المزمور الخامس والعشرون
الربّ يفدي شعبه من ضيقاته
1 - صلاة الثقة والرجاء
أحبّائي، نتابع قراءة المزمور 25: هذا المزمور الغنيّ جدٌّا الذي يعلّمنا أمرين: أوّلاً الربّ يحمي المضطهَدين، يحمي المساكين، يحمي الودعاء، نتّكل عليه وحده. ثمّ الربّ هو الذي يعلّم، يعلّم كلّ إنسان: كيف يمكن أن يتصرّف؟ كيف يمكن أن يعيش؟ في أيّ طريق يسير، في أي سبيل يتوجّه؟ هذا المزمور الغنيّ، أراد أن يجمع كلّ حاجات المؤمنين. فجميع الحروف الأبجديّة الاثنين والعشرين موجودة في صلاة واحدة. حتّى الآن تأمّلنا من آية 1 حتّى 11.
نودّ أن نقرأ أيضًا هذه الآيات ثمّ ننتقل إلى آية 12 وما بعد لنتوقّف عندها. إذًا 25 آية 1: إليك يا ربّ إلهي أبتهل، عليك توكّلت فلا أخزى. ولا يشمت بي أعدائي. كلّ من يرجوك لا يخزى، بل يخزى الغادرون باطلاً. يا ربّ عرّفني طرقك، وسبلك علّمني. بحقّك اهدني وعلّمني. أنت الله مخلّصي، وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً. اذكرْ رأفتك ومراحمك، فهي يا ربّ منذ الأزل. لا تذكر معاصيَّ وخطايا صباي بل برحمتك اذكرني لأنّك يا ربّ صالح.
تلك كانت صلاة المرتّل المليئة بالثقة والرجاء والاتّكال على الله وما طلب تعليمًا من أحد ولا هداية ولا معرفة. هو لا يريد إلاّ طريق الربّ، لا يريد إلاّ سبل الربّ، ولا يتّكل إلاّ على رأفة الربّ ومراحمه. لهذا ما خاف أن يعترف بخطاياه، ما خاف لأنّه اتّكل على رحمة الربّ وعلى صلاحه. ذاك كان معنى آية 1 إلى 7.
2 - إرشاد الربّ بفم أنبيائه
في آية 8 إلى 11 سمعنا أو هو سمع إرشادًا أوّلاً: طلب من الربّ فأجابه الربّ بواسطة الكاهن، أو وبواسطة نبيّ من الأنبياء، اعتاد أن يكتشف كلام ا؟، أن يرشد الناس إلى كلام الله، أن يعلّم المؤمنين. لا شكّ في أنّ الله كلّم صفيّه، كلّم هذا المؤمن في أعماق قلبه. ولكن مرّات عديدة نخطئ بين صوت الله وسائر الأصوات. وفي أيّ حال يجب أن يتجسّد صوت الله من خلال صوت بشريّ، صوت كاهن، صوت نبيّ، صوت مؤمن، صوت صَديق. الربّ يعرف كيف يرسل إلينا أصواتًا ملموسة تتجاوب مع صوته الشخصيّ الذي يحرّكنا، الذي يتمتم في أعماق قلوبنا.
ماذا قال الكاهن لهذا المؤمن الذي جاء يقول للربّ. لا تذكر خطاياي؟ قال له (آية 8): الربّ صالح ومستقيم ويرشد الخاطئين في الطريق، يهدي الودعاء بأحكامه، ويعلّم المساكين طرقه، سُبل الربّ رحمة وحقّ لمن يحفظ عهده وفرائضه.
طلب المؤمن أن يعرف طريق الربّ، فقال له هذا الكاهن في إرشاد أوّل، في كلام أوّل، لا تخف، الربّ يرشدك في الطريق، يهديك سواء السبيل، شرط أن تقول، تعلن أوّلاً خطيئتك، تعلن أنّك خاطئ وتحتاج دومًا إلى رحمته، حين تكون من الودعاء الذي يرضون الهداية، أو من المساكين الذين يطلبون التعليم. عندئذٍ تكتشف أين هو المؤمن، ويكتشف كلّ واحد منّا أنّ الطريق الذي يدلّنا عليه الربّ هو رحمة وحقّ، شرط أن نحفظ عهده وفرائضه.
العهد علامة المحبّة، والفرائض تعبير عن هذه المودّة التي تربطنا بالله. وكلّ هذا من أجل اسمك يا ربّ، اغفر ذنوبي الكثيرة. في آية 8 - 10، كان الإرشاد. في آ 11. جاء جواب المؤمن. في آ 8 - 10، كان إرشاد أوّل. وها هو الجواب: من أجل اسمك يا ربّ اغفر ذنوبي الكثيرة. أجل هذه الآية 11 هي الجواب على ما قاله الكاهن أو من أرسله الله ليرشد صفيِّه.
2 - إرشاد ثانٍ
ويواصل المزمور في آية 12 وما يلي إلى إرشادٍ ثانٍ، إرشاد يقول له الكاهن: من يعترف بخطيئته ويتحرّر منها يصبح من جماعة خائفي الربّ. يقول المزمور 22: 14: هللّوا للربّ يا خائفيه. والمزمور 15 أيضًا يشدّد على أنّ المؤمن يتعلّق بمن يخاف الربّ. ومن اعترف بخطيئته، ومن تحرّر منها، ومن أصبح من متّقي الربّ، من خائفي الربّ، تنفتح أمامه طريقُ السعادة، طريق الخير، فيتأمّن ميراثه وميراث ذريّته على الأرض، ويسكن دومًا قرب ا؟ ليتعلّم شريعته وأحكامه.
إذًا نقرأ 25: 12 - 15. هذا هو الإرشاد الثاني الذي يسمعه المرتّل الآتي إلى الربّ، ليعلن عليه اتّكاله، ليعلن ثقته به.
آية 12: من خاف الربّ أراه الربّ أيّ طريق يختاره، فتنعم نفسه بالخير ونسله يرث الأرض. الربّ يرشد أتقيائه، ولهم يعلن عهده.
وتأتي آية 15 كجواب، كما كانت الآية 11: عيناي إلى الربّ كلّ حين فهو يُخرج من الشرك رجلّي. كان قد قال في آية 11 جوابًا إلى الإرشاد الأوّل بعد أن سمع المؤمن الإرشاد الأوّل: من أجل اسمك يا ربّ اغفر ذنوبي الكثيرة، وها هو يقول هنا بعد أن سمع الإرشاد الثاني: عيناي إلى الربّ كلّ حين، فهو يُخرج من الشرك رجليّ.
هذا الإرشاد الثاني يبدأ بالكلام عن مخافة الربّ. من يخاف الربّ؟ المخافة ليست مخافة العبيد، هي مخافة الأبناء. من خاف الربّ يعني من خاف أن يغيظ الربّ، من خاف أن يخون عهد الربّ، من خاف أن لا يكون أمينًا لفرائض الربّ. لا شكّ أنّ العهد هو اتّفاق بين اثنين. الربّ هو الأمين دائمًا ويبقى على الإنسان أن يبادل الأمانة بالأمانة. والأمانة هذه هي في الواقع مخافة الربّ.
4 - مخافة الربّ
مخافة الربّ، خوف الربّ في الكتاب المقدّس هو هذا الشعور بأنّنا في حضرة ا؟. كلّ مرّة هناك ظهور سواء زكريّا في إنجيل لوقا أو العذراء أو القدّيس يوسف: لا تخف يا زكريّا. الخوف هو الشعور أنّنا بحضرة الله وأنّنا خطأة، أنّنا ضعفاء، نحتاج إلى غفران الربّ، نحتاج إلى حضوره.
طرق عديدة يقدّمها البشر، لكن نحن لا نريد إلاّ طريق الربّ. قد يدلّنا على هذه الطريق البشر، ربّما. ولكن في النهاية الربّ هو الذي يرينا أيّ طريق نختار. فالبشر يُخطئون إمّا عن جهل وإمّا عن ضلال وإمّا عن نيّة سيّئة. وإذا كان ينقصنا هذا التمييز بين كلام الله وكلام البشر، يمكن أن نتبعهم. عندئذٍ نأخذ الطريق الذي يقود إلى الهلاك، لا ذاك الذي يقود إلى الحياة، كما يقول المزمور الأوّل.
لكن إن عشنا مخافة الربّ، إن عرفنا أن نختبر حضوره، فهو يرينا الطريق الذي نختار. وهنيئًا لنا إن لم نكتفِ بالسماع بل نصل إلى التنفيذ إلى العمل. نتذكّر هنا أشعيا في رؤيته الشهيرة بالفصل 6: هو يرى، هو يسمع. وعندما يقول الربّ: من أُرسل؟ فيجيب: أنا هنا فأرسلني. أمّا الشعب فهو لا يرى ولا يسمع ولا يفهم. نطلب منك يا ربّ أن ترينا، أن تُسمعنا، أن تُفهمنا. من خاف الربّ أراه الربّ أيّ طريق يختار، الطريق الذي يختاره الربّ لنا. هنيئًا لنا إن اكتشفنا هذا الطريق عندئذٍ يكون لنا كلّ خير، الطريق الذي يختاره الربّ لنا هو في النهاية ذاك الذي يوصلنا إليه.
5 - تمنح الخير والبركة
ماذا يقول لنا في آية 13؟ فتنعم نفسه بالخير، تنعم نفوسنا بالخير، بالبركة، وهذا مهمّ جدٌّا. عندما نحصل على بركة ا؟، فلا حدود لهذه البركة. وليس هو وحده ينعم بالبركة ينعم بالخير، بل نسله أيضًا يرث الأرض. إذًا هو ونسله.
نرى رحمة الربّ تمضي إلى ألف جيل، عكس عقابه الذي لا يصل إلى أكثر من أربعة أجيال. ونسله يرث الأرض، هذه الأرض ليست فقط أرضًا محدّدة، أرض فلسطين أو أرضًا أخرى. الأرض هي عطيّة حضور ا؟. فأرض فلسطين أرض لا تتمتّع بالخصب، ليس فيها المياه الكثيرة، ومع ذلك هذه الأرض هي أرض الربّ. لهذا قال لنا يسوع: طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض.
إذًا نحن أبعد من أرض مادّيّة. لا شكّ أنّ كلّ عطايا الربّ المادّيّة هي حاضرة. إذًا أبعد من أرض مادّيّة، الأرض هي الحياة مع الربّ، هي الفردوس، هي جنّة الربّ على الأرض.
وتتابع آية 14: الربّ يرشد أتقياءه ولهم يعلن عهده. الربّ يرشد أتقياءه. نعود إلى كلمة يرشد. الإرشاد، الربّ هو الذي يهدي، الربّ هو الذي يرشد، يعلّم أتقياءه والتقيّ هو الذي يخاف الربّ.
التقيّ هو الذي يطلب أن يسير بحسب وصايا الربّ، التقيّ هو الذي يطلب مشيئة الربّ. الربّ يرشد الجميع، ولكنّ الأتقياء وحدهم يقبلون الإرشاد. هؤلاء الذين يخافون الربّ يفهمون الإرشاد، ويفهمون ما يجب أن يفعلوا أو يعملوا. فلا يكفي أن نعرف بل يجب أن نعمل حتّى يكون إيماننا حقيقيٌّا، حتّى نكون من أتقياء الله الحقيقيّين.
6 - وتُدخل في العهد
الربّ يرشد أتقياءه ولهم يعلن عهده. هذا العهد هو منذ القديم مع جماعة الله ومع كلّ واحد منّا. هذا العهد هو قبل أن نوجد، قبل أن نكون في بطون أمّهاتنا. الربّ يريد عهده معنا، ولكنّ هذا العهد لا يُعلَن إلاّ على من يريد أن يدخل في هذا العهد. هذا العهد حاضر، هو مقدّم، هو أمامنا. يكفي أن ندخل فيه. كأنّ الربّ كتب على نفسه عهدًا وطلب منّا أن نوقّع. أن نوقّع على هذا العهد بقربه أو نوقّع معه.
وله يعلن عهده. يقول لنا: اتّفقنا أنا وقّعت وأنت وقّعت، إذًا العهد معلن. أنا سأحميك، ستكون بحمايتي، ولكن عليك أنت أن تحفظ عهدي أن تكون أمينًا لوصاياي، أن تعيش بالتقوى والمخافة.
آية 15: عيناي إلى الربّ كلّ حين فهو يُخرج من الشرك رجليّ. هذا هو جواب المؤمن بعد أن سمع الإرشاد الثاني. يقول له: من خاف الربّ أراه الربّ أيّ طريق يختار فتنعم نفسه بالخير ونسله يرث الأرض. الربّ يرشد أتقياءه ولهم يعلن عهده. فيجيب المؤمن: عيناي إلى الربّ كلّ حين فهو يُخرج من الشرك رجليّ. عيناي إلى الربّ كلّ حين، يعني أنظر إلى يده: ماذا يريد أن يطلب منّي؟ أنظر إلى فمه: ماذا يريد أن يتمتم؟ إلى عينيه. ماذا يريد أن يشير؟
وهذه الأمانة، وهذه النظرة ليست وليدة فترة من الزمن أو ساعة. هي كلّ حين. عيناي إلى الربّ كلّ حين. والعينان هما هنا لتعلّمنا الثقة التامّة بالربّ، الاتّكال التامّ على الربّ. وقد اختبر المؤمن، أو هو أراد أن يُعلن فعل إيمانه بما سوف يصنع له الربّ.
يقول: هو يُخرج من الشرك رجليّ. عيناي إلى الربّ كلّ حين، فهو يُخرج من الشرك رجليّ. وقد يكون المؤمن جاء إلى الهيكل ليشكر الربّ أو ربّما جاء يطلب، جاء يعلن ثقته. فكأنّي به متأكّد كلّ التأكيد بأنّ الربّ يُخرج من الشرك رجليه، يُخرجه من الضيق ومن الاضطهاد، من الصعوبة. الربّ هو الذي يُخرج من الشرك رجليّ، عندئذ يعود التائب فيتذكّر خطيئته من جديد.
7 - يبقى أن تطلب الرأفة
آية 16: تحنّن يا ربّ والتفت إليّ، لأنّي وحيد ومسكين. فرّج الضيق عن قلبي ومن سوء الحال أخرجني. انظر إلى عنائي وتعبي، اغفر جميع خطاياي. ها أعدائي كثروا وبحماسة يبغضونني.
إذًا بدأت الصلاة في آية 15 وتواصلت. ماذا طلبت؟ طلبت الحنان والرأفة، طلبت من الربّ أن يتنازل فيلتفت إلى تقيّه، إلى ذاك الذي أعلن مخافته، لماذا. هل يستحقّ؟ كلاّ. ولكنّه قال: لأنّي وحيد ومسكين. وحيد ليس لي سواك. ومسكين لا أنتظر شيئًا إلاّ منك. لو كنتُ غنيٌّا لاستغنيت عنك، ولكنّي مسكين، أحتاج إلى كلّ شيء منك ومن يدك.
وماذا يطلب المؤمن بعدُ؟ فرّج الضيق عن قلبي، تكاثرت مضايق قلبي. هي كثيرة، فرجّها ومن سوء الحال أخرجني. حالته ضيّقة. يطلب هنا من الربّ أن يكون حاضرًا. أن يعمل فيه. انظر إلى عنائي وتعبي واغفر جميع خطاياي. يعود أيضًا إلى طلب الغفران.
نلاحظ ثلاث مرّات هذه الإشارة إلى طلب الغفران، هو يطلب ويكرّر الطلب، لأنّه يخطئ ويُكرّر الخطايا. فهو يحتاج كلّ يوم أن يطلب المغفرة من الربّ. وكيف يفهم أنّ خطاياه ما زالت حاضرة؟ يقول: ها أعدائي كثروا وبحماسة يبغضونني أو بعنف يبغضونني. بيّن للربّ الحالة الصعبة التي يعيش فيها.
وينتهي المزمور من 20 إلى 22. نجّني واحفظ حياتي. بك احتميت ولن أخزى، فاشفع لنزاهتي واستقامتي وأنت يا ربّ رجائي. وانتهى المزمور كما بدأ على مستوى الرجاء. ولكن نسينا بعض المرّات المجّانيّة، وأراد المؤمن أن يبيّن براءته، برارته أمام ا؟. ولكن هل تبقى الصلاة على مستوى الفرد؟ كلاّ. بل تصبح صلاة الجماعة.
افتدِ بني إسرائيل يا الله من جميع ضيقاتهم. بني إسرائيل يعني الشعب الذي يخاف الربّ. كانوا في الماضي أولئك المقيمين حول الهيكل، أمّا اليوم فالمؤمنون هم في العالم كلّه. لم نعد أمام شعب واحد بل أمام جميع الشعوب الذين يطلبون الفداء والنجاة والحماية والفرج.
فيا ربّ أنت رجائي، يا ربّ عليك اتّكالي، لن أخاف مهما كثرت المضايق، أعرف أنّك تُخرج من الشرك رجلي، وترفعني من عنائي وتعبي، فأُحسّ بحضورك في قلبي في حياتي وفي عالمي. آمين.