الاستعداد الداخليّ.

 

الاستعداد الداخليّ

أحبّائي، نتابع مسيرة الشعب العبرانيّ في البريّة، في صحراء سيناء. هو يسير ببركة الربّ، يسير بنور الربّ. الربّ ينير له الدرب، ينير له الطريق في الليل بعمود من نار. والربّ يرافقه في النهار بغمام يُبعد عنه حرّ الشمس المحرقة على ما في الصحراء. وهنا بعد قراءة أولى للاستعداد الخارجيّ لدخول أرض كنعان، ها هو الاستعداد الداخليّ الذي فيه ننتبه إلى الله، نستمع إلى صوته. لا نتمرّد عليه، بل نعمل بكلّ ما يتكلّم. هذا الاستعداد الداخليّ تكون له نتائج على المستوى الخارجيّ، على مستوى البركة في الخبز والماء. وهذا ما اكتشفه الشعب العبرانيّ في مسيرة الصحراء، صحراء سيناء. أعطيَ له المنّ الذي كان معتبرًا خبزًا طيّبًا، أعطي له الماء من قلب الصخر. والآن سوف نرى حماية غيرها يقدّمها الربّ لشعبه في البرّيّة. هذه الحماية هي من الأعداء. هو صراع متواصل، قتال كبير. ولكن لا نحسب حساب الموتى. فقد كانوا يضخّمون الأمور، يضخّمون الأعداد. فالمعارك تكون بين كرّ وفرّ يكثر فيها السلب والنهب ويقلّ فيها عدد القتلى. والآن نقرأ النصّ من سفر الخروج.

»والرعب منّي أرسله أمامكم وأهزم جميع الأمم التي تواجهونها، وأجعل أعداءكم يولّون مدبرين. وأرسل الذعر أمامكم فتطردون الحوّيّين والكنعانيّين والحثّيّين من وجوهكم. لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة لئلاّ تصير الأرض قفرًا، فتكثر عليكم وحوش البرّيّة، ولكنّي أخرجهم قليلاً قليلاً من أمامكم إلى أن يكثر عددكم وتملكون الأرض. »وأجعل حدود أرضكم من البحر الأحمر جنوبًا إلى البحر المتوسّط غربًا، ومن الصحراء شرقًا إلى نهر الفرات شمالاً. وأسلم إلى أيديكم سكّانَ الأرض، فتطردونهم من أمام وجوهكم. لا تقطعوا لهم ولا لآلهتهم عهدًا. ولا يُقيموا في أرضكم لئلاّ يجعلوكم تخطأون إليَّ فتعبدون آلهتهم. ويكون ذلك لكم شركًا«.

1 - رعب من عند الربّ

»الرعب منّي أرسله أمامكم«. الرعب يدلّ على قدرة ا؟ تجاه الأعداء. الربّ يرسل الرعب، لا على شعبه بل على من يقف بوجه شعبه. الرعب منّي أرسله أمامكم. وهذا الرعب لن يأتي على أعداء الشعب لأنّ الشعب أفضل من سائر الشعوب، كلاّ. فهذا الشعب سينال الرعب حين يخون الربّ ويتعبّد للآلهة الوثنيّة، للأصنام. ولكن، بما أنّ هذه الشعوب تعلّقت بالأصنام، سنسأل: أين هي الأصنام التي تحميها من كلّ شرّ؟

الرعب منّي أرسله أمامكم. لا تحسبوا يومًا أنّكم تغلّبتم على الناس، أنّكم ملأتم قلوب الناس بالرعب. كلاّ، أنتم أضعف من ذلك. إذا كان الناس ارتعبوا وهربوا فلأنّي أنا تدخّلت. هذا يعني أنّ الربّ هو الذي يوجّه التاريخ.

ويتابع النصّ: »وأهزم جميع أعدائكم«. وأهزم جميع الأمم التي تواجهونها، التي تقف ضدّكم، قبالتكم، في وجهكم. لا شكّ كانت هناك حرب، وهزَم الشعبَ العبرانيّ أو القبائل العبرانيّة قبائلُ مماثلة. لكن يجب أن يفهموا أنّهم ليسوا هم الفاعلين الأوّلين. الله هو الفاعل الأوّل. من هنا لا يقول: أنتم تهزمون جميع الأمم، كلاّ. بل أنا أهزم جميع الأمم التي تواجهونها. الربّ هو الذي يحارب، الربّ هو الذي يفعل، الربّ هو الذي يوجّه التاريخ.

نتذكّر هنا مثلاً سفر يشوع فصل 10: كيف أنّ النصّ يقول تارةً إنّ يشوع انتصر. وطورًا هو الله الذي عمل. لا شكّ أنّ الله هو الذي يعمل في التاريخ، والإنسان هو الذي يعمل في التاريخ. لكنّ الربّ حين قال: »أهزم جميع الأمم التي تواجهونها«، أفهمهم: لا تحسبوا يومًا أنّكم أقوى من الآخرين.

ونتذكّر أيضًا جدعون الذي أراد أن يحارب بني مديان فأخذ الآلاف. قال له الربّ: »سيظنّون أنّهم انتصروا بأيديهم«. كلاّ. ومن الآلاف عدنا إلى الثلاثمائة شخص. في الواقع هذا هو الرقم الحقيقيّ. والرقم الآخر كان رقمًا رمزيٌّا يدلّ على العدد الكبير من المقاتلين بحيث يظنّ الناس أنّهم هم الذين يوجّهون الأحداث. أجل، الرقم الحقيقيّ مع جدعون لم يكن يتجاوز الثلاثمائة شخص.

وعلى كلّ حال الكاتب الملهم انطلق من هذه المعلومة فدلّ على أنّ المبادرة هي من الله والقوّة هي من الله. وإذا تدخّل الله، جعل جميع أعدائكم يولّون مدبرين، أي يديرون ظهرهم ويهربون. ولكن من يجعلهم يهربون؟ لا جدعون ولا يفتاح ولا يشوع ولا أيّ شخص آخر. ولا الشعب كلّه من يجعلهم يُدبرون، يهربون، هو الله نفسه.

2 - أنتم تطردون

بعد الرعب، الذعر. »أرسل الذعر أمامكم فتطردون الحويّين والكنعانيّين والحثّيّين من وجوهكم«. في آية 23، قرأنا اسم ستّة شعوب: الأموريّين، الحثّيّين، الفرزّيّين، الكنعانيّين، الحويّين، اليبوسيّين. ونقرأ هنا اسم ثلاث شعوب فقط: الحويّين والكنعانيّين والحثّيّين. هذا يعني أنّ القوّة التي تقف في وجه العبرانيّين لم تكن كبيرة جدٌّا، فقط ثلاثة شعوب: الحويّين، الكنعانيّين، والحثّيّين. مع العلم أنّ الشعب العبرانيّ كان جزءًا من الشعب الكنعانيّ.

تطردون الحويّين من وجوهكم. في الآية السابقة الله هو الذي يهزم. في 28 أنتم تطردون الحويّين والكنعانيّين والحثّيّين. هذا يعني أنّ الله يعمل مع الإنسان. أمّا عمليّة الطرد فليس من الضروريّ أن تكون عمليّة حربيّة، كلاّ. عمليّة الطرد هي عمليّة امتداد. كثُر الشعب، اشترى الأرض، امتدّ شيئًا فشيئًا، وهكذا سيطر على الأرض.

في آ 27، الربّ هو الذي يهزم. في 28 أنتم تُهزَمون، أنتم تُطرَدون. في آ 29 نعود إلى الربّ: »لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة لئلاّ تصير الأرض قفرًا«. هنا ملاحظة على مستوى حياتنا اليوميّة. الإنسان يعمل العمل، والله يعمل العمل. أراد الكاتب أن يعبّر عن تمازج العملين، تداخل العملين. عمل الله وعمل الإنسان. فماذا فعل؟ تارة قال الربّ هو الذي يفعل، وتارة الشعب هو الذي يفعل.

وفي حياتنا اليوميّة أيضًا. النعمة هي التي تفعل فينا، هي التي تدعونا إلى العمل. تفهمنا أنّ يدنا بيد الربّ. والربّ هو من الرفاهة بحيث لا يريد أبدًا أن يقول إنّه هو الذي عمل والإنسان ليس بشيء، كلاّ. هو يعمل مع الإنسان، يخطّط مع الإنسان، يوجّه مع الإنسان. لو أراد الربّ أن يعمل لانتهى من الكون في لحظة صغيرة. ولكنّه يتأخّر في العمل. ولماذا؟ لأنّه يريد أن يمشي مع الإنسان. أن يمشي مشية الإنسان ولو كان طفلاً صغيرًا. يمشي معنا، يسير في خطانا، يتكيّف مع إمكانيّاتنا، مع ضعفنا، مع جهلنا، ليكون بقربنا.

3 - الله يمشي مشية الإنسان

المهمّ ليس العمل، فالربّ خلق الكون كلّه بلحظة، أو إذا قرأنا سفر التكوين الفصل الأوّل: خلق الكونَ كلّه في ستّة أيّام. ولكنّه يمشي مشيتنا، لا يريد أن يسبقنا، يمسك بيدنا حتّى نعمل، فنفهم أنّ هذا العمل هو منّا، ولكن الجذور، جذور هذا العمل، هي من الله. لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة. هنا في الواقع الشعب العبرانيّ يعود إلى الوراء ليقرأ تاريخه. هو لم يدخل أرض كنعان، أرض الميعاد دفعة واحدة.

دخل أوّلاً من الجنوب، ثمّ من الشرق. وهناك قبائل كانت موجودة في فلسطين وما مضت إلى مصر. وهذا الدخول امتدّ سنوات عديدة، قرونًا عديدة قبل أن ينتهي. والكاتب الملهم إذ يكتب ما يكتب، يتطلّع إلى هذا الشعب الذي يعيش في أرض كنعان، الذي يعيش في أرض فلسطين، فيفهم أنّ التاريخ سار مسيرته إلى أن وصل الشعب ما وصل إليه الآن.

هو يقيم في أرض فلسطين، إذًا الربّ هو الذي ساعده وساعده سنوات عديدة. يعني بين موسى (سنة 1200 ق م) وبين داود مثلاً نجد مئتي سنة. لا أطردهم من وجوهكم في سنة واحدة، هذا هو الواقع. ولكن يعطي الكاتب الملهم السبب الآخر: لئلاّ تصير الأرض قفرًا. هنا بشكل ضمنيّ نفهم بأنّ البيوت التي كانت لهؤلاء الناس، استفاد منها الآتون من الصحراء. ولو طرد الربّ جميع السكان من أرضهم، لصارت الأرض قفرًا، وأجبر الآتون من الصحراء على بناء بيوت جديدة. بينما البيوت هي هنا، الأشجار هي هنا.

4 - أرض فيها البيوت والزرع

وسيقول الربّ في سفر التثنية: »أعطيتكم بيوتًا لم تبنوها، أشجارًا لم تغرسوها«. وإذا صارت الأرض قفرًا، تكثر عليكم وحوش البرّيّة. لا شكّ هنا يجب أن يفهم الشعب أنّه لا يستطيع أن يكون وحده في الأرض. هناك شعوب أخرى. وإن ظلّت الأرض خرابًا وقفرًا تكثر عليهم وحوش البرّيّة. وحوش البرّيّة أعداء الإنسان يفترسون له الماشية، بل يفترسونه هو. ولكن، عندما يكون الإنسان هنا، لن يكون لوحش البرّيّة القوّة لكي يفعل ما يشاء.

في بداية سفر التكوين، أعطى آدم الوحوش أسماء ليدلّ أنّه سيطر عليها. وهنا إذ لم يكن إنسان، فلا بدّ أن يكون وحش البرّيّة في الأرض. وهذا لا يمنعنا من القول إنّ الإنسان يمكن أن يكون وحشًا، بالنسبة إلى الإنسان، يريد أن يفترسه، أن يأكله. نتذكّر المزمور: »الربّ نوري وخلاصي، فمّمن أخاف؟ الربّ حصن حياتي فمّمن أفزع؟ إذا جاء عليّ الأعداء ليفترسوني كالوحوش«.

هناك واقع: وحش البرّيّة، وهناك معنًى رمزيّ حيث الإنسان يكون وحشًا بالنسبة إلى أخيه الإنسان، يمكن أن يقتله، أن يمنعه من الحياة. ويتابع الربّ: »ولكنّي أطردهم قليلاً قليلاً من أمامكم« (آ 30). هذا هو الواقع التاريخيّ، امتدّ الشعب العبرانيّ والذين كانوا معه، امتدّوا شيئًا فشيئًا، وتراجع سكّان الأرض الأصليّين. »أطردهم قليلاً قليلاً من أمامكم إلى أن يكثر عددكم وتملكون الأرض«. يعني لا يمكن أن تكون الأرض فارغة، قاحلة، قفرًا، وإلاّ يكثر فيها الوحوش. شيئًا فشيئًا يمضي شعب، ويأتي بعده شعب. هكذا كان وضع الشعب القديم، حيث القبيلة تحتلّ مكان قبيلة أخرى.

5 - حدود الأرض

»وأجعل حدود أرضكم من البحر الأحمر جنوبًا إلى البحر المتوسط غربًا«. حين يكثر عددكم تملكون الأرض، تصير الأرض ملككم. هي لم تكن لكم، ولكنّها عطيّة من الربّ. ويدلّ الربّ على حدود الأرض من البحر الأحمر، خليج العقبة، حتّى البحر المتوسط الذي كان يسمّى في ذلك الوقت بحر الفلسطيّين. عمليٌّا لم يصل الشعب العبرانيّ إلى البحر. ففي شمالي فلسطين كان الفنيقيّون، وفي الجنوب كان الفلسطيّون.

امتدّت الأرض من البحر الأحمر أيّ خليج العقبة اليوم، إلى البحر المتوسط غربًا. ومن الصحراء شرقًا إلى نهر الفرات شمالاً. هنا نفهم هذا الامتداد الكبير. إذًا لم يكن نهر الفرات هو ذاك الموضع القريب من نهر الأردنّ.

ويتابع: »وأسلم إلى أيديكم سكّان الارض فتطردونهم من أمام وجوههم«. نلاحظ هنا عمل الله وعمل الإنسان. الله يسلّم والشعب يطرد. وكما قلت هي طريقة حربيّة، هي لغة الحرب يستعملها الكاتب ليدلّ على مشاركة الإنسان مع الله في كلّ عمل يقوم به.

وبما أنّ الأمور صارت هنا، وبما أنّ الشعب امتلك الأرض، وبما أنّ الشعب أقام في الأرض، فماذا يبقى عليه أن يفعل؟ أن يعود إلى الوصايا. الوصايا هي التي تحفظ الشعب من الانهيار، تحفظه من الذهاب، ترسله إلى المنفى، على مثال الشعوب الوثنيّة التي كانت قبل وصول الشعب العبرانيّ إلى فلسطين. ولكن الكلام هنا يدلّ أنّ الشعب لم يكن أمينًا، أنّ الشعب كان خائنًا، خائنًا خصوصًا على مستوى العبادة الوثنيّة.

6 - خيانة وعيش وثنيّ

كان خائنًا على مستوى الحياة كما يعيش الوثنيّون. وهنا بولس الرسول ينبّهنا إلى أن لا نعيش مثل الوثنيّين. ويأتي الكلام أوّلاً بشكل سلبيّ: لا تقطعوا لهم عهدًا، لا تقطعوا لآلهتهم عهدًا. هنا خطّان على مستوى العمل المطلوب من الشعب. الأوّل: عهد بين شعب وشعب، بين الفرعون وجبيل مثلاً. والثاني: عهد بين شعب وشعب. فالواحد يأخذ آلهة الشعب الآخر. لهذا عندما يقطع العبرانيّون عهدًا مثلاً مع الحويّين والكنعانيّين والحثّيّين، إنّما هم في الواقع يقطعون عهدًا مع الآلهة الكاذبة، مع الأصنام والأوثان.

فهناك قطيعة بين هؤلاء الشعوب الوثنيّة وبين شعب الله. نتذكّر في هذا المجال، كلام يسوع: أنتم في العالم، ولكنّكم لستم من العالم. لا تستطيعون أن تتصرّفوا كما يتصرّف العالم. والشعب هنا لا يقطع عهدًا مع هذه الشعوب لئلاّ يعمل أعمالهم. وفي زمن المسيح: أنتم في العالم، ولكن لا يحقّ لكم أن تعملوا ما يعمله العالم. مثلاً: في القرن الأوّل كانوا يعبدون تمثال الأمبراطور وتمثال رومة.

فهل يفعل المسيحيّون مثلهم فلا يتميّزون عنهم في شيء. عندئذ أين تكون شهادتهم؟ كلاّ. لهذا قيل فيهم: يجب أن يموتوا لأنّهم رفضوا السجود للأصنام، السجود لإنسان مائت أو حيّ، فهم لا يسجدون إلاّ للإله الواحد. ولا يعبدون إلاّ الربّ الواحد. واليوم في أيّ حال يجب أن تكون قطيعة بين شعب الله، بين المؤمنين، بين الذين يعيشون بحسب الإنجيل وبين الآخرين. فالإنجيل يمنعنا الانتقام، الأخذ بالثأر، القتل، والإجهاض، والسلب، والنهب، والبغض، والحقد، والاندفاع بعاطفة تجعل الجميع أعداءً لنا. كلّ هذا لا يمكن أن يقبل به المؤمن، لا يمكن أن يقبل به المسيحيّ. وإن هو امتزج بالعالم سيأتي وقت يتصرّف كما يتصرّف العالم.

»ولا يقيموا في أرضكم لئلاّ يجعلوكم تخطأون إليّ«. كما يقول المثل: العشرة الرديئة تفسد الأخلاق. إن أقمتم وسط هذه الشعوب الوثنيّة، لا بدّ لكم أن تخطأوا، لا بدّ لكم أن تعبدوا الآلهة، وهكذا يكون العالم لكم شركًا وفخٌّا، ويكون سكّانه شركًا وفخٌّا. وما قاله الربّ للشعب في العهد القديم، قاله يسوع للمؤمنين في العهد الجديد، ويقوله الربّ لنا اليوم: أنتم لستم من العالم. كلاّ أنتم في العالم. لهذا يجب ألاّ تكونوا في العالم أن لا تختلطوا بعادات العالم، وخطيئة العالم. بل تكونون كما يقول سفر الرؤيا »أبكارًا« في خدمة الله وفي محبّته. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM