حياتنا عابرة

 

حياتنا عابرة

المزمور التاسع والثلاثون

أحبّائي، نتابع قراءتنا للمزامير. هذه الصلوات يجب أن ترافق حياتنا. وما أسعدنا إن تعوّدنا كلّ يوم صباحًا قبل أن نمضي إلى المدرسة، إلى الجامعة أو إلى العمل، أو قبل أن نمضي إلى عمل البيت، أن نقرأ مزمورًا واحدًا أو بعض الآيات. مثل هذه الكلمات ترافقنا طوال النهار خصوصًا إذا توقّفنا عند عبارة نردّدها النهار كلّه. مثلاً: استمع صلاتي يا ربّ وأمِل أذنك إلى صراخي. أو إذا كنت متألّمًا، أقول له: يا ربّ: لا تسكت عن دموعي، لا تعاملني كغريب، أنا ابن البيت. في هذا الإطار نقرأ المزمور 39، عنوانه: حياتنا عابرة. إذًا هي لا تدوم طويلاً. لكبير المغنّين، تلحين يدوثون، مزمور لداود:

«قلتُ: انتبه إلى سلوكي، لئلاّ يخطأ لساني، وأضع لفمي لجامًا ما دام الشرّير أمامي. تألّمت جدٌّا وسكتُّ، وتحاشيتُ الكلام فزادت كآبتي. توجّع قلبي في داخلي، واتّقدت في جسدي نار. »

1 - أنت فعلتَ ما بي

أحبّائي، قرأنا المزمور 39 (آ 2-4) المزمور الذي ينشده المرتّل ليخبر بمرضه الخطير. وهذا المرض الخطير جعل الأعداء يفرحون بأنّ الذي اتّقى الربّ سوف يموت سريعًا. فماذا استفاد من اتّكاله على الربّ. ماذا استفاد من حياة بارّة. الأشرار يموتون، والأبرار يموتون. بل إنّ الأشرار ينجحون على هذه الأرض والأبرار لا. يفرح الأشرار لأنّهم يعتبرون أنّ الله غير موجود. وإذا كان موجودًا فهو لا يفعل، هو لا يدين. هو يشبه الأصنام، التي لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أيادٍ ولا تفعل.

أمّا البارّ فهو يتألّم في داخله، يريد أن يثور على الربّ ليقول له: مثل هذه الحالة لا تطاق. كيف يرضى الربّ؟ خصوصًا وأنّ الفكر في العهد القديم يشدّد أنّ كلّ ما يحصل للإنسان من شرّ أو من خير، من ألم أو من راحة، من نجاح أو فشل، كلّ هذا مصدره الله وهذا ما يقول المرتّل في المزمور 39:10 الذي نقرأه. يقول: تألّمتُ ولم أفتح فمي، لأنّك أنت فعلتَ ما بي. أنت يا ربّ فعلت ما بي. إذا كنتُ مريضًا، إذا كنت قريبًا من الموت، فلأنّك أنت فعلتَ ما بي.

لهذا يتابع في آية 11: ارفع ضربتك عنّي، فمن جور يدك فنيْتُ. هذا المرض يمكن أن تكون له أسباب عديدة، والطبّ يبحث عن هذه الأسباب. وبالنسبة إلى المؤمن ليس هناك سوى سبب واحد: أنت فعلتَ بي. سبب واحد هو: الربّ يضربني. فيقول له ارفع ضربتك عنّي. والضربة عادة تكون عقابًا عن الخطيئة. حين كان المؤمنون لا يعرفون الحياة في الآخرة، كانوا يعتبرون أنّ الله يجازي بالخير أبناءه على هذه الأرض. ولكن إن هو ضربهم فلأنّهم خاطئون ويستحقّون الضربة. ولكنّ المؤمن يعرف أنّه بريء، هو لم يخطأ إلى الربّ. لهذا يتابع في آ 11 فيقول: فمن جور يدك فنيت، وصلت إلى الفناء، إلى النهاية، إلى الموت، لأنّ يدك جائرة عليّ. يعني ظالمة، يعني لا أستحقّ ما يصيبني من ضربات. أنت تجور على أحبّائك، فكيف إذًا تُعامل الذين لا يعيشون بحسب وصاياك.

2 - من أنشد هذا المزمور

المزمور 39. نقرأ في البداية: لكبير المغنّين. دائمًا هناك رئيس جوقة. كان الآلاف من المغنّين في الهيكل، يُنشدون التسابيح ؟ ولا سيّما في زمن الأعياد. ويتابع النصّ: تلحين يدوثون. من هو يدوثون؟

يدوثون هو جدّ جماعة من اللاويّين. إذًا، جماعة كبيرة ارتبطت بشخص اسمه يدوثون. ما كانت مهمّة هذه الجماعة؟ الإنشاد خلال الاحتفال والمحافظة على أبواب الهيكل. عندهم وظيفتان: يمكن أن نحافظ على أبواب الهيكل كما يفعل الشرطيّ أو البوليس. ويمكن أن نحافظ على أبواب الهيكل فنجعل من مهمّتنا صلاة. ننشد المزامير. أمّا يدوثون فكان المسؤول عن الغناء والموسيقى في أيّام داود.

نتذكّر هنا ارتباط المزامير بداود كما نقرأ في عنوان المزمور: مزمور لداود. سبق وقلنا إنّ هذا لا يعني أنّ داود كتب المزامير كلّها أو تلك التي تسمّت باسمه. لا شكّ، هناك بعض الأناشيد ترتبط بداود، أو ترتبط بالذين عملوا مع داود. وبما أنّ القدماء اعتادوا أن يربطوا كلّ شيء بالملك، صارت المزامير مزامير داود. مع أنّ هناك العديدين سواء من المؤمنين، سواء من المنشدين، أو من المغنّين، ألّفوا هذا المزمور أو ذاك قبل أن يَدخل في المجموعة، مجموعة مزامير الـ 150. هذا مع العلم أنّ هناك مزامير غير قانونيّة لا تدخل في المزامير الـ 150.

3 - تعليم من عند الربّ

هناك أشخاص عديدون صلّوا مزامير جديدة. ونحن يمكننا اليوم أن نخلق مزامير جديدة، صلوات جديدة، أناشيد جديدة، تتوافق مع عصرنا، مع حاجات قلبنا، مع صعوبات حياتنا. هذا المزمور كتبه إذًا أحد الأتقياء الصادقين، الذي انزعج من نجاح الأشرار. هذا المزمور يمكن أن نسمّيه الجواب على السؤال أو على الواقع الذي قدّمه المزمور 37 (مصير أهل السوء).

المزمور بدأ: لا تغرْ من أهل السوء ولا تحسد الذين يجورون. فهم ينقطعون سريعًا كالحشيش ويذبلون كالعشب الأخضر. إذًا، هنا المزمور 39 يحاول أن يقدّم الجواب على هذا الواقع الذي يعيشه المؤمن. ترك من قلبِه كلّ حسد، كلّ بغض، كلّ ضغينة. فمن ملأ قلبه بمثل هذه العواطف (الحسد، الضغينة) يملأ قلبه بالقلق، وينسى مواعيد الله لا شكّ، في الخارج هناك تعارض بين مواعيد الله بالبركة. وما يحصل للمؤمن من ضيق. فالله هو أوّلاً وأخيرًا إلٌّه البركة. إن غابت بركته عنّا، فالسبب ليس هو بل نحن. نحن نغلق أبوابنا فلا تدخلها الشمس. نغلق قلوبنا فلا تدخلها كلمة الله. نغلق ضميرنا، وجداننا، فلا نريد أن نسمع ولا نريد أن نفهم.

إذًا، الله هو أوّلاً وأخيرًا إله البركة. غير أنّ المؤمن يعيش واقعًا مغايرًا. يرى تعارضًا، يرى تناقضًا بين ما وعد به الله وما يعيشه المؤمن المتألّم. في مزمور 37، انطلق المرتّل من وضعه، من خبرته: هو يتألّم، هو يفشل، والأشرار حوله ينجحون. أمّا هنا في المزمور 39، فالمرتّل يقدّم التعليم. تعليمًا يحتاج إليه هو أوّلاً، ليتذكّر كيف يتصرّف ا؟، لكي يفهم أنّه إن تألّم، ففي أيّ حال، لن يطول ألمه لأنّ أيّامه لا تطول. والكاتب خصوصًا يريد أن يعرض على الربّ قلقه. هو قلقٌ، هو مضطرب، هو يحتاج إلى النور لكي يوجّه حياته ويوجّه حياة الذين يسمعون له. لأنّه، كما قلت، هو معلّم في شعبه.

يبدأ أوّلاً فيفتح قلبه للربّ. يُسرّ للربّ ما في قلبه، يقول له سرٌّا ما يحسّ به في أعماقه، يصارح الربّ شأنه شأن أيّوب. لماذا تلاحقني؟ لماذا تضربني؟ لماذا تجور عليّ؟ ماذا فعلت لك كما يقول أيّوب، ماذا فعلت لك يا رقيب البشر؟ انقلبت الكلمات، الرقيب هو الذي يراقب، هو الذي ينظر. الأمّ تراقب ابنها، الوالد يراقب ابنته. هي مراقبة المحبّة ولكن في أيّوب، صارت مراقبة العدوّ الذي ينتظر أيّة زلّة لكي ينقضّ على فريسته. صار المؤمن فريسة في يد الربّ. أمّا المرتّل هنا فيصارح الربّ، يقول له بكلّ بساطة: لماذا تفعل بي هذا؟

4 - خضوع الابن لا العبد

ومع المصارحة، يبقى هذا المرتّل خاضعًا ؟. أنت يا ربّي تفعل، وأنا مستعدّ أن أسير كما تريد أنت. كلّ ما طلبه المرتّل، هو أن يعرف آخرته، أن يعرف كيف تتوجّه حياته. وهنا هذا الخضوع الذي يعيشه المؤمن ليس خضوع العبد الذي يخاف العصا، يخاف العقاب، يخاف القصاص. كلاّ. هو لا يخضع خضوع العبد بل خضوع الابن، الابن الذي يعرف أنّ الأب يهيّئ له الطريق. أنّ الأب يخطّط له.

وماذا يكون خضوعنا نحن المؤمنين؟ نحن نعرف أنّ هذا الأب هو الله الآب السماويّ الذي عرفَنا من أحشاء أمّنا، الذي نظر إلى حياتنا قبل إنشاء العالم. مثل هذا الخضوع يجعل الإنسان كبيرًا، يجعله حرٌّا محرّرًا من كلّ أفكار مسبّقة، من كلّ ما يقال حوله: نتذكّر المزمور: أين هو إلهك؟ وفي الكلمة ما فيها من سخريّة وازدراء. قلت: اتّكلتُ على إلهي. أين هو إلهك؟ أرني إيّاه.

يأخذ هنا هذا المهاجمُ موقفَ إيليّا من أصحاب البعل، أصحاب البعل الذين كانوا على جبل الكرمل. ربّما إلهكم نائم، إلهكم في سفر، إلهكم لا يسمع، إلهكم مشغول بأمورٍ أخرى. وهنا الناس يقولون للمؤمن: أين هو إلهك؟ وضمنيٌّا أين هو لا يفعل؟ أين هو لا يبدّل الواقع؟ والمؤمن هنا يناقش، يناقش الله، لماذا فعلتَ بي ما فعلت؟ ولكنّ ثقته بالربّ لا تتزعزع. هو يحتدّ ويقول هنا: اتّقدتْ في جسدي نار، توهّج قلبي، النار تشتعل فيّ من الداخل. لكنّه لا ييأس.

هذا لا يعني أنّه بمجرّد التناقش مع الله زال ألمه، كلاّ. فألمه هو هنا. ألمه ما خفّ، والبرهان الذي يأخذه لنفسه، هو أنّ حياته قصيرة وقد أرادها الله كذلك. حياته قريبة من العدم، حياته مثل نفخة هواء، حياته مثل ظلّ يظهر عندما تُشرق الشمس ويغيب القمر، عندما تغيب الشمس ويطلع القمر. بما أنّ الحياة قصيرة، بما أنّ لا وقت لنا، يطلب المرتّل من الله يا ربّ، أضع فيك رجائي. أنا لا أضع أملي في ذاتي، فأنا زائل، أنا ضعيف، أنا خاطئ، أضع رجائي فيك. فمن يتّكل عليك، أهكذا تعامله؟ أتريد أن تسحقني يا ربّ؟

5 - والرجاء، لا اليأس

لا تسمح بذلك يا ربّ، ولا تسمح لي أن أفكّر دقيقة واحدة بأنّك عدوّي. أنت عدويّ إذا جعلتُك في الشرّ الذي أمامي، في المرض الذي هو أمامي. ولكنّك صديقي تحمل معي ألمي، تحمل معي صعوباتي، تحمل معي صليبي. ومرّات عديدة أودّ يا ربّ أن أترك لك أعمالي، حياتي، أقوالي، لأنّي أحسّ أنّ القنوط يسيطر عليّ. أنّ اليأس يمنعني من السماع، من الرؤية، من الفهم. يا ربّ لا تدفعني إلى القنوط، لا تدفعني إلى اليأس.

انظر، اسمع، وخصوصًا لا تسمح إن جادلتُك بأن أخطئ بلساني. ذاك كان الرهان بينك، يا ربّ، وبين الشيطان. بالنسبة إلى أيّوب، قال لك الشيطان: مُسَّ شيئًا له فيجدّف عليك بوجهك. ولكنّ أيّوب لم يجدّف وسوف تقول عنه في النهاية: تكلّم بالحقّ. أمّا الذين أرادوا أن يقدّموا له الحلول البشريّة، فخطئوا ويجب أن تقدّم الذبائحُ عنهم بسبب خطيئتهم.

والأصدقاء! كادوا يقودون أيّوب إلى القنوط واليأس. وأنا يا ربّ أتّكل عليك، أطلب منك النجاة، أطلب منك أن تستجيبني. فأنا لا يمكن أن أخاف بأنّك تتبدّل يومًا بعد يوم. فأنت أنت هو، وسنوك لا تنقضي. أمّا الإنسان فهو ضعيف، حياته أشبار، شبر أو شبران، يعني تقريبًا 30 سم، 60 سم، شيء بسيط جدٌّا، وزمن بسيط جدٌّا.

أنت يا ربّ! عرفتُ من أنت، ذقتُ من أنت، ذقتُ رحمتك وصلاحك، ولا أنتظر منك سوى ابتسامة من عندك. لا شكّ، أنا غريب ونزيه، فلا أطلب منك سوى هذه الطلبة، وسّع لي فأنشرح قبل أن أمضي ولا أكون. وفي أيّ حال إن مضيتُ وما عدتُ موجودًا في هذه الدنيا، فأنا في حضنك في الآخرة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM