نعمة الغفران

نعمة الغفران

مزمور 32

أحبّائي، قراءتنا للمزامير نعمة كبيرة. هي نعمة كبيرة لأنّ الصلاة تجعلنا نرافق الله والصلاة تساعدنا على تقبّل غفران خطايانا. والمزمور 32 هو مزمور ننال فيه نعمة الغفران. إذًا عنوان هذا المزمور هو: نعمة الغفران. ونبدأ فنقرأه:

هنيئًا لمن نُسيَت معصيته... ورنّموا يا جميع مستقيمي القلوب.

1 - هنيئًا لمن نُسيَت معصيته

قرأنا، أحبّائي، المزمور 32 الذي عنوانه نعمة الغفران. هذا المزمور هو مزمور توسّل، تضرّع، طلب. من ينشده؟ أحد التائبين. خطئ إلى الربّ وتاب عن خطيئته. وهو تأكّد أنّ الربّ غفر له خطيئته. فشكر للربّ خلاصه.

ويسأل كلّ واحد منّا: كيف علم هذا المؤمن أنّ خطيئته غُفرت؟ يمكن من الخارج أن يكون قدّم ذبيحة عن الخطيئة، في الهيكل. قدّمها للكاهن، ذبحها الكاهن، وقال له: امضِ الآن بسلام، غُفرت لك خطيئتك. أو يمكن أن يأتي نبيّ ويقول له: لا تخف، على مثال ما طلب نعمان الآراميّ حين شفاه أليشاع النبيّ.

نعمان الآراميّ اعتاد أن يرافق الملك إلى هيكل أصنامه، إلى هدد رمّون وغيره من الآلهة. فقال لأليشاع: أيحقّ لي بعد اليوم أن أرافق ملكي؟ أجابه النبيّ: اذهب بسلام. أنت شُفيت من مرضك. أنت فهمت من هو الربّ، وما هي قدرته، لا تخف، تابع طريقك. شُفي نعمان وفي الوقت عينه غفرت خطيئته حين أعلن أنّ الربّ وحده هو الإله الذي يفعل.

قد يأتي كاهن، قد يأتي نبيّ وهناك علامة خارجيّة عن شفاء مؤمن بسبب الارتباط بين الخطيئة وبين المرض أو أيّة مصيبة من المصائب. عندما يقع الإنسان في المرض يعتبر نفسه خاطئًا.

2 - طريق الربّ ولغته

ذاك هو طريق الربّ، تلك هي لغة الربّ حين يريد أن يكلّمنا. ونقول هنا ما قلناه مرارًا: لا ارتباط بين خطيئة اقترفتُها اليوم ومرض محدَّد (مثلاً كسرت يدي نهار غد) كلاَّ. لا ارتباط مباشر بين هذا العمل وما يمكن أن يصيبني من مرض، أو ضيق أو غيره. هناك ارتباط بشكل عامّ، ولكن لا ارتباط بشكل خاصّ، كأنّ الربّ يحمل عصًا ويتبعنا، وكلّ مرّة نقع في الخطيئة يضربنا. لا، الربّ لا يحمل عصًا. هو أب محبّ، وإن نحن سقطنا ينزل إلينا في سقطتنا ليرفعنا إليه، ليرفعنا من عالم الخطيئة إلى عالم البرّ. هذا الإنسان تأكّد أنّ خطيئته غُفرت. لماذا؟ لأنّه شفي من مرضه. فالشفاء، شفاء الجسد هو علامة شفاء آخر، شفاء النفس، الشفاء من المرض الروحيّ.

هنا نتذكّر إنجيل مرقس والكلام عن المخلّع. هذا المخلّع الذي نزل من على السطح أمام يسوع. أوّل ما قال يسوع. لم يقل له: احمل فراشك وامشِ، بل قال له: مغفورة لك خطاياك. بدأ فغفر له خطيئته، وبعد ذلك أعطاه نعمة الشفاء. وهكذا أفهمنا الإنجيل أنّ الشفاء الخارجيّ علامة حسّيّة عن الشفاء الداخليّ. ولكن الشفاء الخارجيّ لا ينفع شيئًا إن لم يرافقه، إن لم يكن في أساسه، الشفاء الداخليّ.

والربّ يعطي الشفاء الداخليّ دومًا ويعطي الشفاء الخارجيّ ساعة يشاء هو. هي مشيئته أن نُشفى، أو أن لا نُشفى. ولكنّه يعطينا الغفران دومًا إن نحن رجعنا إليه تائبين. هذا ما كتبه لنا هذا المرتّل، هذا المؤمن الذي هو معلّم حكمة. انطلق من وضعه، انطلق من خبرته، فأعطانا درسًا عن النقاوة، عن الطهارة، عن الغفران.

3 - خبرة شخصيّة وخبرة جماعيّة

هناك خبرة شخصيّة، أنا كنت مريضًا وشُفيت، كأنّني كنت خاطئًا وغُفرت خطيئتي. وهناك خبرة جماعيّة. فهذا المزمور الذي يرتبط بزمن المنفى سنة 587 ق. م. يُفهمنا ألم الشعب في المنفى. تألّم الشعب. رفض أن يُقرّ بخطاياه أوّلاً، فجاءته الضربة قاسية جدٌّا. وأحسّ أنّه وحده، وأنّه مشتّت بين الشعوب الوثنيّة. يا ليته أقرّ بخطيئته، لكنّ الربّ غفرها له وأعاده من المنفى إلى الميراث. وفي الواقع هذا ما يفعله الشعب في منفاه: يعود عن خطيئته فيغفر له الربّ ويعيده إلى أرض ميراثه.

هنيئًا لمن نُسيت معصيته وسُترت له خطيئته. هكذا يستقبل الكاهنُ المؤمنَ الآتي إلى الهيكل. هنيئًا لك (نقول في اللغة الدارجة: نيّالك)، طوباك. لماذا؟ لأنّ معصيته نُسيَتْ، وسُترت له خطيئته. يعني: لم يعد الله يذكرها.

تجدّد المؤمن فما عادت تظهر خطيئته. نتذكّر هنا خبرًا حين قال للربّ أحد المؤمنين: لا تذكر لي خطيئتي يا ربّ. فقال له الربّ: نسيتها يا ابني، ذكّرني بها. نعم الربّ ينسى حالاً خطايانا وخصوصًا إذا جئنا إليه تائبين. هنيئًا لمن سترت معصيته وسترت له خطيئته. ولمن لا يحاسبه الربّ عمّا ارتكبه من إثم.

لماذا لا يحاسبنا الربّ وصورة الميزان ماثلة أمام عيوننا؟ الله ما عنده ميزان كميزان البشر. لو عنده ميزان لكنّا جميعًا خطأة واستحققنا الهلاك، كلاّ. الربّ ميزانه هو الرحمة، شرط أن نأتي إليه تائبين، شرط أن نقرّ بخطايانا. ميزانُه ميزان الرحمة والحنان.

4 - بين الماضي والمستقبل

لمن لا يحاسبه الربّ على ما ارتكبه من إثم. هل يكفي أن نترك الماضي؟ كلاّ. ويتابع المرتّل: على ما ارتكبه في الماضي من إثم، ولمن لا يكون في المستقبل في قلبه غشّ. إذًا، إن غفرت خطيئتنا، ونحن ما زلنا نفكّر في الخطيئة، نتطلّع إلى الخطيئة، لن يكون لنا الغفران. كما نقول: هناك إقرار بالخطايا، وهناك القصد اللازم.

وأوّل خطيئة يمكن أن نقع فيها، هي خطيئة اللسان. ولمن لا يكون في قلبه غشّ. عندئذ يعلن المؤمن أنّه تاب عن خطيئته، أنّه أقرّ بخطيئته. ويرينا كيف أنّه انتقل من شقاء الخطيئة إلى سعادة النعمة. وما الذي دفعه إلى هذا الإقرار، إلى هذا الاعتراف؟ نسمعه يقول لنا: حين سكتُّ، بليَت  عظامي من الأنين نهارًا وليلاً.

يعني حين سكتُّ ورفضتُ أن أعترف بخطيئتي، جاءني المرض وأصاب عظامي، أُصبت من الاثنين نهارًا وليلاً. ويتابع: نهارًا وليلاً ثقلت يدك عليّ، ونضارتي جفّت كما من حرّ الصيف. إذًا بسبب الحرارة، لم يعد عندي نضارة، بسبب المرض أُحسّ بثقل يد الله المرض والصحّة هما في النهاية من يد الله. لا شكّ، هما أمران طبيعيّان في حياة كلّ إنسان لا يعرف الكمال،الله وحده هو الكمال. الله وحده لا يعرف المرض. هو لا يعرف الموت. أمّا الإنسان فيمرّ في الموت وفي الألم وفي العذاب وفي المرض.

نهارًا وليلاً ثقلت يدك عليّ، ونضارتي جفّت كما من حرّ الصيف. نلاحظ هذا التصوير للمرض. مرض الإنسان الذي يصبح ناحلاً ضعيفًا. لا لون في وجهه. وجهه مصفرّ بما أنّه مرّ في هذه الحالة حين سكت. سكتُّ فبليَت عظامي، ثقلَت يدُك عليّ.

5 - اعترفتُ بخطيئتي

آية 5. لذلك اعترفتُ بخطيئتي وما كتمت إثمي عنك. عندئذ حين حلّ به المرض، فهم أنّ هذا المرض علامة عن خطيئة في حياته. لهذا يقول: اعترفت بخطيئتي وما كتمت إثمي عنك. هذا الاعتراف كان كمن ينزع عنه ثقلاً عن ظهره. هذا الاعتراف كان كمن يريد الخروج من البلاء، كمن يريد الخروج من الألم ومن الضيق. لا شكّ أنّ الاعتراف يفتح قلوبنا، ينزع الهمّ عنّا.

من لا يتذكّر مثل غاندي وهو الغير المسيحيّ، حين فعل بعض الشرّ وأخفى ما فعله عن والده. ولكن لمّا ذهب واعترف وأقرّ أمام أبيه بما فعله، أحسّ وكأنّ ثقلاً سقط عن كتفيه. هو ارتاح ووالده ارتاح. ولكنّنا نحن نفضّل مرّات عديدة أن نحتفظ بخطيئتنا في داخلنا، كما إنسان يترك الهريان ويترك الغارغرين تنخر قلبه، وتنخر عظامه ولا يحملها إلى الطبيب. هذا ما يقوله أفراهاط الحكيم الفارسيّ. كيف تخفي الجرح عن الطبيب؟ كيف تخفي المرض عن الطبيب؟ في الوقت المناسب تكون لك الصحّة، ولا يكون الشرّ قد استفحل في حياتك.

ويتابع المؤمن: قلتُ أعترف للربّ بمعاصيّ، فينسى إثمي وخطيئتي. دلّ الربّ على المرض الذي يفسد قلبه، يفسد حياته. وماذا حصل لهذا المؤمن؟ صار تقيٌّا من الأتقياء.

6 - فصرتُ بين أتقيائِكَ

قال في آية 6: يصلّي إليك الأتقياء وقت الشدّة، ولا يصل إليهم غمرُ المياه الغزيرة. المياه علامة الشرّ، علامة القتل، علامة الموت. هم أتقياؤك في وقت الشدّة. يمكن أن لا يخافوا. هم أتقياؤك، لا يصل إليهم الموت، لا يصل إليه غمر المياه الغزير. لماذا؟ تسترني وتنصرني في الضيق، وبحبل النجاة تشدّني.

نلاحظ هنا، أحبّائي، الانتقال من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد: يصلّي إليك الأتقياء، وأنا واحد منهم. وقد أصلّي باسمهم كما يصلّون باسمي واسم إخوتي مرّة أخرى. هم الأتقياء. إليهم لا يبلغ غمر المياه، وخلاصُ الجماعة هو رمز عن خلاص الفرد. خلاص الجماعة يؤكّد أنّ الربّ لا يهتمّ بنا كمجموعة كبيرة وحسب. أنّ الربّ ليس فقط سيّد التاريخ من أوّله إلى آخره، بل هو سيّد تاريخ كلّ واحد منّا. بل هو يهتمّ بكلّ واحد منّا.

لا تخف أيّها القطيع الصغير. هي الجماعة. ولكن إن ضلّ خروف، ترك الأب الـ 99 وتبع الخروف المئة، ولا يعود حتّى يردّه إلى الحظيرة. تسترني، وتنصرني في الضيق، وبحبل النجاة تنشلني، لأنّني بالخطيئة أنزل وأنزل عميقًا. فأنت ترسل حبلك وتنشلني من العمق. وماذا كانت الأمثولة؟ ماذا كان الدرس؟

7 - معلّم الحكمة

آية 8: أعلّمك. هذا معلّم الحكمة. تعلّم وهو يعلّمنا. وأريك الطريق وأرشدك، وعيني عليك. أربع كلمات جميلة جدٌّا. أعلِّمك. الربّ هو هنا، يعلّمنا. من خلال ظروف الحياة، من خلال صعوبات الحياة، الأمراض، الأحزان، الشقاء، الضيق، الموت. الربّ يعلّمنا، يرينا الطريق التي يجب أن نأخذ بها. الربّ هو المرشد، هو الدالول. نحن بعض المرّات نسير كما في غابة كثيفة. لا نعود نرى الشمال والجنوب، لا نعود نرى الشمس. الربّ هو المرشد، الربّ هو القائد، الربّ هو الدليل: وعيني عليك، يقول لنا.

هنا نلاحظ الأمّ. ترافق ابنها بعينيها. الأب يرافق أولاده بعينيه. وهكذا الربّ يرافقنا بعينيه حتّى ينتبه إلينا. لئلاّ يصيبنا مكروه. وإذا كان الربّ يعلّمنا، يرينا، يرشدنا، يجعل عينه علينا، يجب ألاّ نكون كالفرس والبغل بلا فهم. نحتاج إلى لجام، نحتاج إلى رسن. هذا يعني أنّنا ما زلنا على مستوى خوف العبيد، أو خوف الحيوان من الضرب. كلاّ.

علّمنا يا ربّ أن نفهم ما تريد منّا. إشارة من عينيك، لمسة من يدك تكفينا. عندئذ يقابل المؤمن نفسه حين كان خاطئًا وحين اتّكل على الربّ فنال الرحمة.

يقول هنا في آية 10: أحزان الشرّير كثيرة، والمتّكل على الربّ تشمله الرحمة. هائل هذا الكلام بالنسبة إلينا يا ربّ. أحزان الشرّير كثيرة. لمّا عشتُ في الشرّ عرفتُ الحزن، مثل ذاك الشابّ الغنيّ الذي ما عرف أن يتخلّص من أمواله. ولكن حين اتّكلتُ عليك يا ربّ، أحسست بالرحمة تشملني، تحيط بي. لا، لا يحيط الأعداء بي بل الرحمة، رحمة الربّ.

وينتهي المزمور بنداء إلى المؤمنين: افرحوا بالربّ وابتهجوا، ورنّموا يا جميع مستقيمي القلوب. هؤلاء هم الذين يستحقّون التهنئة. بدأ المزمور هنيئًا، هنيئًا لمن سترت خطاياه. والآن كأنّه يقول هناء الفرح. ما أسعدكم أنتم أيّها الصدّيقون، ما أسعدكم أنتم يا مستقيمي القلوب،  لا تخافوا، الربُّ معكم. شكرًا لك يا ربّ تغفر لنا خطايانا، تستر لنا خطايانا، تخلقنا من جديد، تنقلنا من عالم الشرّ إلى عالم الخير، من عالم الحزن إلى عالم الفرح، من عالم الغضب إلى عالم الرحمة. في الغضب نحسّ أنّنا بعيدون عنك. في الرحمة نحسّ أنّنا قريبون. اجعلنا يا ربّ نعيش هذه القرابة معك. نريد أن نكون من الصدّيقين الصادقين معك. نريد أن نكون من ذوي القلوب المستقيمة لا تلك الملتوية. أنت يا ربّ من يساعدنا ويقوّينا ويحفظنا. آمين.

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM