من قتل إنسانًا

 

من قتل إنسانًا

1 - لا تقتل، وصيّة قديمة

أحبّائي، نلاحظ في هذه القراءة من سفر اللاويّين (24: 7) التي تتوسّع في الوصيّة الخامسة: لا تقتل، أمورًا عديدة على مستوًى بشريّ. ولكنّها ترتبط كلُّها بالكلمة الأساسيّة: أنا الربّ إلهكم. هذا لا يعني: نحن لا نقتل لأنّنا نخاف أن نُقتَل. بل، نحن لا نقتل لأنّ الربّ طلب ذلك، فهو يستطيع أن يطلب منّا ونحن نطيعه.

لا تقتل. هي وصيّة قديمة قِدَم البشريّة. ولم يُخطئ الكاتب الملهم حين حدّثنا عن أوَّل خطيئة على الأرض. هي خطيئة قتل. ففي الفصل الثالث من سفر التكوين يعود بنا النصّ إلى أصول كلّ خطيئة إلى جذور الشرّ فينا، هو تكبُّر على الله ورفض الطاعة له ولوصاياه.

أصل كلّ خطيئة هو في أن نريد أن نكون آلهة، تلك كانت الخطيئة الأولى التي تربطها بالعائلة الأولى يعني آدم وحواء. بذلك الذي هو الرجل المأخوذ من الأرض، وبتلك التي تُعطي الحياة والتي هي المرأة. إذًا أصول الشرّ، جذور الخطيئة، هي تكبُّر على الله نُريد أن نكون آلهة. نريد أن نقرّر الخير الذي نفعلُهُ. وهذا الخير يكون بالنسبة إلينا، بالنسبة إلى منفعتنا، بالنسبة إلى مصالحنا.

يعني الخطيئة تُعارض المحبّة، الخطيئة تعارض التضحية. الخطيئة تُعارض ما قال لنا بولس في إحدى رسائله: نحسب الآخرين أفضل منّا. تلك كانت جذور الشرّ فينا، نبحث عن منفعتنا وعن مصالحنا.

2 - لا تقتل أخاك

وفي الفصل الرابع من سفر التكوين، اعتبر قايين أنّ مصلحته تقتضي بأن يقتُل أخاه ففعل. نسي وصيّة الله. ماذا فعل؟ دعا أخاه إلى البرّيّة حيث يكونان معًا وحدهما. ولمّا ابتعدا عن الناس، وثب قايين على هابيل أخيه وقتلَهُ. يُمثّل قايين شعب الحضر أي الناس العائشين في الحقول، العائشين في القرى والضياع، العائشين في المدن.

ويُمثّل هابيل رعاة الغنم، كان الرعاة أعداء للحضر والعكس بالعكس. ومع ذلك يقول النصّ إنّ قايين هو أخ لهابيل.

وثبَ على قايين أخيه وقتلَهُ.

كلّ إنسان هو أخ للإنسان، مهما كان بعيدًا، مهما كان لون سُحنته، مهما كان وضعه، ثقافته، غناه، فقرُه، كبرُه، صغرُه، هو أخ لأخيه. لهذا قال النصّ: وثب قايين على هابيل أخيه وقتله. ومع فعل الوثب، نحسّ كأنّنا أمام فعل وحش، وحش يثب على فريسته. وهكذا دلَّت الخطيئة الأولى على صراع الإنسان مع أخيه، مع ابن عمّه، مع جاره، مع قريبه، على صراع القبيلة مع القبيلة المجاورة. وكم من قبيلة فَنيت بسبب جارتها.

صراع البدو مع الحضر، صراع العظماء مع صغار القوم. أما هكذا فعل الملك آخاب حين أراد أن يُوسِّع ساحة قصره. قتل نابوت اليزرعيليّ واستولى على أرضه. فكان إليه كلام الربّ بلسان إيليّا النبيّ. قتلتَ وجئتَ تأخُذ الميراث. كأنّه يقول: حرامٌ عليك في ما فعلت، خطيئة كبيرة هي خطيئتك.

3 - شريعة المثل

وأتبع إيليّا كلامه حالاً بأنَّ الله يُعامل القاتل بشريعة المِثل. الملك قتل قريبه وهو سيٌقتل. هكذا بدت الشريعة لدى الشعوب القديمة. لا تقتل لئلاّ تُقتل. وراح العالم اليهوديّ يتوسّع في التهديد بضرر مماثل يُحدثُه الإنسان إلى قريبه. أخذت سِنَّه يؤخذ سنُّك. أخذت حياتَه تؤخَذ حياتك. كما قال خر 21: 24 »عين بعين، سنّ بسنّ، يد بيد، رجل برجل«. لا شكّ في أنّ هذا التنظيم الذي جعل الانتقام يتناسب مع الخطأ ولا يتعدّاه، يُبعدنا عن الانتقام الذي لا حدود له. إذًا هو محطّة في تربية الله للبشريّة، محطّة هامّة، محطّة ضروريّة. كان قايين قد قال: تقتلون واحدًا نقتل سبعة. لكن مع لامك تزداد النسبة: تقتلون واحدًا فنقتل سبعة وسبعين. أيّ نذهب في القتل إلى ما لا حدود له.

وهكذا نقول عن القتل لأيّ سبب: جَرَحَني فقتَلتُهُ مهما كان الجُرح، شدَخني فسحقته مع أنَّ فعله لا يستحقّ كلّ هذه القساوة. والجُرح يُمكن أن يكون مادّيٌّا أو أدبيٌّا أو معنويٌّا، ونحن نقتُل الآخر فنتجاوز ما قاله موسى: سنّ بسنّ وعين بعين.

ولكن تلك حالة الإنسان حين لا يعرف أن يضبُط الحسد الذي يعتمل فيه أو النقص. من فترة قليلة تحدّثنا عن حسد قايين من هابيل. والرسول يوحنَّا يقول في رسالته الأولى: من أبغض أخاه فهو قاتل. وأنتم تعرفون أنّ القاتل لا تثبُتُ فيه الحياة الأبديّة. أجل القتل يبدأ مع البُغض، ويمتدّ إلى درجة تجعلُني أعتبر الآخر عدوٌّا يهدِّدُ حياتي، أو سمعتي أو مالي أو أيّ شيءٍ لي، فلا يبقى إلاّ القتل.

4 - مستوى الإنسان ومستوى الله

حتّى الآن ظللنا على مستوى الإنسان، الإنسان لا يقتُل، الانسان يُقتل. ولكن حين دخل هذا المنع في الكتاب المقدَّس ودخلت الوصايا العشر، صار الله كافِلَه. أجل، لم نعد على مستوى توازن القوى، توازُن العُنف: لا أقتلُه لأنّي أخاف من يقتلُني. كلاّ، صرنا على مستوى أوامر الله ووصايا الله.

فالوصايا تبدأ: أنا هو الربّ إلهك، أنا الذي أفرض هذه الوصايا وأنا الذي يُطالب، يُحاسب كلَّ إنسان حسب أعماله.

أخذ قايين أخاه هابيل إلى البرّيّة حيث لا يراهما أحد. ولكنّ الله رآه.

قتل قايين أخاه في البريّة وتركَهُ. اعتبَر في نفسه أنَّ ما من أحد رآه. اعتبَر نفسَه أنَّهُ ليس حارسًا لأخيه. قال له الربّ: »ماذا فعلت؟ أينَ أخوك؟«. أجاب: »لستُ حارسًا لأخي«. ولكن حتّى في ذلك الوقت، تفرض الشريعة على الإنسان أن يُساعدَ أخاهُ، بل أن يُساعد الحمار الذي سقط عن الحمل. وقتل أخاب نابوت، وقد ظنّ أنّ الله لا يرى. وإن هو رأى فلا يفعل. ولكنّ صوت الربّ لاحقه كما لاحق قايين. إنّ صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض.

5 - خطيئة داود

وظنّ داود أنّه يستطيع أن يقتُل أوريَّا أحد ضبّاط جيشه ليأخذ له امرأته بتشابَع، فلا من يرى ولا من يُراقب. جاء ببتشايع إلى بيته وزنى بها.

واعتبر ربّما داود أنَّه فوق الوصايا، أنّه يستطيع أن يحوِّل الوصايا لمصلحته بل لشهواته ولنزواته. اعتبر أنّ الله لا يرى، وأنّ الله لا يفعل، كلاّ. حين فعل داود ما فعل، زنى، قتل، سرق. فأرسل الربّ إليه ناتان، قال له: قتلتَ أوريَّا الحثيّ بالسيف وأخذت زوجته زوجةً لك. قتلته بسيف بني عمّون.

كان داود قد طلب من قائد الجيش أن يجعل أوريّا في مكانٍ خطر: يهربون ويتركونه وحده فيموت. لماذا؟ لأنّ داود زنى مع بتشابع وحبلت بتشابع. أراد داود أن يُخفي جريمته الأولى فكانت جريمة ثانية. واعتبر أنّه ليس بمسؤول عن الزنى، بل هو ليس بمسؤول عن القتل. ولمّا جاء من يخبره بأنّ أوريَّا مات، أجاب جواب من لا يظنّ أنّه مسؤول: السيف يأكل هذا وذاك.

داود أخطأ حين قتل أوريَّا، حين أمر يوآب قائد جيشه بأن يقتل أوريّا. ويا ليت يوآب لم يسمع لملكه فيشارك في قتل أحد ضبّاطه. ولكنّه سمع للملك وهو يقول له: وجّهوا أوريَّا حيث يكون القتال شديدًا، وارجعوا من ورائه فيُضرب بيد العدو ويموت. يا ليت يوآب لم يسمع؟ يا ليت كان عنده بعض الشجاعة ليقول لا. قتل فسمع صوت ملكه لا صوت إلهه، وهذا الملك سوف يوصي ابنه بأن يقتل قائد جيشه. مسكين الإنسان!

ولكن يستطيع داود، ولو كان ملكًا، أن يغسل يديه كما سيقول بيلاطس بعده بألف سنة حين أمر بقتل يسوع، أمر بأن يصلب، لا يستطيع الإنسان أن يتهرَّب من خطيئةٍ فظيعة مثل هذه. ويُتابع النصّ: لا تقتل حتّى ولو أصابك ضرر، حتّى ولو قتل لك شخصٌ آخر أخاك.

6 - لا للانتقام بل للغفران

فمع أنّ عمل قايين كان شنيعًا جدٌّا ما اراد الله أن يقتلَه أحد. نلاحظ هنا هذه الوصيّة القديمة في الكتاب المقدَّس. عندنا كلام يقول: بشّر القاتل بالقتل. هذا الكلام لا يريده الله. مع أنّ قايين قتل، فالربّ لا يُريدُ له أن يُقتل. فهو لا يُريد موت الخاطئ بل حياته.

ويقول النصّ: وضع الربّ على رأس قايين علامة، كأنّه يريد أن يحميه، كأنّه يريد أن يقول: هذا الرجل يخُصّني. من مسَّه مسّني. فالويل لمن يمسَّه. أجل الله يحمي القاتل من القتل، لأنّه لا يريد موت الخاطئ بل أن يتوب عن خطاياه. ونحن كيف نقبل أن يُقتَل البريء ولا يرفّ لنا جفن؟

والتشريع اليهوديّ كان قد نظّم ما سُمِّيَ القتل من غير تعمّد. فالإنسان الذي يكون في هذا الوضع يستطيع أن يهرُب إلى مدُن الملجأ.

فإن لم يتعمّد القتل حين فعل ما فعلَ، يُعطى حقّ اللجوء وإلاّ يُسلَّم. يعني لا يستطيع الإنسان أن يكذب، فإن هو حاول أكثر من مرّة أن يقتل، هذا يعني أنّه قتل عن سابق تعمّد. أمّا إن كان فعل ما فعل وهو لم يقصد بأن يقتل، فيكون قتلُه عن غير تعمُّد ويستطيع عند ذاك أن يلجأ إلى إحدى مدن الملجأ ويُقبَل لجوؤه. ثمّ كان التشريع اللاحق: يُعفى عن مثل هؤلاء القتلة يوم يموت عظيم الكهنة.

ومع ذلك فما زلنا نستعمل وسائل التعذيب ونحكم بالإعدام، وكأنّه إذا مات القاتل قام القتيل من تحت التراب وعاش. متى سنعرف أنّ وصيّة لا تقتل أمر قاطع من عند الربّ. كانت في الشعوب القديمة وفي التوراة وفي الإنجيل وفي صوت الكنيسة، ولا شيء يبرِّر التعدّي على هذه الوصيّة: لا تقتل. حافظ يسوع عليها، بل أعطاها معنًى جديدًا، معنًى عميقًا... نقرأ في إنجيل متّى: قيل لكم... أمّا أنا فأقول لكم: قيل لكم لا تقتل... فأمّا أنا فأقول: من غضب على أخيه.

7 - أبعد من القتل

يقدّم يسوع هنا نظرة ثوريّة على مناخ فرّيسيّ يعتبر أنّه إذا مارس الوصيّة ممارسة حرفيّة كان على وفاقٍ مع الله. أنا ما قتلت، إذًا أنا في خير. غضبت على أخي، شتمتُه، جرحتُه في شعوره. المهمّ لم أقتلْهُ. إذًا أنا نظيف اليدين، نظيف القلب ولا خطأ عليّ. كلاّ ثمّ كلاّ. فيسوع يقدّم نظرة جذريّة تجعل الغضب والكلام النابي والشتائم خطيئة تُشبه خطيئة القتل.

قال النصّ الإنجيليّ: من يقتل يستوجب الحكم القضائيّ، ثمّ قال: من خطئ على أخيه باطلاً، استوجب الحكم القضائيّ. الخطيئة هي هي. إن قتلنا القريب في جسده أو في شخصه، أو في كرامته وفي الاحترام الواجب له. والبغض للقريب هو أيضًا قتلٌ له كما سبق وقُلنا. والاحتقار وتثبيط الهمم وتيئيس الناس، هو قتل أيضًا. أجل لا يتوقّف يسوع عند الوصيّة كوصيّة وكأنّها كلّ شيء. لا تقتل وهذا يكفي. كلاّ، فالوصيّة تعبِّر عن وجهةٍ من وجهات المحبّة. ومن يعرف إلى أين تصل حدود المحبّة؟ لا حدود لها. إذا كان الإنسان لا يعرف أن يصنع حدٌّا للقتل والانتقام وإذلال الآخر واستعباده، فالله لا يريد حدٌّا للمغفرة والصفح واحترام الآخر واستبعاد العنف.

الإنسان يسير في خطّ القتل والموت، والله يسير في خطّ الحياة، في خطّ الغفران، في خطّ الصفح. عندئذ تكون الوصيّة الإيجابيّة المقابلة للاّ تقتل: »طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض«.

هم يرثونها لا بالعنف والقوّة بل بالوداعة والتواضع. والتطويبة الأخرى تشبهُها: طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون. لا لصانعي القتل، لا لصانعي الموت. كم نحن بعيدون عن عالم يُعدّ طريق السلام بواسطة آلات الحرب، يقول إن شئت السلام فهيّئ الطريق للحرب. كلاّ نحن لا نريد طريق سلام نعدّه بواسطة آلات الحرب. لا نريد عالمًا من العدالة بالقتل والتعذيب وتحقير إنسان وإذلاله واستعباده وقتل كلّ رأي وحرّيّة فيه. لا نريدُ أبدًا مثل هذا العالم. مثلُ هذا العالم ذاهب إلى الموت. بل هو بدأ يموت موتًا بطيئًا ولا نعرف متى تكون ساعتُه الأخيرة.

هذا هو معنى كلامنا: »من قتل إنسانًا يُقتَل قتلاً«. بدأت الوصيّة مع الإنسان الذي يخاف أن يُقتل، فصارت وصيّة من وصايا الله. وصيّة يكفلها الله. وجاء المسيح يعمِّق معناها فلا يتوقّف عند لا تقتل أو اقتل، بل ذهب متحدّثٌّا عن البغض، عن الغضب، عن الكلام السفيه، عن الشتائم وعن كلّ أنواع العنف. علّمنا الوداعة، فبالوداعة نرث الأرض ونرث الآخرين. وعلّمنا السلام لأنّنا بالسلام وحدَهُ نكون حقٌّا أبناء الله. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM