس الأوَّلين. طرد إبليس آدم، ولكنَّ المسيح أدخل اللصّ. وانظر إلى ما يختلف: إنسان لا خطيئة فيه، بل لطخة واحدة من المعصية، قد طرده إبليس. ولصٌّ محمَّل بأثقال مؤلَّفة من الخطيئة، أدخله المسيح في هذه الحالة إلى الفردوس. هل تقوم هذه العجيبة فقط بأن تُدخل لصًّا إلى الفردوس، دون أن يُضافَ شيء؟ بل هناك عجيبة أخرى، أكبر من الأولى، يجب أن نرويها: ما اكتفى بأن يدخل لصًّا، بل أدخلَه قبل الأرضِ كلِّها وقبل الرسل، بحيث لا ييأس أحد من الذين يأتون بعده، من أن يدخلوا، ولا يتخلّى عن رجاء خلاصه الشخصيّ. وذلك حين يرى إنسانًا محمَّلاً بألف عمل شرّير، يُقيم في القصر الملكيّ.
"ولكن لنرَ إن كان عند اللصِّ آلام، استحقاقات، ثمار برّ! هذا ما لا يمكن أن نقوله. بل عكس ذلك: على أثر كلمة بسيطة، علامة إيمان واحدة، قفز إلى الفردوس قبل الرسل، لكي تتعلَّم أنَّ ما فعل فيه ليس نبل عواطفه بل محبَّة السيِّد للبشر. فماذا قال اللصّ؟ وماذا فعل؟ هل صام؟ هل بكى؟ هل مزَّق ثيابه؟ هل بيَّن اهتداء طويلاً. كلاّ ثمَّ كلاّ. بل نال الخلاص على الصليب حين تكلَّم. انظر السرعة: من الصليب إلى السماء، من الحكم إلى الخلاص. وما هي هذه الكلمات؟ وأيَّة قوَّة لها لكي تنال مثل هذه الخيور العظيمة؟ قال: "أذكرني في ملكوتك" (لو 23: 42). ماذا يعني هذا؟ طلب أن ينال الخيور، مع أنَّه لم يكن مجتهدًا في أعماله. غير أنَّ ذلك الذي يعرف القلب، لا يتعلَّق بالأقوال، بل باستعدادات الفكر. فالذين نعموا بدروس الأنبياء، والذين رأوا الآيات، والذين شاهدوا العجزات، قالوا عن المسيح: "فيه شيطان" (يو 10: 20). وهو "يُضلُّ الشعب" (يو 7: 12). أمّا اللصّ الذي ما سمع الأنبياء، ولا رأى العجائب، نظر المسيح مسمَّرًا على الصليب: ما تطلَّع إلى العار ولا إلى الشنار، بل قال حين أدرك نظرُه اللاهوت: "اذكرني في ملكوتك". ذاك هو تصرُّف جديد، فريد. ماذا رأيت من أهليَّة للملكوت؟ رجل مصلوب، مضروب على وجهه. يهزأون به، يتَّهمونه، يغطّيه البصاق، يُجلَد. قل لي: هل هذا كلُّه يليق بالملكوت؟ هل ترى أنَّه نظر بعين الإيمان وما تفحَّص الظواهر؟ لهذا، فالله أيضًا لم يتفحَّص أقوالاً بسيطة. وكما أنَّ نظرة هذا الإنسان أدركت اللاهوت، كذلك نظرة إله أدركت قلب اللصّ، فقال: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).
وترد المقابلات عديدة فتدلُّ على الخيرات الجديدة. إن كان الله أعطى آدم أن يأمر الحيوانات، فيسوع منح التلاميذ أن يدوسوا قوى العدوّ (تك 1: 26؛ لو 10: 15؛ 5: 181-184). وإن كان الله أعلن أنَّ المرأة ترصد رأس الحيَّة، فبولس تكلَّم عن سحق الشيطان (تك 3: 15؛ رو 16: 30؛ 5: 185-189). طُرد آدم من الفردوس وطُرد معه نسله لأنَّه خطئ. ولكنَّ حمل الله يرفع خطيئة آدم وخطيئة العالم. طُرد الإنسان الأوَّل من الفردوس لذنبٍ اقترفه. ودخل اللصُّ إلى الفردوس مع خطايا عديدة. فالنعمة أقوى من الخطيئة، والمواهب التي تحملها تتجاوز الخسارات السابقة (7: 247-250). لهذا، فالأرض الملعونة التي تحمل "الشوك والقطرب" (تك 3: 18) حلَّ محلَّها ملكوتٌ تنبتُ فيه ثمار الروح. وشدَّد يوحنّا: منذ الأوَّل جاءت تحوَّلت جذريَّة فصوَّرت مسبقًا الملكوت: صارت العبوديَّة لفظة في الفم (1كو 7: 21-22؛ 5: 48-90). والمرأة المؤمنة تقدر أن تخلِّص زوجها (1كو 7: 13، 16؛ 5: 49-52). بل صارت مساوية للملائكة (5: 191-193).
وهكذا يقيم يوحنّا علاقة جدليَّة بين العهدين ليدلَّ على عظمة حنان الله ورحمته. وهكذا نقرُّ بسموِّ العهد القديم كزمن عهدٍ بين الله والبشر، والسموّ المطلق للعهد الجديد الذي يتمُّ العهد القديم ويكمِّله.
الخاتمة
بعد 1600 سنة على وفاة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، ما زلنا نقرأ ما ترك لنا من عظات تشرح لنا الأسفار المقدَّسة. معه فهمنا أنَّ الكتاب يشرح الكتاب، وأنَّ العهد القديم يكوِّن جذور العهد الجديد، وأنَ العهد الجديد يلقي ملء الضوء على القديم. أمّا الهدف الذي تصل إليه الأسفار الأولى، فهو يسوع المسيح. تلك كانت نظرة الآباء مع أفرام وباسيل وتيودور وغريغوار. فإن كان العهد القديم لا يصبُّ في العهد الجديد، كما النهر في البحر، فهو يفور في الأرض أو يكوِّن مستنقعات لا تصلح ماؤها للشرب. ولكن مع يوحنّا الذهبيّ الفم كانت سمفونيَّة العهدين حاضرة. "فإله السلام والحبّ الذي يعطي الخبز طعامًا والزرع للزارع، يكثر زرعكم ويزيد ثمار البرِّ فيكم جميعًا" (2كو 9: 10). وهو يعطيكم النعمة التي من عنده. ويؤهِّلكم لملكوت السماوات. فيا ليتنا جميعًا نحصل عليه بالنعمة والمحبَّة اللتين يحملهما ربُّنا يسوع المسيح للبشر. فله ما لأبيه المجد والإكرام والسلطان، كما للروح القدس، الآن وعلى الدوام وإلى دهر الدهور. آمين" (8: 174-182).
وهكذا تنتهي العظات الأولى حول سفر التكوين.