لا تقتل

 

لا تقتل

أحبّائي، مع هذه الوصيّة التي تُسمّى الخامسة في التقليد الكنسيّ، نصل إلى اللوحة الثانية من لوحَيْ الوصايا التي حملها موسى عن جبل سيناء. هو مثلّث اعتاد الناس عليه، ولا سيّما حين يقرّون بخطاياكم في منبر التوبة: أنا ما قتلت، أنا ما سرقت، أنا ما زنيت. وانتهى الاعتراف. تلك ردّة تعود إلى الزمن الغابر في هذا الشرق القديم. الملك في رأس شمرا، أوغاريت، يعلن براءته. وكذلك الفرعون المصريّ والملك الحثيّ. فالقتل مع السرقة والزنى اعتبرت أخطر الخطايا في المجتمع عامّة، وفي الكتاب المقدّس بشكلٍ خاصّ.

منذ نوح

وصيّة القتل نبّه إليها الكتاب منذ العهد الأوّل مع نوح. نتذكّر تقدمة ذاك الناجي من الطوفان. وكان عهد بين الإنسان وبين الله. سمح الله للإنسان بأن يأكل لحم الحيوان، بعد أن اعتُبر »آدم« نباتيٌّا. ومثله وحوش الأرض. العشب مأكل للجميع. ولكن مع نوح تبدّل الوضع: »كلّ حيّ يدبّ فهو لكم طعامًا كالبقول. ولكن لحمًا بدمه لا تأكلوا. لأنّ حياة كلّ حيّ في دمه« (تك 9: 3 - 4).

نلاحظ هنا كيف أسقط سفر اللاويّين تشريعه علىهذا العهد، بحيث بدا نوح وكأنّه أبو اللاويّين. أبو الكهنة في الشعب العبرانيّ. سمح الكتاب بقتل الحيوان وأكله، ولكنّه كان قاسيًا بالنسبة إلى الإنسان. من قتل حيوانًا لا يُطالَب بدمه. ا؟ لا يطالب ولا يعاقب، أمّا دم الإنسان فالربّ يطالب به. تخيّلوا: يطالب به الحيوان مع أنّ لا مسؤوليّة له. وهنا أيضًا نجد شرحًا في سفر الخروج. كيف يُطَالَب حيوانٌ قتل إنسانًا؟

يقول خر 21: 28: »إن نطح ثورٌ رجلاً أو امرأة فمات، فليُرجَم الثور ولا يُؤكل لحمه«. صار الثور نجسًا. حمل »خطيئة«. وكأنّه إنسان مسؤول. لهذا يكون »صاحب الثور بريئًا«. لا مسؤوليّة على الإنسان. ولكن يتابع النصّ في آ 11: 29: »فإن كان الثور نطّاحًا من قبل، وأُنذر صاحبه فما ضبطه، فقتل رجلاً أو امرأة، فليُرجم الثور وليُقتل صاحبه«.

من سفك دم الإنسان

إذا كانت تلك عقوبة الحيوان الذي »يَقتل« إنسانًا، وهي عقوبة تصل إلى مالكه، فما تكون عقوبة إنسان يقتل أخاه الإنسان؟ هي جريمة بشعة، نكراء. ولا نقول شيئًا عن الذين يمارسون القتل الجماعيّ الذي اعتادت عليه الشعوب الحربيّة منذ القديم. يأتي الجيش، يقتل، يسلب، يستبيح أعراض الناس. بل يقتل الرجل ويأخذ له امرأته وأولاده لكي يستغلّهم. والقتل الجماعيّ صار عادةً لدى حكَّام مستبدّين. نقتل كلّ إنسان لا يوافقنا الرأي. نقتله بدم بارد. كما يقتل الصيّاد عصفورًا. وإذا كانت فئة رافضة الخضوع، تنزل عليها القنابل والغازات السامّة. أو طائفة غير طائفتي. أو جماعة غير جماعتي.

قال الربّ في عهده مع نوح: »أمّا دماؤكم أنتم فأطلب منها حسابًا من كلّ حيوان أو إنسان سفكها. وعن دم كلّ إنسان أطلب حسابًا من أخيه الإنسان« (تك 9: 15). لا أتركه يستريح، يقول الربّ. أوبّخه في ضميره. أمنع عنه النوم. أنتزع منه الراحة. فيرى الدم على يديه كلّما خطا خطوة. يحسّ أنّ وراءه من يأتي ليقتله بحسب المثل المعروف منذ القديم: »بشِّر القاتل بالقتل«. يحاول الإنسان أن يُسكت صوتَ الضمير، صوت ا؟ فيه. ولكن عبثًا.

وقد صوّر أحد الشعراء هرَبَ قايين من وجه الله من »عين الله«. حتّى في أعماق الأرض. في البرّ والبحر. في الصحراء والأماكن المأهولة. لا سبيل إلى النجاة. نستطيع أن نخدِّر ضمائرنا لوقت يطول أو يقصر. أن نضع قناعًا على داخلنا فلا تظهر بشاعتُه. ولكن لا، عند ساعة الموت. حين نكون في »عريٍ« أمام ا؟، ولا شيء يخبّئ خطايانا، ولا سيّما هذه الخطيئة الفظيعة، أجل، في تلك الساعة نشعر بالشرّ الذي ارتكبناه. »اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى نار الأبد المعدّة لإبليس وأعوانه«. أجل، صار القاتل من حزب إبليس، وتكون سكناه مع إبليس »حيث النار لا تطفأ والدود لا يموت«. أي حيث العذاب الأبديّ. »من سفك دم الإنسان يَسفك دمَه الإنسان«. يجد عقابه على هذه الأرض. في الأصل، كان القريب يتولّى هذا الأمر، فيلاحق القاتل حتّى يقتله. ومن المؤسف أن تكون هذه الحالة حاضرة بعد، وإن في حالات نادرة، في هذا الشرق. ولا سيّما إذا تأخّرت العدالة في ممارسة دورها، والدولة في القبض على القاتل، بحيث لا يتمشّى أمام باب من قتله، وكأنّه يريد أن يقتله ثانية. ولكنّ الشريعة تنبّهت إلى هذا الأمر. فجعلت »مدن ملجأ« يهرب إليها القاتل ويُحاكَم. عندئذ يُحكَم عليه أو يُعفى عنه. وفي النهاية، كان موت رئيس الكهنة كفّارة عن خطايا السهو التي اقتُرفت عن غير معد. فلا يُلاحَق القاتل بعد.

خبر قايين

ونعود إلى خبر قايين الذي قتل أخاه. كانا معًا في البرّيّة. هو الأكبر استدرج الأصغر إلى حيث لا يقدر أحد أن يراهما. لا شكّ. ما رآهما أحدٌ من الناس. ولكنّ الله الحاضر في كلّ مكان رآهما. إلاّ إذا جعل قايين نفسه مكان الله. فألغى وصايا أتت من عند ا؟، واقترح وصايا من عنده. منذ البداية والحيّة تغوي الإنسان. تصيرون مثل آلهة تعرفون الخير والشرّ. تقرّرون ما هو خير وما هو شرّ. لا بالنسبة إلى المجتمع فقط، إلى إخوتنا، إلى أخواتنا، بل بالنسبة إلى أنفسنا.

ضاقت الأرض بقايين، فقتل هابيل ليكون كلُّ شيء له. والأسباب عديدة: الحسد. كيف يرضى الله عن ذبيحة هابيل ولا يرضى عن ذبيحة قايين؟ وبما أنّ الإنسان لا يقدر أن »يقتل« الله، فهو يقتل الإنسان المخلوق على صورة الله.

وهكذا يتحدّى الله في عقر داره، يقتل له أولاده. في هذا الإطار كان تهديد القاتل في العهد مع نوح: »من سفك دم الإنسان يسفك الإنسان دمه«. والسبب: »على صورة ا؟ صنع الله الإنسان« (تك 9: 6). فالقتل يستطيع أن يفني سلالة، عشيرة، قبيلة. والربّ هو الذي يريد الحياة. ولهذا كانت الوصيّة الأولى: »انموا واكثروا وتوالدوا في الأرض وسيطروا عليها« (آ 7).

الحسد هو سبب القتل. والطمع أيضًا. وهو يكون بين الإخوة قبل كلّ شيء. والأخ هو أوّل من يجعلني أصرخ »آخ« من الوجع. يظلمني الغريب فأتألّم. ولكن حين يظلمني أخي وابن قرابتي المفروض أن يكون بقربي، يكون الألم ألمًا فظيعًا. وحبّ التسلّط في كلّ المجالات. قتل داودُ الملكُ أوريّا الحثّيّ لكي يأخذ له امرأته. وقد يكون فعل الشيء عينه مع نابال: قتله، أخذ له امرأته وجميع أملاكه. وهكذا فعلت إيزابيل زوجة الملك أخاب. »بفضلها« رُجِم نابوت، وانتقلت أرضه إلى أرض أخاب الملك، فاستطاع »بسهولة« أن يوسّع الساحات.

وظنّ أخاب أنّ الأمور تمرّ بسهولة. راح مرتفع الرأس ليضع يده على أرض سرقها بعد أن قتل صاحبها (1 مل 21: 16). ولكنّ إيليّا النبيّ سبقه إلى هناك. لا بمبادرة منه، بل من الله الذي قال له: »اذهب للقاء الملك أخاب في كرم نابوت الذي نزل إليه ليمتلكه« (آ 18). وماذا قال للملك، وما خاف من سطوته، لأنّ قوّة النبيّ من الله وسلطة كلمته فوق كلّ سلطة؟ »بعتَ نفسك، وفعلت الشرّ أمام الربّ« (آ 21). وسيكون حكم الكتاب قاسيًا على أخاب الذي نال نسله ما نال من قتل: »ما باعَ أحد نفسه لفعل الشرّ مثل أخاب الذي أغوته زوجتُه« (آ 25).

وما كان حظّ داود أفضل من حظّ أخاب. زنى الشقيق بأخته. والأخ قتل أخاه طلبًا للعرش، طلبًا للسلطة. مؤامرة واسعة بدأت منذ بدأ داود يشيخ، وأخذت امرأته بتشابع تسيطر عليه وعلى قراراته. وما كان السبب؟ لأنّه كان »ذاك الرجل« الذي استوجب الموت، ولكنّ الله أمهله من أجل التوبة. قال له ناتان النبيّ باسم الربّ: »احتقرتَ كلامي، وارتكبتَ القبيح في عينيّ، قتلتَ أوريّا الحثّيّ بالسيف، وأخذتَ امرأته زوجة لك« (2 صم 12: 9). وسارت شريعة القتل في بيت داود وطالت حتّى موته، بل بعد موته حين قتل سليمان من قتل، لكي يكون المتسلّط الوحيد في المملكة.

علامة على قايين

وقال الكتاب إذ تحدّث عن جريمة القتل التي فعلها قايين: »وجعل الربّ على قايين علامة، لئلاّ يقتله كلُّ من وجده« (تك 4: 15). هذا يعني أوّلاً أنّ خبر قايين وهابيل الذي جُعل في »بداية« الكون، في »أصول الإنسان«، لم يحصل منذ آلاف السنين وربّما منذ مليون سنة. فالكاتب الملهم دوّن خبره في القرن الخامس ق.م. وسكّان الارض يُعَدُّون بالملايين. وخطيئة القتل هذه لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. وتكرارُ مثل هذه الوصيّة على مدّ الكتاب المقدّس، يفهمنا أنّ الناس ما زالوا يقترفونها »ويحتقرون« وصايا الله وأوامره.

ويعني ثانيًا أنّ الربّ لا يريد الانتقام. قتل أخاه. تقتلني أنت كي تنتقم. فيقتلك أخي انتقامًا. ويتوالى القتل إلى أن تفنى مجموعتان، قبيلتان، دون أيّة إفادة، سوى بسط مملكة الشرّ في العالم. ونحن نشاهد الإرهاب يومًا بعد يوم. والإرهاب المضادّ. قيل بعد الاقتتال تأتي المصالحة. ولماذا لم تأتِ قبل الاقتتال. بعد الحرب تكون معاهدة سلام. ولكن لماذا لم تبدأ البشريّة بحوار سلام؟ أما كانت استغنت عن الحرب وقتل مئات الألوف؟ بل الملايين في أيّامنا، ولا سيّما في الحرب العالميّة الثانية. ستّون مليونًا ماتوا. هذا عدا عن الأضرار المادّيّة والخلقيّة والروحيّة، مع سيطرة البغض والحقد والجدران الفاصلة بين الشعوب، بين الطوائف والفئات، بين القبائل والعشائر.

لا. لا يريد الله موت القاتل. بل أن يعود عن خطيئته فيحيا. فمسرّته ليست في الموت، بل في الحياة. هرب قايين من وجه ا؟، فيا ليته ما هرب، بل أقرّ بخطيئته. فخالفه أخاب الذي »مزّق ثيابه حين وبّخه إيليّا النبيّ ولبس مسحًا. وهام ومشى منكّس الرأس« (1 مل 21: 27). فقال الربّ لإيليّا: »أرأيتَ كيف اتّضع آخاب أمامي«؟ (آ 29). فالربّ ينتظر أقلّ ندامة تصدر عن الإنسان. وقد يعود الإنسان إلى القتل، والدعوة إلى التوبة تبقى قائمة. وحين قال داود للنبيّ ناتان »خطئتُ إلى الربّ«، أجابه ناتان: »الربّ غفر خطيئتك« (2 صم 12: 13).

وقتل وقتل

من جهة، جاءت الوصيّة قاطعة ولا تحمل استثناء: لا تقتل. وخصوصًا الضعيف. فأنت لا تجرؤ على قتل القويّ، بل تخاف من أن يقتلك. والضعيف هو أوّلاً اليتيم والأرملة. ويتحدّث مز 10: 8 عن ذاك الذي يختبئ لكي يقتل البريء البارّ، الذي لم يفعل شرٌّا. ولكن ما يدهشنا هو المرّات التي فيها يُقال إنّ ا؟ قتل أو هو سيقتل، سيحرق، سيدمِّر. كما في عا 9: 1 مثلاً: »أقتلُ (أنا الربّ) أواخرهم بالسيف، ولا يهرب منهم هارب، ولا ينجو منهم ناجٍ«. بل إنّ الربّ يأمر بالقتل والإفناء، وكأنّه يوحي بشريعة ويتعدّاها.

والأنبياء ورجال الله حملوا القتل. غضب صموئيل على شاول لأنّه لم يقتل »الرجال والنساء والأطفال والرضّع، والبقر والغنم والجمال والحمير« (1 صم 15: 3). بل إنّ صموئيل طلب الملك أجاج فقتله، بل »قطّعه« قطعًا (آ 33). وإيليّا »أنزل أنبياء البعل إلى نهر قيشون وذبحهم هناك« (1 مل 18: 40). وجاء من الأنبياء من بارك ياهو الملك حين أفنى سلالة عمري وآخاب. كيف نفهم كلّ ذلك؟

لا منطق بشريٌّا يقنعنا. وعادة الحرب هي عادة الحرب. وحين يدخل العنف يجرّ معه العنف. فلا يعفّ الإنسان عن أخيه، لأنّه في ذلك الوقت لا يبقى إنسانًا بل يصبح وحشًا مفترسًا وطيرًا كاسرًا. وفي النهاية، يكرَّم العنف لأنّه عنف. والكتاب المقدّس في عهده القديم، هو صورة عن الواقع الذي يعيشه المؤمنون. فالحروب عديدة من أزمان وأزمان، وهي لا تزال. السبب الأوّل، كما يقول المؤمن، هو ا؟. فهو كلّيّ القدرة. لماذا لا يمنع؟ أمّا نحن فنقول: يسمح. وفي النهاية يخرج الخير من الشرّ. هل نرضى بهذا الجواب؟ كلاّ. كما لا نفهم حين تكون الزلازل والفيضانات. ومع ذلك نحاول أن نعمل لكي نساعد المحتاجين.

ولماذا قتل صموئيل أجاج؟ باسم العدالة، بعد أن تخلّى شاول عن دوره. والسبب؟ »حرَمَ سيفُك (يا أجاج) النساء من أولادهنّ، فتُحرَم أمّك من أولادها« (1 صم 15: 33). وإيليّا أراد قتل أنبياء البعل، لكي ينزع الشرّ من وسط الجماعة، ولكنّه في الواقع ما استفاد في شيء. فنبت أنبياء آخرون وكهنة في خدمة البعل. تحمّس قنحاس فقتل الشرّ. كان عمله اندفاعًا ونزوة. وموسى الذي قتل المصريّ المتسلّط سوف يهرب، لأنّه علم أنّ جريمته كبيرة، وتستحقّ الموت على يد فرعون. هو أسلوب يحيّرُنا في الكتاب المقدّس. فيبقى أن نقرأ كلَّ مقطع بمفرده، لنستخلص منه العبرة قبل أن نحكم على أمور لا وسائل لنا للحكم عليها.

»لا تقتل«، وصيّة قديمة منذ القدم. وهي حاضرة في أصل البشريّة. ولن تنتهي قبل نهاية البشريّة. في السماء الجديدة والأرض الجديدة، لن يكون مكان »للأوغاد والقتلة والفجّار«. ويواصل سفر الرؤيا (21: 8): »فنصيبُهم في البحيرة الملتهبة بالنار والكبريت«. نصيبهم »الموت الثاني«. أمّا المؤمنون فلهم فقط الموت الأوّل الذي يطلّ على الحياة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM