الربّ سيّد الكون والتاريخ

 

الربّ سيّد الكون والتاريخ

مزمور 33

أحبّائي، ما زلنا في مسيرتنا من خلال المزامير. المزامير صلاة شعب الله في كلّ زمان ومكان. هي ينبوع لا ينضب، ويمكن أن نغرف منها ساعة نشاء. غنًى كبير جدٌّا يقدّمه لنا الربّ من خلال خبرة الناس الذين عاشوا هذه الصلوات. واليوم مزمورنا مديح، المرتّل يمتدح الله، المرتّل يشكر الله لأنّه يعتني بالكون وبالبشر. هذا المزمور نسمّيه «مزمور أبجدي» لأنّ فيه 22 آية على عدد حروف الأبجديّة العبرانيّة. أبجد، هوّز، حطّي، كلمن، سعفص، قرشت.

22 آية بحسب الحروف الأبجديّة. لأنّ الحروف الأبجديّة تتضمّن كلّ الكلمات التي يمكن أن نقولها أمام الربّ الإله. إذًا نقرأ المزمور 33: رنّموا للربّ أيّها الصدّيقون... على قدر ما رجوناك.

1 - الإله الخالق والمخلّص

أحبّائي، قرأنا المزمور 33: الربّ سيّد الكون والتاريخ. هو كما قلنا مزمور مديح، مزمور إنشاد وشكر. من الذي أنشده؟ أوّل من أنشده، أحد معلّمي الحكمة. وماذا أراد أن يقول فيه؟ كما أنّ كلمة الله خلقت كلّ شيء في سفر التكوين، كذلك تبدو حكمته في هذا المزمور.

في بداية سفر التكوين، قال الله ليكن نور، فكان نور. ورأى الله أنّ النور حسن، وكان مساء وكان صباح. هكذا خُلقت الكائنات كلّها بكلمة من الربّ: قال فكان كلُّ شيء.

وهذه الحكمة أوحت إلى البشر بمخطّط الله في الكون وفي التاريخ. ليس فقط في الكون مع مخلوقات ربّما جامدة أو لا روح فيها، ولكن في التاريخ مع ما تعيشه البشريّة على مدى الأزمان. ينطلق المرتّل من الهيكل فيتذكّر في الماضي ما بناه الله الخالق والمخلّص. وينظر إلى المستقبل حيث يخلق الله أرضًا جديدة وسماء جديدة بعد زوال السماء الأولى والأرض الأولى كما يقول سفر الرؤيا. في مزمورنا هذا، نمتدح الله الخالق، نمتدح الله المخلّص. نمتدحه في البداية بعد ما صنع ما صنع. ورأى أنّ ما صنع حسن جدٌّا. وننظر إلى النهاية، ساعة يخلق الأرض الجديدة والسماء الجديدة. ونبدأ في قراءة المزمور والتوقّف عند كلماته. من 1 - 3. هي مقدّمة يتلوها الكاهن، ونقرأ المقدّمة.

2 - رنّموا للربّ

آية 1: رنموا للربّ أيّها الصدّيقون، فالتهليل يليق بأهل الاستقامة. هو الكاهن يدعو المؤمنين أو اللاويّين، يدعو المؤمنين إلى الترنيم. يدعو المؤمنين إلى التهليل. رنّموا للربّ. ومن يقدر أن يرنّم للربّ؟ لا الخاطئ. فالخاطئ مشغول بخطيئته، هو يطلب التوبة، هو يحتاج العودة إلى الربّ.

الصدّيقون هم الذين يرنّمون. والربّ يقبل ترنيمهم. رنّموا للربّ أيّها الصدّيقون، فالتهليل يليق بأهل الاستقامة. الصدّيق هو الصادق مع الربّ. الصدّيق هو البارّ، لا يلوي شمالاً ولا يمينًا. إذا كنّا صدّيقين، إذا كنّا من أهل الاستقامة، يحقّ لنا أن نرنّم،يحقّ لنا أن نهلّل.

ويتابع في الآية 2: احمدوا الربّ بالكنّارة، وبعود من عشرة أوتار رتّلوا له. دائمًا صيغة الأمر، رنّموا، احمدوا، رتّلوا، أنشدوا، أحسنوا. هو الأمر. الكاهن يأمر الجماعة لكي تشاركه في المديح، تشاركه في فعل الشكر. احمدوا الربّ بالكنّارة، آلة موسيقيّة وبعود من عشرة أوتار. العود يكون بخمسة. هذا العود هو عود في عودين، حتّى يصير الترتيل والحمد أجمل، رتّلوا له.

آية 3: أنشدوا له نشيدًا جديدًا، وأحسنوا النغم التنغيم مع الهتاف. المؤمن، كلّ يوم نشيده جديد. لا يمكن أن يكرّر اليوم ما قاله البارحة وقبل البارحة. وإلاّ يصبح آلة، آلة تتحرّك. لا حياة فيها ولا روح، كلاّ. بما أنّ كلّ يوم عندنا خبرة خاصّة مع الله، ففي كلّ يوم نستطيع أن ننشد له النشيد الجديد. أنشدوا له نشيدًا جديدًا، وأحسنوا التنغيم مع الهتاف.

3 - من أجل عمله الخلاصيّ

لا شكّ، عمل الخلاص الذي قام به الربّ، هو بعيد في الزمن. سواء على مستوى العهد القديم مع الخروج وما تبعه من خلاص. أو مع العهد الجديد مع موت يسوع وقيامته في نهاية حياة من الرسالة . لهذا السبب يجب أن نجدّد نشيدنا وهو يتجدّد في الليتورجيا.

أحسنوا التنغيم مع الهتاف، هلّلويا. يعني أنشدوا الربّ، هوشعنا يا ربّ. خلّص. أنت الربّ، أنت المسيح، أنت المسيح ابن الله الحيّ. كلّ هذا إنّما هو هتاف. نهتف به إلى الربّ، نعلن إيماننا، نعلن تعلّقنا بالربّ. كما نقول أمام شخص عظيم. يعيش، ليحيَ الملك. هذا ما نقوله للربّ عندما نهتف له. هكذا هتف له الأولاد يوم الشعانين: مبارك الآتي باسم الربّ، هوشعنا في العلى، مبارك الآتي باسم الربّ. ترنيم وتهليل، حمد وترتيل، إنشاد ونغم، كلّ هذا من أجل الربّ. ولماذا؟ أوّلاً لأنّه الخالق.

من آية 4 إلى آية 9، نبدأ فنرى هذا الإله الذي نُنشد. كلام الربّ مستقيم وكلّ أفعاله حقّ. عندما يتكلّم الربّ يتجاوب مع كلامنا. وإذا كنّا نحن من أهل الاستقامة، فلأنّ كلام الربّ سبق وكان لنا كلام الاستقامة. كلام الربّ مستقيم وكلّ أفعاله حقّ، صدق، لا كذب فيها لا سمح الله نحن بعيدون عن هذا الإله الذي ينتقم من المؤمنين، ينتقم من الناس، ينتقم من الخطأة. إلهنا، إله الرحمة، إلهنا إله الحنان.

4 - العدل والإنصاف

لهذا نقرأ في آية 5: يحبّ العدل والإنصاف، ومن رحمته تمتلئ الأرض. العدل والإنصاف. هذا الذي لا نجده على الأرض، نجده عند الربّ، الربّ هو الديّان العادل. هو الذي يجازي كلّ إنسان بحسب أعماله. يكون الربّ عادلاً ولكن عدالته مطبوعة بالرحمة.

لهذا السبب بعدما قلنا يحبّ العدل والإنصاف نقول: ومن رحمته تمتلئ الأرض. نحن نعيش في رحمة الربّ. نحن نعيش في حنان الربّ. إذا أراد الربّ أن يعاملنا بحسب خطايانا، فما من أحد يخلص. ولكنّ رحمته هي التي تفعل، حنانه يفعل، محبّته تفعل. ونحن نستند إلى هذه الرحمة، إلى هذا الحنان، إلى هذه المحبّة، لنتابع الطريق مع الربّ رغم الصعوبات، رغم الأشواك، رغم الصلبان التي تعترض حياتنا. نحن نتّكل لا على قدرتنا ولا على برّنا، بل على رحمة الله بالنسبة إلينا.

5 - الخلق

ونتابع، أحبّائي، في هذا الفصل آية 6 عن الخلق: بكلمته صُنعت السماوات. هناك نصوص في الكتاب المقدّس تتحدّث عن عمل الله. مثلاً يقول عن الإنسان. جبل الله الإنسان ترابًا من الأرض. أو: صنع النيّرين. هنا الكلمة. الربّ بكلمته. وصيغة المجهول: صُنعت. يعني الله هو الذي صنع السماوات بكلمته. هو لا يحتاج أن يفعل بيديه. كلمته كافية. بل أكثر. نسمة من فمه تكفي حتّى تصنع كلّ الأفلاك.

بكلمته صُنعت السماوات وبنسمة من فمه كلّ أفلاكها. في التقليد السريانيّ نقرأ كلمة «رمزو» إشارة صغيرة، غمزة من العين، تكفي حتّى تخلق الأرض كلّها. كلّ هذا يدلّ على عظمة الله، على قدرة الله، على فاعليّة حضوره، فاعليّة كلمته، فاعليّة أصغر إشارةٍ من إشاراته.

يكوّم مياه البحر كالتلّ، ويجعل الأعماق مستودعًا للغمر. مياه البحر يكوّمها كما يكوّم الولد الحجارة. كما يكوّم الفلاّح التبن أو القمح، الربّ يكوّم مياه البحر. البحر مركز الشرّ الذي يخاف منه الناس. يتعامل معه الربّ كأنّه بعض القمح. يكوّمه تلالاً تلالاً. ويجعل الأعماق مستودعًا للغمر. والغمر هو المياه الكثيرة. فإن لم تكن الأعماق مستودعًا للغمر، فكيف تخرج العيون؟ فكيف تخرج الينابيع؟ فكيف تتغذّى الأنهار؟

هذا هو الربّ بقدرته على المياه. بعد أن صنع السماوات، بعد أن صنع الأفلاك، وجّه عمله أيضًا إلى البحار. آية 8 لهذا يقول: خافي الربّ يا كلّ الارض، استجيروا به يا كلّ أهل الدنيا. صارت الأرض كأنّها إنسان حيّ. أو كأنّي به يقول: خافوا الربّ يا كلّ سكّان الأرض. استجيروا به يا كلّ أهل الدنيا. والمجير يعمل، عندما يكون الإنسان في خطر: يطلب المستجير أن يحميه أحد. والأرض كلّها والدنيا كلّها هي في خوف وهي تطلب الحماية، الحماية من الربّ.

6 - قال فكان

وهنا تأتي الكلمة المهمّة جدٌّا: قال فكان. آية 9: قال فكان. يكفي أن يقول الربّ فيكون كلّ شيء. يكفي أن يأمر الربّ، أن يوصي. عندئذ تتكوّن كلّ الكائنات، تثبت كلّ الكائنات. هذا هو عمل الله الخالق. لا شكّ. ما زلنا نحن هنا على مستوى العالم القديم الذي لم يكن يعرف ما نعرف نحن على مستوى العلم: الكواكب، الأفلاك، النجوم. كلّ هذا، أصبح عندنا معروفًا بعد أن وصلنا إلى القمر. لهذا نستطيع أن نسبّح الربّ تسبحة أجمل.

هذا ما فعله صاحب الفضاء لمّا صعد. ماذا أنشد؟ في البدء خلق الله السماوات والأرض. اقترب من القمر فما عاد له أن ينشد سوى الله الخالق. بكلمته صنعت السماوات، وبنسمة من فمه كلّ أفلاكها، يكوّم مياه البحر كالتلّ ويجعل الأعماق مستودعًا للغمر. خافي الربّ يا كلّ الأرض، استجيروا به يا كلّ الدنيا، لأنّه قال فكان كلّ شيء، وأوصى فثبّت كلّ كائن.

7 - الإله العادل

بعد الكلام، أحبّائي، عن عمل الله الخالق. ننتقل إلى عمل الله العادل. سبق وتحدّثنا عن هذا الإله العادل في آية 4 وآية 5. كلام الربّ مستقيم. يكفي أن يحكم ليكون حكمه مستقيمًا. كلّه استقامة. كلّ أفعاله حقّ. هو بعيد كلّ البعد عن كذب الإنسان. ويتابع: يحبّ العدل والإنصاف. هذا هو إلهنا الإله العادل.

في آية 10: الربّ يُبطل مشورة الأمم، ويقاوم ما تنويه الشعوب. هو كلّيّ القدرة، هو يسمع إلى الصدّيقين، يسمع إلى أهل الاستقامة، يسمع إلى المؤمنين. لكن حين تريد أن تفعل الأمم الوثنيّة، الشعوب الوثنيّة، فهو يبطل مشورتها، فهو يقاوم نواياها، لا يسمح لها أن تتابع ما بدأت به. مشورة الأمم باطلة أمّا مشورة الله فتثبت إلى الأبد. الربّ يبطل مشورة الأمم ويقاوم ما تنويه الشعوب.

مشورته تثبت إلى الأبد، ونيّات قلبه إلى جيل بعد جيل. تَحسب الأمم، يَحسب العظماء، الملوك، قوّاد الجيوش. يحسبون أنّهم هم الذين يوجّهون الكون، يوجّهون العالم، يوجّهون التاريخ. لا، كلاّ ثمّ كلاّ. مشورتهم باطلة ونواياهم يقاومها الربّ. وحدها مشورة الربّ تثبت إلى الأبد.

ما وضعه من مخطّط يثبت إلى الأبد. ما قصد هو الذي يتمّ، ونيّات قلبه إلى جيل بعد جيل. عندما نعرف أنّ الربّ نظر إلى المسكونة قبل إنشاء العالم، نظر إلى كلّ واحد منّا قبل أن يولد في حشا أمّه، نفهم أنّ ما يشير به الربّ، ما ينويه الربّ، هذا هو الذي يتمّ.

نعم حياتنا في يد الربّ، تاريخنا في يد الربّ، مسيرة العالم في يد الربّ. هذا هو فعل الإيمان الذي يجب أن نتلوه يومًا بعد يوم. الذي يجب أن نعيشه يومًا بعد يوم. الربّ القدير يكفي أن يقول فيكون. يكفي أن يأمر فيكون. كلمته كافية، إشارته كافية، نسمة من فمه كافية حتّى تُكوَّن الخلائق وتُجعَل الكواكب في أماكنها.

شكرًا لك يا ربّ، ومدحًا لك يا ربّ. أنت يا سيّد الكون، أنت أيّها الربّ الخالق، أيّها الربّ العادل، لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM