أكرم أباك وأمّك

 

أكرم أباك وأمّك

- أنا هو الربّ إلهك لا يكن لك آلهة سواي.

- لا تصنع لك تمثالاً.

- لا تحلف باسم الربّ إلهك باطلاً.

- اذكر يوم السبت وكرِّسه لي.

وصار السبت بالنسبة إلى المسيحيّين يوم الأحد. وتقول الوصيّة الرابعة في سفر الخروج (12: 20): »أكرم أباك وأمّك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك«.

1 - الوصيّة الرابعة صلة وصلٍ

تشكّل وصيّة إكرام الوالدين حلقة تربط أفعال العبادة ؟ بطرق معاملة القريب. فعندما سُئل يسوع عن أعظم الوصايا قال: أن تحبَّ الربّ إلهكَ بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك، والثانية تشبهها أن تحبّ قريبك مثل نفسك.

وإذا أردنا أن نضع الوصايا العشر في لوحتين، في عمودين، نقول فيما يتعلّق با؟: نحن نكرِّم اسمه، لا نعبد سواه، لا نصنع له تمثالاً ولا صورةً، لا نحلف باسمه، نذكر يوم السبت ونكرِّسه له. وفي العمود الثاني، نقول ما يتعلّق بمحبّة القريب، لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد على غيرك شهادة زور، لا تشتهِ بيت غيرك، لا تشتهِ امرأته. وما يصل بين اللوحة الأولى واللوحة الثانية هو إكرام الوالدين.

أكرم أباك وأمّك ليطول عمرك في الأرض، التي يعطيك الربّ إلهك.

إذا كنّا نكرّم الله، نمجّده، نعبده لأنّه أعطانا الحياة، فنحن في درجة ثانية نكرّم أبانا وأمّنا، نكرّم والدينا، لأنّهما أعطيانا الحياة. لا شكّ، بمشاركة الله بواسطتهما نلنا الحياة، بواسطتهما نعيش على هذه الأرض. والوصيّة هنا سوف تختلف عن التي بعدها:

في آ 13: لا تقتل. هي تنفي القتل.

في آ 14: لا تزنِ. تنفي الزنى.

في آ 15: لا تسرق. تمنع الزنى بأشكاله.

صيغة النفي والمنع في هذه الوصايا. أمّا هنا فالوصيّة هي إيجابيّة: أكرم أباك وأمّك. كما قلنا من قبل: اذكر يوم السبت وكرّسه لي.

هو نداء أوّل يدعونا إلى الإيمان با؟ والاتّكال عليه ومحبّته. وقال النداء الثاني. لا تحلف باسم الله باطلاً. والنداء الثالث، قدِّس يوم الربّ. يوم الربّ مكرَّس للربّ فلا تستعمله لأيّ شيء آخر.

ثلاثة نداءات من عند الربّ: نداء إلى الإيمان، إلى عدم الحلف، إلى تقديس يوم الربّ. وبعد الوصيّة الرابعة ترد تلك التي تمنعنا عن القتل والسرقة والزنى. لا تقتل، لا تسرق، لا تزن. أمّا وصيّة إكرام الوالدين فتكون بصورة إيجابيّة، أكرم أباك وأمّك.

2 - إكرام الأب والأمّ معًا

نلاحظ هنا أباك وأمّك، مع العلم أنّ الرجل كان هو البيت، والجميع يطيعونه. لكن وُضعت الأمّ على مستوى الأب، كما في بداية الخلق: خلق الله الإنسان على صورته ذكرًا وأنثى. رجلاً وامرأة خلقهم وقال لهم: انموا واكثروا واملأوا الأرض. إذًا إكرام الأمّ على مستوى إكرام الأب. وحين تتحدّث الوصيّة عن هذا الإكرام فهي لا تضع له حدودًا. كلاّ، كلّ حدود يعني حدودًا لوصيّة الله، حدودًا لأوامر الله.

طاعة على مستوى الطفل لوالديه، على مستوى الصبيّ، كما الإكرام على مستوى الكبير لوالديه. كلّ هذا لا حدود له. وهذا الاكرام الذي نقدّمه لوالدينا، إنّما هو امتداد يرتبط بذلك الذي نقدّمه إلى الله. فالوالدان هما أساس حياتنا بعد الله، هما المعلِّمان لنا، والمرافقان لنا، والمهتمّان بنا.

علاقتنا بهما علاقة اللحم والدم. أخذنا جسمنا، لحمنا، دمنا، عقلنا من والدينا. علاقتنا بهما علاقة الأبّوة والأمومة. الأب بحزمه وحضوره، والأمّ بعطفها وحنانها. هذا ما أخذناه كلّه من والدينا. وأخيرًا علاقة الفكر والعقل والإيمان. فالإيمان يمرُّ في الآباء إلى البنين. وفي الشعب العبرانيّ الأمر واضح، على الأهل أن يعلّموا أولادهم الإيمان، العقيدة، أن يعلّموهم معنى الأعياد. أن يقرأوا أمامهم الكتب المقدّسة. مع والدينا نتعلّم أوّل كلمة نرفعها إلى الله. نتعلّم أن نقول: يا ربّ، يا الله، يا يسوع. مع والدينا نتعرّف كيف نتقابل مع الناس. منهما نأخذ التقاليد، والعادات التي تُدخلنا في المجتمع، ولا سيّما على مستوى الكلام. نتعلَّم الكلام في البيت الوالديّ، مع أمّنا وأبينا. وحياتنا كلُّها مرتبطة بوالدينا، نحتاج إلى مال، فأمّنا وأبونا هما هنا. نحتاج إلى نصيحة هما هنا. نحتاج إلى عناية خاصة، إلى تضحية، هما هنا.

أكرم أباك وأمّك: تتوجّه هذه الوصيّة إلى الصغار والكبار. يعني الكبار لا يُعفون من إكرام الوالدين، وكم نرى من مآسٍ في هذا المضمار. لا شكّ في أنّ الصغير يحاول أن يتبع والدَيه، أن يسمع لهما، أن يتبع مشورتهما وهذا أمرٌ طبيعيّ، فهو في طور البناء، في طور تكوين شخصيّته. ولكن الكبير أيضًا يكرّم والديه. خاصّة عندما يكبران في السنّ، يمرضان، يحتاجان إلى عناية. هنا تأتي الوصيّة بشكلٍ سلبيّ، أو هي تحمل تحذيرًا وتهدِّد بالعقاب.

3 - الوجه السلبيّ في الوصيّة

في هذا المجال نسمع كلام الربّ. مثلاً سفر الأمثال يقول: من لعن أباه وأمّه، انطفأ سراجه وسط الظلمات. ويتابع سفر الأمثال عن اللعنة فيقول: أحبّ اللعنة فأدركته. ما أراد أن يُبارك، فابتعدت عنه البركة. أهلُنا هم الذين يحملون إلينا البركة. فإن حملنا إليهم اللعنة، استحققنا كلّ عقاب. ويُبرز أيضًا سفر الأمثال موقف الإنسان الذي يزدري بوالديه، ويحتقرهما. الإنسان الذي يستهزئ بالأب ويرفض الطاعة الواجبة للأمّ، تفقأ غربانُ الوادي عينه وتأكله النسور. ويتابع كلامه: اسمع لأبيك الذي ولدك ولا تستهن بأمّك إذا شاخت. والأمثال عديدة في حياتنا، في تعاملنا مع والدينا. أمّا أسفار الشريعة الخمسة، خصوصًا الخروج، اللاويّين، العدد، التثنية، فستكون قاسية بالنسبة إلى الأبناء الذين يعاملون والديهم معاملة سيّئة.

كم نحتاجُ إلى أن نسمعَ مثل هذا الكلام، يقول النصّ: من ضرب أباه وأمّه فليُقتل قتلاً. نعم يُقتل قتلاً. من لعن، من شتم، من سبَّ أباه وأمّه فليُقتل قتلاً. العقاب قاسٍ، وهو على قدر الإكرام الواجب للوالدين. إذا كان العقاب بهذه القساوة، فهو يفهمنا أهمّيّة إكرام والدينا.

كيف يتجاسر الواحد أن يشتم والديه ويضربهما؟ من يفعل مثل هذا يكون مريض الجسم، أو مريض العقل، وربّما مريض النفس، وشريك الخطأة واللصوص كما يقول الكتاب المقدّس. وهناك حالة يحدّثنا عنها الكتاب المقدّس: هذا ولد متمرّد يرفض أن يسمع لوالديه ويطيعهما. يحاولان أن يعيداه إلى طريق الصواب، وإلاّ يقدّمانه أمام محكمة الشيوخ، الذين يحكمون عليه بالإعدام. نلاحظ هذه القساوة الكبيرة. ولكن هذا يفرض أنّ الأهل حاولوا أن يُعيدوا ابنهم إلى طريق الصواب. نتذكّر في هذا المجال ما قاله يسوع عن العقاب الأخويّ في إنجيل متّى (18: 15): إذا أخطأ أخوك فعاتبه بينه وبينك. ثمّ تعالَ بشاهدٍ أو شاهدَين، ثمّ قل للكنيسة.

أجل، هذا وضعُ الولد المتمرّد. يحاول الوالدان أن يعيدانه إلى الله، فإن رفض يُسلَّم إلى المحكمة. والمحكمة تحكم عليه بالإعدام.

4 - الوجه الإيجابيّ

في هذا المجال نسمع في حياة القدّيسين ما قالته ملكة فرنسا لابنها: يا ابني أفضّل أن أراك ميتًا على أن ترتكب خطيئة واحدة مميتة. فالأهل مسؤولون عن أولادهم، يحاولون أن يردّوهم إلى الطريق المستقيم. والأهل هم الذين ينقلون الشريعة وكلام الله من جيل إلى جيل. أخذوه من والديهم، ويقدّمونه إلى أولادهم، قال موسى: اجعلوا كلماتي هذه في قلوبكم، علِّموها لبنيكم، تقدّمونها لهم إذا جلستم في بيوتكم، أو مشيتم في الطريق، وإذا نمتم، وإذا قمتم، أي قبل قيامكم وبعد نهوضكم من النوم. وإن فعلتم هكذا تكثر أيّامكم، تطول حياتكم وأيّام بنيكم على الأرض.

أجل، إذا حمل الوالدون كلام الله، طالت أيّامهم. وإذا سمع الأبناء لوالديهم، طالت أيّامهم. هذا ما يعود بنا إلى الوصيّة الرابعة: أكرم أباك وأمّك لكي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك.

كلامٌ قاله الربّ لموسى على الجبل، جبل سيناء. فالمجازاة هي في البداية مادّيّة. يكون عمرك طويلاً، ترافقك البركة، تزداد خيراتك في أرضٍ تُقيم فيها. ولا يطردك منها أحد. ولكن أبعد من الأمور المادّيّة، هناك عطيّة أخرى هي رضى الله علينا. فإذا كانت الأرض فردوسًا، جنّة، بسبب حضور الله فيها، فالأرض التي يعطيها الربّ لا تكون مادّيّة فقط. فالسعادة أبعد من طعامٍ وشراب. وحياة الإنسان لا تقوم فقط بخبزٍ نأكله، بل بحفظ كلام يخرج من فم الله. هذه الوصيّة إذًا، رافقها وعدٌ بطول العمر للوالدين كما للأولاد.

حتّى إذا تركنا، أحبّائي، مستوى الله ومستوى الإيمان، نفهم أنّ حياتنا تكون متجانسة، متألّقة، هادئة، بين الأهل والأولاد. عندئذ لا يمكن إلاّ أن تطيل عمر الرجل وعمر المرأة كما تطيل عمر الأولاد.

5 - مجِّد والديك

بناتًا كانوا أم صبيانًا، أكرم أباك وأمّك. والنصّ الأصليّ يقول: مجِّد أباك وأمّك، يعني بيّن أهمّيّتهما. كم من إنسان يستحي من والديه، خصوصًا إذا علّماه وكبُر، حينئذ ينسى أنّه إن كبُر فلأنّ والديه ضحّيا بالكثير من أجله. مجِّد أباك وأمّك، بيِّن أهمّيّتهما، لهما وزنٌ في عين الله، فليكن لهما وزن في عينيك. مهما كبرتَ لن تكون أعظم من أبيك، ومهما نميتِ لن تكوني أعظم من أمّك.

لهما وزن في عين الله، هما أداة في يد الله، عملُهما امتداد لعمل الله، كأنّي بالله أراد أن يحيينا من خلال والدينا، أن يعطف علينا من خلال عطف والدينا، أن يحنَّ علينا من خلال حنان والدينا، أن يعظَنا، أن يرافقنا، أن يشجّعنا، أن يقوّينا، أن يعلِّمنا. هما يحلاّن محلّ الله. دورهما كبير جدٌّا، هما شريكان لله في إعطاء الحياة. ليس فقط هذه الحياة المادّيّة، ولكن الحياة الاجتماعيّة والحياة الروحيّة، وكلُّ مناحي حياتنا اليوميّة هي عطيّة من والدينا.

إذًا الوالدان عظيمان في نظر الربّ، فليكونا عظيمين في عينيك أيّها المؤمن، وخاصّةً يوم لا تحتاج إليهما بل يحتاجان هما إليك.

نكون صغارًا نحتاج إلى والدينا، نكبر يحتاج والدانا إلينا، وهنا يعطينا الإنجيل ذريعة اخترعها الفرّيسيّون والكتبة لئلاّ يساعد الابن والديه بحيث لا تكون لهما حصّتهما من المال. ماذا يفعل الإنسان؟ يقدّم الأموال الضروريّة لحياته في الهيكل. كان يمكن أن يعطيها لوالديه، فقدّمها للهيكل ليستفيد منها وحده دون والديه.

كأنّ الربّ يريد أن يأكل، كأنّ الربّ يريد أن يشرب، كأنّ الربّ يريد أن يلبس. كلاّ، فحين نساعد والدينا فكأنّنا نساعد الله، وحين نكرِّم والدينا نكرّم الله، وإذ نمجّد والدينا نمجّد الله. إذًا اخترع الفرّيسيّون هذا القانون حتّى لا يساعد الإنسان والديه.

6 - واجباتنا اليوم

ونحن اليوم. ذرائعنا كثيرة لكي ننسى والدينا، نهملهما أو لا سمح الله، نعاملهما معاملة سيّئة. وننسى البركة التي يحملانها لنا ولو كانا شيخين، يحملانها حتّى بعد موتهما. فهما حاضران معنا بعد الموت، والأب لا يترك ابنه، والأمّ لا تتخلّى عن ابنتها. كلّ هذا يدعونا إلى إكرام والدينا، إلى محبّتهم، إلى احترامهم، إلى الاهتمام بهم، إلى اعتبارهم بركة لنا حتّى على المستوى المادّيّ.

هنا يدعونا يشوع بن سيراخ لنفهم الوصيّة المتعلّقة بالوالدين، يا بَنيّ، اسمعوا لنصائح أبيكم واعملوا بها لكي تخلصوا، فالربّ يُكرم الأب في الولادة، ويُثبت حقّ الأمّ على بنيها، من أكرم أباه كفّر عن خطاياه. ومن عظّم أمّه كان كمن يجمع الكنوز. من أكرم أباه سُرَّ بأولاده، وفي يوم صلاته يستجابُ له. من عظّم أباه طالت أيّامه، ومن أطاع الربّ أراح أمّه. نلاحظ هذه العلامة: إن أكرمنا والدينا، أكرمَنا أبناؤنا وبناتنا، كأنّي على مستوى شريعة المثل: من يعرف أن يُكرم والديه يوصل له الربّ من يُكرمه من أبناء وبنات. هذه الوصيّة نداء من الله إلى الأبناء.

وردت هذه الوصيّة في العهد القديم وردَّدها العهد الجديد. شدّد يسوع على أهمّيّة إعانة الوالدين، خاصّة في حاجتهما. فالأقرب إلى المعروف هم الأقرب إلينا. إذا أردنا أن نساعد من يحتاج، فأوّل من نساعده هما الوالدان. والقدّيس بولس قال في خطّ سفر التثنية: أكرم أباك وأمّك، تلك أوّل وصيّة يرتبط بها وعدٌ، وهو لتنال خيرًا وتطول أيّامك على الأرض. نعم هكذا شرح القدّيس بولس هذه الوصيّة، واعتبرها مهمّة بعد أن ربطها الله بوعدٍ من عنده. فكأنّي بالربّ تعاهد مع الوالدين، وطلب منّا نحن الأبناء أن ندخل في هذا العهد. وهذه الوصيّة التي هي نداء من الله إلى الأولاد، هي أيضًأ نداء من الله إلى الوالدين. قال مار بولس أيضًا: وأنتم أيّها الآباء لا تثيروا غضب أبنائكم، بل ربّوهم حسب وصايا الربّ وتأديبه.

هناك واجبات على الأولاد تجاه والديهم، وهناك واجبات على الوالدين تجاه أبنائهم وبناتهم. فالواجبات متبادلة، والجميع يجب أن يصلوا إلى من هو الآب السماويّ. لذلك يقول يسوع: لا تدعو في الأرض أبًا لكم، فأبوكم واحد وهو الآب السماويّ. أبونا، أمّنا يستحقّان هذا اللقب بقدر ما يكونان في خطّ الله الآب الذي يحبّنا، ويرسل ابنه كفّارة عن خطايانا. محبّة الوالدين لأولادهم هي أعظم وسيلة لكي يكون الإكرام متبادلاً من الوالدين إلى الاولاد ومن الأولاد إلى الوالدين. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM