المزمور السادس والعشرون: الربّ عون الأبرياء

 

المزمور السادس والعشرون

الربّ عون الأبرياء

1 - قراءة المزمور

أحبّائي، نتابع صلاة المزامير. نريد أن نتلوها، أن ننشدها، أن نصلّيها،أن نتأمّل فيها، ونحتفظ بآية من آياتها. نردّدها طوال النهار. مثلاً هذا المزمور: أغسل يديّ فأطهُر، وأطوف يا ربّ حول مذبحك وأبارك الربّ. أو امتحنّي يا ربّ واختبر أعماق قلبي. كم هو مهمّ أن نأخذ عبارة من المزمور، من مزمور أنشدناه، ونردّدها طوال النهار، فتصبح كأنّها محطّة من ساعة إلى ساعة، طوال الساعات الأربع والعشرين. فنعيش في حضرة ا؟.

في هذا الإطار نقرأ المزمور 26. الذي عنوانه الربّ عون الأبرياء. يقول المزمور: أنصفني يا ربّ لنزاهة سلوكي. عليك توكّلت فلا أتزعزع، امتحنّي يا ربّ وجرّبني، واختبر أعماق قلبي. رحمتُك أمام عينيّ، وفي حقّك سلكت، لا أجالس المنافقين، ومع الماكرين لا أدخل، أُبغض أهل السوء، ولا أجالس الأشرار.

أغسل يديّ فأطهُر، وأطوف يا ربّ بمذبحك، لأرفع صوت الحمد، وأحدّث بجميع عجائبك. أحبّ بيتًا تحلّ فيه، مقامًا يسكن فيه مجدك. لا تجمعني مع الخاطئين ولا مع سفّاكي الدماء، والذين أعمالهم مذمومة ويمينهم امتلأت رشوة. وأنا في النزاهة أسلك. فافدِني وتحنّن عليّ. لتقف قدماي على أرض آمنة، وفي المجامع أبارك الربّ.

قرأنا المزمور 26، الربّ عون للأبرياء. هذا المزمور هو أيضًا مزمور توسّل ينشده المرتّل إلى الربّ ليخبره أنّ حياته هي في خطر. اتّهموه كذبًا فالتجأ إلى الهيكل طالبًا من الربّ أن يعلن بطريقة من الطرق براءته على الحاضرين، وينجّيه من حكم الموت. فهو حين دخل أتمّ الشروط التي تسمح له بالدخول إلى الهيكل. وأوّلها، غسل يديه لكي يكون طاهرًا. ومنذ البداية أعلن أنّه رفض أن يجلس مع المنافقين، أن يكون مع الماكرين، رفض أن يعيش مع الخطأة، مع سفّاكي الدماء.

2 - امتحنّي يا ربّ

أمَّا الآية الأساسيّة في هذا المزمور فهي آية 2: امتحنّي يا ربّ. وحده هو الذي يعرف كيف يبرِّئ الإنسان، كيف يبرّر الإنسان، ولو كان الجميع ضدّه. المؤمن يريد برهانًا ملموسًا على أنّه لم يرتكب الشرّ الذي يربطونه به، وكأنّه محكوم عليه بالإعدام. ولكن كيف يفعل ا؟ وليس له فم مثل أفواه البشر؟ كيف يقدر أن يبرّر صفيّه؟

هنا نتذكّر في سفر دانيال فصل 13، كيف أنّ سوسنّة النقيّة العفيفة اتّهمها شيخان زورًا، بأنّها كانت تزني وأنّها تستحقّ الحريق، تستحقّ الرجم. ويقول الخبر إنّ الربّ أرسل دانيال الذي يعني دينونةَ ا؟، حُكمَ ا؟، وهو مرّات عديدة يختلف عن حكم البشر. دانيال استطاع أن يبيّن كذب الشاهدين.

فالشريعة تقول: كلّ شهادة تقوم على شهادتين، وهؤلاء الشيخان شهدا على سوسنة، إذًا هي تستحقّ الموت. ولكنّ الربّ أرسل دانيال ففصل بين شاهد وشاهد. أين رأيتها؟ قال للأوّل. فأجاب: تحت البلّوطة. وسأل الثاني السؤال نفسه فقال: تحت البطمة. وبان كذبُ الرجلين، وهكذا ساعة حكمَ البشرُ على سوسنّة العفيفة بالموت، برّأ الربّ ساحتها بواسطة شابّ أو فتًى لم يبلغ عمره بعد عمر الكهولة وعمر الرسالة أي الثلاثين سنة.

وكأنّ بالمؤمن هنا ينتظر من الربّ أن يرسل علامة منظورة، علامة من عنده تبيّن أنّ هذا المؤمن هو بريء.

3 - صرخة الثقة

وتبدأ الصلاة مع المقدّمة التي هي صرخة ثقة بالربّ. يقول أنصفْني يا ربّ، لا أطلب إنصافًا من البشر، لا أطلب استئناف حكم على مستوى البشر. أطلب إنصافك أنت، فأنا يا ربّ بريء. الربّ يعرف الكلى والقلوب، الربّ يعرف أعماق الإنسان. إذًا هو يستطيع أن يُنصف. أنصفني يا ربّ لنزاهة سلوكي. ولماذا تنصفني؟ لأنّي عليك توكّلت فلا أتزعزع. إذًا كان الربّ يشبه الملك الذي يحافظ على الضعفاء، على المساكين، الذي يقيم الحقّ والعدل. يطلب المرتّل من هذا الربّ أن ينصف صفيّه، خصوصًا إذا كان صفيّه متّكلاً كلّ الاتّكال على الربّ، ومتأكّدًا أنّ الربّ سينصفه.

عليك توكّلت فلا أتزعزع، كالصخر الثابت المتين، تأتيه العواصف والرياح والأمطار فلا يتزعزع. ولماذا هذه الصرخة، صرخة الثقة بالربّ. كما قلت، حياة المرتّل هي في خطر، ولكنّه متأكّد أنّ حياته لا عيب فيها، أنّه لم يزلّ، أنّه أتمّ وصايا ا؟ وعمل بها، فابتعد عن طريق المنافقين.

آية 2: امتحنّي يا ربّ وجرّبني، واختبر أعماق قلبي. أو اختبر كليتيَّ وقلبي. في الماضي كان يُمتحَن الإنسان، فيمرّ في الماء، في النار. لكنّ امتحان البشر يبقى ضعيفًا. هناك أشخاص يتغلّبون على الماء وعلى النار، وقد لا يكونون أبرياء. إذًا لا أريد محنة من البشر، بل محنة من الربّ. وقد يكون المرتّل نجا من محنة، في مرض خطير. امتحنّي يا ربّ وجرّبني واختبر أعماق قلبي، أدخلْ إلى العمق يا ربّ، وانظر إلى حياتي، إلى أعمالي:

آية 3: رحمتك أمام عينيّ. وفي حقّك سلكت. إذًا هو يعلن نزاهته، يعلن أنّه سار في حقّ الربّ، أنّه سار في طريق الربّ، أنّه عاش حسب وصايا الربّ.

4 - اعتراف بالخطيئة

ولكنّه يبدأ باعتراف سلبيّ. آية 4: لا أجالس المنافقين. آية 5: لا أجالس الأشرار. آية 4: لا أدخل مع الماكرين. آية 5: أبغض أهل السوء. كما أنّه كان يقول: لا أحب أهل السوء. هو اعتراف سلبيّ: لا أجالس المنافقين. ومع الماكرين لا أدخل. ونتذكّر المزمور الأوّل. وأيضًا المزمور 24: من يحقّ له أن يدخل إلى هيكل الربّ ويقيم في مسكنه.

إذًا بدأ هذا المؤمن يعترف. هو اعتراف سلبيّ. أنا ما فعلت. لا أجالس مرّتين. لا أجلس مع الأشرار، لا أجلس مع المنافقين. كلّ هذا يدلّ على أنّ المؤمن لا يريد أن يرفض رحمة ا؟ الذي يبرّر الإنسان مجّانًا. كلاّ بل يريد من ا؟ أن يقول للبشر أنّ مؤمنه بريء. أو هو إذ يكلّم الربّ، إذ يرفع صلاته إلى الربّ، يريد أن يسمعه البشر فيحكموا له الحكم العادل.

وبعد هذا الاعتراف الخارجيّ، الكلام السلبيّ، بعد أن أقرّ أنّه بارّ، أتت آية 6. يستعدّ المؤمن للاقتراب من ا؟ بعد أن أعلن ا؟ براءته.

هنا في آية 5 و 6 لا نعرف ماذا حدث. ولكن لا شكّ في أنّ الكاهن استقبل هذا المؤمن من الهيكل: من يحقّ له أن يدخل إلى بيت الربّ؟ جاء الجواب من الكاهن كما في المزمور 24. أمّا هنا فلا يقال لنا شيء. بل نقرأ آية 6: أغسل يديّ فأطهُر. كأنّي بالكاهن قال لهذا المؤمّن يمكنك أن تدخل إلى الهيكل، ابدأ واغتسل، ابدأ وتوضّأْ. أغسل يديّ فأطهر.

5 - وغسل اليدين

هل غسل اليدين علامة الطهارة؟ هو فعل خارجيّ يدلّ على طهارة داخليّة، على نقاوة داخليّة. أغسل يديّ فأطهُر. ساعتها أطوف يا ربّ بمذبحك. هناك التطواف حول المذبح. إذًا يغسل يديه، يدلّ على أنّ يده لم تتلطّخ بالدماء. كلاّ، فلو كانت ملطّخة بالدماء لوجب أن يُطرد من الهيكل، أو يُبعد عن حضور ا؟ بحيث يكون هذا الإبعاد كأنّه حكم بالإعدام.

ولكن قُبِلَ بالهيكل وقبِلَ أن يغتسل. وقُبِلَ بأن يطوف بمذبح الربّ ويرفع الحمد ويحدّث الجميع بعجائب ا؟. فيشارك المؤمنين في مديحهم، في حمدهم، في صلواتهم. ويتابع: أحبّ بيتًا تحلّ فيه ومقامًا يسكن فيه مجدك. مجد ا؟ كان يعبَّر عنه بالبخور الذي يحرق في الهيكل. المجد كالبخور الذي يُرى، يدلّ على مجد ا؟ الذي لا يُرى.

أحبّ بيتًا تحلّ فيه. ومقامًا يسكن فيه مجدك. لا تجمعني مع الخاطئين ولا مع سفّاكي الدماء، والذين أعمالهم مذمومة ويمينهم امتلأت رشوة، رشوة القضاة. لا تجعلني مع الخاطئين اللذين يسفكون الدم، هم القتلة والذين أعمالهم مذمومة، ويتحرّكون بالرشوة. هم القضاة. هذا القاضي الذي يرتشي، هو في النهاية يسفك دم البريء. وهل يرضى الربّ أن يكون صفيّه البريء فريسة الرشوة أو الأعمال المذمومة؟ أن يُسفك دمه بدون فائدة، بدون سبب؟ كلاّ ثمّ كلاّ.

في آية 11 و12، يعود المرتّل في النهاية إلى ما قاله في البداية. قال في البداية: أنصفني يا ربّ لنزاهة سلوكي. وفي آية 11: وأنا في النزاهة أسلك فافتدني وتحنّن عليّ، أرسل الفداء، أرسل الخلاص وعاملني بحنانك ومحبّتك ورحمتك. عندئذ تأتي آية 12: تقف قدماي على أرض آمنة، على أرض ثابتة. كان قد قال هناك: عليك توكّلت فلا أتزعزع. كأنّي على صخرة متينة. وهنا: تقف قدماي لا على أرض موحلة متقلّبة. كلاّ بل على أرض آمنة،أرض تحمل الأمان، تحمل الثبات، تحمل الثقة. وحين تقف قدماي على هذه الأرض الآمنة، في المجامع أبارك الربّ.

وهكذا نكون، أحبّائي، تأمّلنا في المزمور 26، هذا المؤمن الذي ارتشى القضاة في شأنه واستعدّوا لأن يسفكوا دمه مع أنّه بريء، مع أنّه ابتعد عن كلّ شرّ ابتعد عن المنافقين والماكرين وسفّاكي الدماء، عن الخاطئين. ومع ذلك أرادوا أن يجعلوه ضحيّة الرشوة، مع أنّه أعلن نزاهته أمام الربّ. هذا الربّ الذي يعرف أعماق القلوب، الذي يعرف الكلى والقلوب، هذا الربّ الذي يعرف أعماق المؤمن ويعلن نزاهته لا فقط في أعماق القلب، بل على رؤوس الملأ.

وكما نجت سوسنّة العفيفة من أيدي الذين شهدوا عليها زورًا، هكذا ينجو هذا المؤمن ويقول: الآن أنا واقف وقفة الانتصار، أنا واقف في أرض آمنة، في أرض ثابتة، وأباركك يا ربّ وأعظّم اسمك. فما أجمل أن أكون مع الداخلين إلى الهيكل، أطوف معهم حول مذبحك، وأرفع صوت الحمد لك، وأحدّث بجميع عجائبك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM