الصلاة والتوبة عند القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

 

الصلاة والتوبة

عند القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم

ذاك المولود في أنطاكية واليتيم في طفولته بعد أن مات والده، ولمّا تبلغ والدتُه العشرين من عمرها، ذاك الدارس الفلسفة في مدرسة أندراغاتيوس، والبلاغة على يد ليبانيوس، الأستاذ الشهير في أنطاكية، ذاك الثائر على أساتذته وهو ابن ثمانية عشر عامًا، بسبب كثرة الكلام الذي لا منفعة فيه، والطالب العلوم الإلهيَّة، اسمه يوحنّا الذهبيّ الفم. بدأ فرافق أسقف أنطاكية، ميليتيوس، الذي توسَّم فيه نبل الطبع فأراد له أن يقيم في مجلسه. قُبل يوحنّا بين الموعوظين ونال سرّ العماد. وبعد ثلاث سنوات قضاها في خدمة الأسقف، رُسم قارئًا في الكنيسة.

وتعلَّم يوحنّا اللاهوت على يد ديودور الطرسوسيّ، ذاك الباحث الكبير الذي اعتُبر عمود الأرثوذكسيَّة. وترافق مع تيودور المصّيصيّ. فكانت صداقتهما رباطًا لا يدمِّره شيء. كان مثال يوحنّا ونصحه أكبر عامل لكي يدخل تيودور إلى دير قرب أنطاكية، وهو لم يبلغ بعد العشرين من عمره. بردت همَّة تيودور، فترك الدير طالبًا المحاماة والزواج. فكتب إليه الذهبيّ الفم رسالتين بليغتين، فعاد تيودور عن قراره ورجع إلى الحياة النسكيَّة.

هنا نقرأ ما كتبه يوحنّا عن الحياة الرهبانيَّة:

"أوَّل ما يؤثِّر فينا هو الهدوء والصمت والصلاة. لا نكاد نتجاوز العتبة حتّى ننسى اضطرابات العالم التي تُتعب آذاننا ونفوسنا، إنَّ زوابع البحر الهائج تتلاشى أمام هذه المساكن السعيدة (للرهبان). هنا المرفأ الهادئ والأمين الذي ينجّي من العواصف والغرق، كلَّ اللاجئين إليه. على ضفاف البحار تُرفَع المنائر لتريَ الصخور. كذلك مساكن الرهبان. إنَّها منائر لامعة بالنور الإلهيّ، تنير بصائرنا فيما بين أخطار هذا العالم، وتدلُّنا على الطريق المؤدِّية إلى السماوات.

"أمّا سكون الدير فليس إلاّ دليلاً على سكون النفس. إنَّ الراهب في ديره كالجنديّ في خيمته: محرَّر من مطامع العالم وشهوات الحياة ورفاهيَّة المعيشة. مجتهد في كتاب السماوات العليا، لا يعرف مسكنًا ثابتًا، ولا يقيم في منزل دائم، بل يتابع غزواته الحربيَّة ولا يعرف إلاّ ميادين الحرب.

هل نحن بحاجة إلى تشابيه غير هذه؟ إسمعوا: الأديرة للرهبان، كالفردوس الأرضيّ لأبينا الأوَّل آدم في حال برارته. فإن ما يفعل الرهبان في أديارهم، هو نفس ما كان يفعله آدم في البدء قبل أن يخطأ لمّا كان متسربلاً بالمجد، ويتحادث بملء الحرّيَّة مع الله تعالى. لا تتيسَّر لنا هذه المحادثات السامية، الحلوة، في العالم وفي الحياة الدنيويَّة، فإن الأراجيف والاضطرابات تُسكت أصوات النفس وكلام الله".

إنَّ أحد أهداف الحياة الرهبانيَّة، الخلودُ إلى الصلاة، الحديث مع الله، كما آدم الذي كان يتمشّى مع الربّ عند برودة المساء (تك 3: 8). لا همَّ دنيويًّا ولا اضطراب. لهذا اتَّخذ يوحنّا طريق الجبال المجاورة بالرغم من توسُّلات أمِّه التي طلبت منه أن لا يجعلها أرملة مرَّة ثانية. وانضمَّ إلى ناسك شيخ وقاسمه حياته خلال أربع سنوات. هنا يقول بلاديوس، كاتب سيرة الذهبيّ الفم: "ثمَّ اعتزل في مغارة منعزلة، تدفعه رغبة حارَّة في أن يختبئ عن العالم. وقضى فيها أربعة وتشرين شهرًا حيث منع عن نفسه النوم، فدرس شرائع المسيح التي هي أفضل الدراسات لإبعاد الجهل. هاتان السنتان قضاهما يوحنّا، ممتنعًا عن النوم في الليل والنهار، دمَّرتا عنده الجهاز الهضميّ، وتبدَّلت وظائف الكليتين بسبب البرد. وإذ لم يعد في استطاعته أن يطبِّب نفسه عاد إلى ميناء الكنيسة".

*  *  *

صمت عميق، ابتعاد عن العالم من أجل الصلاة. ماذا يقول الذهبيّ الفم في هذا الموضوع؟

إنَّ مكانة الصلاة في الحياة الروحيَّة مهمَّة بالأهميَّة المعطاة للنعمة. قال في عظته حول حنّة أمِّ صموئيل، 4، (الآباء اليونان 54: 666 أب): "لا شيء يوازي الصلاة. فهي تجعل المستحيل ممكنًا، والصعب سهلاً. والإنسان الذي يصلّي يستحيل عليه أن يخطأ". فالصلاة تعبِّر في شكل من الأشكال عن حالة متواصلة يعيشها المسيحيّ. ونقرأ إحدى عظات يوحنّا:

"إن الصلاة للنفس لهي بمثابة نور الشمس للجسد. فإذا كان من البليَّة للأعمى أن لا يبصر الشمس، فما أفدح بلاء المسيحيّ إذا لم يُدمن الصلاة ويجذب بها نور المسيح إلى نفسه. ولكن من الذي لا يدهش ولا يقضي العجب من رأفة الله التي يبديها نحونا، عندما يجود على الناس بشرف الصلاة والتحدُّث إليه. أجل، إنَّنا لنخاطب الله في وقت الصلاة التي بها ننضمّ إلى الملائكة، ونسمو عاليًا فوق العجماوات.

"إنَّ الصلاة لهي عمل الملائكة بل تفوق قدرهم، من حيث أنَّ مخاطبة الله تفوق استحقاق الملائكة. وهذا التفوُّق هم أنفسهم يظهرونه لنا لفرط ما يشمهلم من الرهبة في تقديم صلواتهم، معطينا مثلاً لنرى ونتعلَّم، عندما ندنو من الله، أن نفعل ذلك بفرح وخوف. أمّا الخوف فلأنّا قد نكون غير أهل للصلاة. وأمّا الفرح فلأنَّه يجب أن تملأنا البهجة من عظمة هذا الشرف، أن يؤهَّل أناس مائتون لمثل هذه العناية، فيغتبطون بمحادثة الله وبها يرتفعون فوق المنيَّة والفساد. إنّا ولو كنّا بطبعنا مائتين، فإنّا بمحادثة الله ننتقل إلى حياة خالدة، إذ من اللازم أنَّ الذي يتحدَّث إلى الله يغدو أشدَّ من الموت ومن كلِّ فساد. فكما أنَّ الذي يتمتَّع بشعاع الشمس لا شكّ هو ناجٍ من الظلام، كذلك الذي يتنعَّم بمناجاة الله هو ضرورةً فوق الموت. وإن عظم هذا الشرف نفسه يسمو بنا إلى الخلود. فإن كان متحدِّثو الملك، المغتبطون بشرفه، لا تصل إليهم الفاقة، فبالأحرى كثيرًا المصلّون والعبّاد لا يجد الموتُ إليهم سبيلاً، لأنَّ موت النفس هو الكفر والحياة في الإثم".

أجل، الصلاة عمل عظيم. به نرتفع فوق الحيوانات فنصل إلى الملائكة بل نتفوَّق على الملائكة. هم يُغطّون وجوههم لأنَّهم لا يجرؤون أن ينظروا إلى الله. أمّا نحن فنتحدَّث إلى الله ونناجيه. الصلاة هي نور، فمن غابت عنه الصلاة سار كالأعمى في ظلمة هذا العالم. هي تفعل فعلها كما شعاع الشمس بالإنسان المريض الذي يشعر بالبرد. فالصلاة تنجّي من الكلام، بل من الموت وتفتح المؤمن على الخلود. ويواصل الذهبيّ كلامه في العظة عينها، فيعطينا بشكل خاصّ مثل نينوى، وما يمكن أن تفعله الصلاة في النفس المؤمنة:

"وإنَّه لمستحيل، كما أعتقده بيِّنًا للجميع، أن يعيش أحدٌ بالفضيلة ويتقدَّم من غير صلاة. فكيف يمارس أحدٌ الفضيلة وهو لا يقصد، ولا يسجد غالبًا لمن يسخو بها ويوزِّعها؟ وكيف يرغب أحدٌ العفاف والبرارة، وهو لا يتحدَّث إلى من يتطلَّب منّا هذه الفضائل وجهًا غيرها؟ وأريد أن أبيِّن لكم باختصار أنَّا لو كنّا فائضين خطأ، ففي إمكان الصلاة أن تنقذنا وتطهِّرنا بأسرع ما يكون. وبعد، فهل أعظم من الصلاة وأكثر سموًّا، وهي الدواء الناجع لأمراض النفوس؟ إنّا لنرى أهل نينوى يُنقَذون بالصلاة من آثام جسيمة أجرموا بها إلى الله. فمنذ ما حاذتهم الصلاة، ردَّتهم صدّيقين، وانتُزعت المدينة، في لمحة، من القهر والجور والمعاصي التي كانت غارقة بها. إنَّها أقوى من العادات المستحكمة. فقد سنَّت الشرائعَ الإلهيَّة، وغرستْ فيها العفاف والرحمة والوداعة والعناية بالفقراء، هذا الموكب الذي بدونه لا تحلُّ الصلاة في نفس. إنَّها تملأ النفس التي تحتلُّها من كلِّ برّ، وتُرشدها إلى الفضيلة، وتقتلع منها كلَّ رذيلة، حتّى لو دخل أحدٌ المدينة (= نينوى) بعد أن كان يعرفها، لما عرفها يومئذٍ لسرعة تحوُّلها من حياة الفجور إلى انتحال التقوى والعبادة. فكما أنَّ امرأة فقيرة متَّشحة بأسمال بالية لا تُعرَف بعدئذٍ إذا شوهدت حاليةبالديباج، لا يدري أهي تلك المدينة التي استملتها الصلاة فحوَّلت أخلاقها وحياتها إلى سيرة التقوى".

*  *  *

وطُرح سؤال: كيف التوفيق بين عبارتين في العهد الجديد؟ الأولى نقرأها في إنجيل متّى: "لا تصلّوا بكلمات كثيرة" (مت 6: 7). والثانية في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي: "صلُّوا على الدوام" (1تس 5: 17). كيف كان جواب يوحنّا؟ رأى أنَّ الصلاة المتواصلة لا تمتدُّ في عبارات وعبارات تتكرَّر فتجعلنا مثل الوثنيّين، بل تكون عميقة في حرارتها موجزة في الروح الذي يلهمها. قال أيضًا في عظته عن حنَّة: "تلك هي في شكل خاصّ، الصلاة: حين يرتفع الصراخ من حميميَّة القلب. لا تكون الصلاة برنَّة صوت، بل بحرارة الروح" (حنّة النبيَّة 2، الآباء 54: 646 أب). وأردف قائلاً في الردِّ على الأنوميّين الذين يحسبون الابن غير شبيه بالآب: الصلاة هي "المرفأ في العاصفة، مرساة المهدَّدين بالغرق، عصا الذين يترنَّمون، كنز الفقراء... المليء في الشرور، ينبوع الحرارة، علَّة الفرح، أمّ الفلسفة" (أي محبَّة الحكمة)".

هنا نقرأ شرح الذهبيّ الفم في الصلاة كما في النصِّ المتّاويّ: "ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين... وأمّا أنت فمتى صلّيت..." (مت 6: 5-6)

"هؤلاء أيضًا يدعوهم ثانية "المرائين" بشكل لائق تمامًا، إذ بينما يدَّعون أنَّهم يصلّون إلى الله، فإنَّهم يبحثون عن الناس من حولهم، وهم يلبسون زيَّ الخفاء لا زيَّ المتضرِّعين، لأنَّ من ينوي أن يؤدّي طقس المتضرِّع، يترك الآخرين كلَّهم يذهبون، وينظر إلى الله وحده القادر أن يمنحه طلبته. ولكن إن تركتَ الله وحمتَ بعينيك في كلِّ مكان، فتذهب خافي الوفاض. ولم يقل السيِّد: "لن ينال أمثالُ هؤلاء أجرًا"، إنَّما: "قد استوفوا أجرهم". أي سينالون أجرًا من الذين يرغبون هم أنفسهم أن ينالوه منه. لكن انظروا، أرجوكم، إلى حنوِّ الله، في أنَّه يَعدنا بأن يمنحنا مجازاة حتّى على تلك الأمور الصالحة التي نطلبها إليه".

يصوِّر يوحنّا الآتين إلى صلاة الجماعة. ينظرون إلى من حولهم. يراقبونهم كيف يصلّون ويقومون بحركات تدلُّ على تقواهم وأيّ تقوى هي؟ تشبه تقوى الفرّيسيّين: يقفون في زوايا الشوارع ليراهم الناس يصلّون. ويواصل يوحنّا كلامه في الشرح عينه: "وبعد أن أخزاهم السيِّد، يقدِّم الطريقة المثلى للصلاة قائلاً: "أدخل إلى مخدعك".

"قد يُقال: ماذا إذًا، ألا يجب أن نصلّي في الكنيسة؟ حقًّا يجب ذلك وبكلِّ الطرق. إنَّما بروح مثل هذه الروح، لأنَّ الله يطلب في كلِّ مكان نيَّةَ ما نفعل. لأنَّه حتّى إن دخلتَ إلى مخدعك وأغلقت بابك، وقمتَ بالصلاة للتباهي، فلن تفيدك الأبواب.

"لاحظ عمق دقَّة التحديد الذي وضعه السيِّد عندما قال: "لكي يظهروا للناس" لأنَّه حتّى إن أُغلقت الأبواب، فإنَّه يرغب أن تتمِّم كما ينبغي ما هو أكثر من إغلاق أبواب الذهن. فكما أنَّه من الخير أن نكون معتَقين من المجد الباطل في كلِّ شيء، هكذا على الأخصّ كثيرًا في الصلاة".

ويواصل الذهبيّ الفم عظته التاسعة عشرة في إنجيل متّى: "لنجعل صلاتنا إذًا، لا بوضعيَّة جسدنا، ولا بارتفاع صوتنا، بل بجدِّيَّة ذهننا. لا بالضجيج والصخب والتباهي بحيث نزعج الوثنيّين منّا، وإنَّما بكلِّ تواضع وانسحاق الذهن وبدموع داخليَّة. لكن هل توجَّعت في الذهن ولم تستطع منع نفسك من الصراخ عاليًا؟ حتمًا هذا دور المتألِّم جدًّا بحيث يصلّي ويتضرَّع كما قلت. إذ توجَّع موسى أيضًا وصلّى بهذه الطريقة وقد سُمع، لهذا السبب قال الله له: "ما لك تصرخ إليّ؟" (خر 14: 15). وحنّة أيضًا لم يُسمَع صوتها، وقد أتمَّت كلَّ ما رغبتْ فيه بما أنَّ قلبها قد صرخ (1صم 1: 13). لكنَّ هابيل لم يصلِّ فقط عندما كان يحتضر، وقد أرسل دمَه صراخًا أوضح من أيِّ بوق (تك 4: 10)...

"لأنَّكم لا تصلّون إلى الناس، بل إلى الله الحاضر في كلِّ مكان، الذي يسمع حتّى قبل الصوت، الذي يعرف أسرار الذهن. إنَّ صليتم هكذا فعظيم هو الأجر الذي ستنالونه...

"لا تكرِّروا الكلام الباطل. وكما يسخر من المرائين هناك، يسخر من الوثنيّين هنا، مخجلاً السامع بتفاهة الألفاظ. ويسمّي التفاهة هنا "التكرار الباطل" كما عندما نطلب من الله أمورًا غير مناسبة، وممالك ومجدًا، وتفوُّقًا على الأعداء، ووفرة في الثروة، وبشكل عامّ كلَّ ما لا يهمُّنا (أي خلاصنا).

"ويقول: لأنَّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه. يبدو لي أنَّه يوحي هنا بألاَّ نجعل صلواتنا طويلة. وأعني طويلة لا في الوقت، وإنَّما في عدد الأمور المذكورة وطولها. لأنَّ واجبنا هو المحافظة على الطلبات نفسها حقًّا، إذ كلمته هي: "كونوا مواظبين على الصلاة" (رو 12: 12).

"والسيِّد نفسه قد وضع شريعة في أن يتضرَّع إليه الجميع بشكل متواصل. وذلك بمثال الأرملة التي فازت على القاضي القاسي العديم الرحمة، وذلك بالمواظبة على توسُّلها (لو 18: 1)، وبمثال الصديق الذي أتى متأخِّرًا ليلاً وأنهض النائمَ من الفراش (لو 11: 5)، لا من أجل صداقته، إنَّما من أجل إلحاحه. فهو لا يأمرنا في كلِّ حال بأن نؤلِّف صلاة من عشرة آلاف مقطع وبالتالي نأتي إليه ونكرِّرها فقط. إذ هذا ما أشار إليه خفية بقوله: "إنَّهم يظنُّون أنَّه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم" (مت 6: 7).

*  *  *

وقت طويل نقضيه مع الربّ. ننظر إليه وينظر إلينا. نناجيه ويناجينا. لا حاجة إلى التكرار السريع وكأنَّنا نقوم بواجب فنرتاح منه. لا حاجة إلى الظهور لكي يرانا الناس. إن طلبنا الناس أخذنا أجرًا من الناس. وإن طلبنا الله، كان أجرنا من الله.

والصلاة استنارة مباشرة من لدن الله. فإن كان التعليم يجد امتداده في الصلاة، فالصلاة قد تستغني عن التعليم: "إن اعتدتَ أن تصلّي بحرارة لا تحتاج أن تتعلَّم... فالله نفسه ينير ذهنك بدون وساطة. إنَّ مدرسة الله المباشرة هذه، تكشف لنا بعض حياة الذهبيّ الفم. أجل، في صلاة الجماعة، في الليتورجيّا، يتعلَّم المؤمن دون أن يدري. ويواصل يوحنّا كلامه: "سواء وُجدتَ في ذلك الوقت على الساحة العامَّة أو في بيتك أو في وسط أشغال لا يمكن تأخيرها... أمّا يجب عليك... أن تقطع كلَّ رباط يقيّدك... لتشارك في التضرُّع العامّ؟... فالملائكة في ذلك الوقت، يدعون الربَّ من أجل الطبع البشريّ ويقولون تقريبًا: إليك نصلّي من أجل أولئك الذين وجدتهم أهلاً لأن تبادرهم بحبِّك بحيث أعطيت حياتك ذاتها. من أجلهم، نسكب تضرُّعنا، كما أنت سكبتَ عليهم دمك. ندعوك من أجلهم، فلأجلهم قدَّمتَ جسدك هذا، ذبيحة".

هنا نورد كلامًا عن الصلاة أيضًا:

"الخير الأعظم هو الصلاة، أي التكلُّم بدالَّة مع الله. الصلاة علاقة بالله واتِّحاد به. وكما أنَّ عيني الجسد تُضاءان عند رؤية النور، كذلك النفس الباحثة، عن الله تستنير بنوره غير الموصوف. ليس الصلاة مظهرًا خارجيًّا، بل من القلب تنبع. لا تُحصَر بساعات وأوقات معيَّنة، بل هي نشاط مستمرٌّ ليل نهار. فلا يكفي أن نوجِّه أفكارنا إلى الله وقتَ الصلاة فقط، بل يجدر بنا أن نمزج هذه الأفكار بذكر الله تعالى، حين نكون مشغولين بأمور أخرى، كالعناية بالفقراء والعمل الصالح، لكي نقدِّم لسيِّد الكون غذاء شهيًّا مُصلَحًا بملح محبَّة الله.

"الصلاة نور النفس، المعرفة الحقيقيَّة لله، الوسيطة بين الله والإنسان. بها ترتفع النفس إلى السماء، كرضيع مع أمِّه، تضرع الصلاة إلى الله، باكية، عطشة إلى اللبن الإلهيّ. وإذ ما تظهر أشواقُها الحميمة، تتقبَّل من الله هدايا أرفع من كلِّ طبيعة منظورة. الصلاة التي بها نتقرَّب إلى الله هي فرح القلب وراحة النفس...

"الصلاة تقودنا إلى الينبوع السماويّ، تملأنا من ذاك الشراب، وتجري منّا ينبوع ماء ينبع للحياة الأبديَّة. الصلاة تؤكِّد لنا الخيرات الآتية، وبالإيمان، تعرِّفنا المعرفة الفضلى للخيرات الحاضرة. لا تظنَّنَّ أنَّ الصلاة تقتصر على الكلمات، إنَّها اندفاع إلى الله، حبٌّ غريب لا يأتي من البشر، على قول الرسول: "الروحُ أيضًا يعضد ضعفنا، فإنّا لا نعلم ماذا نصلّي كما ينبغي، ولكنَّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا تُوصَف"...

"إنَّ هذه الصلاة، إذا وهبها الله لأحد، تُضحي غنىً لا يُسلَب وغذاء سماويًّا يشبع النفس. من ذاقها تملَّكه شوقٌ أبديّ إلى الله، كنار آكلة تضرم القلب. فدعِ الصلاة تتفجَّر منك بملئها، فتزيِّن بلطافة وتواضع مخدعَ قلبك، وتجعله ساطعًا بضياء الحق، مصقولاً بالأعمال الصالحة. جمِّل بيتك بالإيمان والنبل، لا بالفسيفساء، وضعِ الصلاة في أعلى البنيان فيكتمل بها. وهكذا يصبح منزلك أهلاً لاستقبال الربّ، كأنَّه قصر ملكيّ، وأنت الذي، بالنعمة، تملك الربّ، على نحوٍ ما، في هيكل نفسك".

وجاءت مسائل. الأولى، الله يعرف لماذا نصلّي. وفي القوت المناسب "يعطينا أحسن ممّا نطلب". والمؤمن يبقى هو هو في الصلاة سواء أخذ أو لم يأخذ. والثانية، لماذا نصلّي" وكان الجواب "لأنَّ الصلاة هي أسمى ربط المحبَّة التي توثقنا بالله". نعاشر نبيلاً فنأخذ عنه النبل ورفعة الأخلاق، فأيُّ عظمة يأخذ من "يعاشر الله الكلّيّ الكمال"!

ويواصل الذهبيّ الفم كلامه عن الصلاة وأبعادها الحقيقيَّة: "الصلاة سلاح عظيم، كنز لا يفرغ، غنى لا يسقط أبدًا، ميناء هادئ وسكون ليس فيه اضطراب. الصلاة هي مصدر وأساس لبركات لا تُحصى. هي قويَّة وقويَّة للغاية...

"الصلاة تحوِّل القلوب اللحميَّة إلى قلوب روحانيَّة، والقلوب الفاترة إلى قلوب غيورة، والقلوب البشريَّة إلى قلوب سماويَّة. ليس شيء أقوى من الصلاة، لا شيء يعادلها. ملك مزيَّن بالأرجوان ليس بهيًّا كرجل يصلّي متزيِّنًا بحديثه مع الله.

*  *  *

نتوقَّف هنا في كلامنا عن الصلاة عند يوحنّا الذهبيّ الفم، ونتطلَّع إلى الوجهة الثانية من الحياة الرهبانيَّة، أعني بها التوبة. وأوَّل ممارسات التوبة هي الصوم. العظة 47 تحدِّثنا عن الصوم الحقيقيّ، ثمَّ عن الصوم الليتورجيّ. يشدِّد يوحنّا على أنَّ الصوم لا يقوم فقط في الإمساك عن الطعام والشراب، بل يصل إلى محبَّة القريب في خطِّ ما قاله النبيّ أشعيا:

"إنَّ من الواجب علينا أن نعرف مقاصد أصوامنا، فلا نكون كالتائهين في البحر، يتوهَّمون أنَّهم إلى المدينة قاصدون، وهم في متَّجه آخر هائمون. فإن قلتَ: ما الصوم في الحقيقة؟ أهو غير الامتناع عن الطعام وقتًا محدودًا؟ قلتُ: الصوم هو الإمساك عن جميع الرذائل والتمسُّك بجميع الفضائل، يمنع النفس عن اللذات البدنيَّة كالأطعمة والأشربة وسواها. وعلى ذلك قولُ الله لبني إسرائيل، إذ كانوا يظنُّون أنَّ الصوم هو الامتناع عن الطعام حتّى الليل فقط، ثمَّ يُقبلون على الطعام يأكلون ويشربون. فيبكِّتهم الله قائلاً: ها سبعون سنة مرَّت، ألعلَّكم صمتُم لي فيها صومًا، يا إسرائيل؟ وإن أكلتم وشربتم، أفلستم أنتم تأكلون وتشربون؟

"ليس الصوم أن يضع الإنسان نفسه ويَحني عنقه ويفترش له مسحًا ورمادًا، بل أن تحلَّ أغلال الإثم، وتقطع ربط الظلم. وتجانب المكر والغشّ، وتُعتِق المستعبدين. وتكسر خبزك للجائع، وتُؤوي الغريب إلى بيتك، وتُنصف الأيتام والأرامل، ولا تتغاضى عن لحمك ودمك، فيظهر برُّك سريعًا، وينفجر ضياؤك مثل الصبح، وتجمع كرامةُ الربِّ شملك، ويدبِّرك الله تدبيرًا صالحًا، وتَشبع نفسُك من الخصب، وتصير كالبستان الذي تموج أغصانُه نضِرةً، وكينبوع الماء الذي لا ينقطع. وتبني من خيراتك الخِرَبَ التي خربت منذ القديم، وتقيم الأساس الذي سقط من أوائل الزمان.

"فإذا كان هذا قولُ الله لأولئك الذين مواهبهم جسديَّة، فما عساه يقول لنا؟ وإذا كان لم ينظر إلى أصوامهم سحابة سبعين سنة لخلوِّها من هذه الفضائل، فكيف يبالي بأصوامنا؟ وإلى مثل هذا أشار ربُّنا. قال: إنَّ الصوم مع الصلاة يُخرج الشيطان. فسبيلنا أن ننهض من غفلتنا، ونحافظ على الأصوام المرضيَّة لإلهنا، لنفوذ بنعيم ملكوته، الذي له المجد إلى الأبد. آمين".

وماذا عن الصيام الليتورجيّ الذي عرفته الكنيسة منذ بداياتها؟ هنا يكون يوحنّا في قلب التقليد الشرقيّ، بدءًا بتقليد الرسل:

"لا تصوموا في الوقت الذي يصوم فيه المراؤون (= اليهود). إنَّهم يصومون في يوم الاثنين والخميس من الأسبوع. أمّا أنتم، فصوموا إمّا خمسة أيّام، وإمّا يومي الأربعاء والجمعة. لأنَّه في يوم الأربعاء صدر الحكمُ على الربّ، وقبض يهوذا ثمنَ الخيانة ليسلمَه. وفي يوم الجمعة، احتمل الربُّ آلام الصلب بأمر بيلاطس البنطي. وأقيموا العيد يومَيْ السبت والأحد. لأنَّ الأوَّل ذكرٌ للخلق. والثاني للقيامة. يجب أن تحافظوا على سبت واحد في كلِّ سنة. هو السبت الذي كان فيه الربُ في القبر (= السبت العظيم)، فصوموا في هذا اليوم ولا تعيِّدوا. فاليوم الذي كان فيه الخالقُ تحت الثرى هو يوم بكاء ونواح، ولا يحسن فيه الابتهاجُ والعيد، لأنَّ الخالق يفوق جميع خلائقه في الطبيعة والإكرام".

نلاحظ أنَّ الصيام يكون خمسة أيّام في الأسبوع، خلال الصوم الأربعينيّ، لأنَّ لا صيام يومَ السبت ويوم الأحد. وفي الأحوال العاديَّة، نصوم يومي الأربعاء والجمعة. يواصل الذهبيّ الفم كلامه:

"وصوموا أيضًا أيّام الفصح (أسبوع الآلام) مبتدئين من الاثنين إلى التهيئة والسبت. ستَّةَ أيّام تستعملون أثناءها الخبز والملح والبقول، والماء للشرب. وامتنعوا عن الخمر واللحوم في تلك الأيّام، لأنَّها أيّام حزن وليست أعيادًا. صوموا يومَي الجمعة والسبت معًا. لا تأكلوا شيئًا حتّى صياح الديك في الليل. وإذا لم يستطع أحدٌ أن يصوم اليومين معًا، فليحافظ أقلَّه على السبت، لأنَّ الربَّ يقول عن نفسه في موضع: متى يُرفَع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون".

في هذا الإطار، نورد العظة العشرين حول إنجيل متّى، وفيها يشرح الذهبيّ الفم كلام الربِّ في عظة الجبل حول الصوم.

ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنَّهم يغيِّرون وجوههم لكي يَظهروا للناس صائمين (مت 6: 16).

"يُستحسن أن نتنهَّد هنا بصوتٍ عالٍ وأن ننتحب بحرارة، لأنَّنا لا نحاكي المرائين فقط، بل قد تفوَّقنا عليهم. لأنّي أعرف حقًّا العديدين من الذين يصومون ويتباهون، بل ويهملون الصوم وهم يضعون أقنعة الصوم، ويغطُّون أنفسهم بعذر أقبح من خطيئتهم... إنَّ السيِّد لم يقل "إنَّهم يمثِّلون" فقط، بل أراد أن يمسَّهم بعمل أكبر فقال: "إنَّهم يغيِّرون وجوههم" أي يفسدونها ويشوِّهونها.

"ماذا يجب أن نقول فيما يتعلَّق بالنسوة اللائي يُفسدن وجوههنَّ بالألوان والصبغة لتخريب النوعيَّة غير العفيفة من الشبّان؟ تلك النسوة يؤذين أنفسهنَّ والذين ينظرون إليهنَّ. لهذا، يجب أن نهرب من هذا الطاعون".

*  *  *

وهدف التوبة يجد وجهه الآخر في الهرب من الخطيئة. وقد روى الشهود عن يوحنّا الحدث التالي:

"ضاق القيصر أوكاديوس ذرعًا من البطريرك يوحنّا، لما كان يأخذ عليه من مظالمه للرعيَّة، وتهاونه في أمر الفقراء، فصاح غضبًا أمام نفر من أهل بطانته: "ألا أنتقم لنفسي من هذا الأسقف؟" فأراد بعض هؤلاء أن يتزلَّفوا إليه بنصحهم، فقال الأوَّل: اقذف به إلى قاصيات المنافي حتّى لا تلمح قطُّ صورته! وقال الثاني: احجز جميع أمواله! وقال الثالث: اطرحه في غياهب السجن مثقلاً بالقيود. وقال الرابع: ألستَ السيِّدَ المطاع؟ أذِقْه كأسَ المنون وأنعم بموته بالاً! فقال الخامس وهو أشدُّهم مكرًا ودهاء لقد قلتم رأيكم جميعًا، فليس ما ذكرتم فيه شيء من الثأر والتنكيل. فإن بعثتموه إلى المنفى، فالأرض كلُّها وطنه. وإن زججتموه في السجن، فإنَّه يقبِّل قيوده ويعدُّ نفسه سعيدًا. وإن قضيتُم عليه بالموت، فتحتُم له أبواب الجنَّة. أيُّها الملك، أفتريد أن تثأر لنفسك منه؟ احمله على ارتكاب الخطيئة. إنّي لأعلمُ أنَّه لا يخشى المنفى، ولا خسارة الأموال، ولا النار، ولا الحديد، ولا العذاب، ولا ملمَّة من ملمّات الدهر مثل الخطيئة!؟

أجل، كان هذا "الخبيث" على حقّ، وقد يكون استمع إلى عظات الذهبيّ الفم، لا ليتعلَّم، بل لكي يُوقع بهذا الأسقف في كلمة من كلماته، على مثال ما كان الفرّيسيّون يعملون مع يسوع. فحملات يوحنّا الشديدة، المتواترة، على الخطيئة معروفة. وكم مرَّة حذَّر المسيحيّين من شرورها الجسيمة. ففي عظته الخامسة لأهل أنطاكية يقول:

"ليس بين نوائب البشريَّة أهول من نائبة الخطيئة. لا الفقر، ولا المرض، ولا الشتيمة، ولا النميمة، ولا العار، ولا الموت المزعوم أشدّ السرور بأسرها. فإنَّ هذه للإنسان الفطين العاقل، إلاّ أسماء مجازيَّة لا حقيقة لها. أمّا الداهية الدهياء فهي إهانة الله وعمل ما يسوء لمرضاته تعالى".

وكتب يوحنّا إلى صديقته القدّيسة أولمبية يقول:

"لا يته رجاؤك يا أولمبية. فليس ما يهول سوى رذيلة فذَّة هي الخطيئة. ولا أكفّ عن ترداد هذه الكلمة لك: وكلُّ شيء ما عداه فإنَّما هو خرافة باطلة. سواء المكايد، أم العداوة، أم الغدر، أم الخيانة، أم الشكاية، أم الحجز، أم الجلاء، أم السيوف المحدَّدة، أم البحر الثائر، أم قيامة الدنيا بأسرها. فمهما تكُن هذه النوازل عظيمة البطش، فإنَّها وقتيَّة، وإلى زمن قصير تصيب الجسم البالي، ولا تصير إلى النفس بأذى".

وفي كمال التوبة، يأتي سرُّ التوبة والمصالحة. لا مجال لليأس أمام الخطيئة، لأنَّ اليأس أخطر من الخطيئة. ويعطي يوحنّا مثال يهوذا الذي أسلم المسيح إلى الصلب. فيهوذا هو ابن الخلاص، شأنه شأن الذين صلبوا المسيح. فالمسيح غفر لهم، وصلّى من أجلهم. لهذا، نحن لا نبكي على الخطأة الذين يمكن أن يعودوا، بل على الذين يرفضون أن يتوبوا. ذاك مضمون العظة الأولى حول التوبة وفي العظتين الثانية والثالثة حول الموضوع نفسه، يعدِّد يوحنّا الطرق الخمس للحصول على الغفران: الإقرار بالخطايا مثل داود (2صم 12: 13). دموع التوبة مثل آخاب (1مل 21: 27)، الاتِّضاع مثل العشّار (لو 18: 13)، الصدقة "التي تنجّي من الموت قبل الأوان ومن الظلمة" (طو 4: 10) والصلاة الواثقة، المواظبة مثل الصديق الماضي إلى صديقه في نصف الليل (لو 11: 5-8). أو الأرملة التي "تزعج" القاضي لكي تنال حقَّها (لو 18: 1-5).

كانت ممارسة التوبة في زمن يوحنّا أقسى ممّا هي عليه الآن. لذلك كان العديدون يؤخِّرون قبولهم سرَّ العماد المقدَّس إلى نهاية حياتهم خوفًا من السقوط في الخطيئة. فحثَّهم الواعظ على قبول هذا السرِّ، شرط أن يكونوا مستعدِّين الاستعداد الصريح للعودة، ووعدهم بالغفران في حال سقطوا في الخطيئة بعد العماد. فهو نفسه وعى أنَّه خطئ بعد عماده، فطلب من الموعوظين أن يصلُّوا لأجله:

"أنظر هنا إلى حالة السبي: فالكهنة الذي يُدخلونك، يأمرونك أوَّلاً بأن تركع، وأن ترفع يديك نحو السماء وتصلّي هكذا. لكي تذكِّر نفسك بنفسك ممَّن نجوت وبمن سوف تتعلَّق. ثمَّ يمرُّ الكاهن أمام كلِّ واحد منكم ويسأله عن الالتزامات والاعترافات، ويدعوك لأن تعلن هذه الأقوال الرهيبة، المثقلة بنتائج لا تصدَّق: "أكفر بك، أيُّها الشيطان".

"إنَّها لمناسبة لي أن أبكي وأنتحب بمرارة. فقد تذكَّرتُ اليومَ الذي فيه أُهِّلتُ لأن أتلفَّظ بهذه الكلمة. وحين أتطلَّع إلى ثقل الذنوب التي كدَّستها من ذلك الوقت إلى الآن، أحسُّ بالاضطراب في عقلي وبالانسحاق في قلبي حين أرى العار الذي جمعتُه بأعمالي منذ ذلك الزمن. لهذا أتوسَّلُ إليكم جميعًا أن تظهروا بعض السخاء تجاهي. وبما أنَّكم تمثلون قريبًا أمام الملك، لأنَّه يستقبلكم باندفاع كبير، ويلبسكم الرداء الملكيّ، ويمنحكم جميع المواهب التي ترغبون فيها مهما كانت عديدة وكبيرة، شرط أن نطلب الخيرات الروحيَّة. أجل، أتوسَّل إليكم أن تطلبوا نعمة من أجلي: "أن لا يطالبنا الله بذنوب اقترفناها، أن يغفرها لنا، أن يتنازل ويمنحنا سنده في المستقبل ستقومون بهذه الصلاة، كأبناء أعزّاء، من أجل معلِّميكم، وهذا ما لا أشكُّ فيه".

وفي إحدى العظات التي تلت عظة قاسية وبَّخ فيها يوحنّا المؤمنين، قال عن نفسه:

"لا بل إنِّي أشعر أوَّل الجميع، يا إخوتي، بما تشعرون من ثقل الانزعاج، لأنّي أنا أيضًا عرضة لارتكاب خطايا: "إنَّنا بأجمعنا نستوجب الموآخذة" (سي 8: 5). ثمَّ: "من يقول إنّي زكَّيتُ قلبي، تطهَّرتُ من خطيئتي؟" (أم 2: 9). إذن لقد وجَّهتُ إليكم موآخذاتي، لا على قصد النظر إلى خطايا غيري، ولا على نيَّة أن أكون قاسيًا جافًّا، بل عن شعور توجُّع خصوصي بذلتُ لكم ما قبلتُ من الموآخذات، ففي معالجات الجسد، لا يشعر من يَبتر عضوًا حيًّا بألم البتر، بل البائس الذي تُجرى له العمليَّة هو وحده الذي يمزِّقه الألم الحادّ. وليس الشأن كذلك في معاملة النفوس إلاّ إذا خُدعتُ في الحكم على غيري. بما هو فيَّ أنا نفسي. فالذي يتكلَّم هو أوَّل من تسدَّد إليه ضربات التوبيخ التي يوجِّهها إلى سواه. كلاّ! لسنا إلى هذا الحدّ نتصنَّع، متى كنّا نحن في حيِّز الموآخذة حتّى نوبِّخ إخوتنا على مساوئ نحن عرضة لها. فضمير الخطيب هو أوَّل ديّان له. لأنّ تفكيره بكونه في مقام التعليم والإرشاد ومع ذلك يرتكب الخطايا التي يرتكبها من يرشدهم ويعلِّمهم وأنَّه يستحقُّ ما يستحقّونه من الموآخذة (التوبيخ) ذلك الفكر يسبِّب له أحدَّ ألم".

الخاتمة

تلك خواطر حول الصلاة والتوبة عند ذاك الواعظ الكبير الذي جاءت كلماته كالعسل، فدُعيَ "الذهبيّ الفم". وكانوا يقولون: ديموستين خطيب أثينة، شيشرون خطيب رومة، ويوحنّا خطيب النصرانيَّة. عرف كيف يوصل الكلمة إلى الناس، ومع الكلمة خبرة حياته الشخصيَّة. لهذا، ما زلنا نسمع له وكأنَّه معاصر لنا، مع أنَّه مرَّ على موته ستَّة عشر قرنًا. صوته يصدح في أرجاء البيعة، لا عند اليونان فقط، بل عند اللاتين والسريان والأرمن والأقباط. حقًّا. يوحنّا الذهبيّ الفم معلِّم في الكنيسة الجامعة، فهلاّ عدنا إلى مدرسته فنكتشف جذورنا الأنطاكيّة في ارتباطها بأورشليم، أمِّ الكنائس؟!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM