الإله الخالق والإله العادل

الإله الخالق والإله العادل

مزمور33

1 - المقدّمة

أحبّائي، قراءتنا للمزامير قراءة صلاة. ونحن نتابع قراءة المزمور 33. بدأنا به في الحلقة السابقة ونحن نتابعه اليوم. هذا المزمور الذي عنوانه اليوم، الإله الخالق والإله العادل، نعيد قراءة القسم الأوّل الذي تأمّلنا به فيما مضى. إذًا مزمور 33.

رنّموا للربّ أيّها الصدّيقون... ونيّات قلبه إلى جيل بعد جيل. هذا القسم من المزمور، القسم الأوّل من آية 1 إلى آية 11. جعلَنا أمام الله الذي يجب أن نرنّم له، أن نهلّل، أن نرتّل له، أن ننشد. هذا الإله خلق الكون وهكذا دلّ على قدرته. وبالتالي خلقنا، خلق كلّ واحد منّا. جعلنا في خطّ الصدق بين الصدّيقين، في خطّ الاستقامة مع المستقيمين. هذا الإله غمرنا برحمته وأرانا عظائم أعماله.

فما قرأناه في بداية سفر التكوين، نجده هنا بشكل صلاة نرفعها إلى الربّ. هذا الربّ الذي يرينا عظائمه فنتعلّم المخافة. لا مخافة العبيد، فنحن مع يسوع المسيح لسنا بعبيد. بل نحن أحبّاؤه. المخافة هي التي تجعلنا نكتشف حضور الله. حضور الله وغيابنا. قداسة الله وخطيئتنا. قدرة الله وضعفنا. هذه المخافة تعلّمنا أن نكون مكاننا. أن لا نحاول أن نرتفع إلى مستوى الله

منذ البداية، منذ آدم وحواء، أراد الإنسان أن يكون مثل الله، أن يكون الله. مع برج بابل أراد أن يرتفع إلى السماء، أن يصل إلى موطن الله أاراد أن يتحدّى الله في عقر داره. لماذا؟ لأنّ مخافة الربّ غابت من قلبه. لم يعد من وجود لمخافة الربّ. وهذا المزمور مزمور 33 الذي يتلوه أحد الحكماء ينطلق من المقولة: «رأس الحكمة مخافة الله ».

2 - رأس الحكمة مخافة الله

إذا أردنا أن نكون حكماء، بالحكمة الحقيقيّة، نبدأ فنخاف الربّ. نخاف فنلتجئ إلى الربّ. أجل نحن بقدرتنا لا نستطيع شيئًا. وقدرتنا هي في الواقع ضعفنا. ماذا نستطيع أن نفعل في هذا العالم الوسيع؟ ليس فقط على الأرض بل في السماوات، بكواكبها، بنجومها، بكلّ الخلائق التي فيها. الإنسان أضعف من أن يتصرّف بالأرض، من أن يتصرّف بالكواكب.

الربّ هو الذي يعطيه هذه النعمة. وما أجمل الإنسان الذي يعرف في النهاية أن يستجير بالربّ، أن يخاف الربّ، أن يعرف أنّ كلّ موهبة فيه إنّما هي من الربّ. أنّ قدرته على الخلائق، إنّما هي من قدرة الربّ. أنّ فعله على الأرض هو جزء من فعل الربّ.

شكرًا لك يا ربّ كم ترفعنا، كم تقوّينا، كم تجعلنا شبيهين بك. في الكتاب المقدّس مرّات عديدة نراك تريد أن تتشبّه بنا. يقال عنك: نزل الربّ، ندم الربّ، صنع الربّ، جبل الربّ... وكلّ هذه أفعال بشريّة: أردتَ أن تفعل أفعالنا، أن تعمل أعمالنا، لكي تجعلنا نفعل أفعالك ونعمل أعمالك. تجعلنا ننعم بحضورك، بقدرتك. ونتابع القراءة: الربّ هو سيّد الكون، هو الربّ الخالق. الربّ هو العادل، هو المستقيم بأحكامه. وبعد آ 12 يقول المرنّم: هنيئًا لأمّة إلهها الربّ... على قدر ما رجوناك.

3 - من وجهة نظر الله

أحبّائي، الله هو الخالق، الله هو العادل، الله هو الذي يهتمّ بخائفيه، يهتمّ بالذين يستجيرون به. أتراه يتوقّف عند التفاصيل، يضرب هذا ويرحم ذاك؟ كلاّ. الله أب، واهتمامه لا يتوقّف فقط عند الأشخاص، وإن كان يهتمّ بكلّ واحد منّا وكأنّه ابن وحيد له. ولكنّ الربّ ينظر إلى التاريخ. تاريخ الأمم اليوم: في الحاضر وفي الماضي وفي المستقبل. يحسب الناس أنّهم هم الذين يوجّهون التاريخ أنّهم هم الذين يوجّهون الأحداث. لا شكّ، على المستوى الخارجيّ. هم يشبهون موج البحر الذي يرتفع ويهبط ويُزبد ويرعب الناس، لكنّه في قراره، في أعماقه هادئ. هذا هو التاريخ من وجهة نظر البشر ومن وجهة نظر الله

البشر يتحرّكون، يقتلون، يحاربون، يبنون، يهدمون، يغرسون، يقلعون. ولكن في النهاية، الربّ هو الذي يصنع التاريخ. حتّى حياتنا بما فيها من شرّ وخير، من خطيئة وبرارة، حياتنا تمرّ في يد الله، تمرّ في غربال الله، في منخل الله لا يمرّ شرّ إلى مخطّط الله. فالله؟ يبني حياتنا، يبني الأنا الذي فيّ من خلال أعمالي الصالحة، من خلال محبّتي، من خلال إيماني، من خلال رجائي. قد يكون للملك الجيوش الكثيرة، هذا لا يعني شيئًا. قد يكون للملك القوّة، الخيل، الفرسان، هذا لا يعني شيئًا. فالربّ هو الذي يوجّه التاريخ. مخطّطه يتجاوز مخطّطات البشر. وحياته لا يصل إليها أحد.

4 - هنيئًا لشعب ارتبط به

لهذا السبب يستطيع المؤمنون أن ينشدوا: هنيئًا لأمّة إلهها الربّ، لشعب اختاره ميراثًا له. لا شكّ في أنّ الربّ اختار جميع الأمم، لا شكّ في أنّ الربّ اختار جميع الشعوب. كلّهم أبناؤه، كلّهم خلائقه، كلّهم ميراثه. ولكن كيف نستطيع أن نفهم أنّ هذه الأمّة وهذا الشعب وهذا الإنسان اختاره الربّ؟ عندما يتجاوب مع هذا الاختيار. فاختيار الربّ لنا يجب أن يتجسّد في حياتنا، أعمالاً وأقوالاً وحضورًا وحياة.

هنيئًا لكلّ واحد منّا إن كان ميراث الربّ. والربّ بنظره يكتشف الأرض كلّها. يكتشف السماوات والأرض. يشبه قائد جيش أو ملك، يرى الأمور من بعيد، يرى الأمور من العلاء.

تقول الآية 14: يراقب من موضع سكناه جميع المقيمين في الأرض. هو فوق. يشرف على الجميع، على كلّ واحد، من موضع سكناه. فإن تنازل الربّ وأراد أن يمشي معنا على طرقاتنا، فهو يبقى ذاك الرفيع، ذاك الساكن في السماوات، الذي لا يقف على مستوى البشر وكأنّه واحد منهم.

لا نستطيع أن نعامل الله كما نعامل رفيقًا أو صاحبًا، فالربّ هو في السماوات. سماء السماوات للربّ والأرض أعطاها لبني البشر. لا شكّ في أنّ الربّ يقترب منّا، ولكن يجب أن نعرف دومًا أنّه هو الربّ ونحن البشر. لهذا كان الكلام عن عاطفة المخافة التي يجب أن تحرّك قلوبنا في حضرة الله.

الربّ ينظر من السماء فيرى جميع بني البشر. يراقب من موضع سكناه جميع المقيمين في الأرض، ينظر، يرى. لا شكّ، هو ينظر لكي يساعد. مثلاً، نظر آلامَ شعبه المستعبد في مصر، نظر فنزل لكي يخلّصهم. يَرى حياتنا، يرى أعمالنا، لا ليديننا فقط. هو سيّدي. كلّ إنسان بحسب أعماله. بل ليفرح بنا، ليفرح بنا فيما نعمله من خير، من جمال، من حبّ، من عطاء. يرى جميع بني البشر. يراقب من موضع سكناه جميع المقيمين في الأرض. ولكن هل ينظر الربّ إلى الخارج؟ هل يرى البشر كما يسيرون في الطرقات ويأكلون ويشربون وينامون؟ هو كذلك. ولكن أكثر من ذلك.

5 - لا بالقوّة البشريّة

تقول آية 5: يتصوّر قلوبهم. يعني يعرف خفايا القلوب، خفايا النفوس، خفايا النوايا. ويتبيّن أعمالهم كلّها. فما من عمل يفلت من نظره.

في آية 16: الملك لا يخلص بكثرة جيشه. فالجيوش العظيمة ليست بالتأكيد طريق الخلاص. هو يريد أن يقول: الله وحده يخلّص. وتتابع آية 16: ولا ينقذ الجبّارَ عظيم قوّته، مهما كانت قوّته عظيمة.

مهما كان الجبّار جبّارًا فقوّته لا تنقذه. في النهاية. الإنسان ضعيف ضعيف. ترى الرجل اليوم واقفًا ثابتًا منتصبًا، في الغد يمرض يصبح ضعيفًا وأضعف من الضعف. الجيوش لا تخلّص الملك آ (17) الخيل لا تقود إلى الخلاص وبشدّة عزيمتها لا تنجّي. كانوا يعتبرون الخيل من السلاح المهمّ. الخيل ومعه المركبات. حاول الملوك أن يهربوا، فما استطاعوا إلى الخلاص سبيلاً. ولو ركضت الخيل واشتدّت عزيمتها، فهي لا تنجّي الإنسان.

يحسب الإنسان أنّه يستطيع أن يفعل، أنّ له الغنى، له السلطان، له القدرة، له القوّة، له المال. ولكنّه ما يعتّم أن يكتشف أنّه ضعيف، أنّه يشبه زهر الحقل. اليوم يكون هنا وغدًا ييبس. عشب الحقل الذي يكون اليوم هنا وغدًا يُوضع في التنّور. أراد الملك، أراد الجبّار، أراد القويّ، أن يستغني عن الله. أمّا الضعفاء فيخلصون، لا بقدرتهم فلا قدرة لهم، ولكن برحمة الله، بعينِ الله عليهم.

في آية 18 يقول: عين الربّ على خائفيه، على الذين يرجون رحمته. نتخيّل عين الأمّ تنظر إلى ابنها الصغير يمشي. تلك هي عين الربّ. عين الربّ على خائفيه. الذين قبلوا أن يصيروا أطفالاً صغارًا بين يدي الربّ. الذين ما أرادوا أن يستندوا إلى إمكانيّاتهم، إلى قواهم. لا يستندون إلاّ إلى الربّ.

يهتفون معونتنا باسم الربّ. هو قدير جدٌّا. معونتنا باسم الربّ لأنّه صنع السماوات والأرض. عيون الربّ على خائفيه، على الذين يرجون رحمته. لا ينتظرون عدالته. فإن كان هو الإله العادل، لن ينالوا شيئًا. بل يرجون رحمته. كما ترحم الأمّ ابنها، وبقدر ما يكون ضعيفًا مريضًا بعيدًا تائهًا، تقوى رحمتُها بالنسبة إليه.

هكذا يفعل الربّ لينقذ نفوسنا من الموت، ويُبقي على حياتنا في الجوع. قد يجوع الأغنياء. ولكنّ المساكين، الربّ يحفظ حياتهم. وتنتهي الصلاة، ينتهي هذا المزمور بصلاة واثقة إلى الله. نفوسنا تنتظر الربّ، لا تنتظر الشرّ، لا تنتظر العظماء، لا تنتظر الأقوياء، لا تنتظر الأغنياء، تنتظر الربّ فهو عزيز وترس لنا. عندئذ به تفرح قلوبنا بعد أن توكّلنا على اسمه القدّوس.

وختام المزمور: فلتكن يا ربّ رحمتك علينا على قدر ما رجوناك. نرجو حضورك، نرجو رحمتك فلا تخيّب أملنا يا ربّ. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM