من السرقة إلى ظلم القريب
أحبّائي، ما زلنا في سفر الخروج ومع الوصايا.
تعوّدنا على هذه الكلمة في أكثر من حلقة وشدّدنا كثيرًا على الوصايا التي تبقى الأساس في حياة اجتماعيّة يمكن أن يعيش الإنسان فيها مع أخيه الإنسان. فإن زالت الوصايا التي تنظّم الحياة في المجتمع، صار الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان. لهذا السبب جاء في الوصيّة: لا تسرق، منبّهة إيّانا بكلام بسيط ولكنّه كلام قاسٍ.
1 - وصيّة قاسية
وهذه الوصيّة جاءت قاسية، بالنسبة إلى السارق فبرّرت ذاك المدافع عن ماله من السارق. سبق وقلنا: قطع الأرزاق من قطع الأعناق، وحين أسرق لك رزقك إنّما أسرق لك حياتك.
لهذا شرّعت بعض الشرائع أنّ الإنسان عندما يدافع عن ماله من السارق ولو أجبره الدفاع على قتله، فعملُه مبرّر لا يحكم عليه. نقرأ في هذا الإطار سفر الخروج 22: 2 هنا من يسرق.
»إن وجد السارق وهو يسرق فضرُب وقتل فدمه مهدور«. يعني لا يمكن أن يدافعَ أحد عنه في القضاء. دمه مهدور، بمعنى أنّ الوليّ لا يحقّ له أن ينتقم له. نتذكّر هنا قبل وجود القضاء والمحاكم: إن مات أخي وجب عليّ أن أنتقم له. إن مات ابن عمّي وجب عليّ أن أنتقم له، فيسمّى المنتقم الوليّ الذي يتولّى شؤون أخيه أو ابن عمّه أو أحد أقاربه بعد موته. إن أُخذ رزقه يستردّ الرزق. إن مضى إلى المنفى يستعيده. إن كان عبدًا يفتديه.
وهنا إن كان يسرق أحد فضُرب وقُتل، دمه مهدور. أي لا يحقّ للوليّ أن ينتقم له. هذه الشريعة حول القتل تجري في الليل لا في النهار. ففي الليل لا نعرف الحقيقة، لا نعرف من هو ذاك الآتي إلينا. أمّا في النهار، فلا يُهدر دم السارق، بل يطلب منه أن يعوّض. وإن لم يكن له مال، يجب أن يُباع ليدفع سرقته.
نلاحظ هنا هذه التفاصيل التي تمنع أي إنسان من الذهاب بالعنف إلى النهاية. في الليل شخص يسرقنا، ندافع عن نفوسنا ربّما نقتله فنجد ما يبرّر عملنا. أمّا في النهار فلا شيء يبرّر عملنا إطلاقًا. وهذا التعويض كما قلنا، على الإنسان أن يقوم به وإذا لم يكن له من مال يجب أن يُباع ليدفع سرقته. نتذكّر هنا مثل الرجل الذي لا يرحم. تكاثرت عليه الديون فقرّر سيّده أن يُباع هو وزوجته وأولاده كعبيد فيستردّ صاحب المال ماله.
2 - الأمانة والائتمان
ولا تكتفي الشريعة بالكلام عن السرقة وعن الدفاع عن النفس في حال السرقة، بل تكمل كلامها على مستوى الوديعة والائتمان. حين يطلب رجل من قريبه أن يحتفظ له عنده بذهب أو فضّة، يكون هذا الرجل أمينًا ويردّ الوديعة عندما يعود صاحبها ويطلبها.
لكن يتابع النصّ في سفر الخروج (22: 7 - 8).
- فإن سُرقت هذه الوديعةُ سُرق هذا الذهب، هذه الفضّة، من بيت المؤتمن على الوديعة وعُرف السارق، يعوّض ضعفين، ولكن يقول النصّ أيضًا: إن لم يوجد السارق، يحلف صاحب المنزل أنّه لم يمدّ يده إلى ملك صاحبه.
- ائتمنه فلم يقدر أن يحتفظ بالأمانة، والأيّام صعبة والسرّاق عديدون. نحن هنا على مستوى الدفاع عن المال والائتمان على وديعة جُعلت بين أيدينا. وما قالته أسفار الشريعة الموسويّة قاله أيضًا الأنبياء ولا سيّما تجاه الذين يختبئون وراء تقواهم ليظلموا القريب وليسلبوه ماله.
3 - اختباء وراء التقوى
عاموس، إرميا، هوشع وسائر الأنبياء شعروا أنّ أناسًا يختبئون وراء تقواهم ليظلموا القريب وليسلبوا ماله. وهذا الأمر نجده اليوم، حيث يكون الشخص جمع في وقت قصير ثروة كبيرة، ثروة طائلة، وجاء يبني هيكلاً أو كنيسة أو غيرها من أماكن العبادة. فكأنّي به هكذا يبرّر أعماله. أراد أن يردّ للربّ ما سلبه من البشر، وكأنّ الربّ يحتاج إلى هذا السلب وإلى هذا الظلم وإلى هذه السرقة.
في هذا المجال نسمع إرميا النبيّ يوبّخ شعبه الذين اعتبروا أنّهم إن لجأوا إلى الهيكل نجوا من العقاب الذي ينتظرهم. يسرقون ويأتون فيختبئون في الهيكل ويصلّون إلى ا؟: لم تعد سرقتهم سرقة، صارت سرقتهم خيرًا يقدّمون فيه للربّ تقدمة! فكأنّي بهم يرشون الربّ لكي يصرف النظر عن خطيئتهم.
نلاحظ أنّ مثل هذا الإله لم يعد الإله الحيّ. صار الصنم الذي هو بتصرّفنا، بينما نحن أمام الله عباد الله في خدمة الله، في خدمة مشيئته.
هؤلاء الناس وبّخهم إرميا، لجأوا إلى الهيكل، ظنّوا أنّهم نجوا من العقاب. عندما يقتل الإنسان شخصًا عن غير عمد. يمكنه أن يلجأ إلى الهيكل. ولكن حين يقتل عمدًا، تسري شريعة الانتقام عليه.
ولكن ما هذا اللجوء إلى الهيكل بعد سرقة، بعد أن سلبنا الناس وبعد أن ظلمنا القريب؟
إن لجأنا فالربّ لا يقبل لجوءنا ولا يسمح أن ننجو من العقاب الذي ينتظرنا. كانوا في أيّام النبيّ إرميا يقولون: هيكل الربّ وانتهى الأمر: غُفرت خطايانا. كلمة خارجيّة كلمة من الشفاه تذكّرنا بما قاله إشعيا: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه وقلبه بعيد عنّي. وهنا يقولون هيكل الربّ فتغفر خطاياهم. كلاّ ثمّ كلاّ. لذلك جاء كلام النبيّ قاطعًا كالسيف. تسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون بالكذب. نلاحظ، أحبّائي، الوصايا: لا تسرق، لا تقتل، لا تزنِ، لا تحلف بالزور، هي في إرميا كما وردت في سفر الخروج: تسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون بالكذب، ثمّ تأتون وتقفون بين يدي أو تقفون أمامي في هذا البيت أو في الهيكل الذي دُعي باسمي. وتقولون: قد أنقذنا أي الله يخلّصنا. كيف يحقّ للإنسان الخاطئ الذي ظلم القريب، الذي شوّه صورة اللغ، أن يقف أمام الله بل كيف يحقّ له أن يدخل إلى بيت الله؟
4 - من يدخل بيت الله
هنا نتذكّر المزمور 15 أو 24: من يحقّ له أن يدخل إلى بيت الله؟ النقيّ الكفّين. هي أوّل صفة تسمح لنا بأن ندخل إلى الهيكل، أن نقف أمام الله، أن نذهب للقاء الله. كيف يحقّ لنا أن نقف أمام الله عندما نظلم الإنسان المخلوق على صورة الله، عندما نظلم ابن الله؟
ونقول بعد ذلك: الله يخلّصنا. ممّن يخلّصنا؟ يخلّصنا من الذي سرقناه أو سرقنا له أولاده وبعناهم بيع العبيد. قد أُنقذنا. ثمّ تقترفون مثل هذه الأنجاس. هي أعمال نجسة والربّ لا يرضى عنها (إر 7: 9 - 10).
ويتابع النبيّ إرميا في آ 11، فيستخلص العبرة: هذا البيت، صيَّرتم هذا الهيكل الذي دُعي باسمي، مغارة للّصوص.
ماذا يبقى عليهم أن يعملوا؟ لا يكتفي النبيّ بأن يوبّخ، بأن يلوم، بأن يندّد، بل يدعوهم إلى العمل. اعملوا، أصلحوا طرقكم، أصلحوا أعمالكم.
وكيف يكون هذا الإصلاح وتصحيح المواقف؟
العدالة بين الرجل وقريبه. وهذه العدالة كانت تداس بسبب الرشوة إلى القاضي فتمضي العدالة إلى غير رجعة. والرشوة هي في الواقع سرقة. ويكون كلام النبيّ متنبّهًا إلى الذي يظلم. لا يَظلم القويّ، لا يظلم الغنيّ. يقول النبيّ: لا تظلموا الغريب واليتيم والأرملة، فليس لهم من يدافع عنهم إلاّ ا؟، وهو يعرف كيف يدافع. فالوقوع في يدي الله أمر رهيب.
5 - عاموس النبيّ والمساكين
في هذا الخطّ يأتي كلام النبيّ عاموس قاسيًا جدٌّا ولا سيّما على مستوى التجارة. نسمع كلامه في توبيخ العظماء. هنا نتذكّر، أحبّائي، أنّ عاموس جاء من جنوب البلاد إلى الشمال. جاء من تقّوع القريبة من بيت لحم إلى السامرة وقرب السامرة إلى بيت إيل، المدينة المقدّسة المرتبطة بالعاصمة. هناك جعل الملك الكهنة العديدين، ومنهم أمصيا الذي أراد أن يطرد عاموس، لأنّ عاموس يقول الحقّ، لأنّ عاموس يدافع عن الضعفاء، عن الفقراء، عن المساكين. ويشدّد على الهوّة بين الكبار والصغار، بين العظماء والبسطاء، بين الأغنياء والفقراء.
ويقول: اسمعوا هذا أيّها الظامئون إلى دم المسكين وإفناء البائسين في الأرض. نلاحظ هذا الكلام القاسي: اسمعوا. والسماع لا يكتفي بأن يطرق الأذن. السماع يجب أن يصل إلى القلب فيفرض علينا أن نغيّر سلوكنا أن نغيّر تصرّفاتنا أن نبدّل حياتنا.
الظامئون إلى دم المسكين، ولكنّنا لم نقتله. أنتم لم تقتلوه بالسيف ولكنّكم تقتلونه بالجوع، بالفاقة. عندما تمنعون عنه الحنطة. فعندما تمنعون عنه الطعام إنّما تقتلونه قتلاً بطيئًا.
المسكين والبائس في الأرض، وكلمة إفناء قاسية جدٌّا. في الجوع يفنى البشر ولا يبقى إلاّ بضعة أشخاص يعيشون عيش الترف عيش الراحة تجاه إخوتهم المتضوّرين جوعًا.
نذكر هنا مثل القدّيس لوقا (ف 16) كما قاله يسوع: هذا الغنيّ الذي يلبس البرفير والأرجوان ويتنعّم كلّ يوم. أمّا ذلك المسكين الذي كان عند بابه، فكان يشتهي أن يأكل بعض الفتات التي لا يأكلها حتّى الكلب فلا يُعطى له.
6 - عاموس واستغلال الفقراء
أجل كان عاموس السبّاق في هذا الكلام عن العدالة، عن الاهتمام بالضعفاء، عن الابتعاد عن سرقة المسكين والبائس.
اسمعوا هذا أيّها الظامئون إلى دم المسكين وإفناء البائسين في الأرض. تقولون: متى يمضي رأس الشهر لنبيع الحبوب. يعني متى ينتهي العيد ويبدأ العمل. هم يريدون بسرعة أن يبيعوا: ومتى يمضي السبت. يعني وقت العمل بعد الراحة، لنعرض الحنطة للبيع.
عندهم أرزاق، عندهم غلال، ويريدون أن يبيعوها بسرعة. ماذا يفعلون لكي يكثر ربحهم، لكي يكثر مالهم، ولكي تكثر سرقاتهم؟ نصغّر الإيفة يعني المكيال الذي يكيلون به الحنطة، ونكبّر المثقال أي نجعل الناس يدفعون الكثير لقاء القليل. هكذا يجوع الناس. ويتابع النصّ:
تستعملون موازين الغشّ، ومن يجرؤ أن يقف في وجهكم؟ أن يقول لكم إن ما فعلتم هو غشّ، هو ظلم. كلاّ. تفرضون إرادتكم وقوّتكم على المسكين، على الفقير. تستعملون موازين الغشّ فتشترون المسكين بالفضّة أي يبيع نفسه لكي يأكل. وحين يبيع نفسه تكونون اشتريتموه فصار عبدًا لكم. تشترون المسكين بفضّة والفقير بنعلين، بحذاء، يعني بثمن بخس جدٌّا. عندما تضيق به الحالة هو يستعدّ لأن يبيع نفسه لكي يأكل، لكي يُقيت أطفاله فلا يموتوا من الجوع. وتقولون: نبيع حتّى نفاية الحنطة، ما لا تأكله الحيوانات نبيعه للإنسان.
7 - العقاب آتٍ
قال الربّ بلسان النبيّ: لا أنسى عملاً من أعمالكم، وهذا الكلام قاسٍ جدٌّا. يعني سوف أحاسبكم على أعمالكم. ويكون حسابكم عسيرًا. هكذا ندّد النبيّ بالظالمين وما خاف من القصاص، من العقاب، من الملاحقة وغيرها من الأمور. هذا الرجل الذي اقتُلع من الجنوب ومضى إلى الشمال، ربّما يحتاج إلى من يقيته إلى من يقدّم له بعض المال. خسر كلّ شيء حين هاجم العظماء! لم تكن له الحكمة البشريّة لأنّه لم يراعِ الأغنياء الذين يمكن أن يقدّموا له بعض المال!
وما اكتفى النبيّ عاموس بقساوة نحو الرجال، بل أيضًا كان قاسيًا تجاه النساء، النساء الغنيّات. ولو تعرفون بماذا شبّههنّ، شبّههنّ ببقرات باشان. باشان هي أرض فيها المراعي الخصبة وكانت البقرات فيها سمينة كبيرة. أمّا عاموس فشبّه نساء السامرة الغنيّات المترفات، شبّههنّ ببقرات باشان. هنّ يظلمن الفقراء ويستغللنَ المساكين ويسحقن الصغار. ماذا يفعلن؟
يطلبن من رجالهنّ: أعطونا المال. نحتاج إلى المال، إلى الحياة، إلى حياة الترف واللذّة.
وعقاب الربّ كان قاسيًا، فبعد أن سقطت السامرة سنة 722 - 721 بيد الأشوريّين، ذهب الأغنياء إلى المنفى أو قُتلوا.
قال النصّ: سيأخذكنّ العدوّ بالكلاليب كأنّكن سمك أو غيره من الحيوان، يجرّونكنّ جرٌّا.
الخاتمة
أحبّائي، تلك هي الوصيّة السابعة: لا تسرق. قد نسلب الإنسان خلسة من دون أن يدري بنا أحد. هي سرقة. وقد نسلب الفقير بقوّة السلاح. هي سرقة وتهديد وعنف كأنّ القوّة التي أعطيت لنا، أعطيت لأجل مصلحتنا لا لندافع عن قريبنا. ويمكن أن تكون السرقة »تكديس الموادّ« فنبيعها بالثمن الغالي. هذا ما يحدث بشكل خاصّ في أيّام الحروب. ونستغلّ الجاهل فنكذب عليه. نخدعه في قيمة الأشياء. نستغلّ الضعيف فلا نعطيه أجره وهو من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فلا حقّ له من الحقوق.
ونسرق عندما نتعامل بالرشوة ونكدّس المال، فلا يبقى في الأرض سوى الأغنياء.
عندئذ يرنّ في ختام هذا الكلام صراخ إشعيا النبيّ مهدّدًا: ويل للذين يَصِلون بيتًا ببيت. أخذتُ بيتَ جاري ووصلته ببيتي، وأخرجتُ جاري من بيته.
ويل للّذين يصلون بيتًا ببيت ويضمّون حقلاً إلى حقل. أسترهنُ جاري، آخذ منه حقله وأضمّه إلى حقلي. وهكذا تصبح جميع البيوت لي والحقول كلّها لي. ويقول في النهاية إشعيا (5: 8): حتّى لم يتركوا لأحد مكانًا. فلا يبقى للإنسان سوى أن يُقتَلع ويَترك أرضه ويصبح غريبًا في أرض غير أرض الربّ. لهذا يهدّد النبيّ: بيوتهم ستُخرَب، ومنازلهم ستكون بلا ساكن. أمّا هذا الذي حصل لعدد كبير من الحرب الكونيّة الأولى حتّى اليوم. فماذا ننتظر لنعود عن مثل هذه السرقات؟ فالله يحاسب كلّ واحد حسب أعماله. فيا ليتنا نحاسب نفسنا قبل أن يحاسبنا الله، وندين نفوسنا قبل أن تقع في يد الإله الرهيب!