الحياة بحسب مشيئة الله

 

الحياة بحسب مشيئة الله

المزمورالخمسون

أحبّائي، في مرّة سابقة، قرأنا القسم الأوّل من المزمور 50، وأعطيناه العنوان التالي: العبادة الحقّة العبادة التي ترضي الله. تلك كانت درفة. وهناك الدرفة الثانية في هذا الباب الذي به ندخل إلى الربّ.

ما هي هذه الدرفة الثانية، في باب الربّ؟ الذبائح والحياة بحسب وصايا الله. لا يكفي أن نقدّم الذبائح، لا يكفي أن نقدّم الصلوات. يجب أن تترافق مع هذه الذبائح، ومع هذه الصلوات، حياةٌ بحسب مشيئة الله.

ونعيد قراءة المزمور من البداية، ونتابع التأمّل. في المزمور 50: الربّ، خلاصي أين يقيم؟ يقيم في صهيون المكلّلة بالجمال. هناك أشرق الله علينا، لا على سيناء بل على صهيون، بل على أورشليم التي صارت أورشليم السماويّة.

إلهنا يجيء ولا يصمت. هو يتكلّم وسيقول الحقيقة. بل هو سيتّهم شعبه لما يفعل. كيف يظهر حضور الله؟ قدّامه نار آكلة سعيرها يشتدّ حوله.

اجمعوا لي أتقيائي... هو الديّان. نلاحظ هنا، اجمعوا لي أتقيائي، يعني الذين يعتبرون نفوسهم قرب الربّ. القاطعين على الذبيحة عهدي، يعني دخلوا في عهد مع الربّ. هل هم أمناء على هذا العهد، هل يدلّون على تقواهم بغير الذبائح، والذبيحة تبقى أمرًا غريبًا عنّا، لا تؤثّر في حياتنا؛ وفي آية 7. يبدأ الاتّهام. اسمع... ذبائحكم.

كما قلنا، الله يخاصم شعبه. يقيم عليه دعوى، والله هو الله، وليس كباقي الآلهة الذين يستخدمهم الوثنيّون بدل من أن يخدمَهم. يكون التمثال بين أيدينا، نحرّكه كما نشاء، فنعتبر أنّنا حرّكنا الله إلى الجهة التي نريد. اسمع يا شعبي فأكلّمكم، يا بني إسرائيل فأتّهمكم أنا الله إلهكم.

نلاحظ هنا، الربّ هو الذي يتكلّم. ليس الإنسان من يبدأ بالكلام. الإنسان هو من يستمع إلى كلام الله

لا أعاتبكم على ذبائحكم، فمحرقاتكم أمامي في كلّ حين.

تبدأ الشكوى على الشعب. تبدأ الشكوى، لا لأنّ الشعب لم يقدّم ذبائح للربّ.

نلاحظ هنا، في آية 8: لا أعاتبكم، لا أوبّخكم، هناك بعض السخرية، لأنّهم اعتبروا أنّهم بقدر ما يأتون بالذبائح يكونون قريبين من الله.

يقول، محرقاتكم أمامي كل حين، أكثرتم من المحرقات. ولكن عندما نكثر المحرقات، عندما نكثر الذبائح، هل هذا يدلّ على إيمان عميق؟ ليس دائمًا. نحسب أنّنا نحن أغنياء ونريد أن نبيّن للربّ أنّنا أغنى منه. من جهة، عندما نكثر الذبائح، هذا يعني أنّ خطايانا كثيرة ونحتاج إلى ذبائح فوق ذبائح. ومن جهة ثانية عندما تكثر الذبائح ندلّ على كبريائنا. نحن يا ربّ مستعدّون أن ندفع مثل شخص لديه دين ولا يكتفي بأن يعطي الدين بل يعطي من ماله حتّى يسكت الآخر.

وهنا أصحابنا اعتبروا أنّهم يستطيعون أن يُسكتوا الله. يقدّمون الذبائح ذبيحة بعد ذبيحة. وهكذا يَسكت الله ويتظاهر أنّه لم يرَ.

الذبيحة في الواقع، هي تذكّرنا برحمة الله وتساميه، ونحن نريد أن نستعمل الله لا أن نقف كالضعفاء وكالفقراء الذين يحتاجون إلى حضور الله في حياتهم. الله لا يحتاج إلى ذبائح وهذا واضح في آية 9.

لا يأخذ ذبائح من البيوت، من الحظائر. فإلى أين يذهب؟ يذهب إلى البرّ، إلى الوعر، إلىالجبال، يقول في آية 9: لا آخذ من بيوتكم عجولاً ولا من حظائركم تيوسًا. لماذا؟ لأنّ لي جميع وحوش الوعر وألوف البهائم التي في الجبال، في يدي كلّ طيور الجبال، ولي كلّ حيوان في البرّيّة.

ترك الربّ ما كان يقدّم له من ذبائح، كانوا يذبحون التيوس والعجول والحملان والثيران كلّها. حيوان جوّي يعني يعيش داخل البيت أو بجانب البيت. لكنّ الربّ مضى إلى البرّيّة. لماذا؟ لأنّه لا يريد أن يكون تابعًا للبشر. هو فوق البشر، حين نقدّم للربّ الحيوانات نظنّ أنّه يحتاج إلينا. هذا ما كانوا يقولون مثلاً، في أرض مصر، أو في بلاد الرافدين، يؤمّنون الطعام ؟، هذا الإله الذي نعبده، بعيد كلّ البعد عن سائر الآلهة.

ويتابع النصّ: إن جعت فلا أخبركم. لي العالم وكلّ ما فيه، لا آكل لحم الثيران، ولا أشرب دم التيوس.

ما نلاحظه في كلّ هذا، كلمة كلّ في آية 11: في يدي كلّ الطيور. ثمّ كلّ الحيوانات وقبلها أيضًا وخصوصًا صورة الجمع. كلّ شيء هو للربّ. كلّ شيء هو ملك الربّ وإن أعطى الشعب، فهو إنّما يعطي ممّا أعطاه الله الربّ له.

لا ننسَ أنّ كلّ ما لنا هو من الله كلّ ما فينا هو من الله. كلّ الغنى الذي في يدنا، هو من الله الربّ هو الذي بدأ فأعطانا وإن نحن أعطيناه في أيّ حال، لا نعطيه كلّ شيء، ولكن إن نحن أعطيناه فنحن نعطيه بعض ما أعطانا إيّاه. من هنا يقول المزمور: ماذا أرد للربّ من كلّ ما أعطاني إيّاه.

وترتفع الذبيحة في معناها الرفيع في آية 12 - 13. نزلنا إلى الأرض. إن جعتُ فلا أخبركم. ولكنّ الربّ لا يجوع. لا آكل لحم الثيران، وهذا هو الواقع وتأتي آية 14 نتبيّن أنّ الله لا يرفض الذبيحة كذبيحة، ولكنّه يرفض الذبيحة الفارغة من أيّ مضمون. هي ذبيحة خارجيّة. كان يقول هوشع النبيّ: أكثروا من الخطايا فتكثر الذبائح، وهكذا يغتني الكهنة من مقدّمي الذبائح.

الربّ ارتفع. ما هي الذبيحة التي أريد؟

الذبيحة التي أريدها هي الحمد، هي الشكر، هي الصلاة التي بها نرتفع إلى الله

قرّبوا الحمد ذبيحة ؟ وأوفوا العليّ نذوركم. ادعوني يوم الضيق، فأخلّصكم فتمجّدوني.

أَوّلاً الذبيحة الحقيقيّة، هي صلاة من القلب، هي طاعة من القلب، هي تعلّق بالربّ الذي يحمل وحده الخلاص. لكن هذا لا يكفي. أترى، اكتفى الإنسان بأن قدّم ذبيحة. نتخيّل شخصًا مضى إلى الحجّ، وهناك فعل ما يجب أن يفعل، قدّم المال، صلّى صلواته وعاد. فما الذي تغيّر فيه.

لهذا السبب يأتي هنا الاتّهام الثاني.

في آية 16-21: الاتّهام الثاني للشرّير. يقول الله: ما لك تتحدّث عن حقوقي ويتلفّظ لسانك بعهدي، وأنت أبغضت مشورتي وطرحتَ كلامي وراءك. إذا، رأيت سارقًا صاحبته، ولا تعاشر إلاّ الزناة تطلق... أمام عينيك. الاتّهام الثاني يتوجّه إلى الشرّير. ومن هو هذا الشرّير؟ هو عمليٌّا الشعب المنافق. الشعب المرائي تحدّث عنهم يسوع وقال: يعشِّرون النعنع والصعتر وكلّ البقول ويتعدّون محبّة الله. يردّدون الشريعة، يتحدّثون بها، يكتبونها، ولكنّهم لا يعملون بها. نلاحظ أنّ الشقّ الثاني من الصلاة الصادرة من القلب يدعو إلى العمل، العمل بحسب وصايا الله.

إذا تذكّرنا مزمور 15 ومزمور 24، نرى أنّنا هنا في طريق معاكسة. من يحقّ له أن يأتي إلى الهيكل؟ من يحقّ له أن يرفع الصلوات وأن يقدّم الذبائح؟ يقول المزمور 15: هو الذي يسلك بنزاهة، هو الصادق في أعماله، المتكلّم بالحقّ في قلبه، الذي لا يكذب، الذي لا يسيء، الذي لا ينمّ، الذي يكرّم أو يخاف الربّ، الذي يحلف ولا يُخلف، الذي لا يعطي ماله بالربى، الذي لا يقبل الرشوة على البريء. كلّ هذا جاء في صيغة النفي، ويقول المزمور 15: من يعمل بهذا كلّه لا يتزعزع أبدًا. أمّا هذا الشعب الذي نجده في الشرّير فماذا يقول؟ هو يكرمني بشفتيه وقلبه بعيد عنّي: وخصوصًا يعتبر أنّه إن أكثر من الذبائح يستطيع أن يرشي الله كما يرشي القاضي. ولكن الربّ يرفض مثل هذا الموقف. ونقرأ آية 16: ما لك تتحدّث عن حقوقي، ويتلفّظ لسانك بعهدي؟

أجل، الشعب واعٍ لحقوق الربّ، أنا وأنت وكلّ واحد منّا واعٍ لحقوق الربّ. هو واعٍ، هو يقول أنا قطعتُ عهدًا مع الله. ولكن هل فكّر ماذا يعني هذا العهد بالنسبة إلى المؤمن؟

مهمّ جدٌّا أن نكون نحن أبناء العهد، هذا يعني أنّنا نسير بهذا العهد، ولكنّ الواقع هو عكس هذا كلّيٌّا.

آية 17: وأنت أبغضتَ مشورتي، وطرحت كلامي وراءك.

أبغضتَ مشورتي يعني فضّلت عليها كلّ مشورة أخرى.

وطرحت كلامي وراءك، لأنّ عندك أكثر من كلام، مشورة الربّ تشير إلينا ما يجب أن نفعل. الربّ يكلّمنا ويدعونا إلى حياة بحسب مشيئته، نقرأ هنا فعلين: أبغضت مشورتي، ما أردت أن تسمعها أبدًا. فضّلت عليها كلّ مشورة، كلّ نصيحة، كلّ عظة. تركتها أبدًا، طرحتَ كلامي وراءك. هذا الكلام الذي وصلك من الأنبياء، من اللاويّين، من أصدقائك، من أهلك، من والديك. هذا الكلام طرحتَه وراء ظهرك، كأنّك ما أردت أن تسمع وأن تترافق مع العاملين بمشيئتي. وتأتي هنا الوصايا، آية 18: إذا رأيت سارقًا صاحبته.

الوصية الأولى، لا تسرق. هنا بدل أن تعاتبه، تنبّهه إلى أنّ السرقة خطيئة، تصاحبه، تمشي معه، وهكذا تقسم الغنيمة بينك وبينه. هذه أوّل خطّية تعارض وصيّة الله.

يقول: إذا رأيتَ سارقًا صاحبته، ولا تعاشرُ إلاّ الزناة.

لا تزنِ، هي هنا الوصية الثانية، لا تزنِ. إذا انتبهنا لها، يقول المثل: قل لي من تعاشر أقُلْ لك من أنت، قل لي من تصاحب أقُلْ لك من أنت. هذا الذي يصاحب السارق هو سارق. هذا الذي يعاشر الزناة هو زانٍ.

ثمّ الوصيّة الثامنة، لا تشهد بالزور، لا تطلق فمك للشرّ ولسانك يختلق المكر. إذًا، نحن رحنا وأخذ الله كلّه كلامنا؛ فلا يطلق إلا الشرّ: ولسانك يختلق المكر. تجلس فتتكلّم على أخيك وتفتري على ابن أمّك. نلاحظ هنا كيف توسّع المرتّل في هذا المزمور، كيف توسّع في الوصيّة الثامنة. كما اكتفى فقط بالكلام عن شهادة الزور، ولكنّه قال: أوّل شيء كلامك يتكلّم الشرّ. إذًا الشرّ ثمّ الكذب ثمّ المكر ثمّ كلام الافتراء. تتكلّم في غياب أخيك ابن أُمّك. لا نقول فقط تتكلّم عن الأغراب بل تتكلّم عن أخيك ابن امّك، الذي يُفترَض فيك أن تحبّه حبّك لنفسك.

أخيرًا أقوله له: فعلت هذا وأنا ساكت عنك، فظننتَ أنّي مثلك.

ربّنا سكت. إذًا، ربّنا موافق، وسكوته أقوى من عمله.

ظننت أنّي مثلك. لكنّي الآن أعاتبك وأعدّد خطاياك أمام عينيك.

هنا جاء الاتّهام الثاني بالنسبة إلى الشرّير لكن في إشارة إلى كلّ الشعب الخاطئ.

وفي النهاية يعود التنبيه الأخير بل التهديد: فافهموا يا من ينسون الله لئلاّ أمزّقكم ولا منقذ.

كما يفعل الأسد بفريسته. هو تهديد قاسٍ يصل بمن يتجاوز الشريعة إلى الموت.

وينتهي كما قال في آية 14: قرّبوا الحمد ذبيحة الله قالت هنا في آية 23: الحمد هو الذبيحة التي تمجّدني، ومن قوّم طريقه أريه خلاصي.

أجل، هنا ينتهي المزمور بقوّة كما كانت الذروة مع «قرّبوا الحمد ذبيحة لي». فإذا أردنا أن نقدّم للربّ العبادة التي ترضيه فهي ذبيحة تمجيد وحمدالله وهي عمل مستقيم فمن قام بهذين الموقفين، كان حقيقة في طريق الخلاص، في طريق الله.

أحبّائي، انتهينا من قراءة المزمور 50، فشدّدنا على أنّ التقوى الحقيقيّة هي محبّة الله ومحبّة القريب التي تتوسّع في الوصايا. نسير فيها بعمق، كما علّمنا يسوع، ولا نكتفي بالقشور وهكذا نجعل المحبّة هي التي توجّه حياتنا، ومن عاش هذه المحبّة كان له الخلاص. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM