المزمور الخامس والعشرون :الربّ يحمي المضطهَد ويعلّمه

 

المزمور الخامس والعشرون

الربّ يحمي المضطهَد ويعلّمه

أحبّائي، نتابع قراءة المزامير، وقد وصلنا إلى المزمور 25. عنوانه: الربّ يحمي المضطهَد ويعلّمه: إليك يا ربّ إلهي أبتهل... افتدِ بني إسرائيل يا الله من جميع ضيقاتهم.

1 - توسُّل في الشدَّة

إذًا، أحبّائي، قرأنا المزمور 25. المزمور 25 هو مزمور توسّل ينشده المرتّل، ينشده المؤمن. ويمكن أن أنشده أنا، تنشده أنتَ، تنشدينه أنتِ، ينشده كلّ واحد منّا. هذا المرتّل يتشكّى من الحالة التي يعيش فيها. حالة فرديّة من الضيق، من الاضطهاد، من الصعوبات. حالة اجتماعيّة، مجتمع كامل يبدو وكأنّه يتفكّك وكأنّ لا أمل له ولا رجاء.

غريب هذا المرتّل، غريب هذا الكاتب الملهم، الذي كتب منذ ألفين، ألفين وخمسمئة سنة. ولكنّ كتابته تبدو وكأنّها تتوجّه إلينا اليوم. ونحن نعيش عددًا من الصعوبات، وليس أقلّها الصعوبات المادّيّة. وبدلاً من أن يذهب نحو الحائط أو يضرب بالنار كالفراشة. في الليل هو يعلن ثقته بالله يعلن ثقته بالله

وبدلاً من أن يلعن الحظّ والظروف التي لم تسمح له، والبلاد التي ولد فيها، والعائلة التي لم تهتمّ به، هو ينظر إلى نفسه، يرى ذنوبه، يرى خطاياه، يرى كيف أنّه لم يكن على قدر المواهب التي أعطيَت له. لم يستثمر الوزنات التي أُعطيت له. وفي أيّ حال، البكاء لا يعني شيئًا، التشكّي لا ينفع. لهذا لم يبقَ له إلاّ أن ينظر إلى الربّ: إليك يا ربّ إلهي أبتهل، عليك توكّلت فلا أخزى.

2 - إنشاد في الصعوبات

ما نلاحظ عندما نقرأ هذا المزمور أنّه مزمور أبجديّ، يعني أوّل بيت يبدأ بحرف الألف، والثاني بحرف الباء، والثالث بحرف ج... بهذه الطريقة، هو مزمور أبجديّ يساعد الذاكرة على الحفظ وبالتالي على الإنشاد. ولكنّ لهذه الطريقة معنًى أعمق، إذ إنّ الأبجديّة عطيّة الله للبشر الذين يحتاجون هنا إلى الكلمات والحروف المنظّمة لكي يمدحوا الله وينشدوه عبر الأبجديّة التي أعطاهم إيّاها.

فجميع الكلمات التي يمكن أن نقولها، أن نرفعها إلى الله مؤلّفة من الحروف الأبجديّة. في العالم العبريّ والسريانيّ والآراميّ 22 حرفًا، في العالم العربيّ أو العالم الأوغاريتيّ 28 حرفًا. وهناك لغات مثل الأرمنيّة تتعدّى حروفها الـ 35 حرفًا. هذه الحروف التي هي عطيّة من الله نستخدمها لكي ننشد الله، لكي نمتدح الله نمتدح أعماله، نمتدح اسمه وعظائمه.

مزمور توسّل. ونحن أيضًا يا ربّي، نودّ أن نتوسّل إليك من خلال قراءتنا هذا المزمور، نريد أن نصلّي. من خلال استماعنا إلى شرحه نريد أن نصلّي. لا شكّ، لا نستطيع أن نوقف الكلام على الراديو، ولكن يمكن أن نسجّله ونستمع إليه. نستمع إلى عبارة، عبارتين، ثلاث عبارات. ونتوقّف عندها لكي تدخل هذه الكلمات إلى قلبنا، إلى حياتنا، إلى لساننا، إلى كلّ أعضائنا.

إذًا هذا المزمور الذي هو توسّل ينشده إنسان بائس. ننتبه: هو بائس ومع ذلك هو ينشد. فالنشيد يعيد الفرح إلى القلوب إذا كانت حزينة، النشيد يعيد الأمل إلى القلوب إذا لامسها القنوط واليأس والإحباط. هذا الإنسان البائس ينشد، وفي نشيده يبحث عن الطريق التي توصله إلى الربّ.

هو لا يلعن أحدًا، هو لا يلعن الظروف، هو لا يبكي، هو لا يدمدم ولا يشتكي، بل يرفع صلاته إلى الربّ. والربّ يعلّمه كيف يضع الأمور في نصابها، صعوباتها وسهولاتها يضعها في موضعها. عندما ننظر فقط إلى الصعوبة يدبّ فينا اليأس. وعندما تُجعَل الصعوبةُ في إطارها الواسع، في إطارها العاديّ، في إطارها اليوميّ أو في إطار حياتنا كلّها، تصبح الصعوبة حجرًا في مدماك يرتفع يومًا بعد يوم. هكذا فعل المرتّل وهكذا يجب علينا أن نفعل وإلاّ سيطر علينا اليأس، سيطر القنوط. وكم نحن بحاجة إلى أن نستعيد الأمل والرجاء.

3 - إليك أبتهل

ويبدأ المزمور بالآية 1. هو المرتّل يرفع أفكاره وصلواته إلى الله يقول: إليك يا ربّ إلهي أبتهل، عليك توكّلت فلا أخزى، ولا يشمت بي أعدائي. إليك. هي صيغة المخاطب. نتكلّم مع الله كما يتكلّم الصديق مع صديقه والرجل مع زوجته والزوجة مع رجلها. هو الخطاب، هو الحوار. نريد أن نفهم، نريد أن نتشجّع، نريد أن نتقوّى. إليك يا ربّ إلهي أبتهل.

ابتهالي يرتفع إليك لأنّي عليك توكّلت. التوكّل على البشر لا ينفع كثيرًا، لأنّهم يسيرون بحسب مصالحهم، إلاّ إذا كانوا متجرّدين ومحبّين. حينئذ يكونون صورة عن عطاء الله المجّانيّ، عطاء الله السخيّ. التوكّل على المال لا ينفع شيئًا ولو جمعنا منه الكثير. الاتّكال على العظمة، الاتّكال على العلم، كلّ هذه الاتّكالات تزول سريعًا. هناك أمر واحد نستطيع أن نتّكل عليه: عنايةالله هناك أمر واحد، شخص واحد نستطيع أن نتّكل عليه: هو الربّ ذاته.

عليك توكّلت، لا على أحد آخر أبدًا، عليك وحدك يا ربّ توكّلت. وبما أنّي توكّلت عليك فلا أخزى، فلا يمكن أن ينتابني الخجل أبدًا، لا يمكن أن أفشل، لا يمكن. يمكن أن يكون هناك فشل ظاهريّ، والصليب في المسيحيّة هو فشل ظاهريّ، ولكنّه في العمق الانتصار والانتصار الكبير وعلامة الخلاص الشامل، لأنّه امتزاج بالحبّ. عليك توكّلت فلا أخزى ولا يشمت بي أعدائي.

4 - بالرغم من الخوف

يخاف المرتّل مرارًا من الأعداء، من الخصوم. لماذا يخاف منهم؟ يخاف منهم أوّلاً لأن كلّ إنسان له من نفسه. لا يريد أن يفشل فيهزأ منه الناس. ولكن أكثر من ذلك. هو يخاف أن يشمت به الأعداء بعد أن يخزى، لأنّ الشماتة لا تصل إلى الإنسان فقط بل إلى الإله الذي يعبده. يقولون له: أنت توكّلت على الله فماذا صنع لك الله هذا ما قالوه ليسوع على الصليب: إن كان ابن الله إن كان يحسب أنّ الله يحبّه فليبيِّن ذلك. فلينزل عن الصليب فنؤمن به.

إذًا الشماتة لا تتوقّف عند المؤمن، بل تصل إلى الله. فكأنّي بهم يقولون له حين يخزى، يقولون له: ماذا فعل الله لك؟ أنت توكّلت على الله فماذا أعطاك الله؟ وهذا ما يقود عددًا من الناس إلى الابتعاد عن الله إلى اليأس، إلى ترك االله واعتبار الله شخصًا ميتًا. مثله مثل الأصنام لا يفعل شيئًا، أو هو لا يسمع، ولا يرى ولا يفعل. عليكَ توكّلتُ فلا أخزى ولا يشمت بي أعدائي.

أجل، المرتّل يريد أن يراه أعداؤه إن نجح، ويريد أن لا يشمت به أعداؤه إن فشل، لأنّ فشله يدلّ وكأنّ ا؟ فشل. هذا ما عاشته جماعة أورشليم سنة 587 ق. م. لمّا حاصر البابليّون أورشليم، انتصروا. هذا يعني أنّ إلههم، الإله مردوك، انتصر على الربّ، على الإله الحقيقيّ. أجل فكأنّي بالأعداء يقولون لشعب أورشليم: أين إلهكم؟ هو في السماء لا يرى ولا يسمع.

ولكنّ حزقيال النبيّ سيبيّن أنّ الله لم يكن في أورشليم، وأنّه ترك مدينته لأنّ مدينته خاطئة. وسيقول خصوصًا أشعيا الثاني: إنّ الله هو الذي أرسل نبوخذنصّر البابليّ لكي يعاقب شعبه الخاطئ. إذًا الربّ هو سيّد التاريخ، وهذا ما يجب أن يكون عليه إيماننا. الربّ سيّد حياتنا، سيّد أعمالنا وأقوالنا، الربّ سيّد عيالنا ومجتمعاتنا، الربّ سيّد العالم، سيّد التاريخ.

كم نحتاج يا ربّ إلى إيمان عميق لكي نتابع الطريق رغم الظروف التي نعيش فيها. وكم نحتاج إلى قوًى مضاعفة لكي نعيد القوّة إلى الذين ضعفوا، لكي نعيد الأمل للذين يئسوا، لكي نعيد الفرح إلى الذين يعيشون في الحزن.

5 - أجعل رجائي فيك

تلك كانت الآية الأولى، إليك يا ربّ أرفع أفكاري، إليك أبتهل، عليك أتوكّل، لن أخاف. الربّ نوري فلن أخاف، الربّ خلاصي فلا أفزع. وينطلق القسم الثاني من المقدّمة بالآية 2 و3:

عليك توكّلت يا ربّ فلا أخزى ولا يشمت بي أعدائي.

آية 3: كلّ من يرجوك لا يخزي بل يخزى الغادرون باطلاً. فكأنّي بالمرتّل يعطي صورة عن الخبرة التي عاشها. كلّ من يرجوك. وأنا رجوتك. جعل نفسه بين الراجين، بين الذين جعلوا أملهم في ا؟، فيك يا ربّ. كلّ من يرجوك لا يخزى. فأنا لا أخزى أبدًا. هو متأكّد من ذلك. وعندما نشعر أنّنا هُزمنا، نُهزم في الواقع. لكن عندما نفهم أنّنا أقوياء بقوّة ا؟، لا شيء يقدر علينا. يقدرون على الجسد ولكن لا على النفس.

لهذا سيقول الربّ لإرميا: جعلتك سورًا من نحاس، بابًا من حديد. يهاجمونك ولا يقدرون عليك. لكن يا إرميا، إذا أنت خفت منهم، فأنا أزيدك خوفًا على خوف. أنا أجعلك تخاف. بدلاً من أن أجعل في قلبك عاطفة القوّة، أجعل في قلبك عاطفة الخوف. وإن لم يكن هناك من موضع للخوف يصبح الخوف الذي من عندي، خوفًا لك، فيجعلك أضعف من الضعفاء، أضعف من الضعف.

كلاّ يا ربّي. نجعل رجاءنا تامٌّا فيك. نجعل اتّكالنا كلّه عليك. كلّ من يرجوك لا يخزى، بل يخزى الغادرون باطلاً. الذين يريدون أن يغدروا بي لا ينفع أبدًا ما يفعلون. باطل هو ما يفعلون.

شكرًا لك يا ربّ. تجعل في قلوبنا هذا الرجاء. ولكن من خلال هذا الابتهال، من خلال نشيد التوكّل، من خلال نشيد الرجاء، نحسّ عند هذا المؤمن، بعض اليأس، بداية اليأس، بداية الإحباط، بداية الضعف لأنّه لا يرى، لأنّه يسير في الظلام، يسير في الليل.

6 - فعرِّفني طرقك

من أجل هذا تأتي الآية 4: يا ربّ عرّفني طرقك وسبلك علّمني، بحقّك اهدني وعلّمني. أنت ا؟ مخلّصي وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً. يا ربّ، نلاحظ دومًا هذا الصراخ يتوجّه إلى الربّ. عرّفني طرقك. هناك طرق عديدة يعلّمنا إيّاها الناس، ولكنّ هذه الطرق مرّات عديدة تصل إلى الفشل، إلى الضياع. ربّما تقود إلى الموت. طريق الربّ وحدها طريق الخلاص. وفي النهاية وحده الربّ هو الطريق الذي يقود إلى الحقّ وإلى الحياة.

يا ربّ عرّفني طرقك، وسبلك علّمني. السبيل، الطريق. كلمتان مثل بعضهما. دائمًا في المزامير نجد التوازي الشعري: عرّفني طرقك، علّمني سبلك. ننتظر من الربّ أن يعرّفنا، ننتظر من الربّ أن يعلّمنا. هل نستحقّ ذلك؟ كلاّ، ولكنّنا نطلب بخشوع، بتواضع.

لهذا تقول آية 5: بحقّك. أنت تريد، هو عطاء مجّانيّ، أنت تفعل كما تريد. بحقّك اهدني. علّمني الهداية وأعطني التعليم. الهداية لأنّي ضائع، لأنّي أريد نورًا من عندك. أريد كلمة تعلّمني ماذا أفعل. فأنت االله مخلّصي وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً. أنتالله يا أ؟. أنت مخلّصي. إذًا لا اتّكال إلاّ عليك لكي أجد الخلاص. لكي أنال الخلاص. وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً. يعني كلّ يوم من أيّام حياتي. يعني النهار كلّه.

هناك من ينتظرالله وينتظر معه شيئًا آخر. أمّا المرتّل فلا ينتظر إلاّ الله سواء عمل في النهار، سواء صمت في الليل، سواء صلّى في الصباح أو في المساء، فهو لا يضع رجاءه إلاّ في الربّ. اذكر رأفتك ومراحمك فهي يا ربّ منذ الأبد، منذ الأزل. لا تذكر خطاياي ومعاصيّ، لا تذكر خطايا صباي، بل برحمتك اذكرني لأنّك يا ربّ صالح.

بدأ هذا القسم من المزمور في آ 1 فتطلّع إلى الربّ، فوصل إلى الآية 7، لأنّك يا ربّ صالح. هذا المرتّل عرف خطاياه وطلب من الربّ ألاّ يذكرها. وهو إن استند فلا يستند إلى استحقاقاته بل إلى رحمة الربّ، إلى رأفة الربّ. ونحن أيضًا يا ربّ نستند إليك، نطلب رحمتك، نطلب محبّتك. فأنت يا ربّ اتّكالنا وعليك رجاؤنا، عليك اتّكالنا وبك ثقتنا ورجاؤنا. بحقّك علّمنا، بحقّك اهدنا سواء السبيل. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM