المزمور السابع والعشرون :شكوى المؤمن أمام الربّ

 

المزمور السابع والعشرون

شكوى المؤمن أمام الربّ

1 - في وقت الفرج وفي وقت الضيق

أحبّائي، قراءة المزامير، تلاوتها اليوميّة، يجب أن تكون صلاتنا. عادةً نصلّي إلى الله بطرق متعدّدة. وما أجمل صلاتنا حين تأخذ كلمات الله وتحملها إلى الله. هذه المزامير رتّلها المؤمنون منذ ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة ورتّلناها وسوف نرتّلها. نرتّلها حتّى نهاية العالم. حتّى يسكت فمنا وينشد قلبنا، ينشد إيماننا، تنشد نظرتنا إلى الله.

وجهًا لوجه سوف نردّد هذه المزامير، نتلو هذه الصلوات. نتلوها في ساعة الفرح وفي ساعة الضيق، في ساعات الحزن وفي ساعات السهولة. مهما كانت أوضاع حياتنا نستطيع أن ننشد هذه الأناشيد التي أنشدها المؤمنون وسوف ينشدونها. وإن لم ينشدوها بالصوت العالي، فهم ينشدونها في أعماق قلوبهم، في صمت لياليهم، من عمق آلامهم.

ونقرأ المزمور 27. في الفصل الماضي قرأنا القسم الأوّل، تأمّلنا فيه. وسنعود الآن إلى قراءته، لأنّنا لن نملّ أبدًا من قراءة كلام الله

المزمور 27: الربّ نوري وخلاصي فممّن أخاف، الربّ حصن حياتي فممّن أرتعب، إذا هاجمني أهل السوء، أعدائي والذين يضايقونني، ليأكلوا لحمي كالوحوش، يعثرون ويسقطون جميعًا. وإذا اصطفّ عليّ جيش فلا يخاف قلبي. وإن قامت عليّ حربٌ فأنا أبقى مطمئنٌّا. لي طلبٌ من الربّ ولا ألتمس سواه، أن أقيم في بيت الربّ جميع أيّام حياتي. حتّى أعاين نعيم الربّ وأتأمّل في هيكله. هناك يظلّلني يومَ السوء ويسترني بستر مسكنه، وعلى صخرةٍ يرفعني. والآن يرتفع رأسي فوق أعدائي من حولي. وأذبح في هيكل الربّ ذبائح هتافٍ له، وأنشد وأرتّل لاسمه.

كان هذا، أحبّائي، القسم الأوّل من مزمور ينشد ثقة المؤمن بالربّ. يبدأ بالنشيد وينتهي بالنشيد، والترتيل لاسم ا؟. وقلنا إنّ هذا المزمور هو مزمور الصباح، ينشده المرتّل قبل أن ينطلق إلى عمله، وهو يسير على هدى الربّ، يسير على نور الربّ.

2 - صلاة المساء

والقسم الثاني من المزمور 27 آية 7 إلى 14 هو مزمور المساء. يعني أنّ هذا المرتّل جابه الصعوبات طوال يومه.

هو يأتي في المساء ويرفع شكواه أمام الربّ. إذا كان القسم الأوّل مزمور الثقة بالربّ والانطلاق باسمه، فالقسم الثاني هو مزمور الشكوى التي يرفعها المؤمن إلى الربّ، ولكن مع ذلك ينتهي بإعلان الثقة، بإعلان الاتّكال على الربّ.

إذًا نقرأ 27: 7 - 14: اسمع يا ربّ صوت دعائي وتحنّن واستجب لي. أنت قلتَ: التمس وجهي، فقلتُ أنا: وجهك يا ربّ ألتمس. لا تحجب وجهك عنّي ولا تصدّ بغضب عبدك. كنت نصيري فلا تنبذني، ولا تتركني يا الله مخلّصي. إن تركني أبي وأمّي فأنت يا ربّ تقبلُني. أرني يا ربّ طريق النجاة من هؤلاء الثائرين عليّ، ويسّرْ لي سبيلي. لا تسلّمني إلى خصومي، إلى أعداءٍ يقاومونني باطلاً، وصدورهم تنفث الظلم. أنا مؤمن بأن أرى جود الربّ في أرض الأحياء. ليكن رجاؤك بالربّ، تشدّد وليتشجّع قلبك وليكن رجاؤك بالربّ.

إذًا، قرأنا المزمور 27 آية 7 إلى 14. ولكن قبل هذه الآية نرى المؤمن وقد أتى إلى الهيكل. حمل معه الذبيحة، هتف مع الهاتفين، أنشد مع المنشدين، ورتّل مع المرتّلين. ما هو موضوع النشيد؟ ما هو موضوع الترتيل؟ اسم ا؟، اسم الربّ. والاسم يدلّ علىالشخص.

وبعد أن شارك المؤمن هؤلاء الآتين إلى الهيكل، نشيدَهم وترتيلهم وهتافهم، ها هو يرفع صلاة شخصيّة إلى الربّ.

3 - اسمع فأنا أصرخ

آية 7: اسمع يا ربّ صوت دعائي وتحنّن واستجب لي. اسمع، الربّ هو من يسمع. هو من يسمع خصوصًا صراخ المضايقين، صراخ المتألّمين. اسمع يا ربّ صوت دعائي. أنا أدعوك كما يدعو الطفل أباه، والابنة أمّها. أنا أدعوك، اسمع يا ربّ صوت دعائي.

في أيّ حال، الربّ يسمع في أيّ وقت. وإن لم يكن يسمع، فلم يعد ذلك الربّ، بل هو صنم من الأصنام. الربّ هو من يسمع دائمًا، ولكنّنا نحن لا نرفع الصوت، نحن لا نُطلق الدعاء. نعتبر أنّنا بقوّتنا نستطيع أن نفعل. نعتزّ بنفوسنا، نعتزّ بإمكانيّاتنا، ونحسب أنّ حيلنا أوسع من أن يصل إليها ا؟.

مسكينٌ ابن آدم، منذ أيّام آدم يريد أن يستقلّ عن الله، يستغني عن الله، أن يجد المعرفة بنفسه ولا يأخذها من ا؟، أن يجد السعادة بنفسه ولا يطلبها من الله. هو كالجدول الذي ينقطع عن النبع. فما يعتّم أن يصبح مستنقعات. بانتظار أن تتبخّر مياهه.

اسمع يا ربّ صوت دعائي، أنا أصرخ إليك يا ربّ، أنا أدعوك يا ربّ. وأنا متأكّد أنّك تسمع صوتي، تسمع صوت دعائي. وما هو دعاء هذا المرتّل؟ كلمتان: تحنَّن. يعني: انحنِ عليّ، تحنّن كما الأمّ تتحنّن على أولادها. واستجب لي. هي الكلمة الثانية: أنا أطلب منك أن تجيب. الحنان هو النعمة المجّانيّة، أنا لا أستحقّ حنانك، ولكنّك أنت كأبٍ محبٍّ وأمّ محبّة. تحنّن واستجب لي. يكفي أن نطلب بإيمان، أن نطلب بتواضع حتّى يتحنّن الربّ علينا ويستجيب لنا.

ويتذكّر المؤمن: قلتَ يا ربّ: التمسوا وجهي، اطلبوا وجهي. أنتم تلتمسون الوجوه العديدة، الوجوه البشريّة، لا بل تلتمسون الأصنام التي تجدونها في مدنكم، وهي في أيّ حال لا تنفعكم. وتلتمسون وجوه البشر، والبشر متقلّبون. يومٌ لكم ويومٌ عليكم. يومٌ هم في الفرح ويومٌ هم في الحزن. يومٌ هم في المسرّة ويوم آخر في الغضب. أمّا وجهك فهو هو، هو النور الدائم. قلت: التمسوا وجهي. فقلتُ: وجهك يا ربّ ألتمس. لا أريد أن ألتمس إلاّ وجهك.

4 - لا تحجب وجهك

آ 9: لا تحجب وجهك عنّي ولا تصدّ بغضب عبدك. متى يحجب الربّ وجهه عنّي؟ حين أخطأ، متى يأتي الغضب والعقاب؟ حين أعيش الخطيئة. فالربّ هو ذلك المنفتح دومًا علينا شرط أن ننفتح عليه. بالخطيئة نميل بوجهنا عنه، لئلاّ نرى وجهه. بالخطيئة نطلب الغضب، نطلب العقاب،والخطيئة تحمل عقابها في ذاتها.

لا تحجب وجهك عنّي، لا. الربّ لا يمكن أن يحجب وجهه عنّا أبدًا. ولكنّنا نحن من يعامل الربّ بهذا الشكل، من نهرب منه كما هرب قايين إلى أرضٍ بعيدة، إلى موضع لا تصل إليه عين الربّ. ويونان أيضًا أراد أن يهرب. راح في البحر، ابتعد في البحر البعيد، وكأنّ يد الربّ لا تصل إلى آخر البحر. ولكنّ يد الربّ كانت هناك.

لا تحجب وجهك عنّي ولا تصدّ بغضبٍ عبدك. فأنا أخطأت. هي طريقة بها نقول »نحن« أخطأنا ونحن نطلب غفرانك. اطلب ليسامحك، كما سبق وقلنا في آ 7: تحنّن، نطلب حنانك، تحنّن واستجب لنا.

حتّى وإن أخطأنا لا تحجب وجهك، حتّى وإن أذنبنا لا تصدّ بغضب عبدك. ويتذكّر المرتّل: كنتَ نصيري، كنتَ مساعدي، كنتَ حمايتي. أما تريد بعد اليوم أن تكون كذلك؟ هل تنبذني؟ هل تطردني من أمام وجهك لأنّي أخطأت؟ أنت أبٌ رحيم، أنت أبٌ غفور. لا تنبذني، لا تتركني يا أ؟ مخلّصي. ا؟ هو المخلّص، اسمه المخلّص، عمله المخلّص، فرحه أن يكون المخلّص بالنسبة إلينا. وما أجمل هذه التسمية نرفعها إلى ا؟، خصوصًا بعد أن صار المسيح جسدًا، فخلّصنا، خلّصنا من الموت، خلّصنا من الخطيئة، خلّصنا من الشرّ. لذلك ننشد إليه: يا مخلّص خلّصنا.

خاف المرتّل في ساعة الغضب، خاف المرتّل لأنّه خاطئ، فقال للربّ. لا تنبذني، لا تتركني. فهو مليء بالثقة أنّ الربّ لا يمكن أن ينبذ أبناءه، لا يمكن أن يترك أحبّاءه. مستحيل. ويعود إلى خبرته اليوميّة.

5 - ولا تتركني

حتّى إن تركني أبي وأمّي (آية 10) فأنت لا تتركني، لكنّه لم يقل كذلك. بل قال: إن تركني أبي وأمّي، إن رماني أبي، رَمَتني أمّي على الطريق، في الشارع، خارج البيت، فأنت يا ربّ تتقبّلني. حنان الأب هو نقطة من حنان الله، حنان الأمّ نقطة من حنان الله حتّى لو تركني والداي، فالربّ يقبلني، مهما كان وضعي.

في الشريعة القديمة، كانوا يقولون: إذا كان ابنٌ عقوق، يقدَّم إلى المحكمة، ويمكن أن يُعاقَب، يُقتَل. ومن يقدّمه؟ أبوه وأمّه. أمّا هنا فمستحيل. الربّ لا يريد موت الخاطئ بل عودته حتّى يحيا. تركني أبي وأمّي، رماني أبي وأمّي، أنت يا ربّ تتقبّلني.

أرني يا ربّ طريق النجاة من هؤلاء الثائرين عليّ ويسّر لي سبيلي. لا تسلّمني إلى خصومي، إلى أعداءٍ يقاومونني باطلاً، وصدورهم تتنفث الظلم.

في القسم الأوّل ممّا قرأناه اليوم: اسمع يا ربّ صوت دعائي. في آية 7 وما بعد، كانت صرخة الدعاء، طلب النجدة، التماس وجه الربّ. وهنا في آية 11 وآية 12 نفهم لماذا هذه الصلاة الملحّة؟ هذه الصلاة ملحّة لأنّ المرتّل يرى نفسه محاطًا بالثائرين، بالخصوم، بالمقاومين، بالأعداء. إن كان وحده فهم سوف ينتصرون عليه ويفرحون.

لهذا يطلب من الربّ في آية 11: أرني يا ربّ طريق النجاة، يسّر لي سبيلي، لا تسلّمني إلى خصومي. يطلب، يتوسّل، ويلحّ، وهو متأكّد أنّ الربّ سيمنحه. لهذا نقرأ آية 13: أنا مؤمن بأن أرى جود الربّ في أرض الأحياء، أن أرى الله الكريم، أن أرى وجهه في أرض الأحياء. يعني لن أموت بيد أعدائي. بل أبقى مع الربّ، أبقى مع الربّ في أرض الأحياء، لأنّ الربّ هو ذلك الحيّ.

تحدّث المؤمن عن الصعوبات، تحدّث عن الأعداء والخصوم. أرادوا أن يأكلوا لحمه كالوحوش بالنميمة، بالكلام القاسي. هم كثيرو العدد، هم كالجيش، يُصلونه حربًا وحربًا قاسية. ولكنّ المؤمن يقول للربّ: أنا مؤمن، وضعت فيك إيماني يا ربّ، أنا أؤمن بأن أرى جودك، أنا مؤمن بأنّك تعطيني الحياة مهما كانت الظروف.

صرخة الإيمان هذه من أعماق القلب، جاءها الجواب ربّما من الكاهن الخادم في الهيكل، أو من نبيّ من الأنبياء. أو هو المؤمن في أعماق قلبه فهم هذا القول وعبّر عنه.

آية 14: ليكن رجاؤك بالربّ، تشدّد وليتشجّع قلبك، وليكن رجاؤك بالربّ. تكرّرت العبارة مرّتين: ليكن رجاؤك بالربّ. لا بالبشر، لا بالعظماء، لا بالأغنياء، ولا بأيّ شخص كان. فقط رجاؤك بالربّ وحده. ساعتها، حين يكون رجاؤنا بالربّ، نتشدّد، نتقوّى، نتشجّع، لن نعود نخاف أبدًا. والنداء الذي أطلقه المرتّل في بداية المزمور: الربّ نوري وخلاصي فممّن أخاف، الربّ حصن حياتي فممّن أرتعب، وجد جوابه هنا.

الجواب يأتي من الربّ، فالربّ نورنا مهما كنّا، والربّ خلاصنا مهما كنّا، والربّ حصن حياتنا حتّى ولو سقطنا في الخطيئة. الربّ هو رجاؤنا لهذا السبب نستند إلى هذا الرجاء، نتقوّى بهذا الرجاء ونتشدّد ويتشجّع قلبنا. هذا الصوت الذي سمعناه في أعماقنا نسمعه من الكاهن في الهيكل ونحن مع المصلّين نصلّي.

أَسمعْنا يا ربّ صوتك في أعماق قلوبنا، وليكن كلامُك مشجّعًا لنا دومًا، فنفهم أنّ حضورك نعيمٌ وسعادة، أنّ عملك قوّة وخلاص، وأنّ طريقك طريق النجاة، والسبيل اليسير. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM