يوحنّا الذهبيّ الفم وشرحه لسفر المزامير.

 

يوحنّا الذهبيّ الفم وشرحه لسفر المزامير

في 14 أيلول سنة 407، توفِّي يوحنّا الذهبيّ الفم وهو في طريق المنفى إلى كومانة، في البنطس، وعلى شاطئ البحر الأسود. وها نحن نصنع تذكاره في المئويَّة السادسة عشرة، فنعود إلى هذا الوجه الأنطاكيّ المشرق الذي كادت معالمه تُمحى، لأنَّ آثاره لم تُكشَف بعد في العربيَّة، اللهمَّ بعض الأمور البسيطة. فهذا الذي ترك إرثًا أدبيًّا لا يوازيه إرث أيِّ أبٍ من الآباء، وهذا الذي حُفظت آثاره كلُّها، فتميَّز عن سائر الأنطاكيّين، تميَّز المخطوطات في مختلف المكتبات. منذ القرن السادس دُعيَ "كريسوستوموس" الذهبيّ الفم، فحلَّ هذا اللقب محلَّ اسمه. إليه نتعرَّف في هذا المقال، مع قراءة مستفيضة لشرح سفر المزامير.

1- سيرته، مؤلَّفاته، روحانيَّته

سيرتُه بدأت في اليتم بعد أن مات والده، ساكوندُس، وهو طفل، فربَّته أمُّه أنتوزا، التي ترمَّلت وهي ابنة عشرين سنة. وانتهت بشكل مأساة في طريق المنفى.

أ- الشابّ الذي يطلب الحياة النسكيَّة

وُلد يوحنّا في أنطاكية، في عائلة مسيحيَّة، نبيلة وثريَّة. وتعلَّم أوَّل ما تعلَّم على يد والدته، قبل أن ينصرف إلى الفلسفة في مدرسة أندراغاتيوس، وإلى البلاغة مع المعلِّم الكبير ليبانيوس الذي كان يقول: "إنَّ خطابًا واحدًا هو أجمل شيء في العالم". ولمّا سُئل عن خليفته في تعليم الخطابة والبلاغة، قال: "يوحنّا، لو لم يكن النصارى قد خطفوه منّي".

ولكن ما له وهذا التعليم الوثنيّ الذي بدا له فارغًا. فثار وهو ابن ثماني عشرة سنة على أساتذته الذين يسهبون في الكلام ولا ينتهون. وراح يتنعَّم في قراءة الكتب المقدَّسة. وما عتَّم أن التقى بملاتيوس الأرمنيّ الأصل، وأسقف أنطاكية. فاقتبله الحبر في مجلسه بعد أن توسَّم فيه ملامح الذكاء من أجل مستقبل زاهر. واقتبل الشابُّ سرَّ العماد المقدَّس، ولبث يرافق ملاتيوس ثلاث سنوات، فرسمه قارئًا في الكنيسة.

راح يوحنّا إلى ديودور الذي سيصبح أسقف طرسوس سنة 378، ورافقه تيودور إلى من يُعدُّ وبحقٍّ مؤسِّس مدرسة أنطاكية في تفسير الكتب المقدَّسة. معه تعلَّم يوحنّا شرح الكتب المقدَّسة، فجاءت أكثر مواعظه في هذا المجال: في سفر التكوين وأشعيا والمزامير، في إنجيلي متّى ويوحنّا، في الرسائل البولسيَّة بما فيها الرسالة إلى العبرانيّين.

ولكنَّ ذاك الذي تبتسم له الحياة بغنى وافر، وشرف عائليّ، نال المواهب الرفيعة التي تعدُّه لأن يكون عظيمًا بين العظماء في خطِّ والده الذي اختاره الإمبراطور تيودوسيوس، قائدًا لفرقة الخيّالة الرومانيَّة في سورية، التي كانت مرابطة في نواحي أنطاكية. غير أنَّه كان يتطلَّع في اتِّجاه آخر. أراد أن يهرب من العالم، ويطلب القفر. ولكنَّ أمَّه توسَّلت إليه: "أتريد يا ابني أن تتركني أرملة، مرَّة أخرى". وروى يوحنّا فيما بعد تلك المقابلة مع والدته، التي تذكِّرنا بمقابلة القدّيسة مونيكا مع ابنها مار أوغسطين.

"لقد أمسكت بيدي وقادتني إلى غرفتها الخاصَّة. وأجلستني وجلست قربي على الفراش ذاته حيث شاهدتُ النور لأوَّلِ مرَّة، وقد فاضت دموعها، وكانت زفراتُها تقطِّع نياط قلبي، وعباراتها العذبة الحنونة تُمعن في التقطيع. وممّا قالت لي: "إنتظر فراقي لهذا العالم، ربَّما يكون قريبًا، لقد بلغتُ سنًّا لا ينتظر معه إلاّ الموت. وعندما تعيدني إلى التراب وتجمعني إلى أبيك، إذهب حيث تشاء، سافرْ إلى البعيد البعيد: إرمِ بنفسك في لجَّة اختيارك فعندئذٍ ليس من يمنعك. ولكن طالما أمُّك تتنفَّس وتتألَّم، لا تتركْها ولا تُغضب الربَّ إلهك إذ تلقيني بلا مبرِّر وبلا فائدة في لجج من الآلام، أنا التي لم أصنع لك شرًّا".

ولكن بما أنَّ أمَّه "تمنعه" من المضيّ إلى البرّيَّة، فهو سيأتي بالبرِّيَّة إلى قصره المنيف. عاش كما في صومعة، يأكل قليلاً ويتقشَّف. ينام بضع ساعات. واستغنى عن الخدم والحشم. وهكذا تمرَّس باكرًا في ما سوف يصنع حين يصبح بطريرك القسطنطينيَّة. كان سلفُه (نكتار) محافظ المدينة قبل أن يصبح أسقفها. فأدخل حياة القصور إلى بيوت الأساقفة. ففي القصر، كلُّ شيء من الذهب والفضَّة، المقاعد من الحرير والمخمل والسجّاد الثمين، الشماعدين من ذهب... لن يرضى يوحنّا الذي رُسم أسقفًا بأبَّهة عظيمة في 26 شباط سنة 398. فبدأ بطريركيَّته ببيع جميع الأواني الفضيَّة والذهبيَّة وتوزيع أثمانها على الفقراء. ثمَّ باع السجّاد وشيَّد بثمنه مستشفى للفقراء وباع المقاعد الحريريَّة والمغاطس الرخاميَّة والشماعدين وأقام بأثمانها مأوى للغرباء. باع المرايا واللوحات والأعمدة، وترك الجدران عارية. وأخيرًا باع السرير، الحرير، المخمل، والخشب النادر حيث كان ينام الأسقف نكتار، وأتى بسرير من ألواح الخشب وغطاء بسيط. بعد ذلك، صرف جميع الخدم، وأرسل جميع أدوات المطبخ إلى المأوى، إلى الفقراء.

ذاك ما كان يعيشه في أنطاكية، لهذا بدا سهلاً في القصر الأسقفيّ، حيث ألغى الولائم والاحتفالات. مثل هذه الأمور لا يمكن أن تُرضي عادات الطبقة الأرستوقراطيَّة، لا في أنطاكية ولا في القسطنطينيَّة. فوصفه أحدهم: "شابٌّ يعيش في قلب المدينة كما يعيش المتوحِّدون في البراري والقفار".

ولكن ما عتَّم أن ترك البيت الوالديّ، ومضى إلى الجبال القريبة مع ناسك شيخ قاسمه عيشه طيلة أربع سنوات. وما اكتفى بذلك، بل "انزوى فيما بعد في مغارة منعزلة، تدفعه رغبةٌ حارَّة بأن يختفي عن العالم. أقام هناك أربعة وعشرين شهرًا، حرم فيها نفسه من النوم. ودرس شرائع المسيح أفضل دراسة من أجل طرد الجهل. غير أنَّ هاتين السنتين اللتين قضاهما دون أن ينام في الليل ولا في النهار، دمَّرتا جهازه الهضميّ، والبرد أتلف كليتَيه. وإذ رأى أنَّه لا يقدر أن يطبِّب نفسه، عاد إلى منياء الكنيسة".

ب- خادم الكنيسة وحامل كلام الله

ما إن عاد يوحنّا من مغارته حتّى رسمه الأسقف ملاتيوس شمّاسًا سنة 381. نشير إلى أنَّ الشمّاس الإنجيليّ في ذلك الوقت يساوي النائب العامّ لدى الأسقف. ضعف جسمُه من كثرة الأصوام، ولكنَّ قلبه تحرَّر من كلِّ ما يعيق الصعود إلى أعالي القداسة. عاش يوحنّا حياة النسك، ولكنَّه فهم أنَّ الله يدعوه إلى حياة أخرى. قال: "حياة الراهب هي حياة جهاد وعمل... ومن اختارها يحكم على الغضب والحسد والبخل واللذَّة الجنسيَّة وسائر الشهوات. إنَّ الراهب نجده دومًا محادثًا الأنبياء، ومحادثًا الله بالصلاة والتسبيح والترنيم. إنَّه تنازل عن الأملاك والثروة، عن أكثر من ذلك، وعن اللحم والدم".

ونورد هنا ما قاله الذهبيّ الفم عن نهار الرهبان:

"لا يفكِّر الرهبان في تغذية جسدهم إلاّ بعد قضاء صلواتهم الطويلة وأشغالهم الكثيرة. وإذا دخلتَ إلى مائدتهم، وجدتَ القناعة والتقتير في المعيشة، وتجلَّت لك روحُ التوبة. فبدل الموائد المصفوف عليها الأنواع الشهيَّة من الطعام والشراب التي تراها على موائد العلمانيّين، تجد على موائد الرهبان الخبز والبقول وبعض الثمار أحيانًا. ولنضربَنَّ صفحًا عن الصيامات الكثيرة التي يحافظون عليها، والتي هي في عرفنا مجاعات لا تُحتَمَل. نحن نضحك بقهقهة، ونأكل بشراهة، ونزهو بعظمة. أمّا الرهبان فإنَّهم بعكس ذلك قانعون وصامتون. فيما يغذّي الرهبان جسدهم من هذه المآكل الفقريَّة، تتملئ نفوسهم من الأفكار المقدَّسة. فيما هم يأكلون، يكون عقلُهم مشغولاً بالقراءة الروحيَّة التي يسمعونها. وحين يقومون عن الغذاء، يعودون إلى الصلاة.

"بما أنَّ الرهبان تدرَّبوا على الإماتة والسكينة والفضيلة والأفكار السماويَّة، والاشتياق إلى الأمور الإلهيَّة، فأحاديثهم هي مقدَّسة كنفسهم. وحلوة كسلامهم، ولذيذة كنطقهم الجذّاب. لا تسألهم عن أحاديث هذا العالم، فإنَّهم يجهلونها. إنَّهم ساكنون السماء منذ اليوم، ولذلك يتكلَّمون بما فيها. بما أنَّهم متَّحدون بالله، فلذلك يتكلَّمون عن الله وعظائمه ومراحمه ومواعيده. وإذا كلَّموك عن هذه الحياة، فلكي يخبروك بأخطارها وأوهامها، ويحثّوك على مقاومة الجحيم ومحاربة العالم الشرّير. فهم لا يتكلَّمون عن أمور هذه الدنيا، بل عن الملك العلويّ، عن محاربة الدهر الحاضر ودسائس الشيطان ومكايده. ويعرفون حقَّ المعرفة أن يبيِّنوا لك قوَّة القداسة وجمالها من أعمال القدّيسين.

"إذا كانت حياة الرهبان جميلة وشريفة، فما القول عن موتهم؟ إنَّ موتهم هو انتصارهم، موتهم هو الساعة التي يَعظُم فرحُهم. يسمّون موتهم "سفرهم". فإنَّ الموت ينقذهم من هذه الحياة الدنيا ليدخلهم في السماوات. ولذلك يشيدون بمدائح انتصار أمام بقايا أخيهم الراحل (الراهب الذي توفّي). يلبس الديرُ، يومَ موت الراهب، حلَّة السرور بدل شارات الحداد التي ترفرف في منازلنا. وإذا كان الراهب عظيمًا في أعماله مدَّة حياته، فإنَّه أعظم في مماته".

ومع أنَّ حياة الدير لذيذة، إلاَّ أنَّ يوحنّا اختار طريق الرسالة مثل صديقه الكبير بولس الرسول. فقال: "إنَّ الفضيلة والتقشُّف، إذا لم يضعهما الإنسان في خدمة الناس، هما باطلان". وقال أيضًا: "إنَّ ما يميِّز محبَّ المسيح، هو اهتمامه بخلاص الآخرين". وقال: "خير الإنسان أن يكون أقلَّ فضيلة ويهدي الآخرين، من أن يعيش على قمم الجبال ويرى إخوته البشر يهلكون".

ورُسم يوحنّا كاهنًا سنة 386 على يد فلافيان، خلف ملاتيوس. عندئذٍ تطلَّع ببولس في حياته "ككاهن" ورسول. قال في مديح القدّيس بولس الرسول:

"يمكن بدون خوف من الانخداع أن تُسمّى نفسُ القدِّيس بولس مرجعًا لفضائل وبستانًا روحيًّا، لوفرة بهائها بزهور النعمة، ولوفرة ما كانت متَّفقة هذه النعمة مع فلسفته العالية. فإذا هو صار إلى ما صار إليه إناءً مختارًا عاملاً على زيادة تنقيته كلَّ يوم. تقبَّل هذا الرسول مواهب الروح القدس مندفقة عليه بغزارة عجيبة. ومن تلك المواهب تتدفَّق لنا أنهر عجيبة، لا أربعة فقط كما في الفردوس، بل إنَّها أكثر جدًّا، ومياهها لا تتعكَّر أبدًا. وإنَّ تلك الأنهر، عوض أن تسقي الأرض، تُطفئ ظمأ النفوس، وتجعلها خصيبة فتنمو فيها غلال الفضيلة الفاخرة نموًّا زاهرًا. فأيُّ كلام هو أهل للإشادة بما تستحقُّه فضائل هذا الرجل؟ وأيُّ لسان يستطيع أن يبلغ إلى علوِّ مجده. إنَّه وحده يجمع بأعلى درجة من الكمال كلَّ أنواع الفضائل التي يمكن وجودها في البشر، بل في الملائكة أنفسهم...".

تأثَّر يوحنّا بشخصيَّة بولس وحرِّيَّته من العبوديّات. وأعجب بوعظه الذي لا ممالقة فيه ولا بلاغة بشريَّة. "فهل تريدون أن تعلموا بأيِّ تحفُّظ يكلِّم الخطأة؟ اسمعوا ما يقوله في رسالته إلى أهل كورنتوس: "إنّي أخشى إذا أتيتُكم، أن لا أجدكم على ما أحبّ" (2كو 12: 20). وبعد قليل يضيف إلى كلامه هذا قولَه: "أخشى أن يذلَّني إلهي بينكم إذا قدمتُ مرَّة أخرى، وأنوح على كثيرين من الذين خطئوا آنفًا ولم يتوبوا عمّا صنعوا من النجاسة والزنى والفسق" (2كو12: 21). ويقول في رسالته إلى أهل غلاطية: "يا بَنيَّ الذين أتمخَّض بهم مرَّة أخرى إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم" (غل 4: 19). واسمعوا ما يقول في شأن الزنى الكورنثيّ، وكيف يجزع لحالته جزع المجرم على نفسه، وكيف يسترحم أهل كورنتوس ليعطفوا على ذلك الرجل فيقول لهم: "أسألكم أن تؤكِّدوا له محبَّتكم" (2كو 2: 8). ولمّا أبسله من شركة المؤمنين، لم يفعل إلاّ وهو ذارف دموعًا غزيرة. قال: "فإنّي من شدَّة الكآبة وكرب القلب كتبتُ إليكم بدموع كثيرة، لا لتغتمّوا بل لتعرفوا ما عندي من المحبَّة وبالأكثر لكم (2كو 2: 4). ويقول: "صرتُ لليهود كيهوديّ، وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس... وصرتُ للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء، وصرتُ كلاًّ للكلِّ لأخلِّص الكلّ" (1كو 9: 20). ويقول في موضع آخر: "... المسيح الذي نبشِّر به ناصحين لكلِّ إنسان... لكي نجعل كلَّ إنسان كاملاً في المسيح" (كو 1: 27-28).

"أفترون هذه النفس المتعالية عن كلِّ الأرض؟ لقد كان يتشوَّق إلى أن يقرِّب كلَّ البشر إلى الله. وقد فعل من ذلك ما أمكنه فعله كأنَّه أبٌ لكلِّ العالم. لقد كان يهتمُّ ويقلق ويسعى ويبادر جهده ليدخل جميع الناس إلى الملكوت السماويّ، ملاطفًا البعض، محرِّضًا البعض الآخر، مصلِّيًا متوسِّلاً، واعدًا، مهدِّدًا الأبالسة، طاردًا لمفسدي النفوس، عاملاً في ذلك بذات شخصه وبرسائله ومواعظه وأعماله، وبتلاميذه، مُنهضًا للساقطين، مثبِّتًا للواقفين، شافيًا ذوي العاهات، منشِّطًا للمتوانين، مخوِّفًا بتهديداته أعداء الإيمان، أو راعيًا لهم بنظراته. وهو في كلِّ محلٍّ كقائد حرب مجرَّب. يحمي الطليعة والمجنَّحة والمسرة والساقة والمعدّات الحربيَّة، وكلَّ قائد مئة إلى كلِّ مدافع وكلِّ جنديّ وكلِّ حارس، حتّى لتعُمَّ عنايتُه جميع المحلَّة، رعاية للجيش كلِّه".

تلك هي نفسيَّة يوحنّا الذهبيّ الفم، الكاهن والأسقف. فقد اهتمَّ قبل كلِّ شيء بالوعظ والإرشاد في مختلف كنائس المدينة، إطاعة لأوامر الأسقف فلافيان. فتقاطرت الجموع لسماعه، وكان يلهبها ببلاغته وبروحه الكهنوتيَّة التي تُدخل الكلام إلى القلوب. قال عنه القدّيس فيلوس: "إنَّه نهر من الذهب يسيل". وقال إيزيدور: "لم يظهر في اليونان خطيب أقدر من الذهبيّ الفم". أمّا سويدا فيشبِّهه برجل يتدفَّق كلُّه كالنيل في مصر. احتفظ التقليد المخطوطيّ بعظة يوحنّا يوم رسامته: قدَّم يوحنّا باكورة كلمة ستكون خلال ستَّ عشرة سنة في خدمة الكنيسة. وتوالت العظات على مدِّ السنة الليتورجيَّة. فيوحنّا يعظ يوم الأحد، وفي الأعياد، وخلال زمن الصوم أكثر من مرَّة في الأسبوع. ففي صوم 386، وصلت إلينا ثماني عظات حول سفر التكوين. وفي الصوم من السنة نفسها، كانت العظة الأولى حول الله الذي لا يُدرك (حاشية1). وفي هذه العظات ردَّ على الذين يقولون بأنَّ الابن لا يشبه الآب. وفي الوقت عينه، هاجم يوحنّا اليهود، بمناسبة عيد الفصح والأعياد الخريفيَّة. وذلك تحذيرًا للمسيحيّين، لا استعداء للآخرين.

هي سنة أولى عاشها الكاهن، فعرف كيف يتجاوب مع حاجات المؤمنين في التعليم كما في الكرازة. أمّا سنة 387، فكانت للذهبيّ الفم سنة خاصَّة رافق فيها شعب أنطاكية في حالة من الرعب كادت تؤدّي إلى دمار المدينة دمارًا تامًّا. حطَّم  الناس تمثال الإمبراطور. فراح حاكم المدينة يذبح، يقتل، ينكِّل... فمضى فلافيان، أسقفُ المدينة، إلى الإمبراطور ليستعطفه، وذلك بناء على نصيحة يوحنّا وإلحاحه. أمّا يوحنّا فكان وسط الشعب المرتعب الذي يهدِّده الموت. فكان يعظ ويهدئ ويرشد. فكانت إحدى وعشرون عظة في التماثيل. وجاءت العظة الأخيرة في أحد الفصح، فأعلن الواعظ أنَّ الإمبراطور منح الشعبَ عفوًا كاملاً. هنا بدا يوحنّا ذاك الراعي المسؤول الحاضر وسط شعبه، الذي يخاف خوفهم، ولكنَّه استمدَّ القوَّة من الربِّ فتجاوز الخوف إلى الإيمان، فشجَّع إخوته وثبَّتهم على مثال ما قال الربُّ لبطرس.

في تلك السنة عينها، ألقيت تقاريظ القدّيس بولس السبعة، حيث عبَّر يوحنّا عن حبِّه وإعجابه لذاك الذي كان مثالاً له في الرسالة. سنة 388، ألقيت العظات حول سفر التكوين (67 عظة، الآباء اليونان 53-54). سنة 390، حول الرسالة إلى رومة (32 عظة، الآباء اليونان 59: 13-384) وهكذا يتوالى شرح الرسائل البولسيَّة. أمّا العظات حول أعمال الرسل (55 عظة، الآباء اليونان 60) فهي الشرح الوحيد لهذا السفر خلال القرون العشرة الأولى من حياة الكنيسة. ألقاها الذهبيّ الفم خلال السنة الثالثة من حبريَّته في القسطنطينيَّة، أي سنة 400. في العظة الأولى، تأسَّف أن يكون القليلون قرأوا هذا السفر: "كثيرون يجهلون حتّى وجود هذا السفر، كما يجهلون اسم كاتبه فحسبتُ أنَّه من المفيد أن نبدأ شرحه لكي نعالج هذا الجهل العميق فنكشف لكم الكنز الغنيّ الذي يتضمَّنه هذا الكتاب".

ج- بطريرك القسطنطينيَّة

انتقل يوحنّا من أنطاكية إلى القسطنطينيَّة فما تبدَّلت حياته في شيء. هو بطريرك العاصمة الثانية للكنيسة بعد رومة، ومع ذلك لبث ذاك الكاهن الذي لم يترفَّع يومًا على كهنته وعلى شعبه، ولاسيَّما الصغار والفقراء. وفي الحقيقة، كان سعيدًا مع المؤمنين في أنطاكية. ولو عرف "المؤامرة" التي حيكت حوله، لما قبل أن يقع في الفخ" الذي نصبوه له.

فأوتروبيوس الوزير الأوَّل للإمبراطور أركاديوس، أشار إلى الملك بأن يأتي بيوحنّا بطريركًا على القسطنطينيَّة. فأرسل الإمبراطور الكونت أستيريوس "فخطف" يوحنّا ليلاً من أنطاكية، خوفًا من غضبة الشعب. فقد سبق لأوتروبيوس أن استمع إلى الواعظ في أنطاكية، فرأى فيه ذاك الذي "يسيطر" على الجموع، ويصلح الأخلاق، ويدافع عن المسيحيَّة. وسأل عنه فقيل له: هو قدّيس. ليس له إلاّ ثوب واحد. ولا يأكل إلاّ مرَّة واحدة في اليوم. وينام في غرفة خالية من الأثاث على سرير من الخشب (لا من العاج). فالإمبراطور تذكَّر كلام والده، ثيودوسيوس الكبير: قوَّة الإمبراطوريَّة ترتكز على الأساقفة. هم "أولئك الرجال الذين يقفون مع الحكّام في المحن والهجمات البربريَّة، ويخلقون تيّارًا شعبيًّا".

ولكنَّ البطريرك الجديد لم يكن كما يريده الملك. فلا قصره يقابل قصر الملك، ولا الخدم والحشم حوله كما لدى الملك، استقبله الملك، وهو ربيب الفقر والتقشُّف والرافض الغنى والترف. فرأى الممرّات مفروشة بالذهب، وملابس رجال الموكب الإمبراطوريّ مذهَّبة، الخيول تتبختر في الذهب، والعربات مرصَّعة بالحجارة الكريمة. دهش يوحنّا فقال: "لو أعطيَ لوجهاء القسطنطينيّة لجعلوا كلَّ شيء من الذهب الخالص: الأرض، الجدران حتّى السماء والجلد".

في هذا المناخ، عاش نكتار، سلف يوحنّا، ستًا وعشرين سنة. هو عظيم بين عظماء الإمبراطوريَّة، بعيد كلَّ البعد عن الشعب. إذًا، ليس هذا المكان مكان يوحنّا الذهبيّ الفم: فلا بدَّ من إصلاح المدينة والإكليروس. فالفساد في كلِّ مكان. وحين رأى المقاومة تقوى وتزداد يومًا بعد يوم، فهم أنَّ تسميته على كرسي العاصمة جلب له الشقاء في حياته. فالمسافة بعيدة بين أنطاكية، المدينة الوادعة على ضفاف العاصي، والقسطنطينيَّة حيث تُحاك المؤامرات يومًا بعد يوم، فيرتفع هذا ويُخفَض ذاك. كان أوتروبيوس الوزير الأوَّل، ومعه أشخاص عظام مثل ساتورنين وأوريليان. هؤلاء سقطوا وحلَّ محلَّهم غايناس، الآتي من الحركة الأريوسيَّة المناهضة للأرثوذكسيَّة.

نفس يوحنّا نبيلة، رفيعة، متجرِّدة، فكيف له أن يدخل في دسائس الإمبراطوريَّة ومكائدها؟ هو "ابن بولس"، أتراه ينحني أمام الإمبراطور، يطلب رضاه يومًا بعد يوم، لكي يحافظ على حظوته؟ هو الراعي المثالي الذي يريد لكهنته أن يقتدوا به. رفضوا. كان باستطاعته أن يقيم فريقًا على آخر حين يغدق عليه الخيرات، ويدلُّ على دبلوماسيَّة محنَّكة. لا هذا ليس يوحنّا الذهبيّ الفم ومكانته مع الفقراء والبسطاء. لهذا وجب أن يقصيه الأغنياء والأقوياء، بدءًا بالإمبرطورة أودكسية التي رأت في كلِّ عظة من عظاته تلميحًا إليها، وصولاً إلى تيوفيل، بطريرك الإسكندريَّة، الذي رسمه على الكرسيّ الثاني في الكنيسة، مكرَهًا. والأساقفة الذين اشتروا أسقفيَّتهم. وهكذا اجتمع سينودُس تألَّف من ستّة وثلاثين أسقفًا جاؤوا كلُّهم من مصر، ما عدا سبعة. هو سينودس السنديانة، في حيٍّ من أحياء خلقيدونية. اتَّهموه تسعة وعشرين اتِّهامًا. دُعيَ يوحنّا للمثول أمام هذه "المحكمة الأسقفيَّة"، ثلاث مرّات، فرفض. حينئذٍ حُطَّ عن كرسيِّه في شهر آب سنة 403. ووافق الإمبراطور على هذا القرار فنفى البطريرك إلى بيتينية (في تركيا الحاليَّة). ولكنَّ هذا الإبعاد الأوَّل لم يدُم طويلاً، لأنَّ الإمبراطورة أمرت بإرجاعه حين رأت عاطفة المؤمنين في القسطنطينيَّة، وخصوصًا حين حصل حادث مأساويّ في البلاط الملكيّ. فعاد يوحنّا إلى العاصمة في تطواف النصر، وأطلق في كنيسة الرسل عظة باهرة، حاول فيها أن يُهدّئ غضبة الشعب بأقوال تدلُّ على أنَّ الكنيسة لا تُقهَر. على أنَّ لا شيء يفصل الرأس عن الأعضاء. وفي عظة ثانية، عرضها سوزومين، شكر يوحنّا المؤمنين على صدقهم وأمانتهم، وامتدح عفَّة العروس، كنيسة القسطنطينيَّة، ومحبَّتها، التي أبعدت، في غيابه، كلَّ المضلِّلين. كما شكر الإمبراطورة أودوكسية. وهكذا عاد الهدوء الذي لم يدُم طويلاً. فقد كان يوحنّا قاسيًا تجاه الاحتفالات العامَّة والرقص والهرج والمرج حين دُشِّن تمثال أودوكسية قرب الكاتدرائيَّة. أظهرت الإمبراطورة سخطها الذي أشعله الحسّاد. جُرح البطريرك في الصميم، وقام بعمل نقصته الفطنة حين بدأ عظته في عيد يوحنّا المعمدان، فشبَّه أودوكسية بهيرودية: "مرَّة أخرى سخطت هيرودية. مرَّة أخرى غضبت. مرَّة أخرى رقصت. مرَّة أخرى طلبت رأس يوحنّا على طبق".

استفاد الخصوم من هذه المقدِّمة ليحرِّكوا أودوكسية، وعزموا أن يطلبوا له المنفى متَّهمين إيّاه بأنَّه استعاد بشكل غير شرعيّ، وظائف كرسيِّه الذي حُطَّ عنه حطًّا قانونيًّا. هنا نورد ما كتب بالاديوس:

"وحمل صيامُ الربِّ حزمته من الزهور، كما الربيع في عودته كلَّ سنة وإذ عاد أنطيوخس وأنصاره إلى الإمبراطور من أجل مقابلة خاصَّة، نصحوه بعد أن بيَّنوا له يوحنّا مهزومًا منذ الآن، بأن يأمر بنفيه لأنَّ عيد الفصح اقترب. انزعج الإمبراطور بمطالباتهم الملحَّة، فوثق بهم لأنَّهم أساقفة... فأرسل من يقول ليوحنّا: "أترك كنيستك". فأجابه يوحنّا: "من الإله المخلِّص أنا تسلَّمتُ هذه الكنيسة لأسهر على خلاص الشعب، ولا يمكنني أن أتخلّى عنه ولكن إن كانت تلك مشيئتك، والمدينة تتعلَّق بالملك، أخرجني بالقوَّة لكي يكون سلطانك عذرًا لي فأتخلّى عن موقعي". وهكذا أرسل أمرٌ، مع بعض الخوف، فطردوه وأجبروه على الإقامة في قصره لوقت محدَّد، لأنَّهم خافوا من ظهور ممكن لغضب الله. فإن حصل لهم حادث مزعج، أعادوه سريعًا إلى كنيسته وهدّأوا غضبة الإله، إلاّ إذا أرادوا أن يهاجموه كما هاجم فرعون موسى (خر 10: 27-28؛ 14: 4-8).

"وجاء يوم السبت العظيم، اليوم الذي فيه يجرِّد المخلِّص، بعد صلبه، الجحيم (من موتاه). مرَّة أخرى أرسلوا من يقول له: "أترك كنيستك". فقدَّم يوحنّا الجواب اللائق. لهذا حاذر الإمبراطور قداسة اليوم وبلبلة المدينة، فدعا أكاك وأنطيوخس وسألهما: "ماذا نعمل؟ احذرا من أن تعطياني نصائح رديئة". فامتلأ هذان المتشامخان قوَّة وقالا للإمبراطور: "يا صاحب الجلالة، على رأسنا حطَّ يوحنّا".

"وفي محاولة أخيرة، مضى الأساقفة الذين يحيطون بيوحنّا، وكان عددُهم هو هو كما في زمن الصيام، مضوا إلى الإمبراطور والإمبراطورة في كابلَّة الشهداء، وتوسَّلوا إليهما بالدموع أن يَعفيا عن كنيسة المسيح، ولاسيَّما بسبب عيد الفصح، ومن أجل الذين سينالون الولادة الثانية في ذلك اليوم بعد أن تنشّأوا، وأن يردّا لهم أسقفهم. وإذ لم يُسمَع طلبهم، انبرى بولس أسقف كراتايا القدّيس، فأطلق بثقة لا تلين: "يا أودوكسية، خافي الله. إرحمي أولادك. لا تنجِّسي عيد المسيح بسفك الدماء". وبعد أن عاد الأساقفة الأربعون، لبثوا ساهرين في كراسيهم، بعضهم يبكون وآخرون ينتحبون...".

وجاء عيد الفصح. أتُرى يرعوي الأساقفة والإمبراطور، إكرامًا لهذا اليوم المقدَّس؟ أمّا خصمهم فضعيف البنية، نحيل الوجه، كشاة يساق إلى الذبح ولا سلاح بيده. شابه الأساقفةُ الشعب اليهوديّ حين حلَّلوا دم يسوع. وها هم يلعبون دور يهوذا حين يقودون الجيش إلى الكنيسة. ويحدِّثنا بالاديوس عمّا حصل ليلة الفصح سنة 404:

"أمّا كهنة يوحنّا، أقلَّه خائفو الله، فجمعوا المؤمنين عند حمامات كونستانس وأخذوا يسهرون. بعضهم يقرأون النبوءات الإلهيَّة، وآخرون يعمِّدون الموعوظين، كما جرت العادة. كلُّ هذا حمله هؤلاء المفسدون هؤلاء القوّاد الأردياء، أنطيوخس، سيفيريان، وأكاك، إلى من يحميهم وطلبوا منهم بإلحاح أن يمنعوا الشعب من المشاركة في الاحتفال الذي يُقام الآن. فرفض رئيس الحرس الملكيّ قائلاً: "هو الليل، والجمعُ كثير، فأخاف من الفوضى وبلبلة". فأجاب أكاك ورفيقاه: "لم يبقَ أحدٌ في الكنائس، ونحن نخاف، إذا أتى الإمبراطور إلى الكنيسة ولم يجد أحدًا فيها، من أن يلاحظ محبَّة الشعب ليوحنّا، ويتَّهمنا بالافتراء، لاسيَّما وأنَّنا أكَّدنا له تأكيدًا أنَّ ما من أحد إطلاقًا صاحب استعداد صالح تجاهه (= تجاه يوحنّا)، لأنَّه إنسان خارج القانون". وبعد أن أشهدهم قائدُ الحرس على ما يحصل، وضع يتصرُّفهم شخصًا اسمه لوقيوس، وهو وثنيّ كما عُرف، رئيس مجموعة من المنتخبين، وأعطاه الأوامر بأن يدعو بهدوء الشعب الذي خرج من الكنيسة للعودة إليها. مضى إلى هناك فما سمع له أحد. حينئذٍ عاد إلى أكاك وصديقيه وأعلمهم بحرارة الشعب وكثافته. فأزعجوه بتوسُّلاتهم وأغدقوا عليه الأموال المذهَّبة والوعد بتقديم سريع لكي يضع عائقًا لمجد الربّ...

"فهجم فجأة في قلب الليل، مع الكهنة الذين دلُّوه على الطريق، مع جنوده، بدا هائجًا كالأسد، فشقَّ الجمع بسيف يلمع. وتقدَّم إلى المياه المقدَّسة ليبعد الذين ينشَّؤون على قيامة المخلِّص، قلب الشماس بعنجهيَّة، وضرب الكهنة، بالرغم من كبر سنِّهم، بالهراوات على رؤوسهم ونجَّس بالدم حوض العماد. فكنتَ ترى هذه الليلة الملائكيَّة، حيث سقط فيها الأبالسة مرتعبين، تتحوَّل إلى متاهة...".

وبعد عيد العنصرة بخمسة أيّام، في 9 حزيران 407، جاء الكاتب الشرعيّ وطلب من يوحنّا أن يترك المدينة: فمضى إلى المنفى إلى كوكوزة، في أرمينيا السفلى حيث بقي ثلاث سنوات. فمضت إليه رعايا أنطاكية في حجٍّ لتشاهد واعظها المحبوب. لهذا حين رأى أعداؤه "كنيسة أنطاكية" تنطلق إلى كنيسة أرمينيا، وحكمة يوحنّا العجيبة يُنشدها العائدون إلى أنطاكية، عزموا أن يقصِّروا أيّامه". طلبوا من أركاديوس فوافق على طلبهم. فأرسل يوحنّا إلى بيتيوس Pityus، في الطرف الشرقيّ للبحر الأسود. حطَّمه التعب والسفر الطويل فمات في كومانة، وما وصل إلى حيث أرسلوه. فرأى بالاديوس موته كما يلي:

"وما إن عاد حتّى طلب ثيابًا بيضاء تليق بحياته (الكهنوتيَّة)، فخلع تلك التي كانت عليه، ولبس بتؤدة، كما بدَّل حذاءه. ووزَّع الثياب الباقية على الذين كانوا هناك. وبعد أن تناول أسرار الربِّ المقدَّسة، تلا صلاته الأخيرة أمام الحاضرين، وأنهاها بكلام اعتاد عليه: "المجد لله من أجل كلِّ شيء".

2- شرح سفر المزامير

كان بالإمكان أن نتحدَّث عن سائر مؤلّفات يوحنّا الذهبيّ الفم سواء عن الكهنوت أو الحياة الرهبانيَّة، أو البتوليَّة والترمُّل، أو تربية الأولاد ولكنَّنا فضَّلنا تقديم شرح سفر المزامير، الذي هو أفضل ما تركه يوحنّا الذهبيّ الفم حول العهد القديم. شرح فقط 58 مزمورًا (الآباء اليونان، 55). وقد وردت بحسب ترقيم السبعينيَّة: 4-12؛ 43-49؛ 103-117؛ 119-150. أمّا العنوان فهو "شروح"، لا عظات.

أ- إلى متى يا ربُّ تنساني

بعد المقدِّمة التي نعود إليها، يبدأ يوحنّا بالموضع الأساسيّ: هل نسيَ الله صفيَّه؟

"ليست هي بالنعمة الصغيرة أن يشعر الإنسان بنسيان الله له. وهذا النسيان لا يكون في الله عاطفةَ النفس، بل تخلٍّ بسيط. وها إنَّ عددًا كبيرًا من الذين هم موضوع هذا التخلّي يجهلونه ولا يفكِّرون في أن يحزنوا عليه. أمّا الملك النبيّ القدِّيس، فما عرف ذلك فقط، بل حسب أنَّه طال. فهذه العبارة: "إلى متى؟" تدلُّ على نفس تحسُّ بالحزن في محنتها فتنتزع منها النحيب والبكاء. تطلَّعوا هنا إلى علَّة الاهتمام الحيّ لدى الملك القدّيس. لا بأيِّ شيء من أشياء الأرض، لا بالغنى، لا بالمجد، بل فقط بلطف الله وصداقته.

"وما هي العلامة التي بها لاحظ أنَّ الله نساه؟ لأنَّه عرف الأزمنة التي فيها ذكره الله، وعلم ملء العلم ما معنى أن يكون الإنسان منسيًّا من الله، أو حاضرًا في تذكُّره. هو ما كان مثل عدد كبير من البشر، الذين يتخيَّلون أنَّهم حاضرون في فكر الله حين يمتلكون الغنى والمجد، وحين ينجح كلُّ شيء لهم، وحين ينتصرون على أعدائهم، وهكذا لا يعلمون أنَّ الله جعلهم في عالم النسيان. هم لا يعرفون العلامات التي بها نتعرَّف إلى تذكُّر الله، لا يعرفون أنَّ يميِّزوا بشكل أفضل العلامات الدالَّة على نسيان الله. فمن الطبيعيّ أنَّ الذين لا يعرفون علامات صداقته، أن لا يعرفوا أيضًا علامات غضبه.

"فهناك عدد كبير من الذين يمتلكون الخيرات السريعة العطب، هم، وأكثر من غيرهم، منسيّون في نظر الله. أمّا نظر الله فيتوقَّف بالأحرى عند الذين يعيشون في قلب المحنة. فما من شيء يجعلنا حاضرين على تذكُّر الله، سوى ممارسة الأعمال الصالحة، والاعتدال، والسهر، سوى الغيرة للسير قدمًا في طريق الفضيلة. وكذلك لا شيء يجعلنا في النسيان مثل الخطيئة والجشع وسرقة خيرات الآخرين. إذًا، حين تحسّون بالضيق، لا تقولوا: "الله نساني. بل حين تكونون في الخطيئة، ويبدو أنَّكم ناجحون في كلِّ شيء".

توجَّه يوحنّا إلى المؤمن وأفهمه ما معنى أنَّ الله ينساه. فلا يغشّ نفسه: أنا ناجح، إذًا الله معي يتذكَّرني، أنا في المحنة، في المرض، إذًا الله ليس معي، ينساني. ويواصل الشارح كلامه حول نسيان الله في أقصى درجاته:

"إلى متى تحيل بوجهك عنّي؟" هو النسيان في أقصى درجاته. لجأ النبيّ إلى هذه اللغة البشريَّة ليصف عن أعمال الله، غضبه العادل، وأنتقاله. والله يميل أيضًا بوجهه عنّا حين تتعارض أعمالُنا مع وصاياه. قال بفم نبيِّه: "حين تبسطون أيديكم إليّ، أميل نظري". ويعطي سبب ذلك: "لأنّ أيديكم مملوءة بادماء" (أش 1: 15). وهذا التخلّي من قبل الله، وهذا الكره الذي يظهره لنا، هو دليل على عنايته واهتمامه، لأنَّه لا يتصرَّف هكذا إلاّ ليجتذبنا إليه اجتذابًا أقوى. فالذي تسيطر عليه عاطفة عنيفة، يبتعد بعض المرّات عن الشخص الذي يحبُّه فيحتقر حبَّه. لا لأنّه لم يعُد موضوع وداد، بل لأنَّه يريد بهذه الطريقة أن يرجعه إليه، ويربطه به برباطات أوثق.

"بعد أن اشتكى داود من ابتعاد الله هذا، عرَّفنا نتائج هذا النسيان: "إلى متى أضع في نفسي المشاريع". فكما أنَّ ذلك الذي خرج من المرفأ يتيه في كلِّ الجهات غامرًا، وكما أنَّ الذي حُرم من النور يصطدم بجميع العوائق، هكذا الذي سقط في نسيان الله، يكون على الدوام فريسة الهموم والقلق والوجع. أمّا أحد الوسائل الأكثر كفالة لإرجاع نظر الله عليه، هل أن يسلَّم للهموم الحارقة فيشعله الحزن، فيفكِّروا معًا في أسباب ابتعاد الله هذا. ذاك ما كتبه عن نفسه القدّيس بولس في الرسالة إلى الكورنثيّين: "من يفرحني إلاّ ذاك الذي أحزنته؟" (2كو 2: 2). إذًا هي نعمة ثمينة، أيُّها الأخ الحبيب، أن تحسَّ بابتعاد الله هذا فتشعر بالحزن والوجع.

"إلى متى يتقوّى عدوّي عليّ؟ أنرْ عينيّ لئلاّ أنام نومة الموت. حين يكون الله معنا، ويأخذنا تحت حمايته، تزول أتعابُنا وأحزاننا. وحين يبتعد عنّا ويبدو كأنَّه ينسانا، تكون نفسنا شبه ممزَّقة، وقلبنا تضيِّق عليه الكآبة، وأعداؤنا يدوسوننا بأرجهلم فيصبح كلُّ شيء لنا عقبة وهوَّة. إنّما الله يسمح بهذه المحن القاسية، على أنَّها حسنات، فيريدها أن تكون لنا محرِّكًا يوقظ النفوس المتهاملة، ويرفعها بحرارة أكبر إلى النقطة التي منها سقطت. قال النبيّ: "شرُّكم يعلِّمكم، وجرائمكم الخاصَّة تقف في وجهكم" (إر 2: 19).

"إذًا، تخلّي الله هو نوع من العناية. فحين نحتقر ما تقدِّمه لنا عناية الله الأبويَّة، يبتعد الله بعض الشيء عنّا فيبدو وكأنَّه تخلّى عنّا ليهزّ تهاملنا ويلهمنا حرارة أكبر تجاهه. قال الملك النبيّ: "أنظر يا ربّ. أنظر يا عدوّي الذي يقوى عليَّ، وإن كان فرطُ شقائي لا يكفي لكي يحرِّك عاطفتك، فاستجبني أقلَّه بسبب كبريائه وعجرفته.

"وماذا تطلب؟ النصر على أعدائك؟ كلاّ. ليس هذا موضوع صلاته. يطلب منه أن ينير عيني قلبه فتتبدَّد الظلمات المنتشرة على ذهنه فتجعل عين فمهم معتَّمة. ذاك ما أطلب: أنرْ عينيّ، لئلاّ يقول عدوّي، حين يراني غارقًا في موت الخطيئة: "انتصرت عليه. تغلَّبت عليه، وما رغبت فيه قد حصل. ما معنى هذا الكلام: "انتصرت عليه"؟ مع أنَّ عدوّي لا قوَّة له في ذاته، إلاّ أنَّه كان أقوى منّي. فهزائمنا صنعت قوَّته، وضاعفت قدرته، وجعلته لا يُقهَر".

وبعد كلام عن العدوِّ (الشيطان) الذي يفرح بانتصاره علينا، فيقوى يومًا بعد يوم، يواصل الذهبيّ الفم كلامه مشدِّدًا على رحمة الله. هو في خطر بولس الرسول في التشديد على مجّانيَّة الخلاص. فرحمة الله سابقة لحياتنا ولأعمالنا. ونحن على هذه الرحمة نتوكَّل.

"وأنا جعلت اتِّكالي في رحمتك. فأيُّ عمل صالح تحمله لكي يساند صلواتك، فيُحدر الله أيضًا عليك عينيه، ويستجيب طلبتك، وينير عينَي فهمك؟ ما هي كفاءاتك؟ قال الملك النبيّ: ليقدِّم آخرون، إذا استطاعوا، حججًا أخرى. أمّا أنا فلا أعرف إلاَّ شيئًا واحدًا: فيك وضعتُ كلَّ اتِّكالي، ولا ألجأ إلاّ إلى لطفك ورحمتك. أنا جعلتُ اتِّكالي في رحمتك. انظروا أيَّ تواضع، وفي الوقت أي ارتفاع في العواطف عند هذا الملك القدّيس! لا شكّ، كان بإمكانه أن يذكر الكثير من الأعمال الصالحة لينال من الله استجابة صلواته، فما قال شيئًا عنها. بل اكتفى بأن يدعو رحمته. فحين نسمعه يقول في مزمور آخر: "إن كنتُ فعلته يا ربّ، إن كافأت الشرَّ بالخير" (مز 7: 4-5)، فهي الضرورة تدفعه إلى مثل هذا الكلام. ففي ظرف مختلف كلَّ الاختلاف، يسكت عن فضائله، ولا يؤسِّس نجاح صلواته إلاّ على لطف الله ورحمته.

"وإذ اتَّكل اتِّكالاً ثابتًا أنَّ رجاءه لا يخيب، أضاف: قلبي يبتهج فرحًا من أجل خلاص تمنحه لي. أيُّ نتائج عجيبة للرجاء في هذه النفس؟ وجَّه إلى الله صلاته، وقبل أن ينال ما طلب، رفع آيات الشكر وأطلق مديح عرفان الجميل وكأنَّه استجيب فأتمَّ كلَّ ما قيل أعلاه. فمن أين جاءه هذا الرجاء الثابت؟ من نبل عواطفه، من حرارته، من صلاته، لأنَّه عرف أنَّ صلاة تلهمها حرارةٌ كبيرة وعاطفةٌ حيَّة في النفس، تُستجاب دومًا. الذين يصلُّون بفتور وتهامل يكادون لا يحسّون بخير صلاتهم المستجابة. أمّا الذين يجعلون في الصلاة كلَّ تنبُّه ذهنهم وحرارة نفسهم، يحسُّون، قبل نوال ما طلبوا، وبفضل حيويَّة رغباتهم وطهارة قلبهم، أنَّهم نالوا الخير الذي التمسوه، لأنَّ النعمة الإلهيَّة تفيض في نفسهم مسبقًا فرحًا سماويًّا. لهذا يرفعون الشكر إلى الله وهم ليسوا ببعيدين عن الوقت الذي فيه تُلبّى تمنِّياتهم. قلبي يبتهج فرحًا في خلاصك. أي ما يُبهج نفسي هو أنَّ خلاصي آتٍ من عندك. وما يفرحها هو أنَّك أنت خلاصها".

ب- ترجمات مختلفة

في بداية مز 13، نقرأ حاشية في العبريَّة: "لكبير المغنّين، مزمور لداود. وفي السبعينيَّة: من أجل النهاية حول المَعاصر، مزمور لداود. ماذا قرأ الذهبيّ الفم؟

"من أجل النهاية. مزمور لداود". حسب ترجمة أخرى: "نشيد انتصار داود". وبحسب أخرى: "من أجل النصر". ثمَّ: إلى متى يا ربّ تنساني، أإلى الأبد؟" وحسب ترجمة أخرى: (إلى متى) "تختبئ"؟ ثمَّ: إلى متى تملأ قلبي مشاريع؟". بحسب ترجمة أخرى: "إلى متى أحبل بالمقاصد وقلبي يلبث في الوجع نهارًا وليلاً؟" ونقرأ في ترجمة أخرى: "هل امتلأت أفكاري همًّا طوال النهار؟" (باراي، ص 123).

هنا نعود إلى الترجمات اليونانيَّة للعهد القديم. يذكر يوحنّا "العبريّ"، هو النصُّ في الحرف العبريّ، أو في الحرف اليونانيّ كما جعله أوريجان في الهكسبلة أو الترجمات الكتابيَّة اليونانيَّة في ستَّة عواميد. ثمَّ يذكر أكيلا. هذا كان وثنيًّا. وُلد في سينوبي على البحر الأسود. عاش في أيّام الإمبراطور أدريان (117-138). أقام في أورشليم، اهتدى إلى اليهوديَّة. تتلمذ على يد رابّي أليعازر ورابّي يشوع أو على يد رابّي عقيبة (+135). جاءت ترجمته كزًّا بمعنى أنَّ اللفظ العبريّ يوافق اللفظ اليونانيّ ذاته. أمّا سيماك فكان سامريًّا انتقل إلى اليهوديَّة حوالي سنة 150 وخُتن مرَّة ثانية. تتلمذ على يد رابّي مئير الذي كان تلميذ رابّي عقيبة. عادت ترجمته إلى سنة 165 ب.م. أو بعد ذلك الوقت بقليل. ترجمة ذات قيمة أدبيَّة رفيعة. تتوجَّه إلى الطبقة الهلّينيَّة المثقَّفة، التي لا تعرف العبريَّة. أحبَّها الشرّاح وأوَّلهم أوسابيوس القيصريّ.

لن نتحدَّث عن الترجمة السبعينيَّة التي تمَّت في الإسكندريَّة منذ القرن الثالث ق.م.، وامتدَّ العمل فيها بعد ذلك، بل ننهي مع تيودوسيون. قد يكون عاش في أيّام الإمبراطور كومود (180-192 ب.م.). يبدو أنَّه من أفسس. ارتبط بمرقيون قبل أن يصبح يهوديًّا. هذه الترجمة زاحمت بعض المرّات السبعينيَّة، في الأوساط المسيحيَّة. وحين غابت السبعينيَّة من الهكسبلة، جعل أوريجان مكانها ترجمة تيودوسيون.

تلك سمة في شرح المزامير لا نجدها في سائر مؤلَّفات الذهبيّ الفم. وهكذا يمكن أن نتساءل: هل هذا عمل يوحنّا أم عمل معلِّمه ديودور الطرسوسيّ؟ ومهما يكن من أمر، نحاول أن نكتشف المرّات التي فيها يقابل الذهبيّ الفم بين ترجمة وترجمة، مشدِّدًا على المعنى الحرفيّ. ونقرأ بعض ما في المزمور السابع:

"إنَّ لفظ قُمْ لا تمثِّل في ذهنكم أيَّة فكرة ماديَّة. فهذا الفعل، شأنه شأن فعل جلس لا يُفهم في معرض الكلام عن الله، في معنى جسديّ. قال الملك النبيّ: "أنت جالسٌ إلى الأبد". ما معنى هذا الكلام؟ الثبات، المتانة، اللاتبدُّل في الطبيعة الإلهيَّة. وهي حقيقة يبيِّنها أيضًا بألفاظ معاكسة. فبعد أن قال: "أنت جالس إلى الأبد"، أضاف: "أمّا أنتم فتهلكون إلى دهر الدهور" (مز 92: 8-9).

"إذن، فعل "قُم" لا يُفهم في معنى مادّيّ، ولا فعل "جلس". فالأوَّل يمثِّل قدرة الله في معاقبة الأشرار وإهلاكهم، والثاني يصوِّر اللاتبدُّل الإلهيّ. وفعل "جلس يعني أيضًا، بعض المرّات، سلطان الدينونة مثل هذا الكلام للملك النبيّ: "جلستَ على كرسيِّك وقضيتَ بحسب العدل" (مز 9: 4). وفي كلام دانيال 7: 9: "وُضعت العروش فجلس للدينونة". ويرمز هذا الفعل أيضًا إلى قدرة الملك، كما حين يقول داود لله: "عرشك يا الله عرش أبديّ، صولجانُ استقامة صولجان ملكك" (مز 45: 7). من هنا كان هذا الكلام الآخر: "اجلس عن يميني" (مز 110: 1)، يعني مساواة في الكرامة.

"ولكن، ما معنى العبارة التالية: "في غضبك؟ يجب أن نفهمها أيضًا في معنى يليق بالله. فغضب الله ليس هوى من الأهواء، بل عقاب عادل للخطأة. أظهر قوَّتك على حدود أعدائي. ونقرأ في ترجمة أخرى: "في غضبك على أعدائي". وأخرى: "في سخط الذين يضطهدونني". وأخرى في النهاية: "في الانتظار لدى الذين يريدون أن يجعلوا في يديَّ القيود". نقرأ في النصِّ العبريّ: "على الحدود".

"نلاحظ مرَّة أخرى أنَّ داود بعيد عن كلِّ عاطفة انتقام، ولا يتطلَّع هنا إلاّ إلى مجد الله. فهو لا يقول لله: "عاقب أعدائي أو أعداءك". بل "ارتفع". وكيف يقدر أن يرتفع من هو منذ الآن في العلى العلى، والذي يلبث على الدوام في أعلى درجات العظمة؟ فارتفاع طبيعته لا يقبل أيَّ نقص ولا أيَّ نموّ. فالله كامل، وهو لا يحتاج إلى شيء، ويبقى هو هو. فكيف يقدر أن يرتفع؟ هو يُرفع في ذهن عدد كبير من الناس. حين عامل أعداءه بالصبر، لم يروا في سلوكه سوى الجبانة والضعف. وهكذا وُضع، لا في الحقيقة، بل في ذهنهم".

ويواصل الشارح قراءة مز 7: 8: "واجمع الأمم من حولك، واجلس فوقها في الأعالي. فيقول:

"كما أنَّ الشمس تبدو بدون ضياء للذين عيونهم مريضة، كذلك يبدو الله ضعيفًا، جبانًا في ذهن أعدائه. ومع أنَّ الشمس تبدو هكذا مغلَّفة بالعتمة، فهي ليست في الواقع كذلك. هو ضعف العيون المريضة يُظهرها كذلك. وهكذا فالضعف المزعوم في الله، لا يُوجَد إلاّ في الأذهان المريضة. إذًا، ما الذي يتمنّاه البارّ؟ أظهرْ مجدَك في وسط أعدائك، أبرز انتقامك وقدرتك بحيث إنَّ الذين يتَّهمونك بالضعف يقرُّون بقدرتك حين يرون عقابًا أنت فاعله.

"أترون الهدف الذي وضعه (داود) أمامه؟ لا منفعته، بل منفعة مجد الله. فهناك من يترجم عبارة "على الحدود" بعبارة "على الرؤوس. وآخرون ترجموا: "فلا يُفلت أحدٌ من أعدائك". إنَّه برهان فضيلة كبيرة لدى البارّ، بأن يكون أعداء الله أعداءه وأصدقاء الله أصدقاءه. كما يكون الفساد كبيرًا حين يكون أصدقاؤنا أعداء الله، وأعداؤنا أصدقاءه. فكما نقول عن الله إنَّ له أعداء، لا في معنى أنَّه يبغضهم أو يكرههم، بل هو يكره أعمال شرِّهم. وهكذا يكون أيضًا للبارّ أعداء لا يحاول الانتقام منهم، يل يكتفي بأن يكره أعمالهم السيِّئة.

"قمْ أيُّها الربُّ إلهي، ونفِّذ الفريضة التي وضعت. وقالت ترجمات أخرى: "الدينونة". وتحيط بك جماعة الشعوب. وبحسب ترجمة أخرى: "لتُحط بك"، تطلَّعْ إلى هذه الجماعة وارتفع إلى العلاء، يا ربّ. ونقلتْ ترجمة أخرى: "وارتفع فوقها في العلى". قال النصُّ العبريّ "و ع ل ي هـ". ما معنى هذه العبارة: "لتنفِّذ الفريضة التي وضعت؟ تقوم هذه الفريضة في إعانة ضحايا الجور، وفي اللاتخلّي عن الذين عزم الأعداءُ على إهلاكهم. إذًا، نفِّذْ أنت يا ربّ، الفريضة التي أعطيت. وقال آخرون: إنَّ الموضوع هو الوعد الذي قام به ليعلن عن شخصه في وجه أعدائه: "وجماعة الشعوب تحيط بك. نستبعد هنا كلَّ فكرة بشريَّة. فهذه العبارة التي تعطي معنى مادِّيًّا، تتضمَّن أيضًا مدلولاً يليق بالله. فما هو معنى هذا الكلام: "تحيط بك؟" أي، تنشد، تروي مدائحك، تعظِّم مجدك وتمنحك مباركاتها" (باراي، ص 17-20).

ج- المعنى الحرفيّ أو الفعليّ

اعتاد شرّاح العهد القديم أن يتحدَّثوا عن المعنى الحرفيّ وعن المعنى الروحيّ. أمّا المعنى الحرفيّ فيدفعنا إلى قراءة النصّ كلمة كلمة واكتشاف المعاني الأولى. هذا ما نجده في تفاسير عديدة انتشرت في العالم اليونانيّ الأنطاكيّ كما في العالم السريانيّ. وكان لنا أن نشير إليه في ما سبق من كلام. أمّا المعنى الروحيّ، فهو يستخلص التطبيق على حياة المؤمنين، على مثال ما قرأنا في شرح مز 13.

أمّا في عالم أنطاكية فالمعنى الحرفيّ يتَّخذ اتِّجاهين. في الأولى، يقرأ الشارح النصَّ ويسعى إلى إيضاح الألفاظ والعبارات الصعبة. والاتِّجاه الثاني ندعوه المعنى الفعليّ. لا يخرج الشارح من العهد القديم، بل يحاول أن يكتشف معنى العهد القديم بنصوص العهد القديم، دون الوصول إلى العهد الجديد. لا يمكن هنا إلاّ أن نلاحظ التقليد اليهوديّ الذي سيطر في الشرق قرونًا عديدة، بحيث رفض بعض الشرّاح نصوصًا لا نقرأها في العبريَّة، مثل أوريجان أو جيروم. فوضعوا جانبًا ما يُدعى الأسفار القانونيَّة الثانية. أمّا المثال الأوضح، فنجده في بداية شرح المزمور السابع. نقرأ في المقدِّمة: "مزمور لداود. أنشده للربِّ في شأن كلمات كوش بنيامينيّ: أيُّها الربُّ إلهي، فيك وضعتُ رجائي، فخلِّصني من كلِّ مضطهديَّ، وأنقذني". ويبدأ الشرح:

"ينبغي عليكم أن تمتلكوا عن الكتب المقدَّسة وعن الوقائع التاريخيَّة التي تتضمَّنها، معرفة تامَّة بحيث لا نحتاج إلى كلام كثير لكي نعلِّمكم. ولكن بما أنَّ البعض مأخوذون بانشغالات هذه الحياة، والآخرين في اللامبالاة، يهملون أن يتعلَّموا، أُجبرنا على أن ندخل في توسُّعات أكبر لنشرح موضوع هذا المزمور.

"فأصيخوا إليَّ بأذن صاغية. ما هو الموضوع؟ مزمور لداود. أنشده للربّ. ونقرأ في ترجمة أخرى: "مزمور لجهل داود". وفي (ترجمة) أخرى أيضًا: "جهل داود". وبدل "كوش" نقرأ "الحبشيّ". يأتي غموض هذا الكلام بشكل خاصّ، من أنَّكم لا تعرفون الكتاب المقدَّس. ومع ذلك، لا يكفي أن نوبِّخكم، بل ينبغي أن نعلِّمكم، ولهذا نبدأ بهذا الخبر التاريخيّ.

"فمن هو كوش، بن يمينيّ، وما هي الكلمات التي كانت مناسبة لداود لكي يُنشد هذا المديح؟ هذا ما نشرحه عائدين إلى الأحداث التي كانت مصادفة لها. كان أبشالوم ابن داود، فحمل العار إلى شبابه بحياة من الفلتان والفجور. ووصلت به الأمور إلى أن تمرَّد على أبيه، وجرَّده من مملكته، وطرده من قصره، من موطنه، ووضع يده على كلِّ ما كان يملك، دون مراعاة لحقوق الدم والتربية والعمر، دون اعتبار للعناية التي أُعطيَت له. هذا الأمير الذي شابه الوحش المفترس أكثر ممّا شابه الإنسان، اندفع في القساوة والبربريَّة فتجاوز كلَّ الحدود، فداس بقدميه نواميس الطبيعة، وملأ المملكة كلَّها اضطرابًا وبلبلة. فرأوا كامل النسيان لجميع العواطف الطبيعيَّة، من مخافة البشر ومن الديانة ومن الإنسانيَّة ومن الحنان، ومن الاحترام الواجب للشيخوخة.

"فلو أنَّ أبشالوم نسي ما يتوجَّب على الابن لأبيه، لوجب عليه بالأحرى أن يحترم شيخوخة داود. لو أنَّه لم يراعِ شعره الأبيض، لوجب عليه أن يتحنَّن فيتذكَّر حسناته. ولو كان لا يحسُّ بعرفان الجميل، لوجب عليه أيضًا أن يتذكَّر أنَّه ما أساء إليه يومًا. ولكنَّ الطموح خنق فيه كلَّ عاطفة بشريَّة. وما ترك له سوى غرائز الوحوش الضارية. وإذا هذا الملك المقدَّس الذي ولد وأطعم هذا الولد العقوق يتيه في البرِّيَّة، فاترًا، وسط جميع الحرمانات التي تثقل هذا المنفيّ الشقيّ، ساعة كان ابنه ينعم بخيرات أبيه، بسلام".

وبعد أن رسم الشارح صورة أبشالوم الذي يحمل الشرَّ في قلبه، عاد إلى فاعل الخير.

في هذه الحالة الصعبة حيث الجيش يخضع للمغتصب، والمدن تفتح له أبوابها، بقي لداود رجل بارّ وصالح، اسمه كوش، صديق داود، هذا بقي أمينًا له بالرغم من التحوُّل الكبير في مصيره. وهكذا حين رآه فارًّا في البرِّيَّة، مزَّق ثيابه، وتغطّى بالرماد، وبكى بمرارة ضيقَ مَلكه. وإذ لم يكن في قدرته أن يصنع شيئًا آخر، قدَّم له تعزية دموعه. فهو ما أحبَّ الثروة عند داود، ولا القوَّة، بل الفضيلة. لهذا حفظ له أمانة منيعة بالرغم من انحدار سلطانه. فلمّا رأى داود يستسلم إلى وجعه، قال له: أنت تعطيني دلائل عن صداقة صريحة، ولكنَّها لا تنفعني في شيء. فينبغي أن نتشاور في قصد يضع حدًّا للشقاء الحاضر، وينجِّيني من النكبات التي تصيبني. ثمَّ أوحى له هذه الوسيلة: امضِ إلى ابني وأظهر له وجه الصداقة وبلبلْ نصائح أخيتوفل واجعلها بلا فائدة..." (باراي، ص 1-3).

وهكذا شرح يوحنّا ما رواه سفر صموئيل الثاني (ف 15) عن ثورة أبشالوم، والدور الذي لعبه كوش لدى أبشالوم، لصالح داود. استخلص المفسِّر النتيجة الروحيَّة، فقدَّم أربعة أسباب تدعونا لكي لا نتبلبل حين نرى الأبرار خاضعين للمحن:

"نتعلَّم هنا أوَّلاً أن لا نتبلبل حين نرى المحن التي يخضع لها الأبرار أنفسهم. ثانيًا، أن لا نتبدَّل بحسب وجهات الزمن، بل نبقى أمناء لنواميس الصداقة. ثالثًا، أن لا نخاف مواجهة الأخطار في سبيل الفضيلة. رابعًا، أن نحافظ على الرجاء في وسط أصعب الظروف، مستندين إلى عون الله".

وطبَّق يوحنّا كلَّ هذا على كوش الذي فهم أنَّ الله يقود الأحداث. وبعد هذا الإطار الواسع الذي يشكِّل "درسًا" كاملاً، أو حديثًا، عاد إلى شرح المزمور. قال: "حين علم داود بهذا الخبر، ألَّف هذا المزمور كمديح شكر فيه يعيد إلى الله كلَّ مجد النجاح. فبدأ هكذا: "يا ربّ، يا إلهي، فيك وضعت رجائي فخلِّصني. لا في فطنة البشر ولا في حكمتهم، ولا في أنواري الشخصيَّة، بل فيك وحدك. لنتقتدِ بهذا المثال. وإن كان البشر لنا أداة عمل ساطع ومفيد، لنشكر لله النعم التي يمنحنا إيّاها فيكلِّل مجهوداتنا الخاصَّة. إذا تصرَّفنا بهذه الطريقة، لن يكون بعد صعوبة ولا تعب. هذا ما فعله داود حين قال ما يقارب هذا الكلام: ما وضعت رجاء خلاصي في أقوال كوش، بل في العون الذي أنتظره منك. ولكن انظروا توقُّد هذه العاطفة الدائمة. هو ما قال "أيُّها الربُّ الإله" بل "أيُّها الربُّ إلهي". وفي مزمور آخر: "يا إله، يا إلهي، إليك أبكر عند طلوع النور" (مز 62: 2). فقد شعر بالحاجة إلى الله، شأنه شأن باقي البشر، ولكنَّه أحسَّ في شكل خاصٍّ بهذه الحاجة بسبب توقُّد حبِّه. ذاك هو سلوك الله ذاته تجاه الأبرار: هو إله جميع البشر، ولكنَّه في شكل خاصّ إله الأبرار: "أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب" (خز 3: 6). وانظروا أيضًا حكمة هذا الملك القدّيس. بعد أن قال يا ربّ، يا إلهي، فيك وضعتُ رجائي. ما أضاف: إنتقم لي من عدوّي. أهلكْه. بل خلِّصني. لا تسمح أن أكون ضحيَّة أعدائي، نجّني من جميع مضطهديَّ..." (باراي، ص 6-7).

د- في سرِّ المسيح والكنيسة

نلاحظ حين نقرأ هذه الشروح أنَّنا بعيدون عن الحقيقة التاريخيَّة كما نكتشفها في كتاب صموئيل بسفرَيه حول شخص داود. فيوحنّا يتعامل مع المزمور كما مع شخصيَّة داود في جوٍّ مسيحيّ. فقد أسقط العهد الجديد على العهد القديم، فصار درسًا للمؤمنين في عصره، كما في عصرنا. ذاك هو خطُّ آباء الكنيسة: العهد الجديد مخفيّ في العهد القديم. فلا بدَّ من إبرازه. فإن قرأنا العهد القديم وحده يشكِّكنا مرارًا لأنَّه صورة عن حياتنا وما فيها من برٍّ وخطيئة، أمانة لله وخيانة، غفران وانتقام.

تطلَّع الشارح هنا، فاكتشف الأمانة ودعا السامعين إليها. كما اكتشف اتِّكال داود على الربِّ وحده. رفض الملكُ الانتقام، وكلُّ ما طلبه هو النجاة من الأعداء والمضطهدين. أما هي أمثولة لكنيسة أنطاكية والقسطنطينيَّة وللمؤمنين الذين نسوا مرارًا شريعة الغفران التي علَّمهم إيّاها الإنجيل، وطلبوا الانتقام لألف سبب وسبب. وأعطى يوحنّا مثلاً: "رجل يبغضك ويعلن أنَّه خصمك. من جهتك، أظهر له صداقتك وأحسنْ إليه. سبَّك وشتمك؟ تكلَّم حسنًا عنه وامتدحه. ولكن كلّ هذه المحاولات لم تستطع أن تتغلَّب على معاداته! فالربّ يهيئ لك مجازاة أكبر، لأنَّ الأشرار لا يداومون على الحرب..." (باراي، ص 15-16).

في هذا الإطار نتوقَّف عند المزمور الثامن: "أيُّها الربُّ سيِّدنا، ما أعظم اسمك في كلِّ الأرض!".

ونبدأ بالمقدِّمة. نقرأ في العبريَّة: لإمام الغناء. ونشيد القطاف (أو: على الجِّتَّة) مزمور لداود... صار في السبعينيَّة: "إلى النهاية. حول أسرار الابن. مزمور لداود". وفي شرح يوحنّا: "إلى النهاية. للمَعاصر". وبحسب ترجمة أخرى: "نشيد انتصار من أجل المَعاصر". وبحسب (ترجمة) أخرى: "لصاحب النصر على كنّارة جتّ" (مدينة من مدن الفلسطيّين). في النصِّ العبريّ: ل م ن ص ح. هـ ج ت ي ت." يا الله، يا سيِّدنا العظيم ما أعجب اسمك في كلِّ الأرض!". وفي ترجمة أخرى: "ما أعظم اسمك!".

وينطلق يوحنّا في شرحه:

"هكذا أنهى داود المزمور السابق: أرفع المجد إلى الربّ بسبب برِّه، أنشد اسم العليّ (مز 7: 8). وها هو يتمُّ وعده هنا، فيقدِّم للربِّ "جزية" أناشيده. في المزمور السابع صلّى فقط باسمه الشخصيّ. "يا ربّ، يا إلهي، فيك أضع رجائي فخلِّصني" (آ2). أمّا في هذا المزمور، فهو يتوجَّه إلى الله باسم عدد كبير من الناس: "أيُّها الربُّ ربُّنا ما أعجب اسمك في كلِّ الأرض!". اصمتوا وأصيخوا آذانكم حين تُسمَع في المسرح جوقات يلهمها إبليس تسمعون في الصمت الكبير أناشيدهم الخطرة... أمّا هنا فالجوقة مؤلَّفة من أناس متديِّنين، وقائدُ الجوقة هو نبيّ. وموضوع هذه الأناشيد هو الله، لا إبليس. إذًا ينبغي أن نسمعها في صمت عميق وفي مخافة دينيَّة. وحين نسمعها نكوِّن جوقة واحدة مع القوى السماويَّة، لأنَّ وظيفة أجواق الكروبيم والسرافيم، هي الاحتفال الأبديّ بمدائح الله. هذه الجوقات التي سُمعت على الأرض وضمَّت أصواتها إلى أصوات الرعاة الساهرين على قطعانهم" (لو 2: 8).

ربط يوحنّا هذا المزمور بخبر ميلاد المخلِّص. فالملائكة أنشدوا فوق المذود، كما ينشدون في هذا المزمور. وبعد مقابلة بين جوقة وجوقة، تبرز مقابلة بين ملوك الأرض والملك السماويّ.

"إذًا، لنصغِ إلى النشيد. فالذين ينشدون مدائح ملوك الأرض، يحدِّثونهم عن قوَّتهم، عن انتصاراتهم، عن ظفرهم. ويشيرون إلى الأمم التي أخضعوها ويهبونهم ألقاب المنتصرين، الظافرين على الشعوب البربريَّة (التي لا تتكلَّم اليونانيَّة)، وألقابًا أخرى من النمط ذاته. هو نشيد مماثل يوجِّهه الملك القدّيس إلى الله. ينشد حروبًا انتهت في الخير وانتصارات واحتلالات أصعب من انتصارات الأرض واحتلالاتها.

"يا الله، يا سيِّدنا العليّ. الذين لا يؤمنون بالله، الله هو ربُّهم في شكل واحد. وهو ربُّنا من وجهين: لأنَّه أخرجنا من العدم، ولأنَّه أعطانا النعمة لكي نعرفه وانظروا كيف أنَّ الملك النبيّ، منذ البداية، ذكَّرنا باختصار، بحسناته. فإذا تأمَّلتم كيف صار الله ربَّنا، وكيف تنازل فردَّ صداقته وحياته للذين ابتعدوا عنه، لأعدائه وللغارقين في الموت، ترون بوضوح أنَّ هذا الدعاء إنَّما هو موجز رائع لحسناته. تكلَّم هنا عن الإله الخالق والإله المخلِّص، تجاه الوثنيّين الذين يعتبرون أنَّ الآلهة عديدون، وتجاه الفلاسفة الذين يقولون بأنَّ العالم أزليّ، شأنه شأن الله. ولكن لا نقدر أن نتحقَّق من الله، وكأنَّه شيء في تصرُّفنا ندرسه بوسائلنا البشريَّة. وهكذا يردُّ على الأنوميّين.

"في هذه الدهشة التي تسبِّبها هذه المعجزات الكثيرة، يهتف النبيّ: "ما أعجب اسمك"! أي هو عجيب كلَّ العجب. هو لا يسعى إلى القول كم أنَّ هذا الاسم عجيب. فهذا غير ممكن. ولكنَّه يعبِّر قدر استطاعته عن عظمة إعجابه ويفيض. فماذا نقول الآن عن الذين يريدون أن يتحرَّوا بفضوليَّة وقحة، جوهر الله؟ اسمُه وحده رمى النبيَّ في دهشة أمسكت به جعلته يُعجَب. فكيف نعذر إذًا، من يطمحون أن يعرفوا جوهر الله، ساعةَ الملكُ القدّيس داود، ما استطاع أن يقول كلَّ الإعجاب الذي يستحقُّه اسمُه؟

"ما أعجب اسمك! بقدرة هذا الاسم، قُهر الموت، وقيِّد الأبالسة، ولم تعد السماء مُقفلة، وفُتحت أبواب الفردوس، وأرسل الروحُ القدس، واستعاد العبيد (= عبيد الخطيئة) الحرّيَّة، والأعداء صاروا وارثين، والبشر ملائكة. ماذا أقول؟ ملائكة؟ الله صار إنسانًا، والإنسان صار الله. والسماء رفعت إليها الطبيعة البشريَّة والطبيعة الأرضيَّة، والأرض اتِّحدت بذلك الجالس على الكروبيم وسط أجواق الملائكة. دُمِّر سور الفصل، وقُلب الحاجز، وحلَّت الوحدة محلّ الانقسام. تبدَّدت الظلمة وأشرق النور في كلِّ لمعانه، والموت ابتلع في انتصاره".

صرنا في العهد الجديد وتركنا العهد القديم. لولا تجسُّد الابن لما حصل هذا التبدُّل العميق في الكون وفي تاريخ الإنسان. واسم الله لم يعد ذاك العجيب في التوراة فقط، بل صار أيضًا عجيبًا في شخص يسوع المسيح.

"حين تأمَّل النبيّ هذه المدهشات وغيرها الأكبر منها، هتف: "ما أعجبَ اسمك في كلِّ الأرض"! أين هم الآن اليهود الذين يترفَّعون على الحقِّ بوقاحة؟ أسألهم طوعًا: عمَّن يريد الملك النبيّ أن يتكلَّم؟ فيقولون لي: عن القدير. ولكنَّ اسمه لم يكن موضوع إعجاب في الأرضِ كلِّها. واستشهد على ذلك أشعيا حين يقول: "بسببكم يجدَّف على اسم الله في الأمم" (أش 52: 7). فإذا كان خدّام الإله الحيّ سببًا في أن يجدَّف على اسم الله، فكيف يمكن أن يكون عجيبًا؟ هذا الاسم عجيب في طبيعته، فمن يرتاب في ذلك؟ ولكنَّه ليس موضوع إعجاب في نظر البشر، بل بالأحرى موضوع احتقار. ولكنَّ الأمر تبدَّل اليوم. فمنذ نزل الابن الوحيد على الأرض، صار اسم الله عجيبًا في شخص المسيح. "منذ مشرق الشمس إلى غروبها، اسمي ممجَّد وسط الأمم" (ملا 1: 11). وقال أيضًا: في كلِّ مكان يقدِّمون لاسمي بخورًا مرضيًّا وتقدمة طاهرة. أمّا أنتم فجعلتم اسمي عارًا" (ملا 1: 11-12). وقال أيضًا نبيٌّ آخر: "امتلأت الأرض من معرفة الله" (أش 11: 9). (وقال) آخر: "تأتي الأمم إليكم وتقول: حقًّا عبد آباؤنا الأصنام الكاذبة" (إر 16: 19).

بعد الأنوميّين، جاء دور اليهود الذين لا يريدون أن يكتشفوا شخص المسيح في النبوءات. وفي أيِّ حال، لم يمجَّد اسمُ الله معهم. فاسمُ الله لم يصبح عجيبًا إلاّ مع يسوع المسيح. والنتيجة: هذه الأقوال تنطبق على يسوع المسيح. هنا نكون في خطِّ بطرس يوم العنصرة حين أورد مز 16: 8-11 مع العبارة: "لا تدع قدُّوسك يرى فسادًا". هذا الكلام لا يسري على داود الذي "مات ودُفن، وقبره هنا عندنا إلى اليوم" (أع 2: 29). بل على ابن داود. "رأى داود من قبلُ قيامة المسيح وتكلَّم عليها" (آ31). ونتابع كلام يوحنّا:

"ترون أنَّ هذه الكلمات تنطبق على شخص الابن، لأنَّ اسمه هو الذي صار عجيبًا في كلِّ الأرض. "لأنَّ عظمتك ارتفعت فوق السماوات. وبحسب ترجمة أخرى: "يا من رفعتَ مديحك فوق السماوات". سبق الملك النبيّ وتحدَّث عن الأرض، والآن ارتفع إلى السماء، حسب عادته، فبيَّن هكذا اتِّحاد السماء والأرض لرفع المجيد إلى السيِّد السامي..." (باراي، ص 47-50).

الخاتمة

أردنا أن نتعرَّف إلى القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. فتطلَّعنا إلى بعض وجهات حياته، لأنَّ مثل هذه الشخصيَّة الفذَّة لا يمكن أن تُحصر في مقال، بل ولا في كتاب. وقرأنا بعض ما في شرحه للمزامير. تذوَّقنا ولكنّنا ما استنفدنا كلَّ الغنى الذي تركه لنا هذا الأب الكبير من آباء الكنيسة، وهذا القمر في الثلاثة أقمار مع باسيل وغريغوار. وتعرَّفنا بشكل خاصّ إلى طريقته في هذه الشروح التي تفترق عن عظات في سفر التكوين أو في إحدى الرسائل البولسيَّة، يبدو "يوحنّا" تلميذ ديودور أسقف طرسوس، وكأنَّه معلِّم يقابل بين الترجمات المختلفة، يشرح العبارات والألفاظ. يربط المزمور بالإطار التاريخيّ ولو وصلت به الأمور إلى كتاب المكابيّين. ويقرأ "نبوءة" داود القدّيس والملك، في إطار مسيحيّ، وكأنَّ هذا الكلام يتوجَّه إلينا اليوم. لهذا تكون الذورة عندما نكتشف في نصوص العهد القديم شخص المسيح وعمل الكنيسة. عندئذٍ نفهم أنَّ العهد القديم لا يجد ملء معناه إلاّ في الجديد، وإلاّ لا يصل إلى مرماه، كالنهر الذي لا يصبُّ في البحر. تلك هي طريقة أنطاكية في قراءة الكتاب، وتبقى مفتوحة لنا. فلماذا لا نعود إلى آبائنا الذين سبقوا الغرب بأشواط وأشواط، فنتعلَّم منهم شرح كلام الله بحيث يصبح هذا الكلام في متناول شعب الله فينال منه الجميع النور والحياة.

 



 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM