المزمور الخامس والعشرون :سبل الربّ رحمة وحقّ

 

المزمور الخامس والعشرون

سبل الربّ رحمة وحقّ

أحبّائي، المزامير صلاة الكنيسة، المزامير صلاة كلّ واحد منّا. يا ليتنا نغذّي حياتنا بهذه المزامير ونترك أناشيد عاطفيّة وصلوات خفيفة لا تؤثّر في حياتنا، بل لا تؤثّر فينا إلاّ سريعًا مثل النار في الهشيم، تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة. أمّا المزامير التي هي كلمة الله فنجعلها في قلوبنا وفي أفواهنا، فنرفع إلى الله كلمة الله هذه يجب أن تكون صلاتنا، هذه يجب أن تكون نشيدنا، ونحن ما زلنا في المزمور 25، قرأنا في المرّة السابقة من آية 1 إلى آية 7، وها نحن نعود إلى قراءة هذه الآيات.

1 - تصمت الشفاه ويتكلّم القلب

لماذا نقرأ، أحبّائي؟ لأنّ كلّ ما نحاول أن نشرحه من مزامير يبقى خارجًا. فالشرح هو التمهيد، يجب أن نصل إلى وقت لا نحتاج بعد إلى شرح، بل يصبح المزمور صلاتنا وابتهالنا إلى الله. لهذا السبب نقرأ المزمور، ونعيد قراءته، ونقرأ شرحه ونتأمّل فيه، ثمّ نقرأه. ويتواصل فمنا في الكلام إلى أن ينتقل الكلام إلى قلبنا. تُتمتم الشفاه ولكن ليس من صوت، لأنّ القلب هو الذي يحكي. وما أجمل الكلام مع الله حين يصدر من القلب، ولا يصدر فقط من الشفاه، من الفم، كما قال أشعيا: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، أمّا قلبه فبعيد منّي.

يا ليتنا نغلق شفاهنا، ونترك قلبنا يتكلّم مع الربّ. عندئذٍ يبدّل الربّ قلبنا، ويعطينا الشجاعة ساعة الضعف. الربّ هو الذي يكلّم قلبنا، يفهمنا. فنحن لا نفهم فقط بآذاننا. كم مرّة نسمع ولا نريد أن نسمع، كم مرّة ننظر ولا نريد أن ننظر، ولا أن نرى. أمّا إذا تركنا الربّ يفعل في قلبنا، فهو يعلّمنا كيف نسمع، كيف نرى، وكيف نفهم.

إذًا نعيد قراءة المزمور 25 من 1 إلى 7 الذي تأمّلنا فيه في المرّة السابقة. إليك يا ربّ إلهي أبتهل، عليك توكّلت فلا أخزى ولا يشمت بي أعدائي. كلّ من يرجوك لا يخزى، بل يخزى الغادرون باطلاً. يا ربّ عرّفني طرقك، وسبلك علّمني. اهدني بحقّك وعلّمني. أنت الله مخلّصي، وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً. اذكر رأفتك ومراحمك، فهي منذ الأزل. لا تذكر معاصيّ وخطايا صباي، بل برحمتك اذكرني لأنّك يا ربّ صالح. قرأنا المزمور 25: 1 - 7.

سبق وقلنا إنّ المرتّل يتمنّى أن لا يخيّب الله ثقته به، أن لا يخزى أمام الناس لأنّه جعل رجاءه في الربّ. وهو يبدو كتائبٍ ينتظر غفران الله لينطلق في مسيرته من جديد بقيادة الله. يقول له: عرّفني طرقك، علّمني سبلك، اهدني، علّمني.

إذًا هو يطلب التعليم من الله والمعرفة من الله، والهداية من الله. إن كان هو خاطئًا، فهو لن يعرف أن يسمع ؟. لهذا يقول له: لا تذكر معاصيَّ وخطايا صباي، هو يجعل كلّ اتّكاله على إله المراحم، على إله الرأفات.

2 - إرشاد أوّل

في آية 8، يسمع هذا المرتّل، هذا التائب القريب من اليأس، يسمع أوّل إرشاد. يقول له الكاهن أو النبيّ الحاضر، إرشادًا هو بمثابة نداء إلى الثقة با؟. طلب المرتّل من الله أن يهديه إلى طريقه، فوعده ا؟ باستجابة كلّ إنسان، ولو كان خاطئًا، شرط أن يتوجّه إليه بصلاة متواضعة. ويعد المؤمن بحفظ متطلّبات العهد، بأمانة. ويأتي جواب التائب فيقرّ بخطاياه ويلتمس المغفرة، مسلّمًا ذاته بكلّيّتها إلى رحمة الله. إذًا إرشاد أوّل نقرأه من آية 8 إلى آية 11.

ماذا يقول له هذا الكاهن؟ ماذا يقول الكاهن لهذا التائب الآتي ليقرّ بخطاياه ويطلب من الربّ الرحمة والغفران؟ يقول له في آية 8: الربّ صالح ومستقيم ويرشد الخاطئين في الطريق. يهدي الودعاء بأحكامه ويعلّم المساكين طرقه. سبل الربّ رحمة وحقّ لمن يحفظ عهده وفرائضه.

نلاحظ، أحبّائي، المقابلة في مزمور 25 بين آية 4 - 7 وآية 8 - 11. فهذا المؤمن يطلب من يعلّمه: سبلك علّمني، يقول له المزمور. الربّ يعلّم المساكين. يطلب المؤمن أن يعرف طرق الربّ. وتأتي كلمتك. الربّ يرشد الخاطئين في الطريق، ويعلّم المساكين طرقه. يطلب الهداية في آية 5: بحقّك اهدني. ونقرأ في آية 9: هو يهدي. ولكن من يرشد؟ من يهدي؟ من يعلّم؟ كأنّ المزمور يقول: هناك من يقبل الإرشاد. في العمق، في نظرتنا إلى الله، الربّ يرشد كلّ إنسان. في نظرتنا إلى الله، الربّ يهدي الجميع ويعلّم الجميع. لكن إن لم يكن من تجاوب فلا نفع من إرشاد الربّ، من تعليم الربّ، مماَّ يفعله الربّ، لكي يعرّفنا إلى سبله وإلى طرقه.

3 - الربّ صالح

الربّ صالح ومستقيم. كلامٌ بمثابة إعلان، بمثابة فعل إيمان. الربّ صالح، الربّ حنون، الربّ رحيم. ثمّ هو مستقيم فيحبّ المستقيمين. الصلاح صفة مرتبطة بالله سواء تجاوبنا معه أم لم نتجاوب، فهو إله الصلاح. وقد سبق وقال المرتّل في آية 7: لأنّك يا ربّ صالح. ونتذكّر الإنجيل حين سأل أحدهم يسوع: أيّها المعلّم الصالح: ماذا أفعل لكي أرث الحياة الأبديّة؟ قال له يسوع: الله وحده صالح. هذا يعني أنّك تقول لي إنّي صالح، هذا يعني أنّني ابن الله أنّني الله.

لأنّك يا ربّ صالح. هكذا أعلن إيمانه هذا المرتّل. فأجابه الكاهن من الداخل: الربّ صالح. الصلاح صفة من صفات الله، كنتيجة رحمة الله؟ وحنانه. ومستقيم، إن كان الله مستقيمًا، يعني يحبّ المستقيمين، يحبّ الذين يسيرون في الطريق الذي يطلبه منهم. الكذب، الرياء، الالتواء، الله يرفضه، يريد منّا الاستقامة، يريد منّا أن نسير في الحقّ. إذا أردنا حقٌّا أن يصبح إرشادُه فاعلاً في حياتنا، أن تصبح هدايته نورًا في طرقنا، أن يصبح تعليمه جزءًا من مسيرتنا، فليس علينا إلاّ أن نكون مستقيمين، أن نعيش الاستقامة، أن نبتعد عن الالتواء، والرياء، والخبث.

أن نكون ضعفاء، هذا ليس بمهمّ، فالربّ يقوّينا. أن نكون خطأة ليس بمهمّ. فالربّ يغفر خطايانا، ولكن أن تكون حياتنا مملوءة بالالتواء والرياء، فهذا صعب جدٌّا. هذا ما يسمّيه الإنجيل، التجديف على الروح القدس، الكذب على الروح القدس. نُموِّهُ على الله، نلبس القناع لكي لا نظهر على حقيقتنا. وفي الواقع سيكون يسوع قاسيًا على الفرّيسيّين المرائين، لأنّهم يريدون أن يظهروا في الخارج على غير ما هم في الداخل. يسمّيهم الإنجيل: القبور المكلّسة. من الخارج، هم البياض، البياض الناصع. أمّا في الداخل فهناك رائحة الموت والنتانة. إذًا قال الكاهن في إرشاد أوّل: الربّ صالح ومستقيم، هو صالح لأنّه رحيم وحنون. وهو مستقيم مع المستقيمين. علّمنا يا ربّ الاستقامة، علّمنا حقيقة نفوسنا.

4 - ينحني على الخاطئ

في آ 5 كان قد قال المرتّل: بحقّك اهدني وعلّمني. وهنا يمكننا نحن أن نقول: يا ربّ اهدني إلى الحقيقة، لا تسمح أن يسيطر الكذب عليّ والغشّ والرياء أبدًا. وتقول آية 8: ويرشد الخاطئين في الطريق. إذا كنتَ خاطئًا، إذا اعترفت بخطيئتك، فالربّ يرشدك. وتطلب الإرشاد كما فعل هذا المرتّل، يجيبك الكاهن: الربّ يرشد الخاطئين في الطريق، ولكن إن اعتبرت نفسك في الطريق السويّ، في الطريق المستقيم، لن تستفيد من إرشاد الله

نتذكّر هنا إنجيل القدّيس لوقا مع الفرّيسيّ والعشّار. اعتبر الفرّيسيّ أنّه لا يحتاج إلى رحمة. الله، لا يحتاج إلى غفران الله أبدًا. بل الله يحتاج إلى أعماله، إلى أن يصوم له، أن يصلّي، إلى أن يعشِّر أمواله. لهذا لم يصل إلى الطريق الذي رسمه الله وحده العشّار. وحده جابي الضرائب، قال له: أنا خاطئ يا ربّ. ارحمني ودُلّني على الطريق الذي تريده أنت.

ونحن نفعل مثل هذا العشّار، مثل جابي الضرائب هذا، نقول له يا ربّ نحن خطئنا، نطلب غفرانك، نطلب إرشادك، نطلب منك أن تجعلنا في الطريق الذي تريده لنا. الربّ صالح ومستقيم يُرشد الخاطئين في الطريق.

آية 9: يهدي الودعاء بأحكامه. سبق وقلنا: هو يهدي كلّ إنسان. ولكنّ المتكبّر لا يقبل الهداية، صاحب الوجاهة، صاحب العضل لا يطلب الهداية، صاحب الغنى لا يحتاج إلى هداية، يعتبر أنّه هو الذي يهدي الناس.

ولكن، أحبّائي، المزمور يقول إنّ الربّ يهدي الودعاء. الوديع هو الذي يرفض العنف، الوديع هو الذي يقبل النصيحة، يقبل الإرشاد، لا يعتبر نفسه فوق الجميع. الوديع هو المتواضع، ويقول المثل عندنا: الأرض الواطية تشرب ماءَها وماء غيرها. والوديع يعرف أن يقبل الهداية، كلّ الهداية سواء جاءت له أو لغيره. الربّ يهدي الودعاء بأحكامه، يعلّمهم أحكامه، يعلّمهم شرائعه، طرقه، فرائضه.

الربّ هو الذي يحكم علينا في النهاية، فنحن لا نخاف. نحن لا نخاف لأنّنا نعرف أنّنا صرنا في هدايته. إذا قبلنا الهداية بأحكامه، لا نخاف حكمه. في النهاية تكون دينونته حيث نسمع: »ابتعدوا عنّي يا ملاعين إلى نار الابد، أنا لا أعرفكم«، ولكن نحن، إن قبلنا أحكام الربّ بوداعة وتواضع، نسمع عندئذ: »تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم«. الربّ يهدي الودعاء بأحكامه، ويعلّم المساكين طرقه.

5 - ويهتمّ بالمساكين

المساكين. المسكين أوّلاً هو الفقير، هو الذي لا يملك مالاً. إلى هؤلاء المساكين جاء يسوع. والمسكين هو الذي لا يتّكل على ذاته، على نفسه. هم أوّل من نال الطوبى من يسوع المسيح، طوبى للمساكين، طوبى للمساكين بالروح الذين يتقبّلون إرشاد الربّ وهدايته. المساكين هم كالودعاء، والربّ هو الذي يعلّمهم. هم يتقبّلون التعليم، لا يرفضون التعليم، لأنّهم لا يتّكلون على نفوسهم، لا يتعلّقون بعلومهم، لا يستندون إلى مالهم، لا يجدون اتّكالاً أو ثقة أو استنادًا سوى إلى الربّ.

ويعلّم المساكين طرقه. نحن يا ربّ من مساكينك، وإذا مرّة من المرّات أردنا أن نخرج عن الطريق، كُن أنت الراعي الصالح، رُدّنا إلى الطريق. وإذا كنّا غصنًا في كرمتك نريد أن نسير شمالاً ويمينًا، أنت شدّنا إليك، لكي نكون مرتبطين بك كالغصن الذي يحمل ثمارًا، فيدلّ على أنّه متّحد كلّ الاتّحاد بالكرمة.

يهدي الودعاء بأحكامه ويعلّم المساكين طرقه. ولكن قد يظنّ المرتّل أنّ الربّ عنده سبيل، ولكن هل يمكن أن نثق بهذا السبيل، بهذا الطريق، فيتابع الكاهن إرشاده: سبل الربّ رحمة وحقّ. سبق وقال: الربّ صالح. وهو يتحدّث الآن في آية 10 عن الرحمة، هو صالح لأنّه رحيم، هو صالح لأنّه يعاملنا بالرحمة.

إذًا أنتَ لا تخَفْ. اجعل ثقتك بالله ولو لم ترَ الأمور بعينيك، بنظرك. فهناك عين الإيمان التي تجعلنا نرى حقٌّا سبل الربّ، ونفهم أنّ هذه السبل تنبع من رحمة الربّ لأنّه هو الصالح. ويتابع: سبل الربّ رحمة وحقّ. قال في آ 8: الربّ صالح ومستقيم. وعاد هنا إلى لفظ حقّ الذي قرأناه في آية 5: بحقّك اهدني، وعاد يقول له: لا تخَف أيّها المؤمن: سبل الربّ رحمة، سبل الربّ حقّ. ولكن لمن يحفظ عهده وفرائضه.

6 - ويعلّمهم طرقه

أجل من لا يحفظ عهد الربّ، لا يستطيع أن يفهم ما يقوله له الربّ. العروس تفهم على عريسها لأنّ هناك عهدًا بين الاثنين، لأنّ هناك حبٌّا بين الاثنين. فإن لم يكن عهد، وإن لم يكن حبّ، فما من تفاهم أبدًا. وهكذا هو الوضع في حياتنا. إن كنّا نحفظ عهد الله يعني كان هناك حبّ بيننا وبين الله، إن كنّا نفهم، إن كنّا نحبّ أن نفهم أيّة إشارة تأتينا من عند الربّ. هكذا القدّيسون كانوا يفهمون أكثر من العلماء والمتعلّمين، لأنّ الحبّ الذي في قلبهم جعلهم يفهمون.

طرق الربّ لمن يحفظ عهده وفرائضه. لا يكفي فقط أن نكون أبناء العهد، يجب أن نعبّر عن أمانتنا لهذا العهد من خلال ممارستنا لفرائض العهد، للفرائض التي يطلبها الربّ. والفرائض التي يطلبها الربّ ليست من أجله هو، بل من أجل كلّ واحد منّا، من أجل جماعتنا، من أجل المجتمع، من أجل العالم. الفرائض هي الوصايا: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد بالزور، لا تشتهِ، إلى آخره. كلّ هذا يدلّ على أنّنا نحفظ عهد الربّ، كلّ هذا يدلّ على أنّنا نحبّ الربّ.

سأل أحدهم يسوع عن الوصايا، وكلّ هذه ستتلخّص في المحبّة. المحبّة هي العاطفة التي تجعلنا نحفظ عهد الربّ، المحبّة تدفعنا لأن نعيش وصايا الله، ونعتبر هذه الوصايا كأنّها الطريق الحقيقيّ إلى الحياة، وهي كذلك. سبل الربّ رحمة وحقّ لمن يحفظ عهده وفرائضه.

ولكن المرتّل فهم عند ذلك: هل حفظ عهد الربّ؟ هل حفظ فرائض الربّ؟ هو خاطئ مثلي ومثلك، ومثل كلّ واحد منّا.

لهذا كانت صلاته الأخيرة في آية 11: من أجل اسمك يا ربّ اغفر ذنوبي الكثيرة. إذا كنت لم أحفظ عهدك، لم أحفظ فرائضك، فأنا أذنبتُ إليك، أذنبتُ إلى إخوتي. وها أنا أطلب منك. اغفر ذنوبي الكثيرة، لا من أجل استحقاقاتي، بل من أجل اسمك يا ربّ، من أجل مجدك. أسمعنا يا ربّ هذا الارشاد، هذا النداء، إلى أصْل التوبة، وأعطنا الثقة بأنّ الطريق الذي تفتحه لنا هو الطريق الحقّ، وأنّ السبيل الذي تجعله أمامنا، ينبع من رحمتك ومحبّتك وصلاحك، لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM