مقدّمة عامّة

 

مقدّمة عامّة

1. السيبلَّة في العهد القديم

في الميتولوجيا اليونانيَّة، السيبلَّة(1) هي كاهنة أبولّون الذي يجسِّم العرافة ويتنبَّأ. وهي تتكلَّم في لغة ملغزة تسمح بتفسيرات عديدة ممّا يجعلها بمنأى عن مخاصمة لاحقة. هذه الممارسة بما فيها من التباس، دعت »سيبلّيَّة« كتابات أو كلمات غامضة، ملغزة، سرّيَّة.

أمّا السيبلَّة فتشير إلى الإنسان في بعده الفائق الطبيعة، ممّا يتيح له أن يتَّصل بالعالم الإلهيّ ويتسلَّم بلاغاته قبل أن يوصلها إلى البشر. هو ذاك الذي يمتلكه(2) »كائن علويّ«، أو هو نبيّ، أو هو صدى النبيئات(3)، أو هو أداة الوحي. واعتُبرت السيبلاّت انبثاقًا من الحكمة الإلهيَّة، عمرُها عمر الكون، بعد أن استُودعت الوحيَ الأوَّلاني: من هذا القبيل نستطيع أن ندعوها »رمز الوحي«. لهذا قاربوا بين عدد السيبلاّت (12 سيبلَّة) وعدد الرسل.

* * *

وإليك أسماء السيبلاّت كما وردت في القرن الأوَّل ق.م.:

1- سيبلَّة مدينة إريترايا الواقعة على الساحل الأيّوني(4).

2- سيبلَّة تيبور التي هي اليوم تيفولي (قرب رومة) حيث نجد هيكلها إلى اليوم. دُعيت ألبونايا وعُبدت كإلاهة على ضفاف أنيو، أحد روافد التيبر.

3- سيبلَّة الجسر الهلّينيّ (هلاسبون) أو الدردنيل.

4- سيبلَّة فريجية في أناضول تركيّا تنبَّأت في أنقيرة (= أنقرة الحاليَّة).

5- السيبلَّة الفارسيَّة. تحدَّث عنها نكانور مؤرِّخ الإسكندر.

6- السيبلَّة الليبيانيَّة في قرطاجة: أشار إليها أوريبيد في إحدى مسرحيّاته.

7- السيبلَّة القيمريَّة، على شاطئ البحر الأسود. ذكر اسمها في إيطالية نيفيوس في قصيدته حول الحرب الفونيقيَّة، وبيزون في حوليّاته.

8- السيبلَّة الدلفيَّة. لُقِّبت أيضًا »بيتية« نسبة إلى »بيتون« ذاك الصلّ الذي يحمي هيكل دلفي(5). ذُكرت في كتاب العرافة: كريسيب.

9- السيبلَّة الساموانيّة، في جزيرة ساموس اليونانيَّة، عنها وجد إراتوستان نبيئة في حوليّات الساموانيّين.

10- سيبلَّة إغريبّا وهو اسم مصر المشوَّه أيغيبتا(6).

11- سيبلَّة مربسّوس(7)، قرب طروادة. كانت تتكلَّم، حسب هيراكليت بفم يهذي، بدون ابتسامة، بدون زينة، بدون تبرُّج، فيَصلُ صوتها إلى أبعد من ألف سنة، بفضل الإله«(8). وكانت ترسل نبيئاتها في شكل ألغاز، وتدوِّنها على أوراق الشجر. نشير إلى أنَّ هذه السيبلَّة وُلدت في بلاد طروادة وعاصرت كورش الفارسيّ وسولون على، ما قال هيراكليد ابن البنطس.

12- سيبلَّة كيمس(9)، قرب نابولي في إيطاليا.

* * *

تقول الرواية إنَّ أبولّون قدَّم إلى سيبلَّة كومس ديموفيلي هدية(10)، ما ترغب فيه لقاء حبِّها. فقبلت الهديَّة وطلبت من السنين عددًا يوازي ما على البيدر من حبوب الحنطة. أحصيت فكانت ألف حبَّة. ولكن للأسف لم تطلب أيضًا شبابًا دائمًا. ولمّا رفضت حبَّها للإله، صارت تشيخ يومًا بعد يوم. وفي النهاية لبثت معلَّقة في قنّينة في سقف قبوها، وهي ملتوية على نفسها. وحين كان الأولاد يسألونها ما ترغب فيه، كانت تجيب بكلِّ بساطة: »أريد أن أموت«. وصوَّر فرجيل، الشاعر الرومانيّ، إينه، بطل الأنياذة الرومانيَّة، نازلاً إلى العالم السفليّ برفقة سيبلَّة كومس. ودلَّته أين يقطف الغصن الذهبيّ، في الغابات، على شاطئ بحيرة أفارني(11)، وهو غصن يُتيح له بأن يلج مملكة الجحيم(12).

* * *

هذا عند اليونان. وعند الرومان؟ كان الرومان حذرين من عالم العرافة، وكانوا يحتفظون في هيكل جوبتر بالأقوال السيبلِّيَّة التي باعتها في ظروف غريبة، سيبلَّة كومس إلى تركين سوبربوس(13)، في القرن السادس ق.م.

جاءت سيبلَّة كومس إلى تركين آخر ملك في رومة، مع تسعة كتب تضمُّ النبيئات، وطلبت منه مبلغًا باهظًا. هزئ منها وأطلقها. فأحرقت ثلاثة كتب ثمَّ قدَّمت له الستَّة الباقية لقاء المبلغ عينه. فرفض تركين أن يدفع أيضًا. فأحرقت ثلاثة كتب أخرى، وقدَّمت له الثلاثة الباقية وبالمبلغ عينه أيضًا. هذه المرَّة استشار تركين مجلس الكهنة العرّافين(14)، فأسفوا على ضياع الكتب الستَّة، ونصحوه بأن يشتري الكتب الباقية(15).

سُلِّمت هذه الكتب إلى كاهنين خاصَّين دُعيا »الرجلين الاثنين«(16)، وكانوا يسألونها في الكوارث الكبرى. ولكن لا يمكن اللجوء إلى هذه »الأقوال« إلاَّ بأمر من مجلس الشيوخ الرومانيّ، ومُنع »الرجلان أن يسمحا لأحد بأن يراها، وهُدِّدا بالإعدام«.

ما تضمَّنت هذه الكتب نبوءات بل علاجات تكفيريَّة تطبَّق ساعة تحلُّ »معجزات«، أحداث خارقة يرهبها الرومان بشكل خاصّ. في الواقع، كان نصُّ الأقوال السيبلّيَّة من الغموض، بحيث إنَّ شيشرون (خطيب رومة) سوف يقول بعد بضعة قرون وهو الذي لا يميل إلى تصديق هذه الأمور بسرعة: نستطيع أن نستخرج منها كلَّ ما نشاء بحسب الظروف.

بعد حريق الكابيتول(17) سنة 81 ق.م.، حيث كانت الكتب، أُرسلت بعثات عديدة إلى بلدان يُفتَرض أنَّها تأوي الأقوال السيبلّيَّة، من أجل إعادة تكوين المؤلَّفات التي ضاعت. تحقَّق منها أوغسطس وطيباريوس ونقّياها من كلِّ غريب. وفي النهاية دمَّرها مسيحيّون متعصِّبون سنة 406 في عهد الإمبراطور هونوريوس (359-423) بسبب نبيئات تتحدَّث عن نهاية البشريَّة.

* * *

بإزاء هذه السيبلاّت، برزت منذ القرن الثالث ق.م. سلسلة كتب عُرفت باسم الأقوال السيبلّيّة، وبعضها وصل إلينا في نسخات تعود إلى القرن الرابع عشر والسادس عشر. هذه الكتب وعددُها اثنا عشر تضمَّنت أقوالاً قديمة، وأقوالاً يهوديَّة، وأقوالاً مسيحيَّة.

عرف آباء الكنيسة هذه النصوص القاصفة. وفي خطِّهم بحث الكتّاب المسيحيّين عن نبيئات »شبه واضحة« تشير إلى المسيح المخلِّص في نصوص وثنيَّة في أصلها.

وفي الكتاب الثامن نقرأ أشعارًا نُسبت إلى سيبلَّة إريترايا، فأعلنت مجيء المسيح الثاني في يوم الدينونة الأخيرة. وفرجيل، الشاعر الرومانيّ، الذي عاش في القرن الأوَّل ق.م. جعل شعره صدى لهذه النبيئة في هذه الأبيات من »الرعائيّات«(18):

»ها تأتي الأزمنةُ الأخيرة التي أنبأت بها سيبلَّة كومس،

ويأتي أيضًا النظامُ الذي كان في بدايات الدهور،

ها هي العذراء تعود وها هو العصر الذهبيّ،

ها نسل جديد ينزل من أعلى السماوات.

فيا ديانا(19) الطاهرة النيِّرة، احمي هذا الولد

الذي سيُولَد. وإذ تغلقين العصر الحديديّ

يقوم على الأرض كلِّها جيل العصر الذهبيّ.

أخذ المسيحيّون الأوَّلون بالسيبلَّة، وأدخلوا هذه النبيئة في الأدب الدينيّ. فأوسابيوس القيصريّ استعاد أشعارًا من سيبلَّة إريترايا، وتبعه القدّيس أوغسطين في مدينة الله، فقدَّم نسخة خاصَّة مترجمة بشكل تقريبيّ عن اليونانيّة، في 27 بيتًا من الشعر، كرمز للثالوث (3×3×3). والبداية هي: »علامة الدينونة: تفيض الأرض عرقًا (من الجسم)... جاءت النسخة الأوغسطينيَّة بشكل تطريز أي مجموعة أشعار حيث نقرأ الحرف الأوَّل في بداية كلِّ بيت بشكل عموديّ فيكون لنا: يسوع المسيح ابن الله المخلِّص الصليب(20).

ورد نصّ القدّيس أوغسطين في عظة من القرون الوسطى، تتوخَّى إقناع المؤمنين ليلة عيد الميلاد، وفيها يُذكَر أشخاص من العهد القديم والعهد الجديد، ثمَّ وجوه من العالم الوثنيّ: فرجيل، نبوخذنصَّر، سيبلَّة إريترايا. وهناك مخطوط من القرن الثاني عشر يقول إنَّ أوغسطس قيصر سأل سيبلَّة تيبور ليعرف إن كان هناك إنسان أعظم منه. فتراءت له عذراء في بهاء عظيم على مذبح هيكل جونون(21) وهي تحمل طفلاً على ذراعيها. وجاءه صوت من السماء يقول له: »ها إنَّ العذراء تحبل بمخلِّص العالم«. ثمَّ »هذه هي الابنة العزيزة لله«.

2. مجموعة الأقوال السيبلِّيَّة

مجموعة الأقوال السيبلِّيَّة هي باقات نصوص شعريَّة، تمَّ تأليفها منذ القرن الثاني ق.م.، حتّى القرن السابع ب.م. إذا نظرنا إلى هذه المجموعة كما وصلت إلينا، وإذا أخذناها إجمالاً، نعرف أنَّها تضمَّنت أربعة ألاف بيت من الشعر وكلُّ بيت جاء في ستَّة أشطار(22). وتوزَّعت الأقوال في اثني عشر كتابًا. كان هناك خطأ وغموض في التقليد المخطوطيّ، فما وُجد الكتابان التاسع والعاشر، لهذا وصل الترقيم إلى الكتاب الرابع عشر. وسبق المجموعة مطلعٌ أضيف في نهاية الكتاب الخامس أو في بداية الكتاب السادس، ودوَّنه كاتب مسيحيّ أغفل اسمه(23).

هذه الباقات الشعريَّة التي تتميَّز بطابعها المركَّب والمتعدِّد الأصول، هي عمل يهود ومسيحيّين اختاروا أن يلتقوا تحت سلطة السيبلَّة الوثنيَّة لكي يعبِّروا عن نظراتهم اللاهوتيَّة، ويُبرزوا آمالهم المسيحانيَّة والإسكاتولوجيَّة بحيث يقتدون بالأمم (الوثنيَّة) في عقر دارهم.

أ- السيبلاّت الوثنيَّة

تبدو السيبلاّت الوثنيَّة صورة مثاليَّة عن البيتيَّات(24) العاملات في دلفي(25). اختلفت السيبلاّت عن البيتيّات اللواتي كنَّ نساءً حقيقيٌّات (لا من واقع الخيال). فبدون كائنات خياليَّة، يشبهن الجنِّيّات وربّات الشعر، وخاضعات، في شكل عامّ، لبعض الإلهام المتواصل. وهذا ما يختلف عن نوبات عرافة عنيفة وعابرة تميِّز البيتيّات بشكل عامّ.

وإذا كانت مجموعة النصوص جُعلت تحت اسم عامّ »السيبلاّت« عادت إلى نبيّات عديدات، ففي الأصل لم يكن سوى نبيَّة واحدة. فالسيبلَّة التي شهد لها للمرَّة الأولى مقطعٌ من هراكليت الأفسسيّ، في نهاية القرن السادس ق.م.، لبثت واحدة حتّى زمن الإسكندر، وعند ذلك بدأت تتكاثر لكي توفِّق (بلا شكّ) بين مختلف الروايات التي تكوَّنت في أماكن متعدِّدة بالنسبة إليها وتحت اسمها.

أمّا أشهر السيبلاّت، فسيبلاّت إريترايا في آسية الصغرى وكومس في إيطاليا. وهذه الأخيرة خلَّدتها الأغلوغا الرابعة لفرجيل، والكتابان الثالث والسادس عشر في الأنياذة. وانتشرت عدَّة لائحات للسيبلاّت في العالم القديم وأوسعها لائحة فارون في القرن الأوَّل ق.م.، التي ذكرها لاكتانس(26) فيما بعد وعدَّد عشر سيبلاّت. ولكن برزت أسماء أخرى غير التي أوردها فارون، بحيث إن العدد الكامل للسيبلاّت المعروفة في العصور القديمة لا يُعرَف بالضبط. ووجود سيبلَّة يهوديَّة يظهر للمرَّة الأولى لدى ألكسندر بوليهستور سنة 80-40 ق.م.(27) في القرن الثاني ب.م.، ذكر باوسانياس (وصف اليونان 10/12: 9) سيبلَّة تُدعى سَبّي(28) لدى العبرانيّين في فلسطين. بعضهم اعتبرها بابليَّة وآخرون مصريَّة.

في اليونان اعتُبرت السيبلاّت نبيّات انخطاف، يحملن فألاً سيِّئًا في أكثر المرّات ويعشن على هامش الكهنوت الرسميّ. ارتبط اسمهنَّ بنبيئات تنبئ بالمستقبل، بشكل أقوال قصيرة أو وصفات أطول دُوِّنت وانتشرت في حوض البحر المتوسِّط. كان لهذه النبيئات في الأصل بُعدٌ خاصّ فزالت شيئًا فشيئًا(29).

في رومة صار الوضعُ رسميٌّا بالنسبة إلى أقوال السيبلَّة، بعد أن جُمعت في الكتب السيبلّيَّة(30) كما يذكرها ديونيسيوس الهليكرناسي(31) ولاكتانس (في النظم الإلهيَّة 1: 6) والقدّيس أوغسطين (مدينة الله 3/17: 2) وعددٌ من أصحاب الحوليّات(32). حُفظت في الكابيتول منذ القرن السادس ق.م.، ودُمِّر بعضها في حريق أصاب الكابيتول. ولكن نجا بعضها من الضياع بفضل ما جاء به الوفد الرومانيّ من إريترايا. حُفظت سرٌّا في هيكل جوبتر كابيتولينا ثمَّ في هيكل أبولّون في البالاتين (إحدى تلال رومة). كان يستشيرها رسميٌّا في الأوقات الصعبة، حلقة كهنوتيَّة تألَّفت من اثنين ثمَّ من عشرة. وفي أيّام سيلاّ من خمسة عشر(33). كانوا يحسبون أنَّهم يعرفون المستقبل ويحدِّدون العقوبات التي تصيب الأعداء أو أصحاب القلاقل. ويبدو أنَّ الإمبراطور يوليان الجاحد كان يسأل هذه السيبلاّت سنة 363 ب.م.(34) دُمِّرت الكتب السيبليَّة كلُّها(35) على عهد هونوريوس سنة 404-408، بأمر من القائد الوندالي ستيليكون(36).

ب- الأقوال السيبليَّة اليهوديَّة والمسيحيَّة

منذ القرن الثاني ق.م. فكَّر يهود الشتات أن يستغلُّوا سلطة الأقوال السيبليَّة لكي ينشروا إيمانهم ومعتقداتهم في الأوساط الوثنيَّة. من أجل هذا، لم يتردَّدوا في تأليف أقوال جديدة وإدراجها في الأقوال الوثنيَّة: رتَّبوا عناصر تأليفهم الخاصّ بحسب الفنِّ الأدبيّ النبيئيّ. فقدَّموا أحداث الماضي بما فيها من كوارث على أنَّها نبوءات للأيّام الآتية، ولجأوا إلى صيغة المضارع التي تدلُّ على المستقبل. هذا ما ندعوه »نبيئات تنطلق من الحدث«(37). فالكتاب الثالث هو أوَّل مثَل معروف في الأقوال السيبليَّة. يمكن أن يكون دُوِّن في القرن الثاني ق.م.، فكان النموذج (على ما يبدو) لسائر الكتب المجموعة التي وصلت إلينا(38). ودُوِّن الكتابان الرابع والخامس في نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ وبداية الثاني. هما نتاج العالم اليهوديّ المطبوع بالحضارة الهلنيَّة. غير أنَّنا لا نستبعد بعض الدسِّ المسيحيّ الذي جاء فيما بعد. والكتب 11-14 هي مولَّفات يهوديَّة. الكتاب الحادي عشر دُوِّن في القرن الأوَّل ب.م. والكتابان 12-13 في القرن الثالث، والكتاب الرابع عشر حوالي سنة 646 والفتوحات العربيَّة. ودسَّت في هذه الكتب بعض المقاطع المسيحيَّة.

ولأسباب دعاوة مماثلة، ألَّف المسيحيّون هم أيضًا واستعملوا الأقوال السيبليَّة. قد تكون بدأت هذه الممارسة منذ القرن الثاني ب.م.، لأنَّ قلسيوس يتَّهم المسيحيّين بأنَّهم استغلُّوا شعر السيبلة(39). إنَّ روحيَّة النبيئات المسيحيَّة تتقارب نوعًا ما من روحيَّة النبيئات اليهوديَّة، فنجد فيها كلامًا على وحدانيَّة الله، وشجبًا قاسيًا لعبادة الأصنام، وقدحًا وذمٌّا على المضطهد. ولكنَّها تتضمَّن أيضًا نبوءات تتعلَّق بالمسيح وبخدمته على الأرض، بآلامه وبمجيئه الثاني. قد تستند هذه النبوءات إلى تقليد سيبلَّة كومس التي استلهمها فرجيل في الأغلوغا الرابعة لينشد التجديد الإسكاتولوجيّ المرتبط بولادة طفل إلهيّ(40). هذا الاهتمام المسيحانيّ أو الكرستولوجيّ يُشرف مثلاً، على الكتاب السادس، وعلى الكتابين السابع والثامن في بعض أجزائهما. هناك نبيئات ذات طابع تاريخيّ وسياسيّ. وأخرى ذات بُعد جليانيّ وإسكاتولوجيّ.

نجد إيرادات عديدة من الأقوال السيبليَّة عند آباء الكنيسة ولاسيَّما عند تيوفيل الأنطاكيّ وكليمان الإسكندرانيّ ولاكتانس وأوسابيوس وأوغسطين. هذا ما يبيِّن اهتمام الكتّاب المسيحيّين بهذا الأدب. في القرن الرابع، لاكتانس هو الكاتب الذي يورد الكثير من النصوص ولاسيَّما في الكتاب الرابع من النظم الإلهيَّة ردَّ على اتِّهامات الدسِّ التي تحدَّث بها قلسيوس إلى أوريجان. كما أورد أشعارًا من كتّاب مسيحيّين اعتبرها نبوءات سيبلَّة إريترايا، وجعلها على مستوى أقوال أنبياء العهد القديم. إن تفسير لاكتانس سوف يؤثِّر بقوَّة على أوغسطين في طريقة كتابته للتاريخ المسكونيّ وفي المكانة التي حُفظت للنبيئات السيبليَّة في نظرتها إلى تاريخ الخلاص والوحي.

ج- النصوص

عُرفت الأقوال السيبليَّة في أربعة عشر مخطوطًا تعود إلى القرون 14-16. رتَّب رزاخ(41) هذه النصوص في ثلاث أُسَر كبيرة W y j ضمَّت الأسرتان الأوَّليّان تسعة مخطوطات فتضمَّنت الكتب الثمانية الأولى المتفاوتة الطول(42). تتضمَّن مخطوطات الأسرة j مطلعًا غاب من سائر المخطوطات. ويتبع هذا المطلعَ الكتابُ الأوَّل التي يتضمَّن خبر الخلق. أمّا مخطوطات الأسرة y فتبدأ مع الكتاب الثامن بمناخه الكرستولوجيّ القويّ. هذه الاختلافات في تنظيم المجموعة تكشف ربَّما خيارين مختلفين لدى النسّاخ الذين جمعوا أو نسخوا هذه النصوص، وهو أمر يكاد يكون مجهولاً بالنسبة إلى الباحثين.

أمّا مخطوطات الأسرة W فتبدأ مع كتاب يحمل الرقم 9 الذي يتألَّف من الكتاب السادس، من الشعر الأوَّل في الكتاب السابع، ومن جزء من الكتاب الثامن (218-428) الموجودة في الأسرتين j و y ثمَّ يأتي الكتاب العاشر الذي يتماثل مع الكتاب الرابع في مخطوطات أخرى، ثمَّ الكتب 11-14 التي لا تجد ما يقابلها في موضع آخر، والتي تسبق بعض الأشعار لكتاب هو الخامس عشر، الذي يتوافق مضمونه مع بداية الكتاب الثامن في الأسرتين الأخريين. وبما أنَّ الكتابين 9-10 في مخطوطات الأسرة p يتضمَّنان حصرًا نصوصًا نجدها في الكتب 1-8 من الأسرتين j وy، فالنشرات الحديثة تركتها جانبًا. ولكن منذ غافكن(43) احتُفظ بترقيم الكتب 11-14. وهكذا فمجموعة الأقوال السيبليَّة التي وصلت إلينا، تضمُّ فقط اثني عشر كتابًا. بالرغم من ترقيم يجعلنا نظنُّ أنَّنا أمام أربعة عشر كتابًا.

إنَّ الإيرادات العديدة التي نجدها عند آباء الكنيسة، الذين ذكرنا، تشكِّل شواهد هامَّة وثمينة من أجل تركيز النصّ. ففي نهاية القرن الخامس أو بداية القرن السادس ب.م.، ترك كاتبٌ (دوَّن تيوسوفية توبنغن(44) وأغفل اسمه، غير أنَّه تعلَّق بلا شكّ بلاكتانس)، مكانة واسعة للأقوال السيبليَّة وأورد منها المقتطفات المختلفة.

3. حكمة السيبلَّة

»حكمة المرأة المدعوَّة سيبلَّة ابنة هرقل، رئيس حكماء أفسس، وشرح الحلم الذي حلمه مئة حكيم في مدينة رومة، في الليلة عينها، في الساعة عينها، بعد خروج بني إسرائيل من مصر«.

هكذا يبدأ النصّ القبطيّ، العربيّ، السريانيّ، الأرمنيّ، الذي يعود بلا شكّ إلى الأصل اليونانيّ بأشعاره الموزونة. ويُنسَب إلى سيبلَّة تيبور بعد أن عرفته نسخة سريانيَّة عُرفت في مقطع ورد عند ميخائيل السريانيّ الكبير في الترجمة الأرمنيَّة. فهذه النصوص، وإن اختلف مضمونها، فهي تتشابه في الإطار وفي الخاتمة: إعلان أيّام العالم الأخيرة، مجيء المناوئ للمسيح (أنتيكرست)، وصف المدهشات التي تسبق الدينونة الأخيرة. في ما يخصُّ الدينونة، ترتبط هذه النسخة بكتاب منحول هو رؤيا دانيال. ما يهمُّنا أن نعرف هو أنَّ النسخة الحبشيَّة تعود إلى زمن متأخِّر، إلى القرن الثامن عشر، وترجع إلى أصل عربيّ.

تمتلك المكتبة الوطنيَّة في باريس ثلاثة مخطوطات للنصِّ العربيّ: واحد موسَّع جدٌّا (رقم 70 في المكتبة الوطنيَّة)، وآخر قريب من النصِّ الحبشيّ (رقم 281). أمّا النسخة الثالثة فهي في الخطِّ الكرشونيّ وتعود إلى القرن السادس عشر (رقم 178). حسب زوتنبرغ هي قريبة من النصِّ الموسَّع(45).

ويُطرَح السؤال عن أصل الترجمة العربيَّة. هذا النصُّ لم يصل إلينا في السريانيَّة(46). ولكن يمكن القول مع بعض المعقوليَّة إنَّ العربيَّ أخذ عن السريانيّ. وها نحن نورد نصَّ ميخائيل السريانيّ الذي أشرنا إليه سابقًا: »تمَّت روايةُ المئة فيلسوف في ذلك الزمان في رومة. كلُّهم رأوا في ليلة واحدة سبع شموس شرحتها السيبلّة، المرأة الحكيمة، بسبعة قرون من الزمن وسبعة ملوك مشهورين. والشمس السادسة التي تكسفها كلّها بشعاعها والتي لا تغيب مثل الشموس الأخرى، شرحتها بأنَّها المسيح«. هذا يعني أنَّ ميخائيل الكبير عرف هذا الكتاب الذي يعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر. ثمّ إنَّ كتاب السيبلَّة الأرمنيّ الذي ذكره مخيتار(47) في كرونيكته المكتوبة سنة 1297، جعل هذا الكتاب بين كتب اليهود السرّيَّة، أي بين كتاب أخنوخ ووصيّات الآباء الاثني عشر.

يبدأ النصُّ العربيّ بمقدِّمة تشير إلى هجرة اليهود إلى الأرض المقدَّسة، إلى تمرُّدهم على الله، وإلى هزيمتهم بيد تيطس وتشتُّتهم. جعلت النسخة العربيَّة الموسَّعة هذا الحدث يتمُّ سنة620(48). كيف الكلام عن هذه الرؤية؟ عادوا إلى السيبلَّة ابنة هرقل(49)، رئيس فلاسفة أفسس(50). لهرقل أخت اسمها »شمال« وعمرها 180 سنة وهي تعلِّم منذ سنوات عديدة فأمدَّ الله عمرها حتّى وصلت إلى 192 سنة وأربعة أشهر(51). وبما أنَّ الحكماء لم يستطيعوا أن يفسِّروا الحلم مضوا إلى السيبلَّة بأنفسهم، أو هم طلبوا إلى الملك فجاء بالسيبلَّة، فجاءت إلى ملعب الخيل.

في الشمس الأولى، يكون الناس وضعاء، غيارى على الخير. في الشمس الثانية (أو الجيل الثاني) يخفُّ اندفاع الناس بحسب نظريَّة عصور العالم الأربعة: الذهب، الفضَّة، النحاس، الحديد. في الشمس الثالثة تعلن السيبلَّة تنامي الشرّ وتكاثر الخطايا مع بعض صدقٍ على الأرض. والجيل الرابع يرى تفاقم الشرّ(52). تتميَّز الشمس الخامسة بالقتل(53). في العصر السادس يظهر المسيح مع خبر ميلاده وموته، مع وصف للأجر المعطى للمؤمنين.

»في السادس يظهر نور من النور السامي الذي يسكن في أعلى السماوات في حشا عذراء مقدَّس ويُولَد في أرض يهودا. هذه الولادة تكون سبب فرح في السماوات وعلى الأرض. ويأتي المجوس من المشرق وهم يحملون الهدايا. يقوم عليه اليهود فيصلبونه: يثقبون بالمسامير يديه ورجليه، ويدفنونه في قبر. ويقوم في اليوم الثالث. يخرج من القبر كما خرج من حشا العذراء. وكما لبثت هذه بتولاً بعد ولادتها، كذلك وُجد الختم سالمًا بعد الخروج من القبر. يمشي في جسد بشريّ، كما قال نبيُّ الأمم: فالذين لم يؤمنوا به حتّى ساعة مضى إليهم، لم يقبلوه ونعتوه بالكذب. فلو آمنوا به لكان أعطاهم ما العين ما رأتْ ولا الأذن ما سمعت ولا القلب البشريّ ما تخيَّل(54). لن يدعوهم أولاده ولا إخوته«.

في الشمس السابعة، تداخلت الأسماء والأحداث. أمّا نحن فنورد ما قيل عن »ملك بيزنطية«:

»في العصر السابع يأتي ملك من بيزنطية وامرأة من القسطنطينيَّة. يمضيان إلى أورشليم ويقتلان عددًا كبيرًا من الناس، بسبب الذي رُفع على الصليب. يجمعون حشدًا كبيرًا يعبد الشياطين، ويرجعونهم إليه. ثمَّ يأتي ملك سفّاح فيدمِّر الكنائس، ويضطهد الأحرار وعبّاد المصلوب. يحلُّ الخزيُ على الكثيرين أمام هذا الملك الذي يُهلك جمعًا كثيرًا ويدمِّر الكنائس العديدة...«.

نلاحظ هنا نظرة موجزة إلى التاريخ، ولاسيَّما الحروب التي عرفها الشرق، والاضطهادات، والقتل وتدمير الكنائس. »في العصر الثامن يكون البكاء الكثير والقلاقل. تُدمَّر الأرض الساحليَّة وتقفر المناطق...«.

في العصر التاسع ندخل في العالم المسيحانيّ حيث وصف المناوئ للمسيح ونهاية العالم: »يخرج شبلٌ من الشرق، ويعيد بناء كلِّ ما تدمَّر على الأرض. يعاد بناء تابوت العهد. في زمانه، تكون الوفرة في العالم. حين يمرُّ الأحياء قرب الموتى الساكنين في القبور، يقولون لهم: مُتُّم في زمن الحزن والوجع. انهضوا وانظروا هذا الفرح العظيم وهذه البهجة وهذه الوفرة التي نعيش فيها. يدوم حكم هذا الملك 40 سنة. يطلبون إنسانًا يعطونه صدقة فلا يجدون من يأخذها. تتكاثر ثمار الأرض حتّى على الأشجار في الصحراء. الحبساء يكونون كثيرين في عزلتهم. المدن التي دُمِّرت يعاد بناؤها... ينزل الملائكة من السماء على الأرض في لباس البشر ويمشون معهم...«(55).

وينتهي الكتاب: »من مارس العدالة في هذا العالم يبتهج والذين عملوا الشرَّ يكونون إلى الأبد فريسة الحزن والوجع. في تلك الساعة، من يكون آمن بالمسيح ربِّنا يخلص. حين يجلس الله على عرش مجده ويجازي كلَّ واحد بحسب أعماله، فيمضي المؤمنون معه إلى حياة اللذّات الأبديَّة والذين لم يؤمنوا باسمه يُلقَون في عقاب لا نهاية له.

»التسبيح الأبديّ لله، وعلينا بركته في دهر الدهور. آمين«(56).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM