لا تشهد بالزور

 

لا تشهد بالزور

 

أحبّائي، الربّ يكون معنا في هذه المسيرة مع العهد القديم ومع سفر الخروج بالتحديد، وما زلنا نقرأ الوصايا العشر في سفر الخروج الفصل 20 (آ 1 - 2، 13 - 16).

وتكلّم الربّ فقال أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبوديّة، لا يكن لك آلهة سواي. وتأتي الوصايا بالنسبة إلى القريب: »لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد على غيرك شهادة زور، لا تشتهِ بيت غيرك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا ممّا له«.

نتوقّف الآن بشكل خاصّ عند آ 16: »لا تشهد على غيرك شهادة زور«.

1 - أهمّيّة الشاهد

الشهادة تأكيد على واقع رأيناه بعيوننا، سمعناه بآذاننا. فالشاهد يعلن أنّه شهد. ولو لم يشهد، لو لم يرَ، لو لم يسمع، لما حقّ له أن يكون شاهدًا.

والشهادة ندلي بها خصوصًا في المحكمة. قد تكون شهادة في مناسبة أخرى، ولكن خصوصًا في المحكمة هناك الشهادة وما يستتبع ذلك من خير أو شرّ، من ضرر أو مساعدة لشخص ضعيف أو قويّ.

فالرشوة تلعب الدور الكبير، والصغير يدفع عادة غاليًا للكبير، والضعيف للقويّ.

الشهادة بمناسبة خلاف أو تشاجر بين اثنين، والمحكمة لا تحكم بدون شاهدين.

يقول الكتاب المقدّس لا تصحّ الشهادة إلاّ بشهادة شاهدين أو أكثر.

والقاضي لا يفضّ مشكلة من المشاكل إلاّ على أساس شهادة. فهو لا يستطيع أن يحكم لأنّه لم يرَ ولم يسمع. فالشاهد هو الذي يجعله يرى ويسمع، وهكذا يستطيع أن يحكم. كم نتمنّى للشهادة التي نقدِّمها إلى المحكمة أن تحمل الصدق فلا تبرّئ الخاطئ وتؤثّم البريء. وقد يشوّه القاضي الشهادة ليحكم حسب الرشوة التي نالها أو حسب العاطفة التي تسيطر عليه، فلا يشغُل عقله ولا يشغل ضميره وخصوصًا إذا كانت الشهادة التي حملناها لا تحمل الصدق. ماذا يكون؟ يصبح الحقّ بجانب ذاك الذي ظلم قريبه.

هذا على مستوى الحياة في المجتمع، وكم من المآسي نعرف في هذه الأيّام وفي غير أيّام. ولكن في هذه الأيّام حيث المال يلعب لعبته من أجل شهادة الزور، كان الفساد كبيرًا على مستوى المجتمع.

2 - الله شاهد

أمّا على مستوى الضمير فالله هو الشاهد الوحيد، يقول النبيُّ ملاخي. الله هو الشاهد بين الرجل والمرأة. يوم تزوّج الرجل المرأة، يوم تعاهد معها على الحياة، الربّ هو الشاهد، والويل للرجل إن خان ما وعد به امرأته يوم تزوّجها. فالربّ هو الذي يرفض ذبيحته، الربّ هو الذي يرفضه.

والكذب والتراجع. مرّات عديدة نكذب، مرّات عديدة نعود ونتراجع بحيث لا نفي بما وعدنا به.

أمّا الله فهو الكفيل بالتزام وقّعنا عليه مرّات عديدة. يذكر الكتاب المقدّس مثل هذا التوقيع بين شخص وآخر. مثلاً بين يعقوب ولابان. ونحن لا نستطيع أن نتهرّب، هذا إذا كان ضميرنا حيٌّا. فصاحب الضمير يعد ويفي. صاحب الضمير لا يتراجع. صاحب الضمير لا يبدّل في ما قاله. وحين ينتفي الاتّفاق بين الأخ وأخيه والقريب وقريبه، فلا يعود لنا إلاّ محكمة البشر. ولهذا نحتاج إلى شهادة البشر.

ولكن، أحبّائي، شهادة البشر قد تحمل الخطأ، تحمل الكذب. ربّما الشخص لم يَرَ ويقول: رأيت. لم يسمع ويقول: سمعت. وقد يكون نال بعض المال لقاء شهادته الباطلة الكاذبة.

وقد يكون رأى أو سمع، ولكنّه يتكلّم كذبًا ليجعل الدعوى تميل نحو الغنيّ، نحو القويّ، نحو القدير، على حساب الفقير والضعيف والذليل.

لهذا نسمع صاحب المزامير يتشكّى إلى الربّ من شهود الزور فيقول: »تقدّم عليّ الأشرار ليأكلوا لحمي« (مز 27: 2). ليمزّقوني كما يمزّق الوحش فريسته بواسطة الافتراء والنميمة.

نتذكّر هنا، أحبّائي، أنّ الصعوبة الكبرى التي يطلب المؤمن التخلّص منها هي شهادة الزور، هي القضاء الذي يقلب الحقّ ظلمًا والظلم حقٌّا.

ولهذا نقرأ أيضًا في مزمور 35: 11: قام شهود الزور وسألوني عمّا لا أعلم. ردّوا لي الشرّ بدل الخير، فأحسست بنفسي مخذولاً لا معين لي. فأتى المرتّل يشكو أمره إلى الربّ، وجاءت الوصيّة قاطعة: لا تشهد على صاحبك شهادة زور.

3 - شهادة الزور وعقابها

شهادة الزور لا تحتمل أيّ تنازل، وعقابها كبير جدٌّا لدى الربّ. شدّدت الشريعة على مسؤوليّة الشاهد. فإن كان من عقاب ولا سيّما الرجل، فالشاهد هو الذي يرمي المتّهم بأوّل حجر.

نلاحظ هنا كم الشاهد مهمّ جدٌّا، كم هو مسؤول عمّا يقوله، كم هو مسؤول عمّا يشهد به. من هنا قالت الكتب المقدّسة: بقول شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل من يجب أن يقتل، وتكون أيدي الشهود هي الأولى بقتله، وبعد ذلك أيدي سائر الشعب.

هذا ما حدث لإسطفانس حين رجمه اليهود: خلع الشهود ثيابهم لئلاّ تتلطّخ بالدم وأخذوا يرجمونه (أع 7: 58 - 59).

تحدّثنا عن شهود الزور الذين قتلوا إسطفانس. جرّوا إسطفانس إلى خارج المدينة وهناك رجموه. وهناك حالات أخرى عديدة نذكر منها نابوت اليزراعيليّ الذي استولى الملك أخاب على كرمه المحاذي لساحة القصر.

الويل لنابوت ابن مدينة يزراعيل: فهو قريب من الملك، وقربه من الملك لم يعطه السعادة ولا الراحة، بل أعطاه الموت، أعطاه أن يخسر كلّ شيء. أراد الملك أن يوسِّع ساحة القصر، ولكن نابوت رفض أن يعطيه الأرض. قال: هذه الأرض هي ميراث من أجدادي، من آبائي، فلا أستطيع أن أعطيها ولا أن أبيعها.

فأقامت الملكة إيزابيل زوجة أخاب شاهدَي زور يسمّيهما الكاتب بني بليعال. يعني هما رجلان سافلان يتعاملان مع الموت والجحيم. دفعت لهما المال. أغرتهما، فقالا في المحكمة برأس مرتفع وكأنّهما يقولان الحقيقة ولا شيء إلاّ الحقيقة: جدّف نابوت على الله والملك.

عندئذ أخرجوه خارج المدينة ورجموه بالحجارة فمات: نلاحظ هنا الشرّ الذي فعله هذان الشاهدان. وليست القصّة بعيدة عنّا نحن الذي نعيش الظروف الصعبة. ولو تعمّقنا في الأمور لوجدنا الظلم فوق الظلم في مثل هذه الظروف. ولكن الربّ لا يترك مثل هذا العمل بدون عقاب، بل سيكون عقاب الله قاسيًا وبشكل خاصّ ضدّ الملكة التي علّمت الشاهدين كيف يشهدان بالزور فيسبّبان الموت لهذا الرجل. نعم، كان حكم الله على شهادة الزور قاسيًا. هو لا يقول: ماذا حصل لهذين الشاهدين، ولكنّه يتوقّف عند الملكة. قال: ستأكل الكلاب إيزابيل الملكة في أرض يزرعيل.

هي لا تُدفن دفنة لائقة في قبر ويصلّى عليها، بل ستموت في البرّيّة وتنهش الكلاب لحمها.

4 - يعاقب الشاهد بعقاب طلبه

ذاك كان العقاب المنظور. وهناك عقاب غير منظور ينتظر الإنسان الخاطئ. فنحن نعرف من العهد الجديد أنّ هذا العقاب هو جهنّم النار.

أجل حكمُ الله سيكون قاسيًا جدٌّا على شهادة الزور، ولكنّ الكتاب ينبّه، يحذّر: الشرّ الذي تنويه عندما تشهد على قريبك يصيبك أنت إن كانت شهادتك كاذبة. نقرأ في سفر التثنية: 19: 16 - 19 ما يلي:

»إن قام إنسانٌ على أحد، فشهد عليه أنّه جحد إيمانه، ليستقصِ القضاة جيّدًا. فإن كان الشاهد شاهد زور، وقد شهد كذبًا على أخيه، تصنع أنتَ به كما نوى أن يصنع بأخيه«. نلاحظ، إخوتي أخواتي، شهد عليه أنّه جحد إيمانه. إذًا هنا الشهادة مهمّة جدٌّا وخطيرة، لأنّ جحود الإيمان يعني أنّ الإنسان يُرجَم، ويقتل، تلك كانت العادة في العالم القديم، وما زالت للأسف حاضرة في عالمنا، كأنّ الإيمان يُفرض فرضًا وليس وليد الحرّيّة وليد الإرادة الحرّة.

لكن نلاحظ أنّ الكاتب يأخذ حذره من مثل هذه الشهادة. يقول: ليستقصِ القضاة. يجب على القضاة أن يبحثوا جيّدًا هل هذا الرجل صادقٌ في شهادته أم هو كاذب، والويل له إن اكتشفوا كذبه. الجاحد بإيمانه يستحقّ الرجم، والذي شهد عليه شهادة زور يستحقّ ما استحقّ هو. يعني يستحقّ الرجم وربّما ذاك الذي أراد أن يرجمه هو الذي يضرب الحجر الأوّل.

ونجد خبرًا مماثلاً في سفر دانيال 13. هو خبر سوسنّة التي شهد عليها شيخان بأنّها زانية. وإذ كانت تؤخذ إلى القتل، إلى الموت، تدخّل دانيال وخلّصها من الظلم. وماذا كانت النتيجة؟ الشيخان اللذان شهدا عليها ماتا كما نويا لها أن تموت.

نحن هنا، أحبّائي، على مستوى شريعة المِثل تطبَّق على شاهد الزور: أعاملك مثلما تعاملني. عين بعين وسنّ بسنّ. من أخذ عينًا تأخذ عينه. من أخذ سنٌّا تأخذ سنّه. وهكذا يَعرف الشاهدُ الكاذب ما ينتظره من عقاب. ولكن إن أفلت من عقاب البشر، فكيف يفلت من عقاب الله، ووخز الضمير هو حاضر في حياته، والشرّ الذي سبّبه يلاحقه طوال حياته. هنا نتذكّر المشاهد على المسارح، حيث اليد الملطّخة بالدماء تبقى ملطّخة بالدماء.

5 - مسؤوليّة الإنسان

في هذا الإطار جاء كلام الحكماء يندّد بشهادة زور. نتذكّر أوّلاً التوراة أو أسفار موسى الخمسة التي نجد فيها الشريعة الأساسيّة. ثمّ الأنبياء، والأنبياء يحاولون أن يجعلوا كلام التوراة حاضرًا في حياة الشعب اليوم. كما نقول يؤوِّنون، يقرأونه الآن، يطبّقونه على حياة الجماعة. وينبّهون الناس من التلاعب بالشريعة. أمّا الحكماء فجاؤوا بعد الأنبياء، ونبّهوا خصوصًا إلى الناحية الفرديّة في المجتمع. على مستوى الأنبياء كانت الناحية الجماعيّة الشعب ظاهرة وكلّه مسؤول عن أعماله. الشعب كلّه يعاقب أو يجازى جزاءً خيرًا. أمّا مع الحكماء فكلّ إنسان مسؤول عن نفسه، عن أقواله، عن أعماله، عن أفكاره، عن حياته.

جاء المثلُ المعروف: الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. قال إرميا: لن يقال بعدُ هذا المثل. وتابع حزقيال: كلاّ. لن يقال بعد هذا المثل عندكم: الآباء يأكلون الحصرم وأضراس البنين هي التي تتأذّى. كلاّ. كلّ واحد يجازى بالشرّ الذي فعله. هذا ما أخذ به الحكماء وشدّدوا على المسؤوليّة الفرديّة. والأمر واضح بالنسبة إلى أيّوب، ذاك الرجل الذي كان تامٌّا كاملاً. ضُرب بالمرض، خسر ماله، خسر أولاده، كادت حياته تصل إلى الموت، فبقيَ عليه أن يبحث عن السبب لأنّهم كانوا يربطون كلّ مرض، كلّ ألم، كلّ مصيبة بخطيئة.

ولكنّ أيّوب كما يقول النصّ عنه، كان بارٌّا. إذًا لماذا لا يعود بالخطيئة إلى أبائه؟ كلاّ. فعلى مستوى عالم الحكمة، وسفر أيّوب هو من أسفار الحكماء، لا يمكن أن ترتبط الخطيئة إلاّ بالإنسان الذي اقترفها. لا يمكن أن يرتبط العقاب ولا الجزاء إلاّ بالإنسان الذي استحقّه بعمله.

ولكن في النهاية سيدخل أيّوب في سرّ الله، في مخطّط الله، فيفهم أنّ عليه أن يخرج من هذه الدائرة الضيّقة لينفتح على الله ليسمع صوت الله وفي النهاية ليرى الله.

هذا، إخوتي وأخواتي، هو موضوع الوصيّة: لا تشهد على غيرك، على قريبك، شهادة زور.

شهادة الزور تحمل الشرّ إلى الآخرين. وإن اكتُشف هذا الشاهد فهو سيموت كما نوى أن يصنع بأخيه. كم نحن بحاجة إلى كلام الصدق، إلى كلام الحقّ، لأنّ المسيح في النهاية هو الطريق والحقّ والحياة. ومن سار في الحقّ على خطى المسيح، يصل إلى الطريق التي تحمل الحياة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM