المزمور الثاني والعشرون
خلاص لعابد الربّ
إلهي، إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي... وفي الليل لا تحرّك ساكنًا. ذاك هو، أحبّائي، المزمور 22 الذي تلفّظ يسوع، بصوت عالٍ، بأولى كلماته على الصليب. وتابع إيراده حتّى النهاية. ونحن نواصل التأمّل في آياته الأخيرة. آية 23 وما يلي.
1 - حالة المؤمن
في هذا المزمور، صوّر الكاتبُ حالة المؤمن الذي عاد إلى الماضي، وتذكّر ما فعل الربّ من أجل الآباء. ما فعل الربّ من أجل شعبه. هو نجّى الآباء، نجّى الشعب من الضيق الذي عرفوه. وهو الآن ينسى صفيَّه، ينسى تقيّه، ينسى هذا المؤمن الذي يحسّ بالضيق من كلّ جهة.
هذا المؤمن يعرض حالته على الربّ في ثلاث صور: الوحوش التي تصارعه، الموت الذي يقترب منه، زمرة الكلاب التي تحيط به. ضيق من كلّ جهة، ومع ذلك ما زال مستندًا إلى الربّ، متّكلاً على رحمته، واثقًا بقدرته، قدرة الخلاص.
الأسد الذي تحدّث عنه يرمز إلى القوّة التي تعارض الملك وتعارض كلّ إنسان، ولا سيّما إذا كان ضعيفًا. والكلب يرمز إلى الشعب الذي يستعدّ لاقتسام الأسلاب قبل موت صاحبها. ومع ذلك هذا المؤمن يرفع إلى الربّ صلاة متواضعة، صلاة مؤمنة، صلاة بعيدة عن كلّ روح انتقام. هو لا يطلب المرض لأعدائه. لا يطلب لهم الموت. لا يطلب لهم الشدّة والضيق. هو يقبل الأمور وإن لم يفهمها.
وهكذا يكون هذا المؤمن صورة بعيدة عن المسيح المتألّم الذي شُتم فما ردّ على الشتيمة بمثلها، بل أسلم أمره إلى الديّان العادل. صورة مؤلمة، صورة حزينة، صورة الضيق، صورة الشدّة. هل يتوقّف المؤمن عندها؟ كلاّ ثمّ كلاّ. فهو من عمق ألمه سوف ينظر إلى المجد. من عمق يأسه سوف ينظر إلى الرجاء. من عمق موته سوف ينظر إلى الحياة وإلى القيامة.
وهنا نتابع قراءة المزمور 22 في آ 23، فنسمع نشيد الفرح. فالمرتّل شعر قبل أن يأتي الوقت، أنّ ا؟ استجاب له. وهو يبدأ فيشكر الربّ قبل الوقت. يعلن للحميع رحمة الربّ، أمانة الربّ. فإذا كنتَ وديعًا، إذا كنتَ فقيرًا، إذا كنت يتيمًا وأرملاً، اعرف أنّك تقدر أن تأتي إلى ا؟، أن تشبع من خيراته، أن تنعم بحضوره. إذًا نقرأ المزمور 22 في آ 23 وما يلي:
2 - سأخبر باسمك إخوتي
سأخبر باسمك إخوتي... بما تمّ على يده من خلاص. إذًا قرأنا المزمور 22: 23 وما يلي. نلاحظ، أحبّائي، أنّ القسم السابق للآية 23 كان قسمًا فيه من القساوة: الكلاب، الأشرار، الأشدّاء، الأسود، بقرات باشان، البقر الوحشيّ. مع آ 23 تتبدّل اللهجة كلّها. يقول الكاتب، يقول صاحب المزمور: سأخبر باسمك، إخوتي. فبماذا سيخبر إخوته؟ ويتابع: وبين الجماعة أهلّل لك، أرقص لك، أسبّحك، أشكرك. على ماذا؟ لأن بين الحالة الصعبة التي عرفها هذا المؤمن والوضع الذي هو فيه الآن، حدث أمر عظيم، حدَث أمرٌ عجيب.
قال للربّ: أنقذني، فأنقذه الربّ؛ قال للربّ: خلّصني، فخلّصه الربّ، قال للربّ، أعنّي؛ فأعانه الربّ، وأزال كلّ خطر عنه. هناك السيف، أزال السيف فأنقذه منه. هناك الكلاب، هناك الأسود تفتح أفواهها. خلّصه من أيدي الكلاب، من أيدي الأسود. هناك بقر الوحش. أعانه فأزال عنه هذا الشرّ. فالشكر كلّ الشكر ؟ الذي هو إله الخلاص، إله الإنقاذ، إله العون، إله المساعدة، إله الحضور. من أجل هذا يستطيع المؤمن أن يقول: سأخبر باسمك إخوتي.
أجل هو يقدر أن يخبر إخوته بما حصل له من خلاص. وإذ يفعل ما يفعل، فهو يتكلّم من أعماق قلبه، لأنّه اختبر قدرة ا؟. وهو لا يكتفي بأن يتكلّم، بأن يخبر، بل هو سيهلّل، هو سينشد، ولا يكتفي بأن يهلّل ولا يكتفي بأن ينشد، بل يدعو الناس (آ 23) هلّلوا للربّ يا خائفيه، مجّدوه يا ذريّة يعقوب! هو لا يكتفي أن يرقص، أن ينشد، أن يهلّل، بل يدعو خائفي الربّ الذين يعيشون بحسب وصاياه. هلّلوا له، سبّحوه يا جميع المؤمنين، مجّدوه.
3 - استجيروا بالله
وهل يكفي التهليل؟ كلاّ. هل يكفي التسبيح؟ كلاّ. هل يكفي رفع آيات المجد؟ يتابع فيقول: استجيروا به يا ذريّة إسرائيل، لأنّه لا ينبذ المساكين. استجيروا. يعني اقتربوا منه، كونوا جيرانه، اطلبوا الحماية عنده. أنتم ضعفاء، الأعداء من كلّ جهة، اطلبوا جيرته، اطلبوا الملجأ عنده، لماذا؟ ألأنّكم تستحقّون؟ كلاّ. فأنتم ضعفاء، أنتم خطأة، أنتم مرّات عديدة تركتم ا؟ وتطلّعتم إلىالأوثان. فلماذا إذًا؟
الربّ لا ينبذكم لأنّه لا ينبذ المساكين. يكفي أن تأتوا إليه كالودعاء، يكفي أن تأتوا إليه كأنقياء القلوب، يكفي أن تأتوا إليه بضعفكم، فهو لا ينبذ المساكين ولا يستهين أبدًا بعنائهم، يعرف ماذا يصيب المساكين، يعرف الحالة التي وصلوا إليها. فهو كملك يهتمّ بعبيده، وهو كأب لا ينسى أحدًا من أولاده، وهو كأمّ حملت في رحمها أولادها، ولا يمكن أن تتخلّى عنهم مهما كان الوضع الذي يعيشون فيه. أجل، لا ينبذ المساكين، لا يستهين أبدًا بعنائهم، يعرف تعبهم، يعرف من أيّة طينة هم مولودون.
ويتابع النصّ: لا يحجب أبدًا وجهه عنهم، ويسمع إن صرخوا إليه. أجل، إلهنا هو إله يرى، وليس مثل الأصنام الذين لهم عيون ولا يرون. وليس مثل كثير من الناس الذين لا يريدون أن يروا شقاء الناس الذين يعيشون حولهم. مثل »خبر« السامريّ الصالح (لوقا 10).
هناك الجريح على قارعة الطريق. سُلب، بات بين الموت والحياة. مرّ الكاهن فبدا وكأنّه لا يراه. مرّ اللاويّ فبدا كأنّه لا يراه، أمّا السامريّ الذي يفترض أن يكون عدوّه، أن يحتقره لأنّ ذاك يحتقره. احتقار متبادل، عداوة متبادلة، ومع ذلك ذاك السامريّ، ذاك الغريب، فلم يحجب وجهه عن قريبه، بل رآه، رأى آلامه، رأى شدّته.
فإذا كان الإنسان يفعل هكذا، فما ترى يفعل الله؟ الله لا يحجب وجهه عنهم. هو كالأمّ التي تعتني بأولادها، لا يمكن إلاّ أن يكون نظرها على كلّ واحد منهم وكأنّه ابنٌ وحيد. إلهنا هو من يرى، إلهنا لا يحجب وجهه لكي لا يرانا. فكأنّي به لو حجب وجهه، لا سمح الله، يريد لنا الموت، يريد لنا الهلاك، يريد لنا الفناء. لا يحجب وجهه عنهم. يرى شقاءهم، يرى عناءهم، يرى شدّتهم، يرى ضيقهم.
4 - نريه حالنا
هذا يعني أنّنا نريه الحالة التي نحن فيها. هذا يعني أنّنا لا نكون كالفرّيسيّين الذين يريدون أن يظهروا بما ليسوا هم. أمّا نحن فلسنا كهؤلاء المرضى الذين لا يشيرون إلى أمراضهم لكي يشفيها الطبيب. وهنا الطبيب السماويّ ا؟ يرى، إن سمحنا له أن يرى في أعماق قلوبنا، إن فتحنا له قلوبنا ليرى حاجاتنا العميقة. ليس فقط ا؟ لا يحجب وجهه، بل يرى ويريد أن يرى كما يقول المزمور: يشرف من السماء على كلّ أبناء البشر.
هو يرى وهو يسمع كما قلت، والأصنام لها عيون ولا ترى. لها آذان ولا تسمع، لها أيدٍ ولا تفعل. أمّا إلهنا فهو ذلك الذي يرى، يسمع، يفعل. يسمع شرط أن نصرخ إليه. أمّا إذا رفضنا أن نصرخ إليه، إذا اعتبرنا نفوسنا أقوياء، أشدّاء، فيعتبر أنّنا لسنا بحاجة إليه.
إذا اعتبرنا نفوسنا أغنياء، نستطيع أن نستغني عن ا؟، فا؟ لا يمكنه أن يسمع لنا. إن نحن لم نصرخ فهو لا يسمع. فالربّ لا يريد أن يفرض نفسه علينا. لا يريد أن يفرض خلاصه علينا. هو يقدّم حضوره، يقدّم حياته، يقدّم فداءه، يقدّم خلاصه. لكنّه يريد أن نقرع الباب ليفتح لنا، أن نسأل لنجد، أن نطلب لكي يُعطى لنا.
ويسمع الله إن صرخوا إليه: إليك يا ربّي نصرخ. ولا يحجب وجهه لأنّه يرى، ولا يُصمّ أذنيه لأنّه يسمع. يرى إذا نحن فتحنا له قلوبنا وحياتنا، ويسمع إن نحن صرخنا إليه. ذاك كان وضع الشعب العبرانيّ في أيّام فرعون. وذاك كان أيضًا وضع الشعب المصريّ. لمّا جاءت الممالك الأشوريّة والبابليّة، صرخ شعب مصر إلى ا؟ كما سبق للشعب العبرانيّ أن صرخ إلى ا؟ فسمع ا؟ وفعل. ا؟ يسمع ويفعل. يسمع لأنّه يحبّ، لأنّه يرحم، لأنّه القدير.
5 - ونُهلّل له
ويعود الكاتب إلى النشيد. يعود إلى التهليل آية 26: أهلّل لك في المجامع يا ربّ، وأوفي بنذوري أمام أتقيائك. كان النذر ذبيحة تقدّم. إمّا عجلٌ أو حمل أو جدي يقدّم أمام الربّ. وبعد أن يأخذ الكاهن حصّته، كان المؤمن يتقاسم هذا الغذاء مع الذين حوله.
آ 27: سيأكل المساكين ويشبعون، ويهلّل للربّ طالبوه، فتحيا قلوبهم إلى الأبد. أجل مع ذاك الذي يقدّم، يقدّم النذور، يقدّم الذبيحة، يستطيع المساكين أن يأكلوا ويشبعوا. جاؤوا يطلبون من الربّ نعمة، فنالوها. لهذا هلّلوا للربّ. جاؤوا يشاركون الربّ في وليمته فشاركوا، وهم الآن يرون قلوبهم تحيا إلى الأبد. ذريّة يعقوب، ذريّة إسرائيل، هي تعرف خلاص الربّ. وهذا الخلاص لن يتوقّف عند شعب من الشعوب بل يصل إلى جميع الشعوب، يصل إلى جميع الأمم.
آ 28: جميع الأمم تتذكّر الربّ وترجع إليه من أقاصي الأرض، أمام وجهه تسجد جميع الشعوب لأنّ المُلك للربّ سيّد الأمم. أجل هذا الخلاص لن يتوقّف عند أرض أو شعب خاصّ. هذا الخلاص يصل إلى أقاصي الأرض. يصل إلى جميع الشعوب. أغنياء الأرض يسجدون له، وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب، أمّا أنا فله وحده أحيا.
إذًا الجميع يسجدون للربّ، الجميع يعترفون بملك الربّ. ماذا يبقى لي أنا؟ أنا له وحده أحيا. حياتي يقول بولس الرسول، هي يسوع المسيح. وإن متّ فذلك ربح لي. فله وحده أحيا. ولست أنا وحدي، بل ذريّتي أيضًا ستعبد الربّ، لأنّها ستعرف الحياة. ذرّيتي والأجيال الآتية ستخبر عنه من جيل إلى جيل، ستخبر الشعوب، ستخبر الأمم بخلاص الربّ وتحدّث الشعب الذي سيولد، ليس فقط الذين هم اليوم أحياء بل الذين سيولدون.
تحدّث الشعب الذي سيولد بما تمّ على يده من خلاص. إلهنا، إله الخلاص ولا يمكن إلاّ أن ننشد له. في الحلقة السابقة، طلب المرتّل: أنقذني، خلّصني. وهو الآن لا يمكن إلاّ أن ينشد هذا الخلاص، إلاّ أن يهلّل للربّ، إلاَّ أن يدعو شعوب الأرض والأمم جميعها لأن تأتي وتسجد وتختبر خلاصه وتخبر عنه. فكما أخبر المرتّل باسم الربّ، أخبر إخوته باسم الربّ عمَّا فعل له من خلاص. فكلّ مؤمن يستطيع أن ينشد عظمة الربّ، أن يخبر بما فعل له الربّ من خلاص.
يا ليتنا نختبر هذا الخلاص في حياتنا، في حياة جماعتنا، في كنيستنا. آمين.